الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

التجسس الاقتصادي في سياق التجسس على ميركل والملا عمر

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«مهما كانت طريقة تفسيري لهذا الأمر. كنت في النهاية جاسوسة، ولست فخورة بذلك»
كريستين كيلير الجاسوسة البريطانية الشهيرة

كتب: محمد كركوتــــي
 
في ستينيات القرن الماضي، وجدت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نفسها لفترة قصيرة جداً في حالة ركود! رغم اشتعال الحرب الباردة آنذاك. ربما لأن المحاربين كانوا يستريحون قليلاً. ماذا فعلت الوكالة، خوفاً من ''تكلس'' عظام عملائها؟ تجسست (للتسخين) على الممثلة إليزابث تيلور وزوجها الممثل ريتشارد بيرتون في ليلة دخلتهما! الدول تتجسس على بعضها، هذه حقيقة، ولكن تجسس الولايات المتحدة يبقى من نوع آخر، هدفه تعرية الهدف من آخر قطعة ممكنة، ولا يهم إن كان صديقاً أم عدواً أم عابر سبيل. والشعار هو نفسه، ذاك الذي يجلب الغثيان ''حماية الحرية''. ولهذا قال السياسي الكندي الراحل تومي دوجلاس: ''إن حماية الحرية لا يمكن أن تتحقق عبر التجسس''. وهو أراد أن يسهم في فضح هذا الشعار، ومعه ''الهتاف'' المصاحب له دائماً، وهو''حماية الأمن القومي''! ولكن ما دخل ''الأمن القومي'' بدخلة تيلور وبيرتون، وبأغنيات جون لينون، وبوب ديلان، ونكات الكوميدي الأمريكي ليني بروس، وغيرهم ممن كانوا أهدافاً ''استراتيجية'' للجاسوسية الأمريكية؟!
التجسس في الولايات المتحدة مَرَضي، آت من داء الخوف الذي حقنت به نفسها منذ تأسيسها، ولا توجد مؤشرات لدواء يشفيها منه. فهي تتجسس على الأصدقاء في طريقها التجسسي على الأعداء. لا فرق هنا بين هاتف أنجيلا ميركل، والـ ''توكي وكي'' الملا عمر، أو أيمن الظواهري. أو إيميل أبوحمزة المصري ونيكولا ساركوزي، أو رئيسة البرازيل ديلما روسيف. الجميع أهداف ''مشروعة'' للتجسس. والأمر يكلف فقط اعتذاراً للأصدقاء، أو نفياً يعرف الأمريكيون أنه سيُرمى في أول صندوق قمامة. إنهم يتجسسون على كل شيء. من تنهدات تيلور ونكات ليني بروس، إلى مخططات العمليات الإرهابية، مروراً بكل حراك، سياسي واقتصادي وعسكري. لا فائدة من اتصال ميركل الغاضب مع باراك أوباما، الذي نفى (كالعادة) التهمة رغم أنه يحمل سلاح الجريمة! كما يجب على المستشارة الألمانية، أن تلتفت لشؤونها المحلية، بدلاً من الانشغال بطرح مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يطالب بوضع نهاية لعمليات التجسس المكثفة، وانتهاك الحياة الشخصية. هذا القرار لن يمر، حتى لو دعمته دولة كفرنسا.
يقول كاتب روايات الجاسوسية الشهير جون لو كارييه: ''السؤال القديم يبقى: من يستطيع التجسس على الجواسيس''؟! سيبقى هذا السؤال بلا جواب. في العمل السري، تكون الأجوبة هي الأسئلة! الولايات المتحدة تتجسس (من ضمن ما تتجسس) صناعياً وتجارياً واستثمارياً ونفطياً. وإذا كان لدى دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا والصين واليابان وغيرها، ما تخشى عليه من التجسس، فلا ضير من هذا النوع من التجسس على دول لا تملك شيئاً. وعندما لا تملك شيئاً، لا تخسر شيئاً. و''قطاع'' التجسس مثل قطاعات المحامين، لا يزدهر إلا في الأزمات. ولكن مهلاً، قفزت الولايات المتحدة على هذا الثابت، لتتجسس في كل الأوقات، وفي كل الأماكن، وعلى كل الشخصيات. فهي تتجسس على الصين اقتصادياً، وتنشر عيون عملائها على الدول الصديقة. من هذه الدول بريطانيا نفسها، التي ظلت صامتة (رسمياً) إلى حد الغيظ من فضائح التجسس الأمريكية. وربما هذا الصمت ينبع، من أن واشنطن لا تحتاج للتجسس على لندن، لأن الأخيرة تقوم بالمهمة نيابة عنها!
في السنوات القليلة الماضية ارتفعت وتيرة التجسس الاقتصادي بمفهومه العام، وهو متبادل بين الدول المتنافسة. وتفيد الوثائق الأمريكية التي نشرت حتى الآن، أن هذا النوع من التجسس وصل إلى أعلى مستوى له. ويأخذ (كما العادة في الحالة الأمريكية) الشكل الأكثر ''إبداعاً''. فقد شمل التجسس الأمريكي الصناعات والطاقة والعلاقات التجارية، وحتى البحوث الأكاديمية، والوثائق والأوراق الخاصة بالتنمية، وحراك الأسواق المالية، فضلاً عن الاستثمارات الخاصة المتعلقة بالأفراد، وتلك التابعة للحكومات. وهذا التجسس يتم بالطبع عبر مختلف الوسائل، الشخصية والإلكترونية، وما يعرف بالطرف الثاني والثالث. والخسائر المادية الناجمة عن التجسس كبيرة، لكن الخسائر المعنوية تبقى أكبر، خصوصاً من جانب الأصدقاء لا الأعداء. إن وباء التجسس الأمريكي بلغ حداً، أن قامت واشنطن باستجلاب معلومات اقتصادية تجسساً، بينما يمكنها الحصول عليها بصورة معلنة ورسمية!
يبقى الأوروبيون ''الحلفاء'' الأكثر شعوراً بالأسى من مجمل عمليات التجسس الأمريكية عليهم. البعض منهم اعتبر الأمر خيانة بكل معناها، والبعض الآخر فضل الصمت المُعبر، وآخرون التزموا الصمت الفاضح. أصوات كثيرة صدعت في البرلمان الأوروبي، لإرجاء مفاوضات التجارة مع الولايات المتحدة، كتعبير على امتعاض الأوروبيين من تجسس الأصدقاء عليهم. غير أن كل هذا، لن يقدم شيئاً يذكر على صعيد تغيير السلوكيات التجسسية الأمريكية. كل ما فعلته إدارة أوباما، أنها كالت الاتهامات لمن؟ للصين، بأنها أكثر الدول تجسساً على الصعيد الاقتصادي. لقد فعل الأمريكيون مثل العرب، الذين وضعوا الحق على الطليان في كل شيء! والحقيقة أن الحق كله على أخلاقيات الولايات المتحدة، التي لا تفرق من فرط خوفها المرضي المكتسب بين العدو والصديق!

