الاثنين، 29 أغسطس 2011

في سورية.. أكاذيب اقتصادية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







"أكبر وأكثر الأكاذيب، هي تلك التي يكذب فيها الإنسان على نفسه. الكذب على الآخرين ليس سوى استثناء"
فريدريك نيتشه فيلسوف ألماني

 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
كما الأكاذيب السياسية وبالتأكيد الأمنية التي تبتكرها السلطة في سورية على مدار الساعة، هناك الأكاذيب الاقتصادية المنتشرة في هذا البلد، منذ أن خضع لحكم أسرة الأسد، قبل أكثر من أربعة عقود. ولأن الشعب السوري لم يصدقها بكل أنواعها (السياسية والأمنية والاقتصادية)، كان على الأسد الأب والابن، أن يفرضاها بالقوة في سياق منظومة، القتل والبطش والقمع والتنكيل والاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري. فحتى نصف الحقيقة–إن وجدت- عندهما هي في الحقيقة.. كذبة كبيرة جداً. فكيف الحال بربعها أو عشرها؟! فبعد أن كانت الأكاذيب الاقتصادية، قبل الثورة الشعبية السلمية العارمة في سورية، تُطلَق على شكل إحصاءات وهمية، وأرقام مجهولة، وبيانات مريبة، ودراسات مضحكة، وبحوث بلا مصادر، ومشروعات بلا هوية، بما في ذلك نسب التنمية والبطالة والاستثمار والعجز والتضخم والاقتراض والناتج المحلي ومصادر الدخل، أخذت الأكاذيب تُطلَق بعد الثورة، في صيغ ردود على حقائق، لم يقدمها الثوار، بل وضعتها على الطاولة، جهات دولية مستقلة رصينة، كانت قبل الثورة تحظى باحترام وتقدير كبيرين من قبل السلطة الحاكمة في سورية، فضلاً عن معلومات أكدتها الأحداث على الأرض، وهذه توفر أجود أنواع "التأكيدات"، لأن الحدث –أي حدث- هو المصدر الأمثل والأقوى للحقائق، أياً كانت طبيعتها وهمومها ومرارتها.

كان من المناسب –وفق أكاذيب الأسد- أن يظهر ابن خاله رامي مخلوف الذي يسيطر على 60 في المائة من الاقتصاد السوري، ليقول إنه "وهب" نفسه لأعمال الخير، وإنه ابتعد عن الأعمال! وذلك في محاولة بائسة ويائسة تثير الغثيان، لإلباسه ثوب النزاهة. وكان من المناسب أيضاً، أن يقوم عدد من رجال الأعمال الذين عُينوا من قبل الأسد، بإطلاق التصريحات حول مناعة الاقتصاد الوطني من الانهيار، بينما يعرف العالم أجمع، بأنه لا يوجد في سورية اقتصاد وطني، بل هناك اقتصاد أُسري، يقوم على أسس "التشبيح" والارتزاق و"البلطجة"، ولا بأس من سلوكيات قُطاع الطرق. وكان من المناسب أيضاً وأيضاً، أن يُطلق الأسد حاكم مصرفه المركزي "السوري"، لينشر هنا وهناك تطمينات، لا يصدقها هو شخصياً، بأن الاحتياطي النقدي في المصرف لم يتضرر من جراء الثورة الشعبية العارمة، وأن الليرة متماسكة، وأنه ليس هناك مساعدات مالية إيرانية لإنقاذ الأسرة الحاكمة، وأن العراق –بحكومته الإيرانية- لم يرفع –مع سبق الإصرار والترصد- من وتيرة تعاونه الاقتصادي مع سورية في أعقاب الثورة، لحماية الأسرة نفسها.

وقد تحدثت في مقالات سابقة، عن المساعدات الإيرانية للأسد، التي بلغت 5,8 مليار دولار أميركي، وكيف يتم توزيعها وإنفاقها، على مجموعة من أولويات السلطة، يمكن اختصارها بالتالي: شراء المزيد من الأسلحة لتمكين السلطة وعصاباتها من مواصلة عمليات قتل الشعب السوري. الإنفاق على عصابات المرتزقة –بما في ذلك عصابات حزب الله اللبناني (الإيراني)-. تدعيم وحدات عسكرية معينة في أماكن معينة، تحسباً لسقوط الأسد في دمشق. تمويل قصير الأجل لدفع مرتبات العاملين في القطاعين الحكومي والعسكري، لتأخير اندلاع العصيان المدني الحتمي. تقديم رشى لمن يقبل من السوريين –إن وجد أصلاً- الوقوف إلى جانب السلطة حتى النهاية، بما في ذلك رجال الأعمال المُعَنين، ورجال أعمال تقليديين، قبلوا بما فُرض عليهم من آليات اقتصاد التشبيح، خوفاً عن أنفسهم، ورضى بما خصص لهم من فتات الأموال المشينة.

وعلى الصعيد العراقي، ربما كان من المفيد أن أنقل تصريحاً وصلني من مكتب الدكتور رافع العيساوي، وزير المالية العراقي، يكذب فيه الأنباء التي تحدثت عن قيام بلاده بدفوعات مالية إلى سورية بلغت 10 مليارات دولار أميركي. لكن التوضيح يحمل معه تأكيدات واضحة في مساندة حكم الأسد. وفيما يلي النص الكامل للتصريح –البيان دون أي تدخل من جانبي:" ينفي مكتب الوزير الدكتور رافع العيساوي نفياً قاطعاً الأنباء التي وردت عن الدفوعات المالية التي قدرتها الأنباء بعشرة مليارات دولار لحكومة سوريا الشقيقة. وإذ يؤكد الوزير حرص العراق على مسندة أشقاؤنا في سوريا حكومة وشعباً، تعلن الوزارة عن الاتفاق مع وزارة المالية السورية على توحيد التعرفة الجمركية بين البلدين، وعلى مساندة مالية وقدرها ستة مليارات دولار سيتم تحويلها على دفعات ثلاثة خلال مدة تسعة أشهر من تاريخ توقيع الاتفاقية بين البلدين يوم 27-07-2011 . ولذا لزم التنويه الى الالتزام بدقة المعلومات والاتصال بالمكتب الاعلامي للحصول على البيانات الصحيحة". إن نظرة واحدة إلى تاريخ توقيع الاتفاقية، يمكن أن تمنح المشهد أقوى قدر من الوضوح!

الذي يبدو واضحاً أيضاً، أن الـ 6 مليارات "العراقية" وتقريباً الـ 6 مليارات "الإيرانية"، لم تمنح الشعب السوري بارقة أمل اقتصادية، لأن توزيعها هو خارج نطاق الفوائد المنتظرة من مثل هذه المساعدات أو الدفوعات أو "المسندة" حسب تعبير بيان الوزير العراقي. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نفهم تصريحات حاكم المصرف المركزي "السوري" المريعة الذي قال فيها: "إن على السوريين شد الأحزمة بعد فرض عقوبات أوروبية وأميركية قاسية على بلدهم، الذي أضعفته اقتصادياً. وإننا سنواجه صعوبات متزايدة بسبب العقوبات والأحداث، وبالتالي سيكون علينا شد الأحزمة". يا إلهي، يطلب من السوريين الذين يشدون الأحزمة منذ أكثر من أربعة عقود، أن يشدوها أكثر، بينما لم يعد في الحزام ثقب آخر لمزيد من الشد!! وفي محاولة سمجة وغليظة لاجترار قصة مشكوك بصحتها تاريخياً، قال حاكم المصرف السوري:" أقول عكس ما دعت إليه ماري انطوانيت، عندما طلبت من الشعب أن يأكل البسكويت، إذا لم يكن لديه خبز. أعتقد أنه سيكون علينا التخلي عن تناول البسكويت لنأكل الخبز الأسمر". وبعيداً عن استعراضه التاريخي الباهت، فقد تأخرت العقوبات الغربية على الأسد وأسرته وأعوانه، لأن الدول الكبرى، أرادت أن تفرض عقوبات ذكية على حاكم سورية غير الشرعي، وذلك بقطع الإمدادات المالية عنه (بما في ذلك حظر النفط الذي لا يدخل منذ أربعين عاماً الخزينة العامة)، التي لا يستخدمها في تنمية البلاد، ورفاهية شعبه –وهذا أمر يستحيل أن يقوم به- بل تُنفَق في استكمال مواجهة نادرة، بين سلطة تستخدم الدبابات والمدرعات والطائرات والسفن الحربية والعصابات المستوردة والمحلية، وشعب أعزل إلا من كرامته وعزته. إن عمليات السرقة والنهب، هي التي ستضيع ما تبقى من "خبز أسمر"، بعدما أضاعت مقدرات البلاد. إن المرحلة الطويلة المفجعة، التي شهدت - ولاتزال- مجموعة من الاقتصادات التخريبية، بدءاً من اقتصاد الفقر، واقتصاد التفقير وما دونه، واقتصاد التشبيح، هي التي استهلكت ثقوب الحزام، فلم تعد فيه مساحة لثقب آخر.

كان الأسد الاب، "يستنجد" بالعقوبات لتبرير الفساد والسرقة، وفعل الأسد الابن الشيء نفسه، مع فارق واحد، هو أن جرائم الأول، كانت عديمة "البث"، أما جرائم الثاني، فقد استحوذت على كل وسائل البث.

الاثنين، 22 أغسطس 2011

الكماشة الاقتصادية حول عنق الأسد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

"الطغاة يركبون على النمور جيئة وذهاباً، يخشون الترجل من على ظهرها، عندما تشعر بالجوع"
ونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا الراحل





كتب: محمد كركوتــــي

الكماشة تضيق حول عنق سفاح سورية بشار الأسد، بطرفيها السياسي والاقتصادي. فقد بلغ هو وعصابته مراحل متقدمة في الطريق نحو نهايته، بعد أن انتهت إلى الأبد مسلماته البائسة التي كان يطلقها قبل الثورة الشعبية السلمية العارمة ضده بأن سورية محصنة من نسائم التغيير التي هبت على الساحة العربية. فالذي حدث أن سورية أطلقت في الواقع أعاصير التغيير، والمرحلة التي سبقت الخامس عشر من مارس/ آذار الماضي، باتت تاريخاً قاتماً ومريعاً، في ظل صناعة هائلة لمستقبل بلد، ظن السفاح أنه يملكه إلى الأبد. ولأنه كان –ولايزال- جاهلاً وفاقداً لعقله، لم يفهم ما قاله الأديب الفرنسي فيكتور هوغو –مع شكي في أنه يعرفه- ماذا قال: "عندما يكون الطغيان حقيقة، تكون الثورة محقة".

لن أتحدث هنا عن الطرف السياسي للكماشة، فقد أصبح واضحاً، ويمكن اختصاره بأن سفاح سوريا بات قاب قوسين أو أدنى، من العزل الدولي الشامل. والحقيقة أنه يستحقه منذ أن بدأ بقتل وحشي منظم للسوريين الأحرار، وهو يستحقه قبل ذلك بأعوام طويلة. كان النظام الإيراني الذي صدَر قطاع الطرق (بمن فيهم عصابات حزب الله الإيراني في لبنان)، والوسائل المساعدة لقتل الشعب السوري، يعرف أن الكماشة الاقتصادية مطبقة لا محالة حول رقبة الأسد، ولذلك، فقط استبق استحقاقات الثورة في حركة بائسة ويائسة، وضخ ما يقرب من 5,8 مليار دولار أميركي، في خزائن أسرة الأسد وعصاباتها، على أمل نجدته من مصيره المحتم، وهو الزوال. وعلى الرغم من مرور أكثر من شهرين على ضخ هذه الأموال الطائلة، إلا أنها لم تمنع مظاهرة سلمية واحدة، بما في ذلك تلك التي تضم العشرات، لا عشرات الآلاف ولا مئاتها. ومع ارتفاع حدة العقوبات وتعدد ماهياتها ضد العصابة الحاكمة في سورية، وإضافة المزيد من أسماء الخارجين عن الشرعية والقانون، بمن فيهم بشار الأسد نفسه، بات نظام الملالي ومعه عصابة حزب الله، يواجهون أزمة أخرى مشتقة من الأزمات التي طالتهم من جراء ثورة السوريين الأحرار، خصوصاً بعد أن أضافت الدول الكبرى أسماء إيرانيين إلى قوائم الحظر التي أصدرتها تباعاً.

وبعد تردد يولد الغيظ، أقدمت دول الاتحاد الأوروبي على فرض حظر على استيراد النفط السوري، الذي يمثل الشريان المالي الدائم للأسد الفاقد للشرعية منذ وصوله إلى السلطة. ولمن نسي، فإن موارد النفط السوري لا تدخل في نطاق الخزينة العامة أصلاً، وتذهب منذ عهد السفاح الأكبر حافظ الأسد مباشرة، إلى العصابة الحاكمة في البلاد. فقد كان الأسد (الأب والابن) أكثر فساداً في هذا المجال، من سفاح ليبيا معمر القذافي. فهذا الأخير اختلق صندوقاً أطلق عليه اسم "الحساب المجنب"، كان يضع فيه قسماً من الموارد النفطية، ولا يحق لأحد الاقتراب منه، بينما كان الأب والابن في سورية يضعان كل الموارد النفطية السورية في جيوبهما، ولا بأس من جيوب بعض أفراد عصابتيهما. يصدر الأسد لحسابه الخاص، قرابة أربعين في المائة من النفط السوري إلى السوق الأوروبية، وهذا يعني أن الموارد التي يستخدمها لقتل شعبه، سوف تنخفض في الأيام القليلة المقبلة، إلى جانب تراجع العوائد المالية الناجمة عن مختلف القطاعات الاقتصادية في البلاد، فضلاً عن تراجع مخيف لعوائد غسيل الأموال، وإن كان الذراع المالي اللبناني-السوري لهذه التجارة المشينة، لا يزال يتحرك. والغريب أن الأسد هرَب إلى لبنان ما يقرب من 23 مليار دولار أميركي منذ اندلاع الثورة ضده، في الوقت الذي تضيق فيه الكماشة الاقتصادية حول رقبته، وهذا أسلوب يعتمده عادة رؤساء العصابات الذين يتعرضون إلى الملاحقة. فقد كان عليه أن يُبقي هذه الأموال في البلاد، لإعانته على مواصلة حكمه غير الشرعي أطول فترة ممكنة. لكن الواضح أنه بات يعرف –حتى بعد أن فقد عقله- بأن أيامه باتت معدودة، أو على الأقل أصبح يعرف ماهية مصيره المحتوم.

شكلت أموال نظام الملالي الإيراني طوق نجاة للأسد لفترة زمنية محدودة، ولم تمثل طوق إنقاذ له. فمع خمس جولات من العقوبات الأوروبية، وجولتين أميركتين مماثلتين، استهدفت كيانات اقتصادية مختلفة، وبعد وضع أسماء 50 شخصية سورية وإيرانية ولبنانية ضمن قائمة الخارجين عن القانون، وعلى رأسهم سفاح سورية، باتت المعونات الإيرانية المالية بلا قيمة، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار المشاكل الاقتصادية التي تعيشها إيران، من جراء سياسات نظامها العدواني الذي يسعى إلى نشر أوبئته السرطانية في المنطقة العربية كلها. هذا الوضع، يستحضر الساحة السورية إلى أكثر ما يخشاه الأسد وعصابته، وهو العصيان المدني، التي بدأت بوادره بالظهور من خلال اضرابات تلقائية في العديد من المدن التي تشهد حرب إبادة يشنها واحد من أسوأ الأنظمة على الإطلاق منذ النازي الألماني أدولف هتلر، والفاشي الإيطالي بينيتو موسوليني، يضاف إلى ذلك امتناع شرائح متعاظمة من الشعب السوري، عن تسديد التزاماتها المالية للحكومة، بما في ذلك دفع فواتير الخدمات، بل وامتناع أعداد من الموظفين الحكوميين للالتحاق بوظائفهم، خوفاً من عصابات القتل المأجورة من الأسد مباشرة.

إن الوضع الاقتصادي الراهن في سورية هو على الشكل التالي: تراجع مخيف في الاحتياطيات المالية للبنك المركزي( اعترف به حاكم البنك نفسه)، الذي تسيطر عليه مباشرة عائلة الأسد. انخفاض متواصل لقيمة الليرة السورية. هروب كبير لرؤوس الأموال الشرعية وغير الشرعية. اضمحلال العوائد السياحية كاملة. إغلاق مشاريع استثمارية كبيرة ومتوسطة. تأجيل مشاريع أخرى. ولو أضفنا إلى ذلك كله، العقوبات الدولية المختلفة، واحتمالات فرض عقوبات عربية مشابهة في المستقبل القريب، فإن الكماشة الاقتصادية، ستتحول إلى ما يشبه حبل المشنقة حول رأس السلطة الحاكمة في سورية. وبالتالي يمكن القول، إن ما بدأته الثورة السلمية الشعبية العارمة في البلاد، الهادفة لإزالة حكم الأسد غير الشرعي، ووقف حرب الإبادة ضد السوريين الأحرار سينهيه الاقتصاد. إن ذلك من حقائق التاريخ، وأحسب أن سفاح سورية لم يقرأ التاريخ جيداً.

الاثنين، 15 أغسطس 2011

تاريخية الكلمة من تاريخية قائلها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







"وما المرء إلا بإخوانه.. كما تقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة.. ولا خير في الساعد الأجذم "
محمد بن عمران الضبي شاعر عربي

 
 
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
إنها ليست من تلك الكلمات التي ينتهي أثرها، قبل أن تُستكمل سطورها، وليست من تلك المليئة بشعارات بدون معنى، وبلاغة بلا وقع، وإنشاء بدون وزن، وقافية بلا موسيقى. إنها كلمة تاريخية بكل معنى الكلمة، تلك التي وجهها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، إلى سورية. والحقيقة أن تاريخيتها لا تنبع فقط من زخم وفداحة الحدث "الدرامي" السوري، بل من تاريخية ووزن ومكانة قائلها. ولأن الأمر كذلك، فقد كانت الكلمة التي بدأها خادم الحرمين الشريفين بـتلك العبارة -التي ألهبت المشاعر مستندة إلى الحقائق والصدق لا الأوهام- "إلى أشقائنا في سوريا.. سوريا العرب والإسلام"، بليغة في تاريخيتها ، وتاريخية في بلاغتها. كانت كلمات مقتضبة، لكنها أقوى من غالبية الخطابات (العربية تحديداً)، ذكرتني بمقولة شهيرة لرئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرتشل " لقد كتبت خطاباً طويلاً، لأنني لا أملك الوقت لأكتبه قصيراً"، وعندما تكون كلمة واحدة من القائل، تفوق ملايين الكلمات أهمية، لا معنى للمساحة، بل المعنى كله يكون في الأثر، وقبل هذا وذاك ينصهر المعنى بقوتها.

والحقيقة، أن هذه الكلمة سبقتها نصائح لم تتوقف من الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى سفاح سورية بشار الأسد، وتقدمتها اتصالات لم تهدأ من أجل حقن دماء الشعب السوري الأبي، وأيضاً من أجل التوصل إلى حلول للكارثة التي تسبب بها الأسد وأعوانه، بأقل الأضرار الممكنة، لكن الذي بدا واضحاً، أن سفاح سورية، فقد عقله في ظل فقدانه للشرعية الوطنية، منذ وصوله إلى السلطة مغتصباً لها، ووارثاً لحكم ما كان له، لو طبقت عليه أدنى المعايير المعروفة في عمليات انتقال السلطات. فوصوله إلى الحكم، شكل إهانة أخرى للشعب السوري، من نظام حزب البعث الفاشي، الذي امتلك القرار المطلق وحصره في مجموعة صغيرة جداً، لا ينطبق عليها إلا توصيف العصابة، كما فتح شهية الأنظمة الجمهورية العربية الأخرى للتوريث. ومن هنا نجد أساساً سورياً –على سبيل المثال- لانهيار نظامي حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس، وأساساً يستكمل انهيار نظامي علي عبدالله صالح في اليمن، وسفاح ليبيا معمر القذافي، يضاف إلى ذلك، أن هؤلاء الأربعة، لم يستمعوا إلى النصائح التي كانت ستوفر الكثير على شعوبهم أولاً، وحتى عليهم، بل تعاملوا مع هذه النصائح كــ "مخططات عدائية لهم"، فلا غرابة إذن.. من قيام بشار الأسد وأعوانه السوريين وغير السوريين، من توجيه الاتهامات إلى الناصحين، بلغت أعلى درجات الأكاذيب، بأن هؤلاء – أي الناصحين- يمولون الثورة الشعبية السلمية العارمة، بماذا؟ بالسلاح!! في حين لم يجد العالم المراقب والمتابع لما يجري في سورية، سكين مطبخ في يدي أي متظاهر سوري، يطالب بحرية سلبت منه منذ أكثر من 41 عاماً، وأن هذا المتظاهر –كغيره من بقية السوريين- لا يملك إلا كرامته يحارب بها، واحداً من أسوأ الأنظمة الوحشية منذ الحرب العالمية الثانية.

كلمة خادم الحرمين الشريفين، لم تضع فقط الأمور في نصابها، بل أوجدت جهة لا تقف إلا مع الحق، تقف إلى جانب الشعب السوري الأعزل، الذي استخدمت ضده كل أنواع الأسلحة، بما في ذلك، الدبابات والمدرعات والقاذفات والمروحيات والسفن الحربية، بالإضافة طبعاً إلى المرتزقة الذي يستحقون بجدارة توصيف قطاع الطرق، خصوصاً أولئك المرتزقة المستوردين من الخارج، وتحديداً من إيران وعصابات حزب الله الإيراني في لبنان. فقد وجد الأسد، أن المرتزقة المحليين أقل "جودة" في قتل الأبرياء والجنود الشرفاء الأحرار من أولئك المستورَدين. لقد أظهر الشعب السوري –باعتراف المجتمع الدولي- شجاعة لا حدود لها في حراكه نحو الحرية، وأثبت مجدداً أنه يقوم بواجباته العربية والقومية، حتى وهو في أحلك ظروفه الحياتية. كيف؟ إنه يقاوم بأجساد لا تحمل إلا الكرامة، تغلغلاً سرطانياً إيرانياً، ليس في سورية فحسب بل في المنطقة ككل، ويقاوم أيضاً عصابات حزب الله، التي تقوم بتنفيذ مشروع لم يعد خافياً على أحد، لنشر الفوضى في المنطقة، استكمالاً للمشروع الإيراني الكبير.

إن أجمل ردود الأفعال على كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز، أتت على الفور من الشعب السوري، الذي يمثل الشرعية الوحيدة في سورية، جاءت من هذا الشعب الذي عرف مرة أخرى، أن المملكة العربية السعودية التي وقفت إلى جانبه منذ أن تأسست، لن تتخلى عنه، خصوصاً وهو يخوض "حرباً" فريدة من نوعها، ليس من جهة غياب موازين القوى فيها، بل لأنها تُشَن من طرف واحد (لا طرفين) يملك الآلة والوحشية، ومستعد للمضي إلى ما بعد النهاية، لاستكمال حرب إبادة منظمة، تستند على استراتيجية الهلاك. خصوصاً وأن هذه الاستراتيجية حصلت على ذراع مالية إيرانية بلغت –حتى الآن 5,8 مليار دولار أميركي- أسست ما يمكن تسميته بـ "اقتصاد الهلاك"، وهو اقتصاد لا يحقق نمواً إلا في إطار توصيفه، فـ "الدخل الإجمالي" له لا ينفق إلا على استيراد قطاع الطرق، وشراء الأسلحة التي يحتاجها الأسد وعصابته لإتمام حرب الإبادة، ولا بأس من تقديم الرشى (إن وجد من يقبلها من السوريين) بما يتناسب وأهداف استراتيجية الهلاك.

إن الوزن الهائل لكلمة خادم الحرمين الشريفين إلى سوريا العرب والإسلام، لا يمكن أن تستوعبه بيانات الإشادة، ولا مانشيتات الصحف، ولا العناوين الرئيسية للأخبار، إنه من ذلك الوزن الذي يصنع التحولات، لا من ذاك الذي يدخل في نطاق التعليق على الأحداث، لأنه ببساطة صانع للأحداث. إنه الفعل لا رد الفعل. وعلى هذا الأساس، يمثل أساساً مطلوباً لأي تحرك ناجع لوقف نزيف الدم في سورية العرب والإسلام، إنه ليس أقل من جدول أعمال لقمة عربية أو اجتماع لوزراء الخارجية العرب. إن هذه الكلمة تتدخل ببساطة التاريخ من فرط وزنها وقيمتها، لا بقرارات رسمية، تعودنا عليها من أنظمة بلا شرعية، يلقي قادتها كلمات بلا معنى ولا أثر ولا أفق، بل وبلا أخلاق وقيم.

الأربعاء، 10 أغسطس 2011

طاغية الإعلام

(المقال خاص بمجلة جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")








"لا يمكن أن تبني مؤسسة قوية، مليئة باللجان، وبمجلس تستشيره في كل شيء. عليك أن تكون قادراً على صنع القرار بمفردك"
روبرت ميردوخ أكبر المستثمرين الإعلاميين في العالم

 
  
* شيئاً فشيئاً، بات ميردوخ يسيطر على 40 في المائة من الإعلام البريطاني * طور ميردوخ أدوات الإعلام، لكنه ضرب عرض الحائط بأخلاقيات هذه المهنة * من مقولات طاغية الإعلام العالمي "سمعتنا أهم من آخر مئة مليون دولار أميركي نجمعه" * ليس أمام ميردوخ مساحة للمناورة على الساحة البريطانية

  كتب: محمد كركوتـــي
 
في منتصف ثمانينات القرن الماضي، بدأ الاسترالي- الأميركي روبرت ميردوخ، حملته للانقضاض على ما أمكن من وسائل الإعلام البريطانية. كنت وقتها صحافياً صغيراً أعمل متعاوناً مع جريدة "التايمز" العريقة، كنت أتهيب دخولها كل يوم، حتى بعد أن صرت واحداً من مئات يعملون فيها، وفي شقيقاتها الأخريات. كانت هذه الصحيفة التي انطلقت في العام 1785، وشهدتُ احتفالها الكبير عام 1985 بمرور 200 عام على صدورها، تمثل جزءاً من وجدان بريطانيا، لتكمل هذا الوجدان مع زميلاتها الأخريات الرصينات. وبعد معارك عنيفة، ودعم لا محدود من حكومة مارجريت ثاتشر آنذاك، استطاع ذلك "الكابوي" الاسترالي السيطرة على هذه المؤسسة. وهو لم يكن غريباً كثيراً على الساحة البريطانية، إذ كان يملك صحيفة "نيوز أوف ذي وورلد" الأسبوعية الشعبية التي بلغ توزيعها في بعض الفترات أكثر من 6 مليون نسخة، والتي أُغلقت مؤخراً بسبب فضائح التجسس التي كان صحافيوها يقومون بها على الشخصيات العامة، والناس العاديين.
شيئاً فشيئاً، بات ميردوخ يسيطر على 40 في المائة من الإعلام البريطاني. ولا يمكن لهذا الطاغية الإعلامي، المسيطر إعلامياً بصورة كبيرة جداً في بلاده الأصلية والولايات المتحدة، إلا أن يكون شاكراً دائماً لثاتشر، التي قفزت فوق قوانين الاحتكار من أجله. ومع انطلاق عصر القنوات الفضائية في أواخر ثمانينات القرن الماضي، كان الطاغية مستعداً لهذا العصر بكل ما يملك، فكان سباقاً لإطلاق شبكة "سكاي" الضخمة، ولكن سرعان ما واجه مشاكل مالية في هذه الشبكة، التي اضطرته للتحالف مع شبكة "بي بي سي" الفضائية التي أُطلقت حديثاً آنذاك، والتي كانت هي الأخرى تواجه نفس المشاكل (تملك مؤسسة ميروخ "نيوز كوربوريشن" 39,1 في المائة منها). أُدرجت المؤسسة المتحالفة في البورصة تحت اسم "برتيش ساتيلات بوردكاستينج" أو British Satellite Broadcasting المعروفة اختصاراً بـ BSKYB . ماذا كان يسعى الطاغية، قبل أن تُسقطه في بريطانيا جريدته "نيوز أوف ذي وورلد"، وتسقط معه أيضاً؟ كان يسعى للاستحواذ على أسهم المؤسسة، وعرض مبلغاً وصل إلى 12 مليار جنيه استرليني. كان يريد أن يسيطر عملياً على أكثر من 60 في المائة على الأقل من الإعلام البريطاني ككل!

أخلاق المهنة
طور ميردوخ في بريطانيا (كما في أستراليا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان)، أدوات الإعلام، لكنه ضرب عرض الحائط بأخلاقيات هذه المهنة. فقد أظهر أنه يؤمن بـذلك المبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، بصورة توازي إيمان ميكافيلي نفسه به، ومع تعاظم سطوته في هذا القطاع، بات يهاجم نفسه، على تلك الفترة القصيرة، التي آمن فيها بالمعايير اليسارية عندما كان في أول درجات السلم الإعلامي. فلا عجب في أنه –على سبيل المثال- قلص عدد العاملين في مجموعة "التايمز" (عندما اقتنصها) وواجه نقابة عمال الطباعة بحركة استفزازية، حيث قام بطرد آلاف العمال دون سابق إنذار. ولأنه كذلك، فقد نقل في المملكة المتحدة، ما يملك من وسائل إعلامية، من معسكر المحافظين إلى معسكر العمال، في الانتخابات التي فاز بها الحزب العمالي عام 1997. وفي انتخابات العام 2010 عاد لينقل هذه الوسائل المؤثرة إلى معسكر المحافظين. فقد أثبت أن الإعلام في أي مكان، ليس حراً تماماً، من سطوة مموله أو المستثمر فيه، وأن قوانين الاحتكار البريطانية، التي قفزت فوقها ثاتشر، وُضعت لتأمين أعلى مستوى من الحرية للإعلام، ولكن هناك إرادة سياسية يمكنها مواصلة "القفزات"، ولو إلى حين.

أحلام الاستحواذ
من مقولات طاغية الإعلام العالمي "سمعتنا أهم من آخر مئة مليون دولار أميركي نجمعه". وفي الوقت الذي ينبغي فيه ألا تقدر السمعة بثمن، فقد حدد ثمنها. ولهذا السبب فقدَ صحيفة شعبية هائلة التوزيع، صدرت قبل أكثر من 165 عاماً، لأنه كان يحقق مكاسب تفوق المئة مليون دولار! فلا معنى للسمعة إذن. وقد فقدَ أيضاً حلمه بالاستحواذ الكامل على شبكة " بي سكاي بي"، حيث أُجبر على سحب عرضه، بعدما انبرت المؤسسات السياسية والاجتماعية البريطانية، تهاجمه من كل الاتجاهات. هذه الشبكة التي كان بإمكانه أن يوسع دائرة سيطرته على الإعلام البريطاني من خلالها، إذا ما فاز عرضه الهائل. فمع تراجع عدد قراء الصحف والمطبوعات عموماً في بريطانيا والعالم أجمع، بات التلفزيون (ومعه وسائل الإعلام الاجتماعي)، الذراع الأقوى للتأثير والانتشار، وبالتالي تمرير السياسات البريئة والمريبة .. وأحياناً المريعة. استطاعت هذه الشبكة، على مدى أكثر من 15 عاماً، أن تخطف شرائح عريضة من المجتمع البريطاني، لاسيما شريحة الشباب، من القنوات المحلية التاريخية العريقة، التي تتقدمها تلك التابعة للـ " بي بي سي". صحيح أن هذه الأخيرة تشارك مؤسسة ميردوخ في "بي سكاي بي"، لكن الصحيح أيضاً أن المعايير التي تستند عليها هذه الشبكة، تختلف عن تلك التي قامت عليها الشبكات التلفزيونية الأخرى. إنها متطابقة لمعايير شبكة "فوكس" التي يملكها الطاغية في الولايات المتحدة. إنها يمينية حتى العظم، وينظر لها الراشدون على أنها غير بريئة، رغم اعترافهم بقدرتها على خطف الإعجاب، على الأقل للوهلة الأولى.

تصحيح الأخطاء
ليس أمام ميردوخ مساحة للمناورة على الساحة البريطانية. فبعد الأعمال المشينة التي ارتكبتها إحدى صحفه الأوسع انتشاراً في البلاد، بات الحديث يدور الآن، عن إمكانية التحرك لتفكيك إمبراطورتيه، من أجل تصويب أخطاء نالت من القوانين الإعلامية المرعية على مدى ثلاثة عقود تقريباً، وضربت الأخلاقيات والقيم الإعلامية، في بلد افتخر دائماً بحرية لا حدود لها للإعلام، التي تستند على معايير حرية التعبير المقدسة. والحقيقة، أن الساحات الأخرى التي ينعم فيها طاغية الإعلام بالسيطرة على جزء من المقدرات الإعلامية –إن جاز التعبير- بدأت تدرس حالة ميردوخ البريطانية باهتمام شديد، تحسباً لانتقال عدوى الأعمال المشينة إليها. إن التحرك البريطاني الآن، يؤسس لتحرك عالمي باتجاه احتكار الإعلام، ويجرد الممولين والمستثمرين الكبار في هذا القطاع، من جانب كبير من تأثيرهم على المجتمع بصفة عامة. ولا شك في أن ميردوخ خسر هذا التأثير، حتى ولو استمر في امتلاك وسائله الإعلامية المتبقية له في المملكة المتحدة.
إن ما يجري الآن، هو تصحيح لأخطاء كان يمكن تفاديها، لولا "قتال" مارجريت ثاتشر، إلى جانب ميردوخ في منتصف ثمانينات القرن الماضي. كان قتالاً من أجل مكاسب سياسية، لا أخلاقية، خصوصاً عندما أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة بصورة واضحة، أنه لا يوجد شيء اسمه المجتمع، هناك شيء واحد فقط اسمه السوق!!

الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

إيران والأسد واقتصاد الهلاك

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






""قادة النظام الإيراني، يتخذون مواقف، ويطلقون تصريحات بغيضة، لم نشهد ونسمع مثلها منذ أدولف هتلر"
توم لانتوس عضو سابق في مجلس النواب الأميركي



كتب : محمد كركوتـــي

بعد تدفق خبراء وعصابات كل من الحرس الثوري الإيراني (لاسيما فيلق القدس)، وحزب الله الإيراني الشيعي في لبنان، إلى سورية في مهمة واسعة يائسة لإنقاذ سلطة بشار الأسد المتهاوية، وجد هذا الأخير (بدون عناء)، أن الثورة الشعبية السلمية العارمة في كل أرجاء سورية، تجاوزت تحالفه المريع مع نظام العمائم السوداء (ولا بأس من البيضاء). وقبل أن يهب من تبقى من أولئك الذين لا يزالون يدافعون عن الأسد وعصابيته المحلية والإيرانية ومرتزقتهما من حزب الله، أطلب منهم الاطلاع على تقرير لجنة تابعة للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة بدورها إلى الأمم المتحدة، الذي توصل بعد تحقيقات واتصالات وشهادات وصور ومواد تلفزيونية مختلفة، إلى أن "إيران وحزب الله متورطان في قتل الجنود السوريين الرافضين، لأوامر إطلاق النار على المتظاهرين العزل". وهذا يعزز التقارير السابقة، التي تضمنت قرائن وشهادات، على أن المرتزقة (الذين ينتظرون المهدي لضبط الكون وحل مشاكله!)، يقتلون السوريين العُزَل، بعد أن يقتلوا من يرفض قتلهم من الجنود الشرفاء. فقد أشرت في مقال سابق لي، إلى أن هذا النوع من المرتزقة (والأصح القول: قطاع الطرق)، يقدمون خدمات لبشار الأسد، أكثر جودة من زملائهم المحليين، لأنهم يؤمنون بأن المحرمات، ليست سوى أشياء سخيفة، تتعارض مع تكوينهم العقائدي، وسلوكياتهم التي حلت مكان الأخلاق، إن وجدت لديهم أصلاً. ومع ذلك، فقد استمرت المظاهرات السلمية في سورية، وتحدت سلطة وحشية ليست شرعية منذ وصولها إلى الحكم، وصدمت بإصرارها، كلاً من حسن نصر الله، زعيم الحزب الشيعي الإيراني في لبنان، ومعه قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، الذي اتخذ من دمشق مقراً له منذ أربعة أشهر. ولمن نسي، فقد أشرف كل من هذا الأخير ونصر الله، على أبشع العمليات الإجرامية التي شهدها (ويشهدها) العراق.

بعد أن فشلت عمليات القتل والسحل والتعذيب والتهجير والاعتقال والإخفاء والتجويع، واعتقال حتى الجثث والتمثيل بها، وفق "استراتيجية قطاع الطرق"، اكتشف الأسد بأن الخناق يضيق يومياً على الاقتصاد في البلاد، خصوصاً بعد أن تأكد له (ولأي قارئ عادي للأوضاع)، بأن ما بدأته الثورة العارمة، يمكن ببساطة أن يستكمله الاقتصاد. لم يلجأ إلى صندوق النقد والبنك الدوليين، وإلى المؤسسات المالية العالمية المعروفة، فهو يعرف بأن مثل هذه المؤسسات، لا تتدخل في بلد، ليس فيه معيار اقتصادي حقيقي واحد، ولا إحصائية تنموية واقعية واحدة، ولا أرقام مستقلة، ولا تقارير صادقة، ولا تحقيقات مع فاسدين وناهبين. وهذه المؤسسات تعرف تماماً (وبدون جهد)، أن الاقتصاد الموجود في سورية، لا يعدو عن كونه اقتصاد "التشبيح"، وهو المرادف "الألطف" لاقتصاد "قطاع الطرق". يضاف إلى ذلك، أن المؤسسات العالمية، لا تتدخل في بلد ترتكب سلطة غير شرعية فيه ضد شعب أعزل، فظائع تفوق بشاعة ما تم ارتكابه في البوسنة والهرسك في منتصف تسعينات القرن الماضي، لتكون الأبشع على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية. (وهذا ليس تقليلاً من فظائع البوسنة، لكن البوسنيين كانوا مسلحين وكذلك الليبيين الآن).

في ظل المشهد الاقتصادي المأساوي في سورية، كانت إيران حاضرة، ليس لحماية البلاد، بل لحماية استراتيجيتها المريبة والمريعة في المنطقة ككل، عن طريق إسناد سلطة الأسد المتهاوية. وبعد أن أرسلت خبراء الإجرام وعصاباتهم من الإيرانيين واللبنانيين إلى دمشق وكل المدن السورية، قامت بإرسال خبراء الاقتصاد، وهم يحملون 5,8 مليار دولار أميركي، في طائرات، تحمل أيضاً كل ما لا يملكه الأسد من آلات القتل. ومن المفارقات، أن حال الاقتصاد الإيراني ليس أفضل من حال "زميله" السوري، مع اختلاف واحد، هو أن للأول معايير واضحة بعض الشيء، بينما ليست هناك معايير ولا ملامح (على الإطلاق) للثاني. ولأن الأمر كذلك.. فإلى جانب الاستراتيجية الإجرامية لكل من نظام إيران وسلطة الأسد، تَشكَل في سورية ما يمكن وصفه بـ "اقتصاد الهلاك". وهو اقتصاد جديد محلي-خارجي، بعد أن كانت تسود سورية على مدى 41 عاماً مجموعة "متنوعة" من الاقتصادات، بدأت بـ "اقتصاد التفقير" وانتقلت إلى "اقتصاد التشبيح" لتمر قبل ذلك، بـ"اقتصاد الفقر وما دونه".. وكلها "اقتصادات" محلية صرفة. ومع المحاولات الدولية، لتفكيك شبكة الممولين لسلطة الأسد، وتدمير البنية المالية لها، عن طريق استهداف "مصرفييها" وفي مقدمتهم رامي مخلوف (ابن خال الأسد) الذي يسيطر على 60 في المائة من اقتصاد الأمة بأكملها، ومن خلال قطع الإمدادات المالية، وتجميد الأرصدة (إن تم العثور عليها)، وجد نظام طهران، ضرورة حتمية، لتحالف اقتصادي جديد، يبدأ بـ 5,8 مليار دولار، بغية تكريس ارتماء الأسد في حضن إيران، وإنقاذه من السوريين الأحرار، لاستكمال استراتيجيتها الإقليمية. فـ "استراتيجية الهلاك"، تستوجب وجود "اقتصاد الهلاك".

لكن المشكلة، أن حال "اقتصاديو الهلاك"، ليس أفضل من حال خبراء وعصابات القتل، الذي جاؤوا من نفس جهة التصدير. فالأموال الإيرانية القذرة، لم تحقق بعد شهر من تخصيصها للأسد أي شيء، بل على العكس تماماً، وجد أصحاب "عمائم الهلاك"، أعلامهم تُحرق وتُداس بأرجل الشعب السوري الحر، ومعها أعلام الحزب الإيراني في لبنان، إلى جانب صور زعيمه نصر الله، في زحمة تحطيم أصنام الأسد الأب والابن، وحرق صورهما. ولولا الخشية من الله لنبشوا قبر الأب. لم يُدخل "اقتصاديو الهلاك" دولاراً واحداً إلى خزائن المصرف المركزي التي تتناقص الأموال فيها على مدار الساعة، رغم أن هذا المصرف هو في الواقع "بنك أسري" لا مركزي ولا وطني ولا احتياطي. لماذا؟ لأن الحالة الشعبية تجاوزت مرحلة إسناد مصرف، لم يعد بعيداً عن الوصول إلى أيدي السوريين أصحابه الحقيقيين. ولذلك فإن الليرة السورية تتهاوى، والنمو بات صفراً، والعصيان المدني على الأبواب. لم يوفر "اقتصاد الهلاك" الجديد، إلا إمدادات قصيرة الأجل لدفع رواتب العاملين في القطاع الحكومي، وأخرى طويلة الأجل لدفع أجور قطاع الطرق، بواسطة الوكيل المُعيَن حزب الله الإيراني في لبنان، إضافة إلى شراء ما يلزم من أسلحة ومعدات لمواصلة المجازر بحق الشعب السوري الأعزل. فاستمرار الثورة بهذا الإصرار المنقطع النظير (إقليميا وعالمياً)، يستوجب تطوير آليات الأسد الوحشية.

الذي يبدو واضحاً، أن بشار الأسد وصل إلى مرحلة من اليأس والبؤس (بالإضافة إلى وحشية نادرة)، لم يعد معها يعرف أن كل اقتصادات الدنيا، لن تنقذه، وأن "اقتصاد الهلاك" مع إيران، لن يكون أفضل من اقتصادات والده واقتصاداته المحلية (غير المستوردة)، التي ساهمت في اندلاع الثورة الشعبية السلمية العارمة ضده، وأن إيران ستغرق معه في النهاية، في بحور الدماء والخراب. فلا يمكن أن ينجو أصحاب العمائم السوداء ومعهم وكيلهم "اللبناني"، عندما يتحطم قارب النجاة الوحيد لهم في كل المنطقة. فإرادة السوريين الأحرار التي قهرت واضعي "اقتصاد التفقير"، و"اقتصاد الفقر وما دونه"، و"اقتصاد التشبيح"، تقهر الآن مبتكري "اقتصاد الهلاك".

الثلاثاء، 2 أغسطس 2011

إيران.. إنقاذ الأسد بالهمجية والمال

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية"



"المصالح ليست من الآليات التي تساعد الناس على العيش، بل هي من تلك الآليات التي تصنع الحرب"
سيمون فيل فيلسوفة فرنسية

 
 
  كتب: محمد كركوتــي
 
ليس أمام النظام القائم في إيران، سوى آليتين مفضوحتين للمساعدة في إخراج يائس وبائس لسلطة بشار الأسد من مأزقها المصيري، الناجم عن ثورة شعبية سلمية عارمة، لا مثيل لها ( من حيث عناصرها ووحشية السلطة) في تاريخ البلاد والمنطقة ككل، كما أنها لا تشبه حتى "زميلاتها" العربيات، بما في ذلك الثورة الشعبية ضد سفاح ليبيا معمر القذافي. ورغم وحشيه وبربرية هذا الأخير، لا يزال دون مستوى "جودة" وحشية وهمجية زميله بشار الأسد. فالأول صعَد من قتله الليبيين، بعد أن حمل الثوار السلاح، بينما الثاني، بلغ أوج مجازره منذ اليوم الأول لثورة لم يحمل فيها الثائرون سكين مطبخ، وأطبق حصاراً على المدن والمناطق والأرياف منذ اليوم الثاني لها، وقتل حملة الزهور والشموع في يومها الثالث، ونشر الدبابات مكان السيارات العائلية في اليوم الرابع. ومع اتمام الثورة السورية شهرها الرابع، اكتسبت الفرق العسكرية، والأجهزة "الأمنية"، وعصابات الحرس الثوري الإيراني ومعها عصابات حزب الله اللبناني، ولا بأس من خبراء فنزويليين.. اكتسبت بجدارة صفة القوات المحتلة، بينما المحتل الإسرائيلي يعربد في الجولان منذ أكثر من 44 عاماً، بل ويُصدر الأوامر المُطاعة لقوات الأسد!

الآلية الإيرانية الأولى، لإنقاذ يائس لسلطة بشار الأسد، هي تلك التي تُستخدم الآن في كل بقعة من الأرض السورية، وهي تستحق بدون منازع (مع "زميلتها" الأسدية) صفة "الآلية الهمجية"، لأنها ببساطة توفر أبشع "المنتجات". القتل والسحل والترويع والتهجير والاعتقال.. جزء أصيل منها، بالإضافة طبعاً، إلى التعذيب والإخفاء القسري والتجويع والإهانة والحصار ومداهمة المنازل. والمشكلة التي تواجهها سلطة الأسد (مع النظام المنتظِر للمهدي لـ "حل مشاكل الكون")، هي أن الآلية الموحدة بينهما، صدأة في مساحة زمنية قصيرة جداً جداً، تستحق الدخول في منافسة ضمن موسوعة "غينس" للأرقام القياسية. فمنذ الأيام الأولى للثورة السورية، لم تعد هذه الآلية قادرة حتى على منع متظاهر واحد أعزل، من الخروج طالباً للحرية، ولم ينفع وجود القناصين المرابطين على أسطح المنازل والمباني، في تخويف هذا المتظاهر أو ذاك. وقد بات مؤكداً، من خلال استعراض للمشهد العام في سورية، أن سلطة الأسد ومعها نظام العمائم السوداء (أو البيضاء، لا فرق)، لن ينجحا في إيقاف زخم التظاهر السلمي العَصي على الإخماد، حتى لو استوردا قناصاً واحداً لكل مواطن، وحتى لو حاصرا الأحياء، حياً.. حياً، وحتى لو احتلا المنازل، منزلاً.. منزلاً. والحقيقة أن النظام الإيراني أخطأ، عندما اعتقد بأن آلته الوحشية، التي نالت من الانتفاضات المتكررة ضده في إيران، يمكن أن تنال بالتحالف مع مثيلتها الأسدية، من ثورة الشعب السوري. فإرادة المقاوم (حتى سلمياً) من أجل المستقبل الحر، لا تقف أمامها إرادة ممسك بأوهام الماضي، مهما بلغت سماتها الوحشية والهمجية.

فشلت الآلية الأولى. والأصح أنها تفشل على مدار الساعة في سورية. فالدبابة أصبحت هشة، كما السلطة التي نشرتها، والقناص بات مرتعداً، كما رئيس العصابة الذي خصص له مكان تمركزه، والفرد "العسكري" أضحى خائفاً، كما قائده الذي أصدر له الأوامر. حسناً.. يقول النظام الإيراني، علينا بالمال. أخذ هذا النظام، يستعرض التجارب "الناجحة" لآليته المالية في لبنان، وكيف استطاع عن طريق ذراعه السورية- اللوجستية هناك، توفير مزيد من المتانة لأرضية المندوب الإيراني- اللبناني حزب الله، وكيف استطاع (حتى بعد الخروج المُهين لقوات الأسد من لبنان)، مواصلة رص أرضية الحزب وميليشياته، عبر نفس الذراع، لكن بعد أن تحولت إلى سرية مفضوحة! لا سيما بعدما تكرست الممانعة والمقاومة، كنكتة سمجة، ليس لبنانياً وسورياً وعربياً وعالمياً فحسب، بل إسرائيلياً أيضاً. يقول نظام طهران، دعونا نجرب الجانب المالي لإخماد الثورة السورية، ليس عن طريق دعم الاقتصاد الوطني الذي لا يقوم على أسس معلومة، ولكن عبر المساعدات وفق "استراتيجية الدكاكين". يقول هذا النظام الخائف على سلطة الأسد، لا داعي لدراسة الأمر، لقد طبقنا هذه الاستراتيجية سابقاً في لبنان عن طريق مندوبنا هناك، دعونا ننسخ الاستراتيجية نفسها عبر حليفنا نفسه.

على الفور أطلق نظام طهران حزمة مساعدات تصل إلى 5,8 مليار دولار أميركي، غير أن هذه الحزمة لن تدخل في هيكلية الاقتصاد (المتهاوي)، إلا في الجزء الخاص بتوفير مرتبات لأجل ليس طويلاً لموظفي الحكومة (وذلك في محاولة لتأخير انطلاقة جامحة وطبيعية لعصيان مدني آت)، أما الباقي الأعظم من الأموال الإيرانية، فهو عبارة عن هبات لشراء تأييد شعبي لسلطة الحليف الاستراتيجي. ففي عز الهدوء والاستقرار في سورية (التي يُفترض بأنها الحليف الاستراتيجي الأكبر، بل والوحيد للنظام الإيراني)، لم تستثمر إيران أكثر من مليار دولار أميركي، ذهبت نسبة كبيرة منها إلى حسابات (الغالبية العظمى من هذه الحسابات في إيران ولبنان) للعائلة الحاكمة المالكة، وبعض أركان السلطة، إلى جانب المشاركة في مصنع للسيارات، تباع منتجاته للسوريين بالترهيب قبل الترغيب! ولا بأس من مشروعات غير إنتاجية، يستفيد منها الإيرانيون، لاسيما أولئك الذي حولوا سورية إلى حج لهم! بعد أن تجاوز عدد الحسينيات في مختلف أنحاء سورية، أعداد السوريين العاملين في المشاريع "الاستثمارية" الإيرانية!

حولت المساعدات الإيرانية على مدى السنوات الماضية بشار الأسد، إلى تابع مطيع للنظام الإيراني. وبينما كان الأسد الأب يعمل مع طهران لاستكمال استراتيجيتها التوسعية الخطيرة والمريعة الخاصة بالمنطقة ككل، عن طريق "قلب العروبة النابض"، أصبح الأسد الابن (الوارث غير الشرعي لبلد بأكملها)، يعمل عند إيران. وعن طