الاثنين، 27 ديسمبر 2010

هل تشتري الصين أوروبا؟

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" إذا لم تُغير وجهتك، سوف تنتهي في الوجهة التي تسير نحوها"
ليو توز فيلسوف صيني

 
 
محمد كركوتـي
 
أحسب أنه لو كانت ألمانيا تُدار في القرن الحادي والعشرين بمبادئ وذهنية النازية، وسلوكياتها العنيفة، لقامت مستشارة البلاد أنجيلا ميركل، باحتلال كل دولة أوروبية، تطلب معونات مالية إنقاذية، لتفادي الانهيار الاقتصادي، بسبب الديون الحكومية التاريخية. فوفق المفهوم النازي، يكون الاحتلال "أرخص" من تقديم المساعدات، ويكون إلغاء الهويات الوطنية، أسهل من العمل الجماعي وصيانة الأمم، وتكون العنجهية الرخيصة، أوفر من التسامح الغالي والرفيع. لكن النازية، لم تعد في ألمانيا منهجاً، ولهذا السبب استبدلت ميركل ( تلك المرأة الآتية من شرق ألمانيا، أو ألمانيا الشرقية سابقاً) السلوك النازي، بتوجيه اللعنات والإهانات والذل.. مع الأموال، إلى الدول الأوروبية الغارقة في الديون، على اعتبار أن ألمانيا هي الممول الأكبر لصندوق الإنقاذ الأوروبي، الذي يشبه صندوق الإنقاذ الأميركي ( بعد الأزمة الاقتصادية العالمية) مع فارق وحيد، هو أن هذا الأخير موجه لإنقاذ المؤسسات والشركات والمصارف، بينما "الأوروبي" مخصص لإنقاذ الدول، ومعها حكوماتها الهشة، سياسياً وشعبياً.

في قلب هذا المشهد، يظهر بطل على الساحة، يمكن أن يقوم بدور ( أو يحتل دور) المنقذين الأوروبيين للأوروبيين، ولكن من دون إهانات ولا إذلال ولا تهديد ولا وعيد. بطل – في الواقع – يقوم بنفس الدور في الولايات المتحدة الأميركية. بطل يمكنه أن يسدد الديون ( ليس مجاناً بالطبع ) بأعلى درجة من المعايير الاقتصادية العالمية. إنه الصين، ذلك المارد القادم من الشرق باتجاه الغرب، والذي استطاع – حتى في عز الأزمة العالمية – من تحويل مجرى الاقتصاد العالمي، من الغرب إلى الشرق. تَمكن هذا المارد الاقتصادي والبشري الهائل، من تحويل الأستاذة التقليديين للاقتصاد العالمي، إلى مجرد تلاميذ في مدارسه!. لماذا؟ لأن الصين استطاعت احتواء الأزمة بسرعة، وحققت نمواً كبيراً بلغ 10 في المائة، حتى في ذروة الركود. لقد باتت السرعة التي يخرج بها اقتصاد ما في هذا العالم من مطبات الأزمة، مؤشراً واضحاً لمدى قوة هذا الاقتصاد، وقابليته على الاستدامة، ومرونته في أوقات المحن والمصاعب. وعلى العكس تماماً أصبح البطء في خروج اقتصاد آخر منها، علامة أكثر من واضحة، على أنه ليس ضعيفاً فحسب، بل يعاني "موروثات" اقتصادية، كانت حتى وقت قريب، جزءاً أساسياً من عظمته.

بصرف النظر عن الجهود التي تبذلها الدول الأوروبية الكبرى – وتحديداً ألمانيا – لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدول الأوروبية السابحة بالديون، فإن الصين تبرز على الساحة، كمنقذة محتملة لهذه الدول، ليس نظرياً بل عملياً. أما لماذا عملياً؟ فلأن للصين تجربة تاريخية مستمرة مع الولايات المتحدة، كأكبر دولة دائنة لها ( يقول الخبير الاقتصادي الأميركي توم وينيفريث: إن أميركا في الواقع مملوكة للصين)، ولأنها تمتلك احتياطي هائل من العملات ( بلغ 2684 مليار دولار أميركي في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي)، ولأن الإنقاذ الصيني يصب في مصلحة بكين نفسها. فالدفاع عن اليورو يخدمها، على اعتبار أن الاتحاد الأوروبي هو في الواقع شريك الصين التجاري الأول، وبذلك تضمن مواصلة شراء الأوروبيين للسلع والمنتجات الصينية، أو عدم اضطراب صادراتها إلى دول الاتحاد. ولأن الأمر في مصلحتها، فلا تخفي بكين توجهاتها في هذا الصدد، فقد أعلنت وزارة الخارجية الصينية رسمياً: " أن أوروبا ستكون في المستقبل سوقاً رئيسة لاستثمار احتياطينا من القطع، وأننا مستعدون لمساعدة دول منطقة اليورو على تجاوز الأزمة المالية، والنجاح في انتعاشها الاقتصادي". ولأن الأمر كذلك، أبدت الصين رغبة معلنة وقوية، في أن تساهم بصندوق النقد الدولي من أجل أوروبا.

إذن.. يمكن للصين أن "تشتري" أوروبا، بما تملك من احتياطيات مالية ضخمة، حتى وإن كانت هناك مخاطر. فالمخاطر الكبيرة تجلب عوائد كبيرة. وفي النهاية، فالضمانات الأوروبية هي من أجود الضمانات على الصعيد العالمي، وبالتالي فإن المخاطر – إن وجدت – لن تتحول إلى مصيبة للدائن. وقد وجد أستاذ الاقتصاد في جامعة "تسنغوا" الصينية باتريك شوفانيك، أن الدور الجديد الذي يلعبه الصينيون، يوفر لهم فائدة على الصعيد السياسي، كما أن هذا الدور يتفق مع خطط بكين للتنويع. ويقصد هنا أن الصينيين سيصبحون أقل ارتباطاً بالدولار الأميركي. وهذا صحيح إلى أبعد الحدود. فالتدخل الصيني في إنقاذ أوروبا من آثار ديونها، سيمنح بكين حصانة تسعى إليها، من الانتقادات الغربية ( بل والهجوم الغربي في بعض الأحيان)، الموجهة لها، على عدة أصعدة، في مقدمتها، حقوق الإنسان والحريات، وطبيعة ومفهوم اقتصاد السوق في الصين. فنحن نعرف – وخبرنا ذلك في أكثر من منطقة في العالم – بأن المعايير الأخلاقية والإنسانية، تنزوي أمام المصالح الاقتصادية. وإذا كانت الصين ستقوم بدور المنقذ لأوروبا، فلا مانع من الاعتراف الأوروبي المطلوب، بطبيعة الحراك الاقتصادي الصيني، ولا مانع أيضاً أن " تغضب" الولايات المتحدة قليلاً - أو حتى كثيراً – من هذا الاعتراف، مع الإشارة إلى أن الصين اشترت في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي سندات خزينة أميركية بقيمة 907 مليار دولار، رغم أن عائداتها ضعيفة. وليسمح لنا المسؤولون في المفوضية الأوروبية، أن نتجاهل تصريحاتهم، التي يمررون من خلالها " الأكليشيه" الممل، بأن التدخل المالي الصيني، لن يكون مقابل موضوعات أخرى قابلة للتفاوض.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تدخلت الولايات المتحدة بمشروعها الشهير "مشروع مارشال" لإعادة إعمار أوروبا، ومع هذا المشروع احتلت مكانة الإمبراطوريتين الكبريين البريطانية والفرنسية، وإن تقاسمت النفوذ على العالم مع " الإمبراطورية" السوفيتية آنذاك. وفي خضم الحرب على الأزمة الاقتصادية العالمية، احتلت الصين بهدوء مركز ألمانيا كثالث أكبر اقتصاد عالمي، وبعدها بقليل احتلت – بهدوء أشد – مركز اليابان كثاني أكبر اقتصاد. وحسب دراسة لمؤسسة " كونفرس بورد" الكندية، التي وصفتها صحيفة "الديلي تلجراف" البريطانية الرصينة، بأنها تحظى باحترام كبير، فإنه يمكن للصين أن تتخطى الولايات المتحدة خلال عامين فقط، لتحل محلها كأكبر قوة اقتصادية في العالم، ليس من ناحية القيمة الدولارية، بل من جهة القدرة الشرائية. ومضت الدراسة أبعد من ذلك، حين حددت العام 2020 ليشهد تفوق الناتج الإجمالي الصيني على الناتج الأميركي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار العوائد الضئيلة لشراء السندات (الديون)، أو المخاطر الناجمة عنها، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل حقيقة أن للصين دوافع سياسية وإستراتيجية على الساحتين الأوروبية والعالمية، أكثر منها دوافع مالية.

لنضع المفارقات جانباً، خصوصاً فيما يرتبط بتدخل دولة نامية لإنقاذ دول متقدمة من الإفلاس. فالصين تسير بقوة لتكريس نفسها كقطب اقتصادي يناطح الولايات المتحدة، ويجني الكثير من "الثمار" السياسية والإستراتيجية. قطب يُغير – حباً أو كرهاً – المفاهيم الاقتصادية العالمية، التي كان الغرب حتى وقت قريب، "يرجم" كل من يمسها. هذا القطب هو الذي سيكون "اقتطاعي" النظام الاقتصادي الجديد المتُشكل عنوة. سيكون " اقتطاعي"، بلا عنجهية أو تكبر، وبلا أحكام مسبقة. سيتعاطى من السوق كسوق، لا كمكان لـ "العبادة" الاقتصادية، أو كساحة لـ " كهنوت" اقتصادي مريب، كان يجرم المُستفسر عما يحدث، تماماً كما كان يجرم من يحاول الإصلاح!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الاثنين، 20 ديسمبر 2010

فقراء الأثرياء

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")



" إننا نرتكب إثماً، عندما يكون بؤس الفقير سببه قوانين المؤسسات، لا قوانين الطبيعة "
تشارلز داروين عالم الطبيعة الإنجليزي

 
 
 

محمد كركوتـي
 
يستطيع الفقراء "التقليديين" ( أو الذين لا يعرفون سوى الفقر في حياتهم)، أن يواسوا النفس قليلاً. فآفة الفقر لم تعد حكراً عليهم، ولم تعد صفة أبدية ملتصقة بهم، بصرف النظر عن ضخامة أعدادهم. وبإمكان هؤلاء النظر إلى جهة الغرب الثري ( أو الذي كان ثرياً قبل الأزمة الاقتصادية العالمية)، لا إلى بعض الشرق الفقير في آسيا، ولا كل الجنوب الفقير في أفريقيا وأميركا اللاتينية، لكي يشهدوا انضمام " زملاء" جدد لهم. من أين؟ من قلب القارة الأوروبية!. يمكن للفقراء والجوعى، الذي "يتوارثون" الفقر أباً عن جد، أن يستغربوا من هوية "الزملاء" الجدد، ويمكن أن يُشككوا في فقرهم، على اعتبار أن أوروبا، تجاوزت الفقر – بمفهومه العام - منذ قرنين من الزمن، وأسست لمجتمعات فيها الحد الأدنى من الكرامة الغائبة عن قارات بأكملها في هذا العالم. ويمكن أن يرتابوا أيضاً، لأن الفقراء الغربيين الجدد، انضموا إليهم من دول باتت جزءاً أصيلاً من هيكلية الاتحاد الأوروبي. هذا الاتحاد الذي يهدف أساساً – منذ بدء خطواته الأولى في خمسينات القرن الماضي – إلى جعل الرخاء السمة الأساسية لشعوبه، وتكريس الكرامة كجزء رئيسي من العمل السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي، وقتل المعاناة أينما وجدت ضمن حدوده. لكن الأمر ليس كذلك في الواقع. نعم.. هناك ملايين الأوروبيين من الذين يعيشون في فقر مدقع، وهناك ملايين آخرين من أولئك الذين نالوا جانباً واحداً على الأقل من آثام الفقر، ومن شظف العيش، ومن فقدان الكرامة.

يقول نيكولاس تشامفورت الأديب والكاتب الفرنسي :" هناك طبقتان في المجتمع. الأولى: تمتلك الطعام أكثر من شهيتها، والثانية تمتلك الشهية أكثر من طعامها". وبعده قال الفيلسوف الأميركي وليام جيمس :" إن الفقر السائد في الطبقة المتعلمة، هو أسوأ الأوبئة الأخلاقية التي تعاني منها الحضارة". والحقيقة، أن فحوى المقولتين ينطبق بصورة واقعية على الحالة الغربية، لاسيما الأوروبية منها. فهناك طبقتان بالفعل. الأولى تستحوذ على الطعام أكثر مما تحتاج، والثانية "تستحوذ" على الشهية أكثر مما تملك من طعام. والطبقة المتعلمة في أوروبا، تشكل الشريحة الأعرض والأكبر فيها، فيما لو قورنت بالطبقات المماثلة في مناطق أخرى من العالم. أن تَعثر عن الفقر في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، هو أمر طبيعي. فبلدان هذه القارات، امتزجت حياةً وكرامةً، بالعوز والشح والقحط والجوع والمرض والأوبئة. لكن أن " تتعثر" بالفقر في قلب أوروبا، هو أمر يدعو إلى التأمل، ولا بأس من الاستغراب معه.

بعد عامين تقريباً من اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، يتوصل المركز الأوروبي للإحصاء (يورستات)، إلى نتائج تنطبق على دول نامية، لا على الدول الـ 27 التي تشكل الاتحاد الأوروبي!. فقد وجدت دراسة المركز التي حملت عنوان " الدخل وظروف الحياة في الاتحاد الأوروبي"، أن 116 مليون إنسان ( أي ما يوازي ربع سكان الاتحاد تقريباً)، تعرضوا للفقر أو إلى شكل من أشكاله، منذ العام 2008، وأن 42 مليون من هؤلاء، عانوا من الحرمان الشديد، مثل عدم القدرة على دفع الفواتير، والمحافظة على دفء منازلهم، وامتلاك سيارة وهاتف. ويتركز أغلبهم في بلغاريا ورومانيا ولاتفيا، في حين كانت النسب الأقل في السويد وهولندا والدانمارك وإسبانيا ولوكسمبورغ. وعلى صعيد آخر من الفقر، فقد أظهرت الدراسة أن 34 مليون أوروبي ينتمون إلى أُسر ضعيفة مهنياً، حيث يعمل الراشدون بنسبة أقل بـ20 في المائة من قدراتهم، ومعظمهم في أيرلندا.

وعلى الرغم من أن الفقر نال من جميع شعوب الاتحاد الأوروبي، إلا أنه يبدو مستحكماً بصورة كبيرة في دول شرق القارة، الأمر الذي يكرس وجود طبقية أوروبية، لم تقم إستراتيجية الاتحاد بتخفيف فوارقها طوال السنوات الماضية. ففي داخل الاتحاد الأوروبي هناك غرب بوفرة – وإن تقلصت هذه الوفرة كثيراً بسبب الأزمة – وشرق بشح!. والحقيقة أن دول الشرق الأوروبي، تحولت بعد انضمامها إلى الاتحاد، من دول العالم الثاني على الصعيد الدولي، إلى دول نامية على ساحة الاتحاد!. فقد أثبتت آليات الاتحاد فشلها في رفع دول "الصف الثاني"، إلى "الصف الأول" عالمياً. وهذا الأمر يحتاج إلى مراجعة حقيقية وفورية، إذا ما أراد القائمون على الاتحاد، أن يكون منظومة متناغمة بشكل كامل، لا بصورة جزئية، وأن يستحق توصيفه، كواحد من أفضل الاتحادات العالمية.

هذا بالنسبة إلى الدول الأوروبية التي استحوذت على أكبر عدد من الفقراء منذ اندلاع الأزمة العالمية. أما فيما يتعلق بالدول التي "احتضنت" العدد الأقل، فالوضع ليس جيداً، بل ويتفاقم بصورة خطيرة، مع تفاقم أزمة الديون الحكومية، و"الاستحقاقات التقشفية" لهذه الأزمة. وقد شهدت الدول التي تعاني من أزمة الديون والعجز في موازناتها ( من بينها بريطانيا واليونان وأسبانيا وأيرلندا)، موجات خطيرة من الاحتجاجات الشعبية، وضعت مستقبل حكوماتها على المحك. وفي دولة كبريطانيا تتمتع بثالث أكبر اقتصاد أوروبي، وسادس أكبر اقتصاد عالمي ( بعد احتلال الصين المركز الثاني عالمياً)، يرغب ثلاثة أرباع سكانها – حسب استطلاع لجريدة " ديلي ميل" البريطانية – بالهجرة بسبب الصعوبات الاقتصادية!. وأن ربع هؤلاء يعتزمون فعلاً الهجرة، مع تآكل القوة الاقتصادية لبلادهم!. وفي النمسا – مثلاً – البلد الأوروبي الرابع من حيث الثراء في القارة، ارتفع عدد المتاجر الخيرية، التي تبيع بضائعها بأسعار رمزية جداً، وفي بعض الأحيان مجاناً، حسب حالة المشتري المعيشية. لا نتحدث هنا عن اليونان أو البرتغال أو أسبانيا، التي تمكنت منها مؤشرات الفقر بكل أشكاله، ونالت بعض الشرائح فيها، شكلاً واحداً على الأقل من الفقر والشح والحاجة، لاسيما شريحتا العاطلين عن العمل وكبار السن. وعلى الرغم من أن الاتحاد أعلن نهاية العام 2009، أن العام 2010 سيكون " عام أوروبي لمكافحة الفقر والإقصاء الاجتماعي"، إلا أنه لم يحقق أي تقدم في هذا المجال. فعدد الفقراء الأوروبيون، لم ينقص، ومعاناتهم لم تخف، بينما تزداد مخاوفهم من الآثار الاجتماعية لمخططات التقشف المختلفة.

لن تمر قضية الفقر في الاتحاد الأوروبي، ومعها أزمة الديون والعجز في الموازنات العامة، وارتفاع معدلات البطالة، دون أن تسبب تحولات سياسية واقتصادية، لا توجد حكومة في هذا الاتحاد ترغب فيها. وقد قذفت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى السطح، قضايا لم تكن موجودة على طاولة الاجتماعات الأوروبية، أو على الأقل كانت قيد التأجيل الدائم ( أو إلى حين ميسرة!)، وفي مقدمتها الفجوة الهائلة بين دول غرب الاتحاد وشرقه. فالتفاوت في الرواتب والأجور وبعض المزايا الاجتماعية، يعكس بالضرورة التفاوت في الاقتصاد بين دول الاتحاد. وهذا أمر طبيعي. والحل الوحيد للقضاء على هذا التفاوت، أو حتى تقليل دائرته، ليس أقل من قيام الدول الثرية في الاتحاد، التخلي عن بعض مداخليها لصالح اقتصادات الدول الفقيرة فيه. وأستطيع أن أجزم، بأن هذا الأمر لن يحدث، بعد الأزمة الاقتصادية العالمية. فهذه الأزمة، لم تنل من المداخيل الأوروبية فحسب، بل نالت من التسامح الأوروبي نفسه، وأحيت مشاعر الوطنية – المحلية الضيقة. لقد أوجدت "قومية اقتصادية" متطرفة، تحتاج إلى عقود من الزمن لكي تزول عن الساحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاثنين، 13 ديسمبر 2010

"ويكيليكس" جرينسبان

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")










" الفضائح الكبرى تصنعها دول كبرى"
وليام شكسبير أديب ومؤلف وشاعر إنجليزي

 
محمد كركوتـي
 
 
ذكرتني أكوام الوثائق الأميركية على موقع " ويكيليكس" – فاضح الأسرار – بأغنية للمغني الأميركي الشهير بوب ديلان، أطلقها في العام 1965 تحت عنوان "لا بأس يا أمي.. إنني أنزُف فقط" أو It's Alright, Ma I'm Only Bleeding . ففي أحد مقاطع الأغنية يقول ديلان: ".. في بعض الأحيان، حتى رئيس الولايات المتحدة، يجب أن يقف عارياً". فقد أراد أن يقول: في العمل العام ( ولاسيما السياسي والاقتصادي)، لا أحد يمتلك القدرة على البقاء وراء الستار ( أو خلف القناع) إلى ما لا نهاية. وقتها كان ديلان ينشد هذه الأغنية على قارعة الطريق مقابل البيت الأبيض الأميركي. لا نعرف إذا ما كان موقع " ويكيليكس"، يمتلك وثائق سرية أميركية اقتصادية داخلية، أو أنه سيمتلكها في المستقبل. لكن المرجح أن هذا الموقع الذي أهان الدبلوماسية الأميركية بتعريتها على طريقة الـ "استربتيز" (أو التعري قطعة بعد أخرى)، بات متخصص في البرقيات التي ترسلها سفارات الولايات المتحدة الأميركية في العالم، إلى وزارة خارجيتها مصنفة تحت ختم "سري"، وتعد بعشرات الآلاف. وفي الواقع.. أن الموقع " الفاضح"، استبق الكشف عن الوثائق ثلاثين عاماً. فالغالبية العظمى من هذه الوثائق، تدخل في الغرب الخزائن الموصدة بكل الأقفال المتوافرة، قبل أن تُطرح للعامة بعد ثلاثة عقود من الزمن. وبعض هذه الوثائق تُقفل لمدة خمسين عاماً، وبعضها الآخر يبقى تحت الأرض لـ 75 عاماً، بعد أن يدخل أبطالها تحت الأرض إلى الأبد.

ماذا لو تمكن "جنود ويكيليكس" من الوصول إلى الوثائق المرتبطة بمقدمات الأزمة الاقتصادية العالمية؟. دون أن ننسى، أن هذه الأزمة التي اندلعت في العام 2008، تحفل بمقدمات تعود إلى أكثر من عشرين عاماً قبل الانفجار. ماذا يمكن أن تحتوي هذه الوثائق؟. كيف كانت سوق "وول ستريت" تعمل؟. كيف كانت البنوك المركزية – وتحدياً الأميركي - تغطي على الجريمة الاقتصادية الكبرى؟. ما هي التفاصيل الحقيقية الخاصة بالأدوار التي لعبتها الحكومات الغربية، في فوضى الأسواق والمصارف؟. كيف ستكون وثائق "البطل الاقتصادي" آلان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) السابق؟. وكيف استطاع هذا "البطل" الإنفراد في القرار الاقتصادي دون تدخل من الإدارات الأميركية المتعاقبة على مدى 18 عاماً متواصلة؟. ما هي المراسلات والاتصالات الخاصة بنشاطات المحتال الأميركي الكبير برنارد مادوف؟. وهل تم بالفعل متابعة هذا المحتال؟. ماذا تضمنت الوثائق – إن وجدت – من معلومات عن القروض التي كانت تُمنح لمن يرغب، من دون الحد الأدنى من الضمانات؟. هل كانت هناك مراسلات (وثائق) تُحذر بالفعل من مغبة الفوضى المالية، وتجاوز المصارف الحدود الآمنة؟. ما هو محتوى الوثائق الخاصة بتحذيرات شخصيات غربية مختلفة، من العواقب المترتبة على ترك الأسواق تعمل بدون ضوابط أو حتى رقابة، وبالتأكيد بدون سلوك أخلاقي؟.

نحن نعلم أن "ويكيليكس" سينشر مجموعة من الوثائق الخاصة بالشركات، وذلك طبقاً لما أعلنه الموقع المذكور، ولكن غالبية هذه الوثائق تختص بنشاطات وتحركات شركات على الساحة العالمية، بما في ذلك علاقاتها المُريبة مع الحكومات الأجنبية، والضغوط – بل والتهديدات- التي تمارسها على بعض الحكومات للفوز بعقود تصب في مصلحتها أولاً وأخيراً، لا في مصلحة الدول المعنية. ولا بأس في أن تعم الفائدة بصورة أو بأخرى أولئك الذين يقومون بتسهيل وتمرير العقود!. ونعلم – حسب "ويكيليكس" – أن هناك مصارف تستعد لـ "دور البطولة" في الوثائق المزمع نشرها. لكن تبقى الوثائق ( المراسلات، محاضر الاجتماعات، الاتصالات) الاقتصادية المحلية في الولايات المتحدة، هي الأهم في معرفة ما خُفي من حقائق عن الأزمة الاقتصادية العالمية. وهذه الوثائق في الحقيقة لا يتم تداولها بين واشنطن وسفاراتها، وبالتالي لا تدخل ضمن الملفات "السرية" لوزارة الخارجية.

إذا كان العالم يحتاج إلى معرفة الحقائق عن عالم السياسة والدبلوماسية - بصرف النظر عن الطريقة – فإنه بحاجة قوية لمعرفة تفاصيل المقدمات التي سبقت الأزمة. لماذا؟ لأنها – أي الأزمة – نالت من كل شيء، الاقتصاد ومعه السياسة والثقافة والمجتمع والأخلاق والتسامح والانفتاح والتعاون. نالت من كل معاول البناء. والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: هل لو كانت "ويكيليكس" حاضرة على الساحة الأميركية – العالمية قبل عشر سنوات أو أكثر، يمكن أن تساهم في كبح جماح مقدمات الأزمة الاقتصادية العالمية؟. وبصيغة أخرى للسؤال نفسه، هل لو تم الكشف عن الألاعيب الاقتصادية التي سادت الساحة الأميركية بصورة لم يسبق لها مثيل، يمكن أن توفر حصانة ضرورية ومطلوبة للاقتصاد العالمي؟. لا شك في أن ظهور الحقائق – أي حقائق – تسهم إلى حد بعيد في تغيير السياسات المتبعة، وتُحدِث تبدلاً في المنهج المعتَمد. ففي العادة، ما ينفع سراً لا يستوي علناً، مع الاعتراف بأن الكشف عن الحقائق والخبايا – والنيات – في السياسة والاقتصاد تحديداً، يعزز مواقع أولئك الذين يُحبون إسقاط نظرية المؤامرة على كل شيء. ولا شك في أن هؤلاء يتمسكون بما قاله المؤلف والكاتب الأميركي فينيمور كوبر "الجميع يقولونها. وما يقوله الجميع يجب أن يكون صحيحاً". ومعه قال مؤلف وكاتب أميركي هو لوجان سميث "إنه لأمر مفزع.. أن يكون ما يقوله الناس علينا صحيح".

محبو عامل المؤامرة – أو نظريتها – يستطيعون في ظل أكوام وثائق "ويكيليكس"، أن يمضوا قُدماً في إسقاطها على الأزمة الاقتصادية العالمية، رغم أنها – أي الأزمة – لم تكن مؤامرة بأي حال من الأحوال، وذلك طبقاً لنتائجها الكارثية على المُتَهمين أنفسهم بالمؤامرة. ولكن بلا شك، كان وراء الأزمة مؤامرة ما. أبطالها أولئك الذين تسيدوا الأسواق العالمية الكبرى، وفي مقدمتها "وول ستريت". مؤامرة تورط فيها السياسيون الكبار، لا حباً فيها، ولكن لإيمانهم الأعمى، بضرورة أن تبقى الأسواق بمعزل عن الرقابة والقيود والضوابط، بل والمحاسبة أيضاً!. ولأن الأمر كذلك، فقد انزوت القيم والأخلاق، وتقدمت على مدى أكثر من عقدين معايير تعالي السوق على المجتمع!. ومما لاشك فيه، لو ظهر "ويكيليكس" اقتصادي أميركي محلي، لاطلعنا على مراسلات بين آلان جرينسبان – مثلاً – ووزراء المالية الأميركيين الذين تبدلوا وهو في منصبه، تتضمن تطمينات منه على الأمور تجري على ما يرام، بل أفضل مما يرام!. وأن أولئك الذين يحذرون من وقوع أزمة، ليسوا سوى أفاقين أو متشائمين أو كارهي النجاح!. وسيقول جرينسبان: إن الأم تيريزا ليست أكثر أخلاقاً أو نظافة من سماسرة "وول ستريت"، وأن القروض التي تُمنح للناس بدون ضمانات، هي لمساعدتهم ومساعدة أسرهم، لا لتكبيلهم بديون لن يستطيعوا ما عاشوا تسديدها. سيقول: انظروا إلى برنارد مادوف، كيف يخصص عشرات الملايين من أمواله للجمعيات الخيرية. إن أولئك الذين يصفونه بالمحتال، هم المحتالون!. سيكتب جرينسبان في الوثائق: إن الأزمة الحقيقية، هي تلك التي يعيشها الذين لا يرغبون في اقتصاد حر، ويعتبرون النمو الراهن الذي يخلب الألباب.. عبثياً. لماذا؟ - والكلام لـ "بطل الأزمة" - لأنهم يريدون منا أن نعيش كما كان الشعب السوفييتي يعيش تحت الحكم الشيوعي!.

وبالطبع لن يقول جرينسبان في مراسلاته المفترضة – قبل الأزمة – ما قاله بعدها. ماذا قال؟ إن هذه الأزمة لا يمكن لأحد أن يتصورها. إنها لا تحدث إلا مرة واحدة كل مائة عام!!.

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

لو كان "دفاع" إيطاليا الاقتصادي بقوة دفاع منتخبها لكرة القدم؟!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





" في الحقيقة، إن الذين وضعوا اليورو، كانوا يهدفون إلى تسويق اتحاد سياسي "
جيرهارد شرويدر مستشار ألمانيا السابق




محمد كركوتـي

المشهد الأول من الفصل الرابع، لـ "الفيلم" الأوروبي المرعب الطويل "الديون الحكومية " أو "من أجل مئات المليارات من الدولارات"، تتنافس على "بطولته" كل من إيطاليا وأسبانيا. فالفصول الثلاثة الأولى من الفيلم نفسه، كانت بعنوان واحد، لكن بتوصيفات مختلفة، وفق الترتيب التالي: "المهمة اليونانية"، وبعدها "المهمة الأيرلندية"، وبعدهما "المهمة" البرتغالية. ولا يمكن لأي مراقب أن يحسم، وضعية “المهمة". هل هي مستحيلة أم لا؟!. وكما جوائز "الأوسكار"، هناك "تنافس" حاد بين دولتين أوروبيتين. أسبانيا كانت مرشحة لهذا الفصل بقوة، لكن "حظوظ" إيطاليا، تبدو أكبر، في ظل معطيات اعتقدت روما أنها لن تظهر على الساحة بهذه السرعة. علماً بأن هذا لا يعني على الإطلاق، أن أسبانيا لن "تفوز" بفصل من "الفيلم" الأوروبي المرعب. فالقضية تبدو مرتبطة بالزمن، لا بتحسن أو سوء الأوضاع الاقتصادية والمالية في هذا البلد. وبعبارة تقليدية.. القضية لم تعد "هل تطلب أسبانيا إنقاذا مالياً أوروبياً"؟، بل أصبحت منذ وقت "متى تطلب"؟.

وفي كل الأحوال، لا فرق بين الفصل الرابع والخامس، فالأحداث لن تكون ألطف أو أقل درامية في أي منهما، تماماً كما هي أحداث الفصول الثلاثة الأُول. ومحاور الأحداث، هي.. هي. عجز في تسديد الديون. ارتفاع العجز في الموازنة العامة. وفد زائر من صندوق الإنقاذ الأوروبي وصندوق النقد الدولي. فتح الملفات المالية. مراقبة خطط التقشف المريعة. تخصيص الأموال للإنقاذ. جولة جديدة من الإهانات والتجريح، لاسيما الألمانية منها. وبعض التهديدات، لاسيما الفرنسية منها. ولا بأس من بعض "المعاندة" الإعلامية فقط من جانب الدول الغارقة بالديون والعجز والمصير المالي شبه المجهول، كما أنه ليس هناك ما يمنع المسؤولين في هذه الدول من نفي الأخبار التي ستتحدث عن طلبهم للإنقاذ المطلوب، في بداية الفصل فقط.

يشتهر المنتخب الإيطالي لكرة القدم طوال عقود من الزمن، بأجود أنواع الدفاع على الإطلاق. إلى درجة أن إحدى شركات المنتجات الرياضية، نشرت إعلاناً في أوروبا في تسعينات القرن الماضي، كان عبارة عن سؤال هو : ما هي أسهل وظيفة في أوروبا؟.. في الإعلان نفسه تأتي الإجابة: أن تكون حارساً لمرمى المنتخب الإيطالي. لكن في حالة " المنتخب الاقتصادي الإيطالي" – إن جازت التسمية – لا يبدو الأمر كذلك، رغم ما أبداه هذا " المنتخب" من مقاومة شديدة. ففي العام المقبل، يتوجب على الحكومة تسديد 300 مليار يورو من الدَين العام، الذي بلغ قرابة 120 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، يضاف إلى ذلك أن نصيب إيطاليا من فاتورة الإنقاذ الأوروبية، سيضع موازنتها العامة تحت ضغط رهيب. وهذا وحده يشكل مخاطر تهدد ما تبقى من قوة الاتحاد النقدي الأوروبي. وعلى الرغم من أن غالبية الديون الإيطالية، هي من مصادر محلية، إلا أنها تبقى ديوناً قاصمةً، في ظل نمو اقتصادي هش، أو مهزوز، كما أنها في النهاية تظل محرك لعدم الاستقرار السياسي في البلاد. إذن.. تقهقرت قوة دفاع رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني على الصعيد الاقتصادي، ولم يستطع أن يقترب من قوة الدفاع التاريخية التي كان يتحلى بها – على سبيل المثال – مدافع المنتخب باولو مالديني، أو فابيو كانافارو، أو أليساندرو نيستا!.

الفصل الرابع من "الفيلم" الأوروبي المرعب "من أجل مئات المليارات من الدولارات"، بات يحمل عنوان " المهمة الإيطالية"، ومعه تزداد الضغوط على منطقة اليورو، ومصير هذه العملة. وعلى الرغم من أن الدول الكبرى في المنطقة المذكورة، لا تزال تُبدي دفاعاً قوياً عن اليورو ومستقبله كعملة "وطنية" أوروبية، غير أن هذا لم يمنع مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، أن تهدد سراً خلال القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسل أواخر أكتوبر/ تشرن الأول الماضي، بأنها قد تلغي اليورو إذا ما فشلت في وضع نظام جديد للعملة الأوروبية الموحدة!. وقد حاول المسؤولون الأوروبيون – بمن فيهم الألمان – جاهدين للحيلولة دون تسريب هذا التهديد إلى الإعلام، إلا أنهم فشلوا جميعاً. فأن تعلن دولة كالبرتغال – مثلاً - إمكانية انسحابها الطوعي من اليورو، هو أمر لا يشكل هزة. ولكن أن تهدد ألمانيا التي تمتلك مفتاح صندوق الإنقاذ الأوروبي، بإمكانية الانسحاب، فهذا أمر ليس خطيراً فحسب، بل كارثياً على الاتحاد الأوروبي برمته. مشهد في الفصل الرابع لـ " المهمة الإيطالية"، يحتوي على طرح، ربما يكون مقدمة لانهيار منطقة اليورو. هذا الطرح لم يتبناه أي من المسؤولين الألمان، لكنهم في الوقت نفسه، لم يوجهوا الانتقادات له!. إنه ببساطة يدعو إلى تقسيم منطقة اليورو، إلى منطقتين شمالية وجنوبية!. ويقول "كُتاب" هذا السيناريو: "إن هذا التقسيم هو أفضل الحلول الممكنة لإنقاذ العملة الأوروبية الموحدة من الانهيار".

والحقيقة، أنني أجد صعوبة في تبرئة أنجيلا ميركل من استمتاعها "بالألحان" المصاحبة لمشهد التقسيم. فهذا المقترح أو الطرح لا يصب إلا في المصلحة القومية الضيقة لألمانيا، التي ستجني الكثير من الفوائد في المرحلة الراهنة، لكن أحداً لا يضمن استمرار هذه الفوائد في المستقبل. إذن.. فلنتابع "مشهد التقسيم" باهتمام شديد، ونربطه بالمشهد الأول من الفصل الرابع، الذي تضمن تهديداً سرياً عنيفاً من ميركل بالانسحاب من اليورو. ولنتابع أيضاً، مشهداً في الفصل نفسه سيظهر على "الشاشة"، تدور وقائعه حول دولة مثل إيطاليا، قد تلجأ في النهاية إلى صندوق الإنقاذ الأوروبي، الذي تساهم فيه مباشرة!. وإذا ما استُكمل المشهد المذكور، فيمكننا بسهولة أن نغير اسم الصندوق إلى " صندوق التكافل الأوروبي"!. مهلاً.. مهلاً، هناك تكهنات لا تزال في نطاق الشائعات، تتحدث عن إمكانية أن تلجأ مَنْ؟ فرنسا نفسها إلى الصندوق، لأن هذه الأخيرة ليست عصية عن الانضمام إلى قائمة الدول الأوروبية المتعثرة!!.

لا نريد استباق الأحداث. وعلينا أن نعترف بأنه لا يزال في صندوق الإنقاذ المشار إليه ما يزيد قليلاً عن 500 مليار يورو. لكن السؤال الأهم هو: هل ما تزال السلسلة التي تجمع دول منطقة اليورو قوية بما يكفي لانضمام أعضاء جدد – بوزن إيطاليا مثلاً – إلى نادي الدول المتعثرة؟!. وفق المعطيات الموجودة على الساحة، بدأت هذه السلسلة بالتضعضع، مع انضمام أيرلندا (الفصل الثاني من "الفيلم") إلى هذا النادي، ليس بسبب الـ 85 مليار يورو التي حصلت عليها في سياق عملية نجدتها، ولكن لأسباب سياسية – اقتصادية، وُلِدَت في الواقع من معايير شعبوية – محلية. فلا عجب من إعلان وزير المالية الألماني راينر برودله، بـ " أن دافعي الضرائب الألمان، لن يقبلوا بضخ أموال إضافية لمضاعفة ميزانية صندوق إنقاذ اليورو، لمساعدة دول جديدة متعثرة". فهو يعلم أن إنقاذ دولة مثل إيطاليا، يعني استهلاك الحجم الأكبر من رصيد الصندوق، وبالطبع لا أحد يريد،وحتى أن يُفكر، بأضعف احتمالات انضمام فرنسا إلى نادي المتعثرين. ولو تخيلنا تحول هذا السيناريو إلى فصل جديد من "الفيلم" الطويل، ستبحث منطقة اليورو عن منقذ لها. وهو بالتأكيد لا وجود له في الكرة الأرضية، قد يكون في عالم آخر.. لكنه بالتأكيد ليس في عالمنا هذا!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الثلاثاء، 30 نوفمبر 2010

التسامح البريطاني المُغتصَب

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")



" عبر القرون.. تاريخ الشعوب ليس إلا دروساً في التسامح المتبادل"
إميل زولا أديب وكاتب فرنسي


 
 
محمد كركوتـي
 
لو كانت الأم تيريزا، أو كما يحلو للبعض مناداتها بـ "ماما تيريزا" ( تلك الإنسانة التي غمرتها إنسانيتها طوال حياتها)، على قيد الحياة، لقالت لـ "سَميتِها" وزيرة الداخلية البريطانية تيريزا ماي: مهلاً أيتها الوزيرة، لا تجعلي من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بلادك، ومعها بلدان العالم أجمع، أن تكون دافعاً لتجريد بريطانيا مما تبقى من تسامحها. مهلاً "يا سَميتي"، لا تكوني وقوداً، لـ "العنصرية الاقتصادية"، الهائمة في بحار من الوقود "الرخيص" أصلاً. مهلاً، لا تخلطي الأمور بعضها ببعض، ولا تدخُلي تاريخ بلادك، من نفس البوابة التي دخلها وسيدخلها، القوميون المتطرفون. أنا لا أفهم بالاقتصاد، ولم أستوعب ما يسمى بـ " الفقاعات الاقتصادية"، ولا دخل لي بارتفاع أو انهيار الأسواق، ولا أعرف كيف تجري العمليات المصرفية، سواء الحقيقية منها أو الوهمية، واستحال علي استيعاب كيف تتحول قيمة الأوراق المالية والأصول والممتلكات، إلى قيمة أوراق الأشجار المتساقطة، في خريف عاصف. الذي أعرفه – والكلام لماما تيريزا – أن "الاقتصاد" في معايير التسامح، يعني وفرة للمعايير غير الأخلاقية، وغير الإنسانية. ليمر الاقتصاد بفقاعات، لكن لتبقى الأخلاق عميقة، وليبقى التسامح أساسها.

سيقول المسؤولون البريطانيون، الذين يحاولون على طريق تغذية المشاعر القومية المتطرفة، الإبقاء على ائتلافهم الحاكم أطول مدة ممكنة، لتيريزا ماي: دعك من هذه المرأة الحالمة، التي لا تفهم بالاقتصاد ولا بالسياسة، وتريد أن تجرك إلى "قطاع" لا وقت لنا بدخوله. نحن نعيش أزمة، علينا أن نواجهها بكل الأدوات، بصرف النظر عن ماهيتها، وتعارضها مع "أخلاقيات ماما تيريزا". سيقولون: لتحل "ماما" مشاكلنا، ونحن نعدها بأن نحافظ على ما ترغب هي أن نحافظ عليه. إن واقعنا تجاوز مرحلة السماحة والتسامح. دعك يا ماي من هذا كله، وابدئي بتنفيذ قرارات حكومتك، بخفض 20 في المائة من التأشيرات التي ستمنح في العام 2011، إلى العمال القادمين من دول خارج الاتحاد الأوروبي، وقولي لـ "الماما": لأننا نحترمها ونقدرها، فسوف نخفف القيود بالنسبة للعاملين في الشركات متعددة الجنسيات!. لكن لن تقول الوزيرة البريطانية: إن عدة مؤسسات وشركات بريطانية كبرى، هددت الحكومة بترك البلاد، إذا لم تحصل على القرار الحكومي، بتخفيف القيود هذه!. فالحكومة استجابت للمطالب، التي تمكن المؤسسات المذكورة، من استقدام عمالها وموظفيها، لمدة أقصاها خمس سنوات، على أن لا يزيد ما تدفعه لكل فرد من هؤلاء، عن 40 ألف جنيه إسترليني (ما يوازي 47 ألف يورو) سنوياً.

من حق بريطانيا ومعها كل دول العالم أن تحمي نفسها اقتصادياً، من خلال تشريعات وقوانين جديدة تخص العمالة. ويخطئ من يقول عكس ذلك، سواء كانت البلاد في أزمة أو كانت في حالة ازدهار. لكننا ببساطة لا يمكن أن نُخرِج هذه القضية من ارتباطها العنصري أو القومي أو المحلي.. والسياسي أيضاً. ففي الغرب – عموماً – يسجل اليمين المتطرف نقاطاً انتخابية" وطنية" لصالحه، ابتدءاً بالسويد وهولندة والنمسا، وليس انتهاءً بفرنسا وألمانيا وإيطاليا. وقد استغل المتطرفون في الواقع، آلام الأزمة الاقتصادية العالمية ومصائبها، لكي يتقدموا إلى الأمام، مع تراجع حدة الاشمئزاز - وأحياناً "الاستحقار" - الذي كانوا يتعرضون له في مجتمعاتهم!. فما كان مُحرماً قبل الأزمة، بات مُباحاً بعدها، وما كان مُعيباً – قبلها – أصبح أمراً عادياً بعدها!. ولذلك سمحت الحكومات الخائفة من شعوبها (بسبب توريطها لهذه الشعوب بأزمة تاريخية كان بالإمكان تفاديها)، للعصبية – العنصرية، المحلية وبعدها الوطنية وبعدها القومية، لا أن تنطلق فحسب، بل وتنمو أيضاً!. فقد بات السماح لهذه النوع من العنصرية، جزءاً أصيلاً في التسويق الانتخابي، لأحزاب كانت حتى وقت قريب، بمثابة " ملاذ سياسي واجتماعي آمن" للمهاجرين الشرعيين والعمال والموظفين الأجانب. هذا التحول الخطير، يعطي مساحة للاستنتاج، بأن القوى اليمينية المتطرفة في الغرب – وتحديداً في أوروبا – ستصل إلى مرحلة تتمكن فيها، من تغيير القواعد التقليدية المتبعة، في مجال التعاطي مع الأجانب. والحجة موجودة " حماية اقتصاداتنا الوطنية"!.

المثير في الحالة البريطانية، أن الائتلاف الحكومي، بين حزبي المحافظين والديمقراطيين الليبراليين ( وهو ائتلاف لا يزال البعض يراه مضحكاً أكثر من كونه غريباً)، والذي سن قانون الحد من منح التأشيرات الشرعية للعمال والموظفين الأجانب، تمكن من تكميم أفواه قيادات الحزب الليبرالي في هذا المجال. فقد حلت عند هذا الحزب المعتدل والمدافع عن الحقوق الإنسانية بكل أشكالها، نشوة الحكم مكان "قدسية" الأخلاق والمبادئ!. ولذلك.. فلا غرابة في ظهور أصوات من الحزب الليبرالي بين الحين والآخر، تعبر عن مرارتها من هذا الائتلاف، ومن التحولات الأخلاقية السلبية لدى قيادته. إلى درجة أن اعترض وزير التجارة فينس كابل ( وهو عضو في الحزب الديمقراطي الليبرالي)، على مشروع حكومته نفسها، لأنه يتضمن – بالإضافة إلى الحد من تأشيرات العمل – تقليص عدد التأشيرات الممنوحة لمن؟ للطلبة والأسر!. وهذا وحده، يؤكد مرة أخرى، بأن القوانين البريطانية الجديدة، لا تستهدف العمال والموظفين الأجانب فحسب، بل تشمل بصورة خطيرة، الأجانب الذين يرغبون في التحصيل العلمي، والأسر التي تسعى إلى لم شملها بالطرق القانونية لا الاحتيالية. ولمزيد من التضييق، لم تخف وزيرة الداخلية في بريطانيا، أنها تدرس خفض أجور بعض العمال الأجانب، كجزء من عملية تشديد قوانين الهجرة.

ولأن المعايير الانتخابية – الشعبوية، هي التي تحكم حالياً في المملكة المتحدة ( والغرب عموماً)، فقد تناست حكومة الائتلاف، بأن بريطانيا – كغيرها من الدول الغربية – تحتاج إلى مهاجرين شرعيين، يساهمون في تصحيح الخلل الديموغرافي، الذي تعيشه كل هذه البلدان، من جراء ارتفاع متوسط الأعمار، وانخفاض نسبة مواليد السكان الأصليين!. وهذه وحدها أزمة، ستكون أمامها الأزمة الاقتصادية الراهنة، مجرد سحابة صيف!. وهي تعلم – على سبيل المثال – أن تخفيض عدد تأشيرات العمل التي ستمنحها في العام 2011 إلى 21 ألف و700 تأشيرة، من 28 ألف تأشيرة في العام 2009، ستخفض من قدرة الدولة في المستقبل، على مواجهة الأزمة الديموغرافية. ولكن، كيف يمكن لحكومة، أعلنت في برنامجها الانتخابي، أنها تضع تخفيض عدد العمال والموظفين والطلاب الأجانب، هدفاً أساسياً لتحققه خلال فترة وجودها في السلطة، أن تفهم ما يجب عليها أن تفهمه؟!.

يقول المؤلف والأديب الأميركي توم روبينز :" كن ملتزماً في قراراتك، لكن كن مرنناً في نهجك". لكن يبدو أن الحكومة البريطانية ( ومعها حكومات في بلدان غربية أخرى)، صارمة في قراراتها ونهجها. فعندما تتحول الرؤى الإستراتيجية إلى سلعة سياسية – انتخابية، تنزوي المعايير الأخلاقية، وتنتهي بيئة التسامح، التي لا تصب فقط في مصلحة الأجانب، بل في مصلحة الشعوب الغربية نفسها.

إن بريطانيا هي الدولة الغربية الوحيدة، التي فقدت أموالها في فقاعات اقتصادية تاريخية، وفقدت معها "حلاوة" تسامحها، الذي تميزت به على مدى عدة عقود من الزمن، مقارنة مع بقية الدول المشابهة لها. وإذا ما استشرت "العنصرية الاقتصادية" فيها، فسوف لن يتمكن هذا البلد، من استعادة ملامحه المتميزة. سيكون مثل باقي البلدان، التي لا تنظر أبعد من أنفها!.

هذا ليس طرح عاطفي، إنه طرح أخلاقي.


الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

الفيلم الأوروبي الطويل: من أجل مئات المليارات من الدولارات ؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")









" الديون والأكاذيب، غالباً ما تتماهى مع بعضها البعض "
فرانكوس رابيليس مؤلف وكاتب فرنسي


محمد كركوتـي


المشهد الأول من الفصل الثاني للقصة الحقيقية التي تحمل عنواناً مخيفاً هو "ديون الاتحاد الأوروبي" أو " من أجل مئات المليارات من الدولارات" ( عرض الفصل الأول مستمر!).. يقف رئيس الاتحاد هيرمان فان رومبوي، معلناً بصوت درامي أن "منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي بأسره لن يبقيا، إذا لم تُحل أزمة ديون الدول الأعضاء". في المشهد نفسه، تظهر واحدة من أبطال القصة -الحقيقية جداً- هي أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، لتقول بصوت جهوري "إن الاتحاد الأوروبي سينهار، إذا قُدر لليورو أن ينهار". في الفصل الأول من القصة ذاتها، تتواصل مشاهده، بغرق اليونان في بحار من الديون السيادية، والأفضل أن أقول "الديون الحكومية" ( لا أزال أجد صعوبة في قبول توصيفها. فهل هناك سيادة وكرامة مع الديون؟!)، مع تدافع "فرق الإنقاذ" لانتشالها، ومع موجة من التأنيب والإذلال والتحذير، من جانب عدد من الدول المُنقِذة، خصوصاً ألمانيا. المادة "الاقتصادية الدرامية" – إن جاز التعبير – تنتقل من الفصل الأول إلى الثاني، مع بقاء "الأبطال" أنفسهم في قلب القصة، بينما الضحايا يتبادلون الأدوار!. ولأن الأزمة الاقتصادية العالمية، قدمت بحراً من القصص التي لا تنتهي، فلا خوف من شح "النصوص"، ولا خشية من نقص في عدد الأبطال و"الكومبارس" معاً. سيكون دائماً على الساحة "أبطال اقتصاديون"، مثل كلينت إيستوود ( ليكن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي) ومارلون براندو (ليكن رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون) وروبرت دي نيرو ( ليكن رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو بريلسكوني) وجوليا روبرتس ( لتكن مستشارة ألمانية ميركل)، وسيكون هناك العشرات - بل المئات - من الكومبارس على نفس الساحة الدرامية.

ولعل هذه القصة هي الوحيدة في هذا العالم، التي يمكن متابعة فصولها وأحداثها في نفس الوقت. أي لا فواصل بينها!. فأحداث الفصل الأول المستمرة، تتواصل مع قدوم وفد ثلاثي من المفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي إلى اليونان، لمواجهة احتمالات عدم قدرة هذا البلد على تسديد الديون التي مُنحت له، والبالغة 110 مليار يورو!. فعذراً من "الجمهور"، لا وقت للاستراحة، ولا فرصة لتحريك المفاصل. الأحداث مستمرة، والدراما متفاعلة، والقصة بلا نهاية!.

عودة إلى المشهد الأول من الفصل الثاني، ليكن عنوانه مقولة للمؤلف اللاتيني ببليليوس " الديون الصغيرة تنتج دائناً، والديون الكبيرة تنتج عدواً". أيرلندا.. تُكابر وتمتنع عن طلب العون، رغم معرفتها بأن اقتصادها مهدد بالانهيار، بل شارف عليه!. أيرلندا تُجري مباحثات سرية مع صندوق الإنقاذ الأوروبي، وتعلن في الوقت نفسه، أنها لا تقوم بأي مباحثات!. أيرلندا نفسها تتراجع وتعترف بوجود مباحثات حقيقية في هذا الشأن!. بعثة تضم ممثلين عن المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي ( مكرر من الفصل الأول!)، تصل إلى دبلن علناً، من أجل درس المشكلات البنيوية للمصارف الايرلندية. بريطانيا تعلن رسمياً، أنها ستساعد أيرلندا في محنتها الاقتصادية، بينما تعيش المملكة المتحدة حالة غرق في ديونها!. أيرلندا تطلب عوناً لمصارفها، ولكن ليس لموازنتها العامة، الغارقة بالديون والعجز!. هذا أمر ليس مهماً، سوف ترضخ في النهاية إلى معايير وشروط المُنقذين، فهي تعلم أن الغريق لا يمتلك الحق ولا حتى الوقت، لفرض شروطه على مُنقذه. وربما من "سكرة" الانهيار، لم يقرأ المسؤولون الأيرلنديون، إعلان فرنسا وألمانيا (الدولتان الأكثر إنقاذاً في منطقة اليورو) المشترك، بفرض عقوبات رادعة بحق كل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، تفشل في خفض العجز في موازنتها العامة في غضون ستة أشهر. ولم يسمع هؤلاء ما قاله ساركوزي علانية: "إن الدولة التي تسجل نسب عجز كبيرة، ولا تتخذ الإجراءات الكافية لخفضها، يجب أن تتعرض لعقوبات سريعة وفعالة". مهلاً، هناك لوحة في المشهد. ألمانيا تريد إشراك المصارف ومؤسسات القطاع الخاص في إدارة أزمة الديون. سيداتي سادتي.. مازال المشهد الأول من الفصل الثاني مستمراً.

المشهد الأول من الفصل الثالث. ليكن عنوانه مقولة للشاعر الأميركي أوجدين ناش "الديون تشعرك بالسعادة عندما تكسبها، وتشعرك بعكس ذلك عندما يتوجب عليك إعادتها". وزير الخارجية البرتغالي لويس أماديو يلوح للمرة الأولى، بإمكانية خروج بلاده طواعية من منطقة اليورو، لماذا؟ لأن البرتغال، تواجه متاعب داخلية شرسة، في تمرير حزمة التقشف التي فُرضت عليها من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. زميله وزير المالية فرناندو سانتوس، يعلن أن حكومته لا تخطط لطلب المساعدة من المجتمع الدولي، بل ستواصل القيام بالحصول على التمويل من خلال سوق السندات الدولية. ولأن أحداث القصة متشابهة –بل متطابقة - فقد تقمص البرتغاليون، الدور الأيرلندي الرافض للحصول على مساعدة. لكن الأحداث تسير في نفس السياق، فلا يمكن للشبونة الاستمرار في الرفض، أو مواصلة التهديد بالخروج الطوعي من منطقة اليورو، عندما يستكمل الخراب تسيده لحالة البلاد الاقتصادية. وقتها تنزوي الكرامة ومعها الكبرياء، ولا غرابة في رؤية ممثلي الإنقاذ، يفتحون ملفات الديون البرتغالية، ومعها أضابير العجز في الموازنة العامة، الذي يقترب من 10 في المائة من مجموع الناتج المحلي.

في العام 1965 أنتجت السينما العالمية واحداً من أشهر أفلام "الوسترن" حمل اسمه الشهير" من أجل حفنة من الدولارات" أو For a Few Dollars More ، من بطولة كلينت إيستوود. وفي العام 2008 أنتجت الأزمة الاقتصادية العالمية، واحداً من أطول " الأفلام" الأوروبية، لا يستحق اسماً سوى " من أجل مئات المليارات من الدولارات" أو For a hundreds billion dollars more . في فيلم إيستوود، كان القتل هو الطريقة الوحيدة للحصول على حفنة من الدولارات. وفي "فيلم" الأزمة، هناك مجموعة من الطرق ينبغي إتباعها للحصول على مئات المليارات من الدولارات. الخنوع والاستجداء والتذلل وفتح الملفات مهما كانت سرية والاعتراف بالحقائق.. منها، وقبل هذا وذاك، الانكشاف الاقتصادي الكامل. باختصار.. لا مكان للسيادة الوطنية أو المحلية، ولا مجال للكرامة مهما كانت هشة وضئيلة.

بالأمس كانت اليونان، واليوم حلت أيرلندا، وغداًً يأتي دور البرتغال، وبعد غدٍ ربما أسبانيا ولا غرابة إن كانت بعد بعد غدٍ إيطاليا. لن نتحدث هنا عن الدول الأوروبية خارج منطقة اليورو. فقد غمرت الديون صروحها، قبل شعوبها ومسؤوليها. وهذه وحدها مصيبة عالمية أخرى، ستتطلب مُنقذين، هم أنفسهم يسبحون في بحار من الديون!. كما أن دول اليورو لا وقت لديها ( ولا حتى مالاً) للتعاطي مع هذه القضية المتفاقمة. وبالعودة إلى المشهد الأول من الفصل الثاني، نجد أن الحبكة، ليس في إنقاذ هذا البلد أو ذاك، أو عجز هذه الدولة أو تلك، بل في محاولات حماية الاتحاد الأوروبي نفسه من الانهيار. فمع اندلاع الأزمة العالمية، واستفحال كارثة الديون الأوروبية، كانوا يتحدثون عن مصير منطقة اليورو، وكيفية حماية المنطقة من التفكك. اليوم يتحدثون عن مصير اتحاد، بُني على أسس متينة لا ارتجالية، وأقيم على قواعد ثابتة متأنية، لا هشة ومتسرعة. اتحاد صار رمزاً عالمياً للنجاح، وتحقيق الأهداف.

سينجو الاتحاد الأوروبي، لكنه سيكون مثل ذلك الملك الذي انتصر في الحرب، وعاد إلى بلاده لوحده. لقد فقد كل جيشه!.


الأربعاء، 17 نوفمبر 2010

الإنترنت والتلفزيون وما بينهما

(هذا المقال خاص بمجلة " جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")








" الزمن أقنعني بشيء واحد، هو أن التلفزيون وجد للظهور فيه، لا مشاهدته "
نويل كاوارد كاتب وممثل ومخرج دراما بريطاني




محمد كركوتـي

بعد المطبوعات التي فقدت بريقها والعديد من مواقعها، وتهددت في مصيرها أمام الإنترنت وتوابعها، جاء التلفزيون الذي قد يفقد أضوائه أمامها. وفي ظل الحديث الذي لا ينتهي عن مصير المطبوعات، واستحواذ الإنترنت على مزيد من قرائها وإعلاناتها ومصادر دخلها، بدأ حديث عن العلاقة التي أصبحت شبه متشابكة بين الشبكة الدولية والتلفزيون، وعن الآثار المترتبة على تصاعد أسهم الإنترنت عند الملتقين من كل الأعمار، لاسيما الشباب منهم. فالقضية ليست "فانتازية" بل حقيقية، وليست موسمية بل مستدامة، خصوصاً بعد أن تخلصت الإنترنت من توصيفها النخبوي، إلى التوصيف "الشعبوي"، وبعد أن أضحت ضرورة مُلحة في الحياة اليومية، لاسيما في المجتمعات التي حققت نمواً كبيراً في هذا المجال، وانغماساً عالياً في خطوطها. وفي ظل المعركة الناشبة بين الشبكة الدولية والمطبوعات – بكل أشكالها – تلوح في الأفق معركة، قد لا تكون بعنف الأولى، لكنها في النهاية، ليست معركة جانبية، وإن كانت تبدو على الساحة – أحياناً وليس دائماً - حلول وسط فيها.

ولعل الأسئلة الأولية التي تطرح في هذا المجال هي، من يستفد ممن؟، ومن أقوى ممن؟، وكيف يمكن المواءمة بين الطرفين؟. وقبل هذا وذاك، من سيفوز في النهاية بالقطعة الكبرى من الكعكة الإعلانية، ومن "حلوى" الرعاية التجارية؟. فالدخل المالي هو الذي يقرر في النهاية مصير هذه الأداة الإعلامية أو تلك، وهو الذي يرسم معالم الاستثمار فيها، وبالتالي آفاق تطورها، خصوصاً إذا كانت القنوات المعنية تقوم على قاعدة مؤسسية، لا ارتجالية ولا موسمية.. ولا "بقالية".

نعم يخسر التلفزيون أمام الإنترنت، وإن بصورة أقل من خسارة المطبوعات. وقد ظهر هذا واضحاً في دراسة أجرتها مؤسسة "ديلويت 2010 تي. أم. تي بريدكشينز" أو The 2010 Deloitte TMT Predictions الأيرلندية. حيث توقع معدو التقرير، أن يواصل التلفزيون تسيده للمشهد على صعيد وسائل الترفيه المنزلية، ولكن لعام آخر. وهذا يعني أن شيئاً ليس مضموناً للقنوات التلفزيونية، لكي تستمر في تسيدها هذا في الأعوام المقبلة، وأن الأمور قد تتحول في العام المقبل، في غير صالحها. لقد ضرب هذا التقرير، ما يعتقد به المتابعون لقطاع الإعلام بكل أدواته، بأن تحميل المواد المختلفة التلفزيونية وغيرها من الإنترنت على أجهزة الكمبيوتر، لمشاهدتها في وقت لاحق أو وقت مناسب، ستؤثر تدريجياً على طريقة المشاهدة التلفزيونية، وستنشئ سلوكاً سيكون مستداماً إلى وقت طويل. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو، من يضمن استمرار المتابعة التلفزيونية المباشرة من قبل المشاهدين، في وقت تتزايد فيه أعداد مستخدمي الإنترنت، حتى في الدول التي لم تصل بعد إلى مرحلة متقدمة، لتشكل الإنترنت جزءاً أصيلاً من حياة سكانها اليومية؟.

ومهما يكن من نتائج التقرير المتخصص المشار إليه، إلا أن الأمور تتجه لمصلحة الإنترنت، حتى لو توقع واضعو التقرير، مشاهدة أكثر من 90 في المائة من المواد التلفزيونية، وأكثر من 80 في المائة من المواد الإذاعية، من خلال البث التقليدي، أي بصورة مباشرة. ولعل السبب الرئيسي وراء استمرار تسيد التلفزيون والإذاعة المشهد الإعلامي العام، يعود إلى أن هاتين الوسيلتين متاحتان للغالبية العظمى من المشاهدين – المستهلكين، وتكاليفهما بسيطة، غير أن نسبة كبيرة من المُعلنين، يتجهون عادة إلى المستهلكين المتمكنين اقتصادياً ومعيشياً، الأمر الذي سيصب مستقبلاً في صالح الإنترنت، على صعيد الدخل، وبالتالي على صعيد الاستثمار فيها. ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من القنوات التلفزيونية والإذاعية -العربية وغير العربية- تواجه تراجعاً ملموساً في مداخيلها الإعلانية، من جراء تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية، التي أقصت على الساحة العربية، عدداً من القنوات، وأجبرت قنوات أخرى على إتباع نظام تقشف صارم في السنتين الماضيتين.

لن تسيطر الإنترنت مائة بالمائة، على المشهد الإعلامي العربي والعالمي، لأن جزءاً من المادة التي تستخدم من خلالها، هي تلفزيونية وإذاعية، لكن في المقابل، هناك تزايد كبير لما أصبح يعرف بـ " الإنتاج التلفزيوني الاجتماعي الخاص" عبر الإنترنت، وهو أمر سيؤثر سلباً على الإنتاج التلفزيوني التقليدي في المستقبل، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الإنتاج الإعلامي الاجتماعي ( وليس الإخباري) يستقطب العدد الأكبر من الناس في كل بقاع الأرض. يضاف إلى ذلك أن انخفاض تكاليف الوصول إلى الإنترنت على مستوى العالم ( يمكن قضاء ساعات كافية على الشبكة الدولية بأقل من دولارين أميركيين)، سيعزز من مكانة هذه الشبكة والطلب عليها، حتى في المجتمعات التي تعاني شحاً مالياً.

فعلى سبيل المثال، أظهرت مجموعة من الإحصائيات والدراسات، بما في ذلك دراسة أعدتها مؤسسة "ديجتال انسياتس" أو Digital insites الأوروبية، أن جيل الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، "يديرون ظهورهم" تدريجياً للتلفزيون، مقابل تزايد شغفهم بتصفح الإنترنت الذي يأخذ من وقتهم أكثر من ثلاث ساعات يومياً. وحسب الدراسة، فإن مستخدمي الإنترنت في المنطقة، يمضون ساعات أطول في تصفح الإنترنت من مشاهدة التلفزيون، مما يدفع المتابعين لأحوال سوق الإعلام، لتوقع مستقبل واعد لسوق الإعلانات على الشبكة الدولية. والأمر ليس مختلفاً كثيراً في المناطق الأخرى من العالم. أعداد كبيرة تتجه إلى الإنترنت، ليس فقط لقراءة ما يرغبون عليها، بل أيضاً لمشاهدة "المنتجات" التلفزيونية التقليدية وغير التقليدية، وللاستماع إلى "المنتجات" الإذاعية بكل أنواعها.

وعلى هذا الأساس، فإن المعركة الدائرة حالياً بين الإنترنت والتلفزيون، قد تتحول إلى حرب، سيكون معها هذا الأخير في وضع صعب ومعقد للغاية.


الثلاثاء، 16 نوفمبر 2010

قمة الـ "أنا" لا الـ "نحن"!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" مرة أخرى.. غالبية الاختلافات الاقتصادية، هي اختلافات حول الدرجات لا حول الأنواع"ألفريد مارشال بروفيسور اقتصادي بريطاني

 


محمد كركوتـي
 
ذكرتني دعوة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، مجموعة العشرين، قبل قمتها في العاصمة الكورية الجنوبية سيول، لـ "الوحدة في هذا الوقت الحرج الذي يعيشه الاقتصاد العالمي"، بدعوات بعض قادة العرب الحكماء قبل كل قمة عربية بـ "ضرورة الوحدة في الوقت الحرج الدائم الذي يعيشه العرب". وبهذه الدعوة، يبدو أن بعض الأطراف المحورية في مجموعة العشرين – لاسيما الكبار التقليديين -، "أحبت استعارة" شيء من روح "المجموعة العربية"، رغم الأوقات الحرجة، والكوارث المتراكمة، وتداعيات المصائب الاجتماعية، الناجمة بالدرجة الأولى عن الأزمة الاقتصادية العالمية!. هذه الأطراف وضعت إلى حين، مشروع النظام الاقتصادي العالمي المزمع، وقضايا الإصلاح الاقتصادي، وأهداف الألفية التي استحدثتها الأمم المتحدة مطلع القرن الجاري، لتحسين ما أمكن من حياة البشر البائسين، ووضعت إلى حين أيضاً، خريطة الحرب على الأزمة الكبرى، لتركز على قضية – مهما كان هناك من مدعين بأهميتها وخطورتها – تخص في الواقع طرفان فقط، هما الصين والولايات المتحدة الأميركية!. قضية ثنائية استحوذت على حراك مجموعة تقود العالم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وللسيطرة على "قطار" الاقتصاد العالمي، الذي يسير بلا قائد يوجهه ويوقفه عندما يلزم الأمر، بل لنقل بلا "فرامل"، تُمكِن القائد المنتظر من إيقافه!.

لم نكن بحاجة للانتظار حتى اختتام قمة مجموعة العشرين وبيانها الختامي، لكي نعرف النتائج. فـ "المكتوب كان واضحاً من عنوانه". واجتماعات وزراء مالية المجموعة الممهدة للقمة، كانت أفضل مؤشر على النتائج. كانت عبارة عن مجموعة من لقاءات، مليئة بالمناوشات والاتهامات، والأخطر من هذا وذاك، أنها شهدت ولادة محور اقتصادي ( الكبار التقليديين) داخل المجموعة التي يُفترض أنها أنهت عصر المحاور الاقتصادية!. كانت ببساطة اجتماعات "الاقتصادات الوطنية" لا "الاقتصادات العالمية". كانت اجتماعات الـ "أنا" لا الـ "نحن"، رغم معرفة الجميع – بما في ذلك المناوشين أنفسهم - بأن الـ "أنا" هذه، لم تجلب للعالم على مدى سبعة عقود من الزمن سوى الخراب والأزمات، والكساد والركود، والازدهار الوهمي الفقاعي!. إلى ماذا أدت هذه الحالة؟.. أدت إلى ترحيل الملفات الهامة إلى القمة المقبلة في فرنسا، وإذا ما بقي الحال على ما هو عليه، ستُرَحل إلى القمم المقبلة التي تليها!. وقد ساهم التوتر القائم بين الكبار التقليديين – باستثناء ألمانيا – وبين الصين تحديداً، في انتهاء القمة إلى قرارات "تسويفية"، أكثر من كونها قرارات مُلزِمة، وهو أمر يبدو مقبولاً من مجموعة هامشية إقليمية ضيقة، لا مجموعة أُوكلت ببناء نظام اقتصادي جديد، يحل مكان النظام الذي صبغ العالم بألوان قاتمة، واحتكر القرار الاقتصادي " المقدس"!.

المشكلة التي واجهت مجموعة العشرين - التي حققت قفزات نوعية في أعقاب الأزمة ربما من فرط الصدمة وهول الواقعة – في قمة سيول، أن بعض الأطراف الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بدأت تلعب "سياسة اقتصادية" محلية لا "اقتصاد سياسي" عالمي. وهذا أمر لا يتوافق و"عضويتها" في مجموعة عالمية احتوت كل المجموعات التقليدية!. والسلوك الأميركي في القمة المذكورة، لا يتوافق مع سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما، التي اعتمدت "الإشراك" و المصلحة الاقتصادية العالمية، أساساً لتوجهاتها. كما لا تنسجم مع ما قاله أوباما نفسه – قبل القمة – بـ "بضرورة أن يقوم قادة زعماء مجموعة العشرين بتنحية خلافاتهم جانباً، والعمل معاً والتعاون من أجل تحقيق تعافي الاقتصاد العالمي". فالذي حدث أن خلافات واشنطن – بكين هي التي سيطرت على التحضيرات للقمة، وبعدها استحوذت على القمة نفسها، وهمشت ما لا يجب أن يُهَمش!. فالأولى تقول: إنكم تخفضون قيمة عملتكم (اليوان)، وتسببون الضرر لاقتصادنا بإغراقنا بمنتجاتكم، والثانية تقول: إنكم تطبعون الدولارات الأميركية بدون غطاء، وتتلاعبون بعملتكم لتنشيط اقتصادكم.

في ظل هذا "الردح الاقتصادي"، كيف يمكن لمجموعة تسيطر على 90 في المائة من الاقتصاد العالمي، أن تحقق خطوات مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى، على صعيد تهدئة الاقتصاد العالمي، تمهيداً لتأسيس منظومة مستدامة له؟. كيف يمكن أن يتفرغ قادة العالم العشرون، إلى المسائل المصيرية؟. كيف يمكن للمجموعة القائدة، أن تحسم ( أو تُحَضِر للحسم) قضايا التنمية والفقر والفوضى المالية والاختلالات والفوائض التجارية؟. كيف يمكنها أن تقدم ما عجزت عن تقديمه مجموعة الثماني؟. فالقضية – رغم التصريحات "الجميلة"- ليست عالمية صرفة، بل ثنائية محضة. وهذا آخر ما يريده هذا العالم الذي لا يزال يبحث عن مخارج النجاة من الخراب الأكبر!. مرة أخرى كانت قرارات قمة سيول "تسويفية"، لا مستدامة. بل لم تكن مُلزمة بصورة فعلية لأي من الأطراف. وعلى هذا الأساس، يحق للعالم أن يبدي مخاوفه من المستقبل، ويحق له أن يقول للكبار: مهلاً.. نحن في أزمة، أنتم مفجروها. لا تواصلوا التفجير. أنتم تفجرون ما هو مُفَجَرٌ أصلاً!!.

كانت المملكة، أكثر دول المجموعة حرصاً على ترابطها، سلوكاً ومنهجية وسياسة اقتصادية شاملة.. لا فردية أو ثنائية أو "محاورية" – إن جاز التعبير - . وفي مجموعة تخص العالم، ولا تخص دولها فقط، حرصت الرياض على دورها المكمل، لا دورها "المُنقِص". وهذا أمر مطلوب من كل دولة فازت بمكانة لها في مجموعة العشرين. فعندما تفشل قمة – بهذا المستوى – في الاتفاق على آلية لكشف الاختلالات الكبرى بين الفوائض والعجوزات التجارية، يعني أن حرب العملات تقترب من الانفجار. الذي حدث أن القمة وجهت وزراء مالية المجموعة، بوضع ما سمي "إجراءات إرشادية" لكشف الاختلالات الكبيرة في الموازين التجارية التي تهدد استقرار الاقتصاد العالمي!. وعندما تُرحِل قضية فرض ضرائب على المعاملات المالية للمصارف والمؤسسات المالية الكبرى، للمساهمة في تغطية نفقات مواجهة الأزمة العالمية إلى القمة المقبلة، هذا يعني أن القضية أصبحت مطاطة، ربما تُرَحل من قمة فرنسا إلى قمم أخرى في المستقبل!. هذا دون أن نتحدث عما وصلت إليه الخطوات الرامية لتأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد، لا يحتوي الخلافات والاختلافات والاختلالات والمآرب الفردية فحسب، بل يقي العالم من أزمات كبرى شبيهة بالأزمة العالمية.

لقد بدا واضحاً – قبل القمة وبعدها – أن هناك من يريد خطف المقود في مجموعة العشرين، لأسباب وطنية صرفة ( المآرب السياسية في صبها)، وهذا لوحده يضع المجموعة مستقبلاً، في مواجهة تهديد خطير، سينال منها ومن هامتها.. بل وهيبتها. فقد أثبتت التجارب التاريخية، أن الاستئثار في القيادة العالمية، لا يختلف عن استئثار أي ديكتاتور في دولة يحكمها، ويصنع القرارات وفق المزاج والفائدة الشخصية. لكن الأوقات تتغير. فـ " السائق" السابق للعربة العالمية، فقد الكثير من مهارات القيادة بما في ذلك قدرته على التحكم بها، إلى درجة أودى بها ومن فيها في واد سحيق، فشلت عمليات الإنقاذ في انتشالها، واكتشف العالم أن كل "بوالص التأمين"، لا يمكن أن تغطي الخسائر الناجمة عنها!.

الثلاثاء، 9 نوفمبر 2010

المهاجرون هم الحل أو بعضه

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")



" ينبغي أن تسترخي مع شيخوختك.. ماذا يمكنك أن تفعل؟! "
فيليستي كيندال ممثلة مسرحية وتلفزيونية بريطانية



محمد كركوتـي


في أوروبا أزمة تتشكل منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، ستكون الأزمة الاقتصادية العالمية، مجرد "نزهة" أمامها. أزمة لا تنفع معها عمليات التحفيز والإنقاذ، لأنها مرتبطة بالاقتصاد والنمو الديموغرافي، أي أنها لا تخضع للمعايير الاقتصادية الصرفة، لكي تُوضع لها الخطط والبرامج المحددة والواضحة. إنها مرتبطة بـ "ثقافة" النمو السكاني، التي بدورها تستند إلى مفهوم كل فرد لها، لا المفهوم الموحد للمجتمع. ففي مجتمعات مفتوحة تكفل الاختيار الفردي التام – ومعه الحرية الفردية بالطبع - لايمكن بأي حال من الأحوال، لأي حكومة أن تفرض نسبة نمو سكاني، ولا معدلات محددة لعدد المواليد. وعلى الرغم من أن هذه الأزمة بدأت بالتشكل منذ ثلاثين عاماً تقريباً، غير أنها لا تُطرح بصورة واقعية وتحليلية عميقة، إلا في زمن الأزمات الاقتصادية. ففي النهاية، يستحيل تجريد النمو السكاني من روابطه الاقتصادية والتنموية. ولأن الأمر كذلك، فقد بدأت أوروبا بشكل خاص، والعالم الغربي بشكل عام، في إرسال التحذيرات من خطورة ما يمكن تسميته بـ " النمو الديموغرافي للمسنين" فيها. ومع بدء الحكومات الأوروبية في تنفيذ خطط تقشف تاريخية، في سبيل الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، طُرحت هذه القضية بصورة قوية، لأن إحدى بنود هذه الخطط، تفرض رفعاً لسن التقاعد، لسد الثغرات بين متطلبات العمل والعاملين. فعلى سبيل المثال، تخوض الحكومة الفرنسية صراعاً مع النقابات والمؤسسات التي تُعنى بحقوق العمال والإنسان، لأن خطة التقشف التي وضعتها، رفعت سن التقاعد في البلاد من 60 إلى 62 سنة. والأمر كذلك في بعض الدول الأوروبية الأخرى. فقد وجدت حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي، أنه لا مناص من الإقدام على هذه الخطوة، لأن الأمة الفرنسية – كبقية الأمم الأوروبية – تشيخ، ولأن معدل عمر الفرد، يرتفع بصورة كبيرة للغاية.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، سادت أوروبا حالة يمكن تسميتها بـ "ازدهار الأطفال". كانت – ربما – بمنزلة تعويض ما، عن الضحايا الذين سقطوا في هذه الحرب، والذين يُقدر عددهم بحوالي 55 مليون إنسان ( بعض التقديرات تتجاوز هذا الرقم). لكن مع نهاية سبعينات القرن الماضي، بدأت هذه الحالة بالأفول، الأمر الذي أوجد موجة خطيرة من التغيرات السكانية في القارة كلها، سمتها مديرة معهد صندوق النقد الدولي ليزلي ليبتشيتس بـ " ظاهرة النمو الديموغرافي لدى فئة من المسنين"، واعتبرتها أخطر على الأوروبيين من الأزمة الاقتصادية العالمية نفسها!. فنسبة السكان العاملين، تتراجع مقارنة بنسبة المتقاعدين، وهذا يعني أن الإنفاق على المجتمعات العجوزة، تزداد بصورة كبيرة، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومات الأوروبية (والغربية كلها)، لوقف نزيف الأزمة العالمية، من خلال مجموعة من الآليات، من بينها التشغيل الأمثل والأطول للعاملين. وطبقاً لصندوق النقد الدولي، فإن المجتمعات المسنة، ستُحدث آثاراً مخيفة، بحلول العام 2015، في أوج التحركات الحكومية الهادفة لإزالة آثار الأزمة. ولنا أن نعرف، أن عمر الأزمة العالمية، لن يقل عن عشر سنوات منذ انفجارها في العام 2008 !.

في دراسة استطلاعية مثيرة أجرتها المفوضية الأوروبية، أظهرت أن عدد البالغين من العمر 60 عاماً سيتضاعف بمعدل مليوني شخص كل عام في دول الاتحاد الأوروبي، خلال الـ 25 سنة المقبلة!. وطبقاً للدراسة نفسها، فإن أعمار الطبقة العمالة في أوروبا سيتباطأ بشدة، وستتوقف نمو هذه الطبقة بعد ست سنوات فقط، كما ستتناقص الطبقة العاملة بعد الست السنوات المقبلة، بمليون إلى مليون ونصف كل عام، وستتزايد شريحة الأعمار بين 65 و 79 بمعدل الضعف بحلول عام 2060، وسترتفع أعداد من ناهزوا الـ 80 عاماً وما فوق بثلاثة أضعاف!. إلى ماذا ستؤدي هذه التحولات؟.. ستؤدي إلى خروج الكثير من كبار السن من سوق العمل مما يضغط على موازنات دول الاتحاد الأوروبي، ويضيف عبئاً أكبر على كاهل الشباب أو الطبقة العاملة التي تواجه هي نفسها تناقصاً مستمراً!.

الجميع يعرف الحل لهذه الكارثة الاجتماعية – الاقتصادية، لكن أحداً لا يمكن أن يطرحه، كقرار أو كأمر أو كمرسوم. إنه ينحصر في زيادة الإنجاب في القارة الأوروبية، ورفع معدلات المواليد، لكي تتناسب في المستقبل مع عدد المسنين. وهذه قضية – مرة أخرى – شخصية، بينما لا تبدو في الأفق مؤشرات على رغبة الأوروبيين في الإنجاب "المطلوب". فقد سبق عزوف الأوروبيين عن الإنجاب " المُرضي" للحكومات، عزوف آخر عن الزواج. قبل عامين أصدر معهد "برلين" للسكان والتنمية، دراسة أظهرت أن عدد سكان الاتحاد الأوروبي سيقلون بواقع 52 مليون شخص إلى 447 مليونا بحلول العام 2050. وحددت الدراسة مناطق في بولندا وشرق ألمانيا وشمال اسبانيا وجنوب إيطاليا، وتوقعوا لها أن تصبح مهجورة تماماً!. وحسب التوقعات الإحصائية، فإن متوسط الإنجاب يبلغ 1.5 طفل لكل امرأة في الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن كل جيل جديد سيكون أقل عدداً من سلفه بنسبة 25 في المائة. وبحلول عام 2050 فإن متوسط الأعمار في الاتحاد (المكون من 27 دولة) سيزيد 10 أعوام. فعلى سبيل المثال، تبلغ في إيطاليا نسبة كبار السن 19 في المائة من الحجم الكلي للسكان، وستصل – حسب الدراسات الإحصائية – إلى 28 في المائة بحلول العام 2030!. وفي سويسرا (خارج الاتحاد الأوروبي)، كان السكان هناك يعيشون في العام 1900 إلى سن 52 عاماً فقط، بينما تشير الدراسات إلى ارتفاع الفئة العمرية التي تتجاوز 81 عاماً بنسبة 25 في المائة في هذا البلد ما بين 2000 و2020. وقد يكون الوضع أسوأ في اليابان من أوروبا نفسها. فمع حلول العام 2015 سيكون ربع السكان من المسنين!.

مع هذا الواقع الخطير، لا مجال لـ " القومية أو الوطنية الاقتصادية"، وبالتأكيد لا مكان لـ "العنصرية الاقتصادية". أوروبا ( والغرب معها)، تحتاج إلى بشر عاملين، لا متقاعدين فقط. إلى من يُحرك، وليس مَنْ لا يتحرك. وفي عز الأزمة، طالبت مؤسسات كبرى في بريطانيا حكومة بلادها، بضرورة تخفيف قوانين جلب العمالة، لسد العجز الناجم في بعض القطاعات، بسبب نقص الكوادر الوطنية، وبفعل ازدياد عدد المتقاعدين في هذه القطاعات. وفي ألمانيا تلقت الحكومة فيها نفس المطالب. والخبراء الأوروبيون المستقلون، لا يجدون حلاً للتحولات الديموغرافية الخطيرة، إلا بالهجرة إلى أوروبا. فقد بات من الصعب الآن – ومن المستحيل في المستقبل – أن يكون هناك حراكاً اجتماعياً – اقتصادياً متكاملاً، في مجتمعات سيكون فيها ابن الخمسين "شاباً"، قياساً ببقية الشرائح العمرية بين 60 و85 سنة، وفي بعض المناطق بين 60 و90 سنة!. ولذلك فإن القوانين التي تسنها الحكومات الأوروبية للحد من الهجرة، ستنقلب عليها في المستقبل.

ليس مطلوباً من الحكومات أن تفتح أبواب أوروبا على مصراعيها للمهاجرين، على الأقل في هذا الوقت بالذات. المطلوب، أن تقوم بموازنة الهجرة مع متطلبات سوق العمل أولاً،و وخصوصاً تقاعد الكوادر، وأن يزيد من حجم جهودها في تكريس "إشراك" المهاجرين، لأن هؤلاء يفضلون عادة الانطواء على ذاتهم وعلى جالياتهم. وإذا استطاعت الحكومات الأوروبية أن تأتي بالعمالة الماهرة المطلوبة – ولنسمها عمالة الإحلال - فإنها ستختصر الطريق نحو "الإشراك". فالأعداد المطلوبة من المهاجرين الشرعيين - لكي تحقق شيئاً من التوازن الديموغرافي - يجب أن تحظى بتسامح شعبي – قبل الحكومي – وهو أمر غائب عن الساحة، خصوصاً وأن الأزمة الاقتصادية العالمية، نشرت – من ضمن ما نشرت – موجات من الشكوك، ليس حيال المهاجرين فحسب، بل بين الأوروبيين أنفسهم. لقد ضربت التسامح في مقتل!.

الاثنين، 1 نوفمبر 2010

خائفون من ضرائب هزيلة تسند أمماً!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")

" نحن نصنع العيش بما نحصل عليه، ونصنع الحياة بما نقدمه "
ونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا الراحل



محمد كركوتـي

قبل أن يُسلِم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، بلاده التي نكبها اقتصادياً - وسياسياً طبعاً - إلى خليفته باراك أوباما، كان يهرب بطرق مُريعة من الأسئلة الخاصة بمساعدات الولايات المتحدة الأميركية للدول الفقيرة، وتحديداً تدني هذه المساعدات على مدى ثماني سنوات من حكمه للبلاد. وأحسب أنه كان يتهرب من الإجابة لسببين، الأول، أنه لم يكن يجيد الإجابة على أي شيء، والثاني، أنه كان - ومعه أركان إدارته - يفشلون في تبرير تراجع حجم المساعدات الأميركية بصورة تاريخية في فترته الرئاسية. ففي الفترة بين العامين 2000 و2008، تراجعت هذه المساعدات إلى النصف، وكانت هذه المسألة في الواقع، خارج الأجندة الرسمية. ولو تمكن بوش ومعه "ذئاب" إدارته، أن يوفقوا المساعدات لأوقفوها، بل لو استطاع ومعه " الذئاب" أنفسهم أن يسترجعوا ما قدمته بلادهم للدول الفقيرة، لفعلوا!. كانت إدارته - على عكس إدارة كلينتون التي سبقتها - ترى في المساعدات مجرد ضريبة مقيتة، ولا تجد فيها التزام لدولة كبرى، فرضته المعايير الإنسانية والسياسية أيضاً. كانت إدارة صغيرة المقام، تعمل على تصغير بلادها معها. لم تكن تعلم، أن قيمة الكبير ليست في حجمه فقط، بل في هامته الإنسانية والأخلاقية، وقبل هذا وذاك.. في مسؤولياته التاريخية.

وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية، ووقعت معها – كبقية القضايا المصيرية الأخرى – المساعدات التي تمثل "الأوكسجين" الناقص للدول الفقيرة. كل الدول المانحة، انطلقت في حديث لا يتوقف عن أوضاعها الاقتصادية المتردية، بما في ذلك توقف النمو، والبطالة، وخفض الإنفاق العالم، وبالطبع الديون الحكومية (السيادية). فالأموال شحت، وبالتالي فإنها ستنعكس بصورة مباشرة على المساعدات والمنح الخارجية. وأخذ المانحون - في ترديد غير مباشر- للمقولة المصرية الشعبية الشهيرة "ما يحتاجه البيت، يحرم على الجامع". وبصرف النظر عما يقولونه – وهو صحيح – غير أنه لا ينطبق على دول، أخذت " مقاليد الحكم" الاقتصادي، لفترة بلغت سبعة عقود من الزمن، ولا يسري على الكبار، إذا ما أرادوا أن يظلوا كباراً. هناك أزمة تاريخية كارثية بلاشك، تسبب بها الكبار .. لا الصغار، وستستفحل هذه الأزمة، إذا لم يف المانحون بوعودهم والتزاماتهم في مسألة المساعدات، لأن تداعيات الأزمة الكبرى، أكبر بكثير من قوة انفجارها. فالانفجار ينتهي في وقته ومكانه، لكن أثاره تبدو بلا نهاية، وبلا مساحة جغرافية محددة. وربما ينفع الدول المانحة، أن أذكرهم بما قاله العالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين " إن قيمة الإنسان بعطائه، لا بقدرته على الأخذ".

مع تواصل الأزمة الاقتصادية بأشكالها المختلفة، تعرضت كل البرامج التنموية العالمية في الدول الفقيرة، بما في ذلك برنامج " أهداف الألفية"، الذي أطلقته الأمم المتحدة في العام 2000، من أجل خفض معدلات الفقر والجوع والمرض في الدول النامية. والسبب الرئيسي، هو تقاعس المانحين عن الإيفاء بتعهداتهم، واحترام التزاماتهم. البنك الدولي يبحث عن الأموال، ولا يجدها، ويحاول بشتى الوسائل الوصول إلى حلول وسط – لا حلول ناجعة – من أجل استمرار برامجه بصورة تستحق توصيفها كبرامج. وهذه المؤسسة الدولية المرتعدة من شح الأموال، تعترف بأن حملتها لجمع الأموال لمساعدة الفقراء في العالم تتطلب "قوة دفع مستمرة"، نظراً لتخفيضات الموازنات في الدول المانحة الغنية. فعلى سبيل المثال، انخفض نصيب أفريقيا من المساعدات العالمية للتنمية، من أكثر من 40 في المائة في العام 1990 إلى ما بين 30 و35 في المائة منذ العام 2000. إضافة إلى ذلك، ارتفعت نسبة الفقراء الذين يعيشون في القارة السمراء، ويتوقع أن تصل إلى نحو 40 في المائة في العام 2015.

إن الموارد التي يسعى البنك لتوفيرها من الدول الأعضاء فيه، تخص هيئة التنمية الدولية التابعة له، توفر المنح وقروض التنمية منخفضة الفائدة لـ79 دولة، من الدول الأشد فقراً في العالم، أي أنها ليست هبات. وطبقاً لرئيس البنك الدولي روبرت زوليك، فإن الجهود المبذولة حالياً لجمع الأموال الضرورية، يمكن أن تساعد على حماية 200 مليون طفل إضافي، وأن تشمل خدمات الرعاية الصحية أكثر من 30 مليون شخص إضافي، وأن تساعد على مد طرق يبلغ إجمالي طولها 80 ألف كيلو متر، وأيضاً يمكن لهذه الأموال – وهذه نقطة مهمة جداً- أن تدرب وتوظف مليوني مُدرس جديد. لكن هذا يبقى كلاماً، ويمنح البنك نفس الصفة التي مُنحت لصندوق النقد الدولي، بأنه يحدث كثيراً، ولكن أحداً لا يستمع لحديثه. فكيف يمكن أن يحصل البنك الدولي على 140 مليار دولار أميركي، تعهد بتوفيرها منذ عام انفجار الأزمة في 2008، بينما يُحب المانحون حالياً، أن يُكرسوا صفة " المساكين" عليهم؟!. وكيف يمكن لبرامج التنمية العالمية الكبرى، أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بينما لا يعرف أحد مصير عمليات التمويل؟!. هل يمكن للمؤسسات الدولية المعنية، أن "تخترع" مصادر تمويل جديدة، غير التقليدية؟!. إنها مجموعة من الأسئلة، تحتاج إلى أجوبة فورية، لأن التأخر في برامج التنمية ( هي في الواقع برامج أقرب إلى عمليات إنقاذ منها إلى أي شيء آخر)، يعني أن هناك كارثة جديدة على الناصية، ومصيبة أخرى على عتبة الباب، وأزمة من نوع آخر في محيط الدائرة.

هناك مشاريع حلول، إلا أن البنك وصندوق النقد الدوليين، يستبعدانها لأنها تتطلب وقتاً لا يمكن للعالم أن يتحمله. لكن إذا أرادت الدول الكبرى أن تأخذ بها بالفعل وبصدق، يمكن أن تساند الجهود الدولية في "عمليات الإنقاذ" الإنسانية. والحقيقة أن هذا الحل طُرح قبل عام تقريباً، أي أنه ليس جديداً، وأن الأزمة تكمن في تردد الدول الكبرى في قبوله. فقد اقتُرح سابقاً، فرض ضريبة على المعاملات المالية ( المصرفية)، وحسب مؤسسات التنمية، فإن فرص ضرائب بنسبة 0.005 في المائة فقط لا غير، على المعاملات التي تجري بالدولار الأميركي واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني، ستوفر ما لا يقل عن 30 مليار دولار أميركي. والحقيقة.. يمكن اعتبار هذه الضرائب، نوعاً من أنواع التعويض التي يستحقها العالم، من أداء المصارف المشين ( على مدى أكثر من عقدين من الزمن)، الذي حضَر الأزمة العالمية وفجرها. لماذا الخوف من فرض هذه الضرائب؟ بينما تلقت غالبية المصارف المشينة مساعدات، وحظيت بعمليات إنقاذ حكومية، بأموال خرافية الحجم حقاً!. هل تخشى الحكومات من مؤسسات مالية، هي في الواقع تعمل تحت مظلتها، وأُنقذت بأموال دافعي الضرائب؟!.

لن تُشكل ضرائب بنسبة هزيلة كـ 0.005 في المائة، أي ضغط أو عبء على كاهل المصارف، في الوقت الذي يمكنها أن تصنع " العجائب" على صعيد الدول الفقيرة، وفي مجال برامج التنمية التي وافقت عليها وتحمست لها الدول الكبرى. إنها ضريبة مستحقة، على الأقل من جهة تكفير المصارف والمؤسسات المالية الكبرى، عن " ذنبها الاقتصادي" حيال العالم أجمع. كما أن للدول الكبرى، مسؤولية عالمية إذا ما أرادت أن تحتفظ بهامتها، شكلاً ومضموناً. فلا يمكن أن يتساوى "التودد" إلى مصرف أو مؤسسة، مع قضية توفير مياه للشرب - لا للاستحمام - في دولة (أو مجتمع) تصل فيها قيمة الأمطار إلى ثمن الألماس! وتستحيل المقارنة بين فقدان الدواء لعلاج مرضى الإيدز - مثلاً - في دولة ما، وبين تراجع أرباح المصارف!.

إنها قضية تتجاوز المؤسسات – مهما كبرت – لأنها ترتبط بالأمم مهما صغرت.

الاثنين، 25 أكتوبر 2010

هل من عِبر لعلم في الكَبر؟

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")









" عندما تفشل في التحضير.. أنت تحضر للفشل"
بنجامين فرانكلين مؤلف ورجل دولة أميركي

 
 
محمد كركوتـي
 
 
على مدى عقود طويلة من الزمن، كان الغرب يفخر بدوره كمُعلم لهذا العالم وموجه له. كان الغربيون يعيشون متعة "الأستذة"، بكل وسائلها وطقوسها التعليمية. كانوا يرفعون "عصا الأستاذ" في وجه تلاميذه، لاسيما أولئك المشاغبين، أو الذين أرادوا أن يُثبتوا أن البديهيات المعمول بها في العالم، ليست من تلك الطبيعية، لكي تُقبل دون حوار، وليست بديهيات مقدسة غير قابلة للنقاش. كان هؤلاء (الخارجون عن التقليد) يريدون دوراً ليس في "الأستذة"، بل في المشاركة الحوارية المنطقية، بين الأستاذ والطالب، أو بين المعلم والتلميذ. نجح الغربيون في مناح كثيرة، وأضافوا بالفعل لهذا العالم ما كان يحتاجه، واستطاعوا أن يؤسسوا ( ويتسيدوا) علوماً، ما كان لغيرهم القدرة عليها. كانوا يعملون بكل قدراتهم، ليس فقط للابتكار، بل أيضاً ليواصلوا إحساسهم (المستحق) بمتعة التميز، والمتعة الأخرى التي يجرها، وهي “الأستذة". استحق الغربيون هذه الصفة، عن جدارة – بلاشك – لأنهم صنعوا للعمل قداسة، ومعها "الفراسة"، وأنفقوا كثيراً من أجل ابتكارات تخصهم وتخص العالم معهم. ومهما كانت "عنجهية" مشاعر "الأستذة"، فهي لا تُلغي فوائد هذه الأخيرة، خصوصاً إذا ماكانت عامة وقبل ذلك إنسانية.

لكن "الأستذة" الغربية، وإن سادت العالم وقدمت له الكثير من الإنجازات التاريخية، إلا أنها لم تكن على قدر سمعتها وهيبتها ومكانتها ومقامها، في المجال الاقتصادي المستدام. فقد أسست – بعد الحرب العالمية الثانية - لنظام اقتصادي مضطرب أحياناً، وهش في أحيان أخرى، وفوضوي في بعض الأحيان. وقبل هذا وذاك، كان نظاماً اقتصادياً يعاني من فقدان المناعة. فلا ازدهار مضمون دائماً، ولا نمو متوازن مستمر، ولا استقرار له صفة الديمومة. وعلى الرغم من ذلك، تشبث "الأستاذ" بمعايير نظريته الاقتصادية، وحوَلها إلى بديهيات مقدسة، رغم أنها مصطنعة، وكان يقاوم النيل منها بكل أشكاله ( انتقاداً أو دحضاً أو رفضاً)، مُدعياً أنه يعرف المصلحة العالمية، وأنه يعرف الحقيقة كـ "أخ أكبر". وكأن الغرب أراد من خلال هذا السلوك، أن يُصادق على نبوءة الأديب البريطاني الشهير جورج أورويل، الذي أوردها في روايته "1984"، والتي كتبها في العام 1948، بأن "الأخ الأكبر – يقصد الأنظمة الكبرى- يراقبك، وهو يعرف مصلحتك أكثر منك"!.

بعد الأزمة الاقتصادية العالمية انقلب المشهد، بعدما قلبت كل شيء في هذا العالم، وأوجدت معايير، كانت ( قبل ثلاث سنوات) تدخل في خانة المستحيلات. فالمُعلم انسحب من أمام "السبورة"، ليجلس في مقاعد التلاميذ!. وسلَم عصا "الأستاذية" لهم ومعها "الطباشير". لم يعد لديه ما "يتأستذ " به، بعد سبعة عقود فاصلة بين الحرب الثانية والأزمة العالمية، شهد خلال العالم سبعة انهيارات اقتصادية، أي انهيار واحد في كل عقد من الزمن!. وعندما يتحول المُعلم إلى تلميذ، ينبغي مراجعة كل ما قدمه هذا المُعلم لتلاميذه، ويجب مراجعة كل المُسلمات التي أدخلها عنوة في عقولهم. وهذه الحالة لا ينطبق عليها مقولة "أن التلميذ تفوق على مُعلمه"، بل " أن التلميذ حدد أخطاء مُعلمه وكشفها"، ولو بعد سنوات طويلة، من علوم اقتصادية، هي في الواقع، سلوك اقتصادي غير راشد. سلوك كان الوهم في صلبه.. لكي لا نقول غير ذلك!. فقد أثبت الغرب صحة مقولة لـ ألان لاكين المؤلف الأميركي المتخصص بشؤون الإدارة، مشابهة لمقولة بنجامين فرانكلين " أن الفشل في وضع خطة، هو خطة للفشل".

في ظل هذا التحول التاريخي الجديد، تحولت الدول الناشئة إلى "مُدرس" للاقتصاد، لمن؟ للدول الغنية الراسخة، وتحديداً الدول الغربية!. وتحت ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية، أدركت الدول الغربية الثرية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، أن لدى دول كالصين والبرازيل والهند، ودول أخرى ذات اقتصادات سريعة النمو، ما يمكن أن تتعلمه في مجال اجتياز الأزمة بمصائبها وتبعاتها التي لا تنتهي. فقد عرف الغرب الذي انطلقت منه الأزمة الكبرى، أنه عاجز عن حلها، بالمعايير التي كانت سائدة قبلها، في الوقت الذي يرى فيه ( وبصورة يومية)، كيف يتحول الاقتصاد العالمي من جهة الغرب إلى جهة الشرق، وكيف استطاعت دول ( فتية وفق المفهوم القديم)، أن تقفز بخطوات واسعة، باتجاه الخروج من الأزمة. واعترف بعض الغربيين العادلين، أن من حق دول الأسواق الناشئة – إن جاز التعبير – أن تحظى بمكانة توازي، ليس فقط قوتها المتعاظمة، بل أيضاً خبرتها في التعاطي مع الأزمات. وهذه لوحدها ينبغي أن تكون بمثابة ميزة أساسية، لكي تكون لهذه الدول كلمتها المسموعة في المنظمات والتجمعات الدولية المختلفة، وفي مقدمتها "مجموعة العشرين" و "صندوق النقد الدولي"، بالإضافة طبعاً إلى أهمية أن يكون لها منبر، تقدم من فوقه خبراتها لتلك الدول التي لا تزال "ألعوبة" للأزمة وتداعياتها.

لا مجال للكبرياء الغربي هنا، ولا ومكان لـ "اجترار" ماض اقتصادي أليم، ولا وقت لمراجعة معايير اقتصادية عالمية قديمة، لم تعد صالحة للمستقبل، كما لم تكن صالحة في الماضي أيضاً. الأمر الجيد هنا، أن الحكومات الغربية من الضعف بحيث لا يمكنها أن تتعالى، ولا تستطيع أن تُكابر. يكفي عليها أن تستعرض استفحال ديونها، وانعكاساتها على مصداقيتها، لكن تنضم إلى "الصفوف الدراسية" الاقتصادية الجديدة، ولكي تتعلم من تجارب الدول الناشئة، بعد أن كانت تصنعها. والشيء الجيد الآخر، أن نسبة المعترفين الغربيين بـ " خطايا" الغرب الاقتصادية، تزداد حتى في معاقل اليمين، الذي كان يتعالى في السابق، بنظام اقتصادي، ترك الأسواق تهيم على وجهها بممارسات مشينة. ماذا حدث؟.. أكل النظام أسواقه"!!. فقد ظهر ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا، ومعه رئيس فرنسا نيكولا ساركوزي، ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، (جميعهم من اليمين المحافظ)، كـ "ثوريين" اقتصاديين!. جنحوا إلى المجتمع، الذين وجدوا فيه الملاذ الطبيعي الآمن لهم.

للمؤسسات الدولية كبرى دور أساسي في توفير "المدارس" الاقتصادية للغرب. ويمكنها أن تقوم فعلاً بخطوات عملية في هذا الاتجاه، ليس لفائدة الدول الناشئة، بل لمصلحة الدول الغربية الهائمة على وجهها. وبوسع صندوق النقد الدولي ( يضم 187 دولة)، أن يكون "المدرسة" المثالية، شرط أن يتخلى الغربيون عن تمسكهم بقوتهم التقليدية، التي لم تعد تنفع فيه. يضاف إلى ذلك، أن متطلبات مواجهة الأزمة، لا ترتكز فقط على إعطاء الدروس المفيدة للغربيين، بل تقوم أيضاً على العمل الجماعي، لا المحلي ولا الوطني، وعلى ضرورة مراجعة صارمة للاقتصادات العالمية – لاسيما الغربية منها– لكي لا تفلت من التدقيق. فقد اكتسب صندوق النقد على مدى ستة عقود، سمعة لا تليق به، وهي أنه يتحدث بصوت عال، لكنه لا يملك السلطة لإجبار الدول على الأخذ بنصائحه أو دروسه. الصورة تغيرت الآن، وأصبح هناك مدرسون عمليون لا نظريين. ما يحتاجونه فقط هو "صف دراسي"، لا يقدمون نظريات "مفذلكة" فيه، بل يعرضون تجارب واقعية للنجاح، على الأستاذة السابقين. وأفضل طريقة لتحقيق الأهداف، هي أن يكون صندوق النقد الدولي، هو " ولي أمر" التلاميذ الجدد، فقد كان هؤلاء بلا " أولياء أمور" على عقود من الزمن، ولم يكن هناك من يُعاقِب!.

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

المخابرات الاقتصادية

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









" كل إنسان محاط بجيران يتطوعون للتجسس عليه"
جين أوستن أديبة بريطانية




محمد كركوتـي


رغم أن الوقت ليس وقتها، فهي موجودة. ورغم أنها تسبب وبالاً لا حصر لتداعياته، فهي حاضرة على الساحة العالمية. ورغم أنها يجب أن تكون خارج "اللعبة"، وخارج الحراك الاقتصادي الهش، فهي آخذة بالازدهار والانتشار في كل الأرجاء، وتتخذ أشكالاً مختلفة، ولكن بهدف واحد محدد. إنها آفة في أوقات النمو، ومصيبة في أزمنة المحن والكوارث. إنها ليست جديدة على الساحة، بل قديمة قِدم الاقتصاد نفسه، واستمرارها وتجددها، لا يعرض الاقتصاد العالمي إلى الخسائر (الخسائر أحاطت به من كل جانب، وأصابت كل قطاع فيه)، ولكن يصيب التحرك الدولي، لتأسيس منظومة اقتصادية خالية من الشوائب و"الجراثيم"، في مقتل، أو على الأقل، يُبطئ الخطوات باتجاه الوصول إلى مثل هذه المنظومة التي يحتاج العالم وجودها، بأسرع وقت ممكن، وبأعلى درجات الشفافية والنزاهة، وبأقل قدر من المكاسب المحلية الآنية. فقد نال الاقتصاد العالمي ما يكفي من المصائب، نتيجة لممارسات تعاطت مع النزاهة كـ "مرض"، وأساليب كانت النزاهة معها، مجرد شوائب تم التخلص منها بقوة، وأفكار هدامة كانت على مدى سنوات طويلة، محل تقديس!.

إن المرض المتجدد، ليس سوى ما يمكن تسميته بـ "المخابرات الاقتصادية"، أو " التجسس الاقتصادي"، بكل قطاعاته وميادينه. إنه مرض كان ينبغي أن ينتهي مع انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، لأنها – وإن جلبت المصائب – فقد أتت بمحفزات جديدة، في مقدمتها، ضرورة التعاون الدولي للوقوف بوجهها، والتخلص من آثارها، والقضاء على "الثقافة" التي ولدتها، وقبل هذا وذاك، إنشاء نظام اقتصادي جديد، لن تستوي أحوال العالم يستكمل بناؤه، ولن تتوقف المصائب المتوقعة بعيداً عنه، ولن نشهد أياماً مزدهرة، إذا ما ظل خارج الساحة. نحن نعلم أنه في كل أزمة، هناك أشياء إيجابية ليست كثيرة، ولكنها كافية – على الأقل – لتمنح الواقعين فيها مساحة لمعالجتها (ومراجعة ما كان من أجل مستقبل أفضل سيكون)، لكي لا نقول: مواجهتها. ومعالجة هذه الأزمة بالذات، لن تحقق النجاح، إذا لم يتم التخلص نهائياً من "السلوك الاقتصادي" المشين، الذي صبغ العالم بصبغته لمدة تزيد عن عقدين من الزمن، وكان نتاجاً طبيعياً لمبادئ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بظلمها وفوضويتها وتسيبها.. وحتى "فجورها".

إن "المخابرات الاقتصادية" ليست حكراً على طرف دون الآخر. فالكل مارسها ويمارسها، وإن بدرجات متفاوتة، وآليات متباينة القوة، وسلوكيات مختلفة. فالغرب يمارسها والشرق أيضاً. والمؤسسات الكبرى والصغرى تمارسها أيضاً. هذه " المخابرات"، أفرزت – بصورة طبيعية – عمليات تجسس نالت من كل شيء، تجارياً وصناعياً وخدماتياً وسوقياً، وبالطبع مصرفياً. فجواسيس الحروب والنزاعات العسكرية، ليسوا لوحدهم الآن، تماماً مثلما لم يكونوا لوحدهم في السابق. فزملائهم الاقتصاديون ينشروا على الساحة. وكما للمخابرات التقليدية فروع وأقسام، لـ "المخابرات الاقتصادية" شركات ومؤسسات، تقدم خدماتها لمن يدفع، بصرف النظر عن شرعية جلب "المنتج" الاستخباراتي!. فالعاملون – الجواسيس – فيها، لا يعتبرون عملهم مشين أو غير شرعي. بل هناك – في الولايات المتحدة الأميركية – من تحدث علناً، بأن ما يقوم به، هو واجب وطني، للدفاع عن "المصالح الاقتصادية" لبلاده!. فقد استوى عنده التجسس بهدف الأمن القومي، مع التجسس بهدف تدمير شركة أو مؤسسة، أو على الأقل سرقة معلومات تشكل أساساً لإنتاج هذه الشركة أو تلك!. وقد توازت عنده أيضاً، معايير التنافسية القائمة على الإبداع والابتكار وبالتالي النجاح، وسرقة الآخرين من أجل خوض التنافسية!. لا مكان للأخلاق هنا. إنها قضية أصغر من أن تحظى بأدنى اهتمام!.

والحقيقة أن المخابرات التقليدية في الدول المتقدمة والناشئة، انضمت هي الأخرى إلى زميلاتها "الاقتصادية"، تحت المسمى العريض والفضفاض والهلامي، وهو " الأمن القومي"!. ولا نعرف – في هذا العالم السري – من يعطي الدروس لمن؟. المعروف أن الأدوات الاستخباراتية، قد تختلف بعض الشيء، لكن في النهاية تصل أو تقترب من الهدف المشين نفسه. قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كانت المخابرات الألمانية واضحة حين نشرت تقريراً، عن التجسس الاقتصادي الهادف إلى جمع المعلومات التكنولوجية والعلمية والابتكارية، أكدت فيه وجود مئات من الجواسيس الإسرائيليين والصينيين والأميركيين والسلوفاك والتشيك والبولنديين وغيرهم، فضلاً عن جواسيس (عملاء) لأجهزة المخابرات الغربية كلها، منتشرين في كل الدول المتقدمة منها والنامية. وطبقاً لهذا التقرير، فإن الكل يتجسس على الكل، في جميع المجالات الاقتصادية، بما في ذلك، الأسواق القديمة، وفتح أسواق أخرى جديدة!. وفي العام 1993، جاء في تقرير للأمن القومي الكندي، أن الأسرار العلمية والأبحاث التقنية الكندية، التي استغرق إعدادها سنوات، وكلفت أموالاً طائلة، سُرقت ونُقلت إلى شركات ومصانع خارج البلاد. واستناداً إلى التقرير نفسه، فجواسيس الاقتصاد في 25 دولة على الأقل، يقودون حرباً خفية ومدمرة، دون أن يهتموا بأدنى معايير النزاهة الاقتصادية!.

والمصيبة التي تواجه العالم الآن، أن هذه الحرب لم تتوقف في أعقاب الأزمة، التي يُفترض أن تكون هدفاً لحرب عالمياً شاملة، يشترك فيها القوي والضعيف. ويقول ألستر نيوتون المسؤول السابق لـ " الحرب الإلكترونية" في وزارة الخارجية البريطانية: " مادامت التكنولوجيا متاحة، فمن الإنصاف القول إن الحكومات استخدمتها على الأقل أحياناً لأغراض تجارية. في الماضي اتهم الفرنسيون البريطانيين بالتجسس على صناعتهم الدفاعية والعكس صحيح. وكانت اتهاماتهما مبررة". وقد اعتاد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون على الإعلان في بعض المناسبات، بأنه يجب على الدبلوماسيين البريطانيين أن يقوموا بالمزيد من الجهد، من أجل الترويج لأنشطة الأعمال البريطانية في الخارج، لكنه – بالتأكيد - لم يكن – ولن يكون – واضحاً حول ما إذا كان ذلك يعني، أن على الجواسيس البريطانيين أن يقوموا بنفس المهمة.

وبعيداً عن الاشتباه التاريخي – والحالي أيضاً – للدول الأوروبية تجاه الشبكة البريطانية – الأميركية أو "الأنجلو سكسونية"، بأن هذه الأخيرة قد تستخدم أحياناً ضدها. وبعيداً أيضاً عن فحوى تقرير برلماني أوروبي خطيرة صدر في العام 2000، وتحدث عن شبكة عالمية قوية تابعة لواشنطن ولندن، مخصصة لرصد إشارات المخابرات، من أجل التجسس الصناعي، فإن العالم لن يخرج من أزمته الراهنة، إذا ما استمر هذا السلوك المريع والمشين. كيف يمكن لـ "متضامنين" في حرب واحدة ضد "عدو" محدد ومعروف، أن يتجسسوا على بعضهم البعض؟!. كيف يمكن لهؤلاء، أن يتفقوا على منهجية اقتصادية عالمية جديدة، تقي دولهم والعالم ومعها، من أزمات كبرى مقبلة، إذا ما ظل التوجس بينهم قائم؟!. وهل ينجح حليفان في تحقيق أهدافهما، إذا ما كانت الريبة هي التي تسود العلاقات بينهما؟!.

يقول بيتر رايت رجل المخابرات البريطاني السابق، وصاحب الكتاب الشهير "صياد الجواسيس" الذي نشره في منتصف ثمانيات القرن الماضي، ومنعته حكومة مارجريت تاتشر من التوزيع في بريطانيا: "عندما أردت الانضمام للعمل كجاسوس لصالح المخابرات البريطانية، قيل لي عليك أن تتجرد من أخلاقك، إن وجدت لديك". ولمن نسي، فقد كان غياب الأخلاق، العامل الأكبر في انفجار أزمة صرعت العالم أجمع.


الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

الاقتصاد العالمي.. إلى الشرق دُر

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")








" القوة ليست فقط ما تملك.. ولكن ما يعتقد العدو أنك تملك"
ساول ألينسكي كاتب وناشط اجتماعي أميركي



محمد كركوتـي


يجري في هذا العالم تحول تاريخي، لا يقل أهمية عن التحولات التاريخية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولن يقل أثراً عنها. تحول، كان قبل ثلاثة أعوام فقط، أقرب إلى الدراما غير الواقعية، وإلى قصة بالغ كاتبها في تقدير الأشياء، وفي إعطاء أبطالها أكثر مما يستحقون. فقد أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية ( بالإضافة إلى مصائبها التي باتت معروفة)، أنها مُولِد مرتفع "الإنتاج" للتحولات التاريخية.. لا الآنية، وللتبعات القاسية ( بل والقاضية أحياناً).. لا العابرة أو "اللطيفة". فمن كان قبلها كبيراً، لم يعد كذلك، ومن كان صغيراً، بات يقف جنباً إلى جنب من كانوا كباراً، أو من تصدعت عظمتهم. بل أصبح جزءاً أصيلاً، ليس فقط في الحراك الاقتصادي العالمي، بل في رسم اللوحة النهائية المقبلة لهذا الاقتصاد. كانت أوروبا والولايات المتحدة الأميركية قبل الأزمة، سيدتا صنع القرار الاقتصادي ( والسياسي) العالمي، وأصبحتا بعدها، مشاركتان ( قويتان بالطبع) في عملية الصنع هذه. ورغم الظلم في أن صنع القرار الكامل، كان في أيدي دول الغرب في أزمنة الازدهار أو الانتعاش أو الطفرة، ولم يكن للدول الأخرى دور يُذكر، إلا أن الأزمة فرضت عملية تصحيح في هذه "الصناعة"، وإن دمرت الصناعات الأخرى. فنحن نعلم، أن الأزمات تحمل معاول الإصلاح، تماماً كما تحمل آليات التدمير. وكلما كانت تاريخية، كلما كانت التحولات التي "تُنتجها" بحجم تاريخيتها. وهل من أزمة أخرى، يمكن أن توازي الأزمة الحالية، في استحقاقاتها التاريخية، وتبعاتها المستقبلية، وهمومها الآنية؟!.

باتت السرعة التي يخرج بها اقتصاد ما في هذا العالم من مطبات الأزمة، مؤشراً واضحاً لمدى قوة هذا الاقتصاد، وقابليته على الاستدامة، ومرونته في أوقات المحن والمصاعب. وعلى العكس تماماً أصبح البطء في خروج اقتصاد آخر منها، علامة أكثر من واضحة، على أنه ليس ضعيفاً فحسب، بل يعاني "موروثات" اقتصادية، كانت حتى وقت قريب، جزءاً أساسياً من عظمته. فما كان ينفع قبل الأزمة، أصبح حِملاً ثقيلاً بعدها. وعندما يكون "الحامل" هشاً، لنا أن نتخيل فداحة هذا الحِمل، ومدى ضرورة التخلص منه، بأسرع وقت ممكن. فالأزمة كانت أسرع من كل آليات صدها، وأقوى من كل الدفاعات الموجودة على الأرض. فهي من تلك التي تُخرب من دون رحمة، وتدمر من دون أن تترك معولاً واحداً لإعادة البناء. وقد اعترف المخربون الاقتصاديون أنفسهم، بأنهم لم يتوقعوا أزمة، يمكن أن تُحدث مثل هذا الدمار. لا عجب، فهؤلاء لم يكونوا يتوقعونها أصلاً، وكانوا يعيشون في وهْم نمو اقتصادي، لا يأتي إلا في الأحلام.

التحول التاريخي الذي "أنتجته" الأزمة، ليس أقل من تحول ميزان القوى من الغرب إلى الشرق، وتحديداً من أوروبا إلى آسيا. أي من معقل صنع القرار الاقتصادي، إلى معقل صنع الاقتصاد. ولأن القوة باتت تحسب بالقدرة على الخروج من الأزمة الاقتصادية، لا بالتاريخ الاقتصادي، ولا بمعايير اتفاقيات "بريتون وودز" التي أُطلقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي دمغت اقتصاد العالم بختمها، فقد تعافت اقتصادات القارة الآسيوية بسرعة، في حين لا تزال دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، تعيش معاناة تبدو طويلة، من ارتفاع العجز في موازناتها، وازدياد البطالة، وانخفاض معدلات النمو. وقبل أربع سنوات فقط، كانت دول الغرب تحب أن تقوم بدور "الحكيم والمرشد" للدول الآسيوية، خصوصاً بعد انهيار ما كان يسمى بـ " اقتصادات النمور الآسيوية"، إلا أنها ( بعد الأزمة) "تقاعدت" عن القيام بهذا الدور. كيف لها أن تستمر بدورها، وهي غارقة في بحار من المشاكل الاقتصادية، إلى درجة هددت بانهاير بعض الدول فيها، تحت وقع الديون الحكومية (السيادية) والفوضى الاقتصادية، والهشاشة الشعبية لحكوماتها، وفقدان بوصلة الخلاص الاقتصادي؟!.

ما كان يُصنف تحت بند المفارقات، لم يعد كذلك الآن، وما كان من المستحيلات، أضحى وراداً. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن رئيس الوزراء الصيني وين جياباو، تعهد للمسؤولين اليونانيين الذين يعشون أسوأ أيامهم السياسية والاقتصادية والشعبية أيضاً، بأن تقدم بلاده المساعدة لهم، وأن بكين سوف تشتري سندات اليونان، فور طرحها في السوق. وهذا الرجل القادم من جهة الشرق، لم يكتف بهذا التعهد، بل بات يقدم "المحاضرات" للدول الغربية، في كيفية مواجهة أزماتها الاقتصادية. إنه يتحدث من موقع القوة التي اكتسبتها بلاده من جراء نجاح مواجهاتها لتداعيات الأزمة العالمية، ومن آليات اقتصادية، لم تكن موجودة قبلها. لقد بلغ الأمر حداً، دفع المسؤولين الأوروبيين، إلى التوسل لنظرائهم الصينيين، بأن يساعدوهم، عن طريق تشديد قبضتهم على العملة الصينية اليوان. لماذا؟ لأنها تخفيف القبضة تؤثر بصورة سلبية على الاقتصادات الغربية. لقد أصبحت المساعدة في أيدي الصينيين، لا الأميركيين ولا غيرهم. الأميركيون أنفسهم يحتاجون إلى المساعدة الصينية في هذا المجال. وما قاله مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الاقتصاد أولي رين، يمثل حالة توسل غربية أخرى. فلترغيب الصينيين يقول : "إن وجود اقتصاد أوروبي قوي يصب في مصلحة الصين لأن الاتحاد الأوروبي هو أكبر سوق تصدير لها. وإذا استمر اليورو في تحمل عبء غير متناسب، فإن هذا قد يؤدي إلى ضعف التعافي الأوروبي".

آسيا تحولت بالفعل ( لا بالقول)، إلى محرك لنمو الاقتصادي العالمي، بينما يخشى العالم من انهيارات جديدة قادمة (مرة أخرى) من جهة الغرب. ليس مهماً في هذا المجال ما يقوله المسؤولون الآسيويون، بقدر أهمية ما يقوله نظرائهم الغربيين. فقد اعترف رئيس وزراء لوكسمبورج، جان كلود يونكر، بأن أداء النمو الصيني مؤخراً، كان عاملاً مهما في التغلب على الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. إنها نقطة أخرى لصالح آسيا، وإشارة جديدة إلى أن الأمور لن تعود كما كانت قبل الأزمة. وذهب رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني أبعد من ذلك حين توقع أن يتفوق اقتصاد الصين على اقتصاد الولايات المتحدة، في السنوات القليلة المقبلة. هذا الطرح يأتي قبل أيام من تسجيل الولايات المتحدة ثاني أعلى عجز في موازنتها العامة، منذ الحرب العالمية الثانية. فقد بلغت في أيلول/ سبتمبر الماضي 1,29 تريليون دولار أميركي، أو ما يعادل 8,9 في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في العام الجاري!.

إن تحول ميزان القوة الاقتصادي من الغرب إلى الشرق، لا يستند فقط إلى مدى سرعة نجاة القارة الآسيوية من براثن الأزمة، بل من مجموعة جديدة من التحالفات الاقتصادية، وحكمة جديدة، وُلدت من المحنة. قد يحتاج الأمر مزيداً من الوقت، لكي تستكمل آسيا بناء مركز الثقل العالمي فيها، لكن بالتأكيد تحولت عناصر القوة إليها في الأشهر الماضية، ومعها معايير جديدة، لا ترتبط بما كان، بل متشابكة بما سيكون. وهذا ما يحتاجه العالم الآن، لكي يخرج من أزمة وُلدت في الغرب، لكنها لم تترك مكاناً في العالم، لم تصل إليه. أزمة صُنعت من " مواد أولية" - انتهى مفعولها - تعود إلى ستة عقود، لكنها أتت تحمل معها أيضاً "مواد أولية"، تاريخ مفعولها بلا حدود.