الأحد، 27 أكتوبر 2013

ورطة الفنان والإعلامي العربي في ضحالته الفكرية

(المقال خاص بمجلة "إذاعة وتلفزيون الخليج" التابعة لمجلس التعاون الخليجي)




 الجاهل يؤكد، والعالم يشكك، والعاقل يتروى

 أرسطو

كتب: محمد كركوتـــي
مع انطلاق الثورات العربية المختلفة، وقع إعلاميون وفنانون عرب في شرك استقطاب إرادي!  أي أن جهة لم تغصبهم على ذلك. وتحديداً أولئك الذين استعبذوا الوقوف إلى جانب أنظمة حكم، قدمت لشعوبها كل الآلام الممكنة  وغير الممكنة، والمعاناة المتجددة. ورغم أن هؤلاء يعتاشون على الشعبية (بصرف النظر عن مستواها، أو أحقيتهم بها)، إلا أنهم، وبكامل إرادتهم قرروا الإعلان عن معارضتهم للحراك الشعبي، الذي أنتج هذه الثورات والانتفاضات المتلاحقة. كانوا في بعض الحالات، أعنف حتى من المستوى العنفي لبعض الثورات! بعضهم اعتبر، أنها ثورات مجرمين وقطاع طرق، والبعض الآخر قدم لها توصيفات تتراوح مابين التطرف والتخلف، دون أن يعترفوا بسبب واحد مباشر، لاندلاع مثل هذه الثورات، أو بمبرر للغضب الشعبي العارم. الأمر الذي أدخلهم أوتوماتيكياً في نطاق أنظمة غير شرعية، ليس بالضروة أنهم استفادوا منها أصلاً!  هؤلاء في الواقع، غامروا بشعبية لا يمكنهم الاستغناء عنها، بتأييد أنظمة، أصبح من الضروري التخلص منها. لقد  قامروا  بأرصدتهم دون أن يكونوا مضطرين للمقامرة. وفي المقامرة (أياً كانت) لا يوجد رابح دائم.
طرح فنانو وإعلاميو الأنظمة الاستبدادية كل "ثرواتهم" في سوق متلاطمة غير واضحة، دون سبب. ماذا حدث بعد ذلك؟ أنهم أُدخلوا قوائم أطلق عليها "قوائم العار"، وهي عبارة عن لوائح متجددة، وضع معاييرها ناشطون وجهات وقفت إلى جانب الثورات، بصرف النظر عن التفاصيل. ففي زمن الثورات، تدخل الكثير من التفاصيل في سياق الترف غير المُستطاع. أو في نطاق زمن ليس أوانه. ومشكلة أولئك الذين ارتضوا الدفاع عن الظلم، أنهم استخدموا القنوات التلفزيونية منابر لهم، وفي عز زحمة التعبير عن آرائهم وموافقهم عبرها، غاب عنهم أنها (أي القنوات)، الأدوات الوحيدة لعيشهم المهني، ومعاشهم الحياتي، وبدونها سيضطرون للبحث عن وظيفة أو مهنة أخرى. استفادت القنوات التلفزيونية التي تدعي التنوع، ولا تمارسه في الواقع، من هذه الموجة الجديدة في زمن التحولات. فالمشهد يحتاج لمعارضين من هذا النوع لتحولات شعبية، ويحتاج أيضاً إلى ثوار بجانبهم. ورغم أن النتيجة محسومة شعبياً، إلا أن فنانيي وإعلاميي الأنظمة المتلاشية، قرروا المواصلة حتى النهاية. ولكن نهاية مَنْ؟ نهايتهم الشعبية.
أظهرت الثورات العربية وتداعياتها في هذا المجال مرة أخرى، مدى ضحالة الوعي الذي تتمتع به الغالبية العظمى من المشتغلين في حقل الإعلام والفن في العالم العربي. وهي ضحالة متأصلة. وهؤلاء ليسوا أفضل بالتأكيد من أولئك الذين يستيدون المشهد الرياضي مثلاً. هناك جهل تاريخي بدأ مع بداية الحراك الفني والرياضي العربي بشكل عام، أصاب النسبة الأكبر من المشتغلين المذكورين، ولا تبدو مؤشرات لنهاية له. صحيح، أن أحداً لا يتوقع إنتاجاً فكرياً بناءاً منهم، لأنهم لا يملكون لا أداواته ولا وعيه ولا حكمته. لكن الصحيح أيضاً، أن هذه الساحة لم تُنتج شريحة مقبولة ومعقولة (عدداً ونسبة)، من أولئك الذين يتمتعون بالحد الأدنى من المعرفة والثقافة والوعي، في مختلف المجالات الاجتماعية والحياتية. ويكفي متابعة مقابلة مع فنان أو إعلامي لعدة دقائق، لكي نعرف جودة ما يملك، أو لكي نحدد مستوى ضحالة ما يتمتع به! هذا الحال، تجسد بأوضح صوره في تعاطيهم مع التحولات الثورية التي تحدث في بلادهم، أو تلك التي تجري في بعض البلدان الأخرى.  
ولعل السبب الرئيسي لهذا المشهد البائس، أنهم لم يفهموا أن الفنان أو الإعلامي، ينبغي أن يكون مع الحالة الاجتماعية لا السياسية أو العسكرية. وهنا يأتي الفارق بين فنان عربي وآخر غير عربي. ليس من فرط ثقافة الأخير وضحالة ثقافة الأول، بل من جهة النضوح في فهم العلاقة بينه وبين ما يجري حوله. هناك الكثير من الغوغاء الذين يتمسكون بضرورة أن يكون الفنان والإعلامي ملتصقاً بما يجري، دون أن يعرفوا مكان "الالتصاق" وطبيعته! فالقضية عندهم.. عنوان، شعار، ركاكة فكرية، ولا شيء غير ذلك.  يستطيع أي مشتغل في هذا الحقل، أن يعلن انتمائه لأي حزب سياسي، (أو حتى مجموعة عسكرية.. إن رغب ) سوف يخسر معارضي حزبه، ويكسب المتعاطفين مع هذا الحزب. هذه مسألة بديهية، وعليه أن يقبل ويتحمل تبعات انتمائه، وينصرف للدفاع عنه. لكن الأمر يجعله طرف، في حين أنه ينبغي أن يكون لكل الأطراف. هذا إذا افترضنا أنه يتمتع أصلاً بفكر، يتيح له الانتماء السياسي الحزبي الفاعل المنظم.
الذي حدث في خضم الثورات العربية، أن هذه الشريحة وقفت مع من لا يريده الشارع، الشعب، الجماهير، وحتى طبيعة الأشياء. في حين كان عليها أن تقف إلى جانب المتضررين مباشرة من نتاج الصراع بين الشعوب والأنظمة المتلاشية. ففي حين (على سبيل المثال) وجدنا الممثلة الأميركية أنجلينا جولي، تزور مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا والأردن، الفارين من حرب إبادة تشن عليهم، تظهر الممثلة رغدة، لتطلب علناً من بشار الأسد، بأن ينهي الثورة في سوريا بأسرع وقت ممكن، حتى ولو اضطر إلى استخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب! (لقد استخدمه بالفعل). هذه السورية، وضعت الشعب نفسه عدواً لها، بينما حددت الأميركية عوز اللاجئين العدو الوحيد، بصرف النظر عن رؤيتها للثورة. لم تهاجم الأسد ولا الثوار. بل هاجمت كل من يستطيع أن يقلل من حجم مأساة اللاجئين، ولا يقوم بذلك. لقد هاجمت حتى الدول التي تتقاعس في هذا المجال، دون أن تتورط بأي موقف سياسي يحسب عليها. هناك الكثير من النماذج العربية المشينة، بما في ذلك، من حيا دخول الدبابات إلى الجامعات، ومن برر المجازر.. إلى آخره.
إنه النضوح والوعي والحد الأدنى من الثقافة المطلوبة لأي مشتغل في الفن والإعلام. وعلى الرغم من أن الذين وقفوا إلى جانب الثورات، قدروا أنها منتصرة في النهاية، وأنهم في الواقع يدعمون بذلك شعبيتهم على المدى البعيد، وأنهم وجدوا أن الثورات حق، إلا أنهم تقاعسوا كثيراً في الجانب الإنساني الناتج. كان عليهم أن يهتموا بالطرفين. ففي الطرف الآخر، هناك متضررون مدنيون أيضاً، من صراع سيحسم في النهاية لصالح الشعوب، لكن مصير المخطئين والمعتدين من الفناين والإعلاميين على الثورات العربية كلها، حسم منذ اليوم الأول.

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

الاقتصاد الأمريكي بالتقسيط

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أحياناً.. يتعين حتى على رئيس الولايات المتحدة الوقوف عارياً».
بوب ديلان شاعر ومغن أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

حتى إن لم تنفذ وكالات التصنيف الائتماني العالمية، تهديدها بخفض المستوى الائتماني للولايات المتحدة، إذا لم تحل أزمة الموازنة والدين، فالتصنيف ''العالمي المعنوي'' لهذا البلد، تعرض للتخفيض بصورة تلقائية. ودعم الاقتصاد الأمريكي ''بالتقسيط''، يرفع من حد ''التخفيض المعنوي'' له. والاتفاقات المؤقتة مثل الحكومات المؤقتة، لا توفر استدامة، ولا تنشر الطمأنينة محلياً وخارجياً. لا أحد يتوقع أن تصل الأزمة السياسية المتجددة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى الهاوية. هي على حافتها، ليس الآن، ولكن منذ زمن طويل، طويل جداً. وستبقى عند مستواها الحالي لأجل بعيد.. بعيد جداً. الذي حدث، أن الجمهوريين الذين يرغبون في فشل تاريخي لباراك أوباما، وهو أكثر رؤساء أمريكا اضطراباً وتردداً وسلباً للإرادة، يعرفون أنهم لا يستطيعون المقامرة بسمعة البلاد. الحل كان واضحاً، جرعات مالية محددة (بل محصورة)، لاستمرار البلاد في الداخل والخارج.
طرحت أزمة الدين الأمريكي الكثير من الأسئلة، دون أجوبة مقابلة أو مستحقة. وبعض هذه الأسئلة، نال حتى من الشعار الذي أُطلق في الولايات المتحدة مع تأسيس البلاد نفسها. شعار محلي مع ''نغمة'' أمريكية خالصة، لكنه صار في لمح البصر شعارا عالميا بل أمميا. إنه ''الحلم الأمريكي'' أو The American Dream. لكن مهلاً، لجورج كارلين الكاتب والمؤلف والكوميدي الأمريكي وجهة نظر خاصة. فهو يقول: ''إنهم يقولون الحلم الأمريكي.. لأنه يتعين عليك أن تكون نائماً لتصدقه''. ومعه قال الشاعر الأمريكي ألان جينسبيرج ''أمريكا.. لقد منحتُكِ كل شيء، والآن أنا لا شيء''. لن تشهد الولايات المتحدة الانهيار، وحتى لو تفككت إدارياً من الداخل، ستبقى جسماً سياسياً، فيه من القوة ما يكفي لتتصدر المشهد العالمي دائماً. لكن ''الهيبة الأمريكية''، تأثرت سلباً (بلا شك)، من جراء الصراع الداخلي حول الموازنة ورفع سقف الدين. والمشكلة لا تكمن في الفوارق الأيديولوجية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لقد تقلصت في الواقع بفعل استحقاقات التحولات التاريخية، التي تحدث في العالم. وهذه المشكلة محصورة في صراع إجرائي أكثر من أيديولوجية، بما في ذلك الرابط الخاص بالرعاية الصحية، التي يمقتها الجمهوريون تاريخياً.
لقد وجد الجمهوريون ''الحل''، وكان عليهم أن يجدوه هم لا الرئيس باراك أوباما، لأن هذا الأخير لا يملك الحلول بقدر ما يستحوذ على ''مشاريع مشاكل''. هناك تطرف داخل الحزب الجمهوري، هذا أمر مؤكد، والتطرف لا يغيب عادة عن هذا الحزب، غير أن له حدوداً مرتبطة بالمدى الذي يمكنهم احتكاره. وهذا المدى ينتهي عندما تبدأ الآثار الشعبية السلبية تنال من الحزب نفسه. مع ضرورة الإشارة إلى أن هناك جناحا في الحزب يقوده السيناتور جون ماكين، يعتقد أن الجمهوريين تجاوزوا الحدود. الحل المقبول لأولئك الراغبين في مواصلة ذل باراك أوباما، أن يسمحوا بتسيير شؤون الاقتصاد الفيدرالي ''بالتقسيط''! ورغم أن ذلك أنقذ الاقتصاد من الهاوية، إلا أنه أبقاه على حافتها، مع بقاء ''أدوات الذل'' في أيديهم. إنه حل اللاحل! وهو يشبه إلى حد بعيد الحلول التي تضطر الحكومات الانتقالية لاعتمادها، بسبب الظروف الاستثنائية، التي تمر بها بلادها.
الولايات المتحدة تعيش بالفعل حالة استثنائية، لكنها تتخذ شكل الاستدامة بكل مخاطرها الآن واستحقاقاتها لاحقاً. و''الاقتصاد بالتقسيط''، مثل الشراء بالتقسيط، تبقى الأمور مرهونة إلى أن يتم التسديد الكامل. وتحوم دائماً أجواء الشك في ملاءة المقترض، وفي قدرته على الإيفاء بأقساطه. لكن الأمر هنا يتعلق بدولة لا تزال تملك المفاتيح الأكثر للاقتصاد العالمي، وتجمعها روابط بدول حليفة وغيرها، الأمر الذي يصعد من مستوى الضغوط عليها. إن السماح للبيت الأبيض بالاستدانة حتى السابع من شباط (فبراير) المقبل، هو مجرد أول قسط. ولا توجد مؤشرات واقعية (الآن على الأقل)، تدل على أن الكونجرس سيمنح أوباما، عند ''تسديده'' القسط الأول، الصلاحية لإقرار سنوي نهائي للموازنة العامة. وهذا هو في النهاية السلاح الأمضى في أيدي الجمهوريين، ليس من المرجح أن يتخلصوا منه بسهولة. هم بذلك، يُسيرون شؤون البلاد، دون أن يطلقوا يد الرئيس.
سياسة ''التقسيط الاقتصادي'' هذه، وإن أذلت أوباما وأرضت معارضيه المتشددين، إلا أنها تزيد من حجم الشكوك حول مستقبل محورية الولايات المتحدة على الساحة الاقتصادية العالمية. هناك الكثير من الدول التي بدأت بالفعل إعادة النظر في استثماراتها الأمريكية، مثل اليابان والصين وغيرهما. وفي ظل الضعف الطبيعي الناجم عن استحقاقات الأزمة الاقتصادية العالمية، ستزداد الشكوك حول مستقبل الاقتصاد الفيدرالي الأمريكي نفسه بصورة مخيفة، وذات دلالات مرعبة. بما فيها تلك المتعلقة بالذي يُطرح حالياً ''الضعف في جسد الإمبراطورية الأمريكية''، إلى جانب حقيقة ''الحلم الأمريكي''، والسيادة العالمية لهذه الدولة. إن المسألة برمتها لم تعد محصورة في مؤسسات حكومية أُغلقت وأُعيد فتحها، فقد حدث ذلك في السابق، وليست مرتبطة باستعادة باراك أوباما راتبه من الدولة، بل باستعادة الولايات المتحدة ما خسرته من هيبتها. وهذا لن يتم بوجود أوباما في البيت الأبيض.

الأحد، 20 أكتوبر 2013

في أمريكا الوهم الاقتصادي بقيمة سوقية لا تُنافس

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«الرجال ليسوا أسرى لمصائرهم، بل هم أسرى لعقولهم»
فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي الأسبق



كتب: محمد كركوتـــي

أياً كانت نتيجة الصراع الدائر بين البيت الأبيض والكونجرس في الولايات المتحدة، فالرئيس باراك أوباما سيظل جريحاً حتى انتهاء ولايته. وسيبقى جريحاً إلى ما بعدها. وسيكتب في مذكراته لاحقاً، أن أعضاء الحزب الجمهوري استهدفوه شخصياً، أكثر من استهداف سياساته، أو سلوكياته وأساليبه في القيادة والعمل. سيكتب، كيف أنه كان ضحية لكل الأسباب مجتمعة. ولن ينسى أن يمرر أن أحد الأسباب تتعلق بلون البشرة. هناك ثلاث سنوات باقية لأوباما في البيت الأبيض. وهو بالتأكيد لن يحقق أياً من سياساته ووعوده الانتخابية في هذه الفترة المتبقية، بعد أن فشل في تمريرها أو على الأقل في وضع الأساس لها في السنوات الخمس الماضية. والسبب لا يعود فقط إلى أن الحزب الجمهوري يقوم بإفشال سياسات أوباما، بل لأن هذا الأخير ليس صانعاً للسياسات أصلاً. والبرنامج الوحيد الذي يسعى بالفعل إلى تطبيقه، كان ولا يزال ''الرعاية الصحية''، لكن حتى هذا البرنامج تمت صناعته في الواقع بتفاصيله الراهنة، خلال عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
بعد يومين ''في السابع عشر من الشهر الجاري''، سيعرف أوباما بالتحديد عمق الجرح الذي أصيب به. مساحة من ''جوف'' الجرح كانت بسببه هو شخصياً، عندما أصر على عدم التفاوض مع أعضاء الكونجرس، الذين يبحثون عن مكسب سياسي من خلال صفقة اقتصادية. الذي حدث، أن المتطرفين من الجمهوريين بدأوا يتسيدون المشهد. لقد أحرج تعنت أوباما في الحوار مع خصومه السياسيين، أولئك الذين يقفون عند درجة أقرب إلى الاعتدال. لم تنفع الحملات التخويفية التي نظمها الرئيس الأمريكي، في دفع أعضاء الكونجرس إلى تغيير موقفهم من مسألة رفع سقف الدين. بما في ذلك تلك الصادرة عن مؤسسات دولية كصندوق النقد والبنك الدوليين. لا شك في أن العالم كله سيتأذى من جراء عدم الاتفاق بين الجمهوريين وأوباما، بما في ذلك دول نامية كثيرة، ودول مستثمرة داخل الولايات المتحدة، بأشكال مختلفة. إضافة طبعاً إلى الأضرار المحلية الهائلة، التي بدأت تظهر على الساحة. غير أن الرئيس الأمريكي، يراهن على أن دفع الأمور إلى حافة الهاوية، قد ينقذ الأوضاع من الهاوية. لكن هذا النوع من الممارسة السياسية، بات منذ سنوات طويلة، أشبه بالنكتة القديمة التي سمع بها كل الناس إلا قائلها.
بالطبع لم تبدل ''تخويفات'' وزير الخزانة جاك ليو، في الأمر شيئاً، حتى وإن قال علناً، إن التفوق الاقتصادي لبلاده، يمكن أن يكون عرضة للخطر بسبب الميزانية الحالية، وأزمة الدين التي وصلت إلى طريق مسدود في الكونجرس. وهو يقول ''لا يمكن للولايات المتحدة أن تنظر إلى هذه السمعة المكتسبة بشق الأنفس، على أنها أمر مسلم به''. هذا الكلام ليس صحيحاً تماماً، وكما هو واضح، يلعب أركان إدارة أوباما على الجانب السيادي للولايات المتحدة وسمعتها العالمية. وهم يعرفون أن الوهم الاقتصادي الذي تسيدت به بلادهم المشهد الاقتصادي العالمي، لم يعد وهماً، بل أصبح واقعاً منذ عشرات السنين، حيث صار للوهم نفسه قيمة سوقية! لا يمكن لأي ''وهم'' اقتصادي غير أمريكي منافسته. وعلى هذا الأساس، فإن ''تخويفات'' إدارة أوباما ليست في محلها، خصوصاً أن كل شيء بات مكشوفاً أمام الجميع، بل وكل شيء أصبح معروفاً للجميع.
لم يتبق أمام أوباما، الذي وصفته في مقال سابق بأنه الرئيس الوحيد الذي يشرح أشياء لا يقوم بها، سوى ساعات للتوصل إلى اتفاق مع الكونجرس. وعليه أن يقبل بالعرض المقدم له، وهو رفع سقف الدين لأسابيع محددة متفق عليها. وبدون ذلك فإن الموازنة ستظل عالقة، والولايات المتحدة ستعلن رسمياً أنها لن تستطيع سداد ديونها. هناك تحولات واضحة في معسكر الرئيس الأمريكي نفسه. فحتى أولئك الذي يعتبرون أن الجمهوريين يلعبون سياسة بصورة غير أخلاقية، باتوا يعتقدون أن الاتفاق والتفاهم هما الأفضل لأمريكا. ولا يهم عمق الجرح الذي أصيب به أوباما، الذي سيمضي معه إلى آخر يوم في حياته. الجمهوريون يعرفون أن هذه الساحة هي الميدان الأهم بالنسبة لهم، لتمرير سياستهم الاقتصادية المحلية، بما في ذلك ''عدم تمرير'' نظام الرعاية الصحية. وهم متمسكون بأرض المعركة، التي لا تتهيأ عادة بسهولة.
ورفع سقف الدين لفترة محددة وقصيرة، يبقى أداة الضغط الكبرى في أيدي الجمهوريين، الذين يريدون أن يتفاوضوا حول عديد من القضايا، بما في ذلك الرعاية الصحية والاجتماعية والتشغيل وغيرها من القضايا الخاصة بمكامن المجتمع الأمريكي. لا يمارس أحد في هذه الدنيا السياسة ببراءة. والجمهوريون الأمريكيون يتصدرون الجهات التي لا تعترف حتى بالبراءة من ناحية نظرية لا عملية. فمادية هؤلاء تجعلهم يلعبون سياسة في ساحات لا تتحمل ذلك. لكن حتى هذه السلوكيات، لا يمكن ممارستها إلى ما لا نهاية، إذا ما كانت هناك جهة قوية تتمتع بالحد الأدنى من المؤهلات السياسية المختلفة. ومن سوء حظ الولايات المتحدة والعالم معها، عدم وجود جهة ذات قيمة مضافة أمام الجمهوريين في الولايات المتحدة.

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

موازنة أمريكية برئيس مضطرب

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










«البيت الأبيض أفخر السجون في العالم»
هاري ترومان الرئيس الأمريكي الأسبق




كتب: محمد كركوتـــي


ليس هناك أدنى شك في أن الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي، يلعبون حزبيًّا مع الرئيس باراك أوباما في قضية ليست أقل من محورية. قضية تمس أمريكا محليًّا وخارجيًّا. وإذا ما استمرت دون حلول فستمس العالم أجمع. هذا هو ''الداء'' الأمريكي العالمي الذي لا دواء له بعد. يقول الأديب الأمريكي مارك توين: ''كان اكتشاف أمريكا عظيمًا، لكن سيكون عدم اكتشافها أعظم''. ورغم الفشل في العثور على حل للموازنة الفيدرالية العامة، لا خوف على ريادة الولايات المتحدة في العالم. وإذا كان هناك من ''خوف'' فهو يختص بـ ''مديري'' هذه الريادة. في البيت الأبيض، إدارة مضطربة على الصعيدين المحلي والخارجي، أضاعت نفسها (بإرادتها) في تقديرها للأولويات. في هذا البيت (المحكوم جزئيًّا - لا كليًّا - بإدارته)، رئيس ارتضى أن يكون ضعيفًا. والرئيس الضعيف هو في الواقع مُصَرِّفٌ للأعمال، لا واضع للسياسات، لكنه – يا للمفارقة - أخفق حتى في تصريف الأعمال! إلى درجة، أن توقف بعض الدول الفيدرالية نفسها!
الجمهوريون يلعبون حزبيًّا. هذا واقع، لكن اللاعب المقابل، لم يتمكن بعد خمس سنوات في حكم البلاد من تحسين أدواته هو للعب في الوقت الصحيح. لقد كان طوال السنوات الماضية رئيسًا مفرطًا في شرح أشياء لا يقوم بها، مما جعله محللًا بوظيفة رئيس الولايات المتحدة! ورغم إعلانه بأنه يريد التركيز على الشأن الداخلي، هذا هو ناتج ''التركيز'': شلل أقل من مريع وأكثر من خطير، لبعض مؤسسات الدولة! ومن ضمن المشاكل التي يواجهها أوباما، أنه يرفض التحاور مع الفريق الآخر. والحق أنه أصاب في هذا الأمر فقط. لماذا؟ لأن ناتج التحاور مع افتقاره إلى أدوات اللعب، لن يكون إلا في مصلحة الفريق الآخر. وإذا ما أضيفت الخلافات المستمرة داخل إدارة أوباما نفسها، إلى المشهد العام، فسيمكن التنبؤ ببساطة بالمحصلة النهائية لأي حوار. والأمر برمته لا يحتاج إلى خبير في شؤون الجمهوريين والديمقراطيين. فأوباما ضعيف في البيت وخارجه.
مهما بلغ تعنُّت الحزب الجمهوري في مسألة تمرير مشروع الموازنة الفيدرالية العامة، إلا أنهم في النهاية سيتوصلون إلى حل ما مع البيت الأبيض. فهم يعرفون أنهم لا يستطيعون التعطيل إلى ما لا نهاية، خصوصًا عندما تبدأ آثار هذا التعطيل تضرب مؤسسات حساسة انتخابيًّا بحكم روابطها الوطنية الشعبية المباشرة. ويبدو أن الرئيس الأمريكي المضطرب، نسي ما قرأه عن سلفه الديمقراطي فرانكلين روزفلت الذي قال ''عندما تصل إلى نهاية الخيط، اربط عقدة وتوقف''. فالقضية لا تحل بالعناد، خصوصًا إذا ما كان العناد بلا قوة ضاربة. يراهن أوباما في رفضه التحاور مع الجمهوريين على إحراج هؤلاء شعبيًّا، على أمل أن يتولد الضغط الذي يتمناه عليهم. غير أن الأمور لا تجري هكذا في الولايات المتحدة. فالتفاهم بين البيت الأبيض والكونجرس ليس خيارًا للإدارة. وهو في النهاية سيقبل بالحلول الوسط، بعد أن يذهب عناده هباء منثورًا. صحيح أن الجمهوريين يتحملون مسؤولية تعطيل المؤسسات، لكن الصحيح أيضًا أن الرئيس يساهم في إطالة أمد التعطيل.
الموعد الأهم، لم يعد لقاء للتحاور بين الجمهوريين والبيت الأبيض، بل في الـ 17 من الشهر الجاري، عندما يحين الوقت المنتظر لرفع سقف الدين. فالديون الحكومية بلغت – كما هو معروف - 16,7 تريليون دولار. وهذا يعني أن الولايات المتحدة، لن تكون قادرة على سداد ديونها، إذا ما تم التعطيل أيضًا. وهذه المصيبة إلى جانب مصيبة الموازنة، سترفع من مستوى الاضطراب الذي يعيشه أوباما (مرة أخرى بإرادته). عليه التوصل إلى تفاهم ما، بحلول الموعد ''الخطير''، حول معارضة الجمهوريين لقانون الرعاية الصحية. وهذا القانون بالتحديد يمثل حجر الزاوية لمواقف الحزب الجمهوري، الذي يخضع في النهاية لمجموعة نافذة من المحافظين المتطرفين. والصراع مع هؤلاء حول القانون بدأ في الواقع في عهد الرئيس الأسبق بيل كلنتون، الذي كان أكثر جدارة وقدرة على ''اللعب'' مع الجمهوريين وغيرهم.
ليس مهمًّا إلغاء أوباما زياراته لعدد من الدول الآسيوية، والمشاركة في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (آبيك)، وإن استغل هذا الأمر للتأكيد على بشاعة موقف الحزب الجمهوري من الموازنة. المهم أن يؤمن اتفاقًا ما مع الحزب المعارض، في غضون أسبوع تقريبًا، هي المدة المتبقية لتقرير مصير رفع سقف الدين، وهو يحتاج إلى رفع السقف بواقع 30 مليار دولار، ليتمكن من اقتراض هذا المبلغ بما يتيح له تسيير شؤون البلاد، والوفاء بالالتزامات على الحكومة. ومن دون ذلك، فإن المستوى الائتماني للبلاد سيهتز، مع انضمام مزيد من المؤسسات إلى قائمة الجهات المتعطلة.
الجمهوريون ليسوا أبرياء، ولم يكونوا كذلك سابقًا. لقد وجدوا الوقت المناسب لتمرير ما يستطيعون من سياسات اقتصادية، مستغلين اضطرابا واضحا للرئيس على الصعيدين الداخلي والخارجي. وهم في النهاية، لن يتركوا البلاد تتقاذفها أمواج الاقتصاد. دون أن ننسى استمتاعهم الشديد بذل رئيس، تخصص في شرح الأشياء، التي لا يقوم بها!

الخميس، 3 أكتوبر 2013

أزمة اقتصادية انفجرت لتعيد تشكيل العالم

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«الأزمة الاقتصادية العالمية، كشفت أخطاء أيديولوجية اقتصاد السوق الحرة»
ألان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق





كتب: محمد كركوتـــي

قبل خمس سنوات، هي عمر الأزمة الاقتصادية العالمية، وفي زحمة تداعي المؤسسات المالية ومعها المؤسسات الاقتصادية إلى جانب الحكومات الهائمة على وجهها، وبعد عامين من خروجه من منصبه كرئيس للمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ظهر ألان جرينسبان ليعلن للعالم، أن الأزمة التي انفجرت للتو، لا مثيل لها في التاريخ، وإن تكررت، فهي لا تحدث إلا مرة كل مائة عام، وأن ''الفيدرالي الأمريكي'' لا يسيطر على الأمور، وأن الحكومات أكثر هشاشة من بنوكها المركزية. وماذا قال أيضاً؟ ''لا أتحمل وزر الأزمة''! ويضيف ''الأخطاء التي ارتُكبت لا تُنتج أزمة''! كان ذلك في أيلول (سبتمبر) من العام 2008، لكنه بعد أن هدأت العاصفة، اعترف بالأخطاء الايديولوجية لاقتصاد السوق الحرة. كان كغيره من ''المتيمين'' بهذا الاقتصاد ''المنفلت'' الرافض للحد الأدنى جداً من الأخلاقيات، يحمل الضحايا مسؤولية العدوان على أنفسهم!! فهو من أولئك الذين يؤمنون بتطرف، بأن الكل يخطئ إلا السوق وحرياتها. وأن المعايير التي يطالب بها البعض ليست سوى مُعطلات لها! كان السياسيون يصفقون لكنهم لم يلبثوا أن تحولوا من التصفيق إلى ''اللطم''.
قبل خمس سنوات كان العالم ينفجر، دون قنابل ولا صواريخ ولا أسلحة كيماوية أو بيولوجية، أو غيرها من معدات الدمار. كان الانفجار أخلاقيا، معيشيا، إنسانيا. وهذا النوع من الانفجارات يستحق توصيف ''الانفجار العضوي''، والخراب الناجم عن مثل هذا الانفجار، لا يقارن بذاك الذي يخلفه السلاح التقليدي. لقد دمر هذا الانفجار، من ضمن ما دمر ''قداسة'' السوق. وهذه ''القداسة'' كانت بالتحديد، النواة الرئيسة للانفجار الكبير. كان العالم، قبل خمس سنوات ينفجر، ولكنه في الوقت نفسه يتشكل رغماً عن ''المجرمين'' الهاربين من مسرح الجريمة، ورغم الفوضى التاريخية التي أصابت الحكومات، ومعها حتى الجهات التشريعية بل والقضائية. كانت عملية التشكل ''العضوي'' – إن جاز التعبير - للعالم، لا تقارن من حيث السرعة والتكوين، مع تلك الناجمة عن قرارات وسياسات اقتصادية سياسية جديدة. لقد كانت الأولى تفرض حقائقها بصورة طبيعية، وكانت الثانية تتباطأ، بل تتلكأ، في التناغم معها. فما كان من الأولى إلا أن جذبت الثانية غصباً بأشكال مختلفة، من بينها التخلص من السياسيين الواحد تلو الآخر. هؤلاء أسهموا بصورة أو بأخرى في الانفجار الكبير. فالسياسي قبل الأزمة لا ينفع لما بعدها، ولن ينفع، وتحديداً في العالم الغربي، الذي انفجرت في ''وجهه'' الأزمة، قبل أن يوزع خرابها على العالم.
بعد خمس سنوات من أزمة لا تشبهها أخرى، لا يزال العالم في مرحلة التشكيل. بعض الدول تجاوزتها ولكن ليس تماماً. ففي هذا العالم لا يمكن فصل البعض عن الكل. ولهذا السبب فإن مصائب البعض تعم على الكل في معظم الأحيان. البعض الآخر من هذه الدول توهم أنه تجاوزها. الغالبية العظمى من الدول التي أنتجت الأزمة لا تزال ''تناطح'' مخلفاتها. الولايات المتحدة، أوروبا، في المقدمة بالطبع. ديون الدول المانحة الكبرى (وليس ديون الدول الفقيرة) باتت خبراً يومياً. العجز في الموازنات العامة، أصبح مثل النشرات الجوية. أما البطالة فلم تعد حالة استثنائية، أو مرحلية، بل حالة دائمة متعاظمة المشكلات والأرقام والأعباء الإنسانية والاجتماعية. هل تقاعس السياسيون الغربيون الحاليون، في مواجهتهم للأزمة واستحقاقاتها؟ بالتأكيد. ففي حين أنهم يستطيعون العمل بصورة أكثر حرية ومرونة، باعتبارهم ليسوا من مرتكبي الأزمة، إلا أنهم تصرفوا بشكل مغاير في بعض الأحيان.
بعد خمس سنوات من الأزمة، لم تستكمل أدوات إصلاح السوق. فالأمر يحتاج إلى إقرار نهائي دائم لأدوات تمنع الوقوع في أزمة أخرى جديدة. وبعد هذه السنوات، لا يزال بعض من سلوكيات الأسواق المنفلتة، ولاسيما ''وول ستريت'' حاضراً على الساحة. صحيح أن هذه السلوكيات لم تعد بالقوة نفسها التي كانت عليها قبل الأزمة، لكنها لا تزال موجودة في ''الأركان'' وعند ''المنعطفات''. لا شك في أن الأمر يحتاج إلى مزيد من السنوات لإزالة آخر الأدران لأسوأ مبادئ اقتصادية شهدها العالم، منذ أن عرف علم الاقتصاد. فخراب عقود لا يمكن أن يُزال في سنوات قليلة. والمشاهد التي خلفتها الأزمة، لن تنتهي قبل خمس سنوات أخرى. هذا إذا سارت الخطوات التشريعية والرقابية والسلوكية في الدول التي صنعت الأزمة، بوتيرة سريعة يطلبها العالم أجمع.
هذه الأزمة لم تخلف دماراً أو خراباً فقط. بل أوجدت أمراضاً نفسية من نوع مختلف، وإلى أن يتشكل الاقتصاد العالمي بالصيغة التي تحترم المعايير البشرية، والمقاييس المجتمعية، وبالطبع القيم الأخلاقية، فإن الاضطرابات الاقتصادية الاجتماعية السياسية، ستبقى على الساحة بصور مختلفة. إن الأزمة الاقتصادية العالمية، انفجرت في الواقع لتعيد تشكيل عالم، بالحد الأدنى المستطاع من الأشرار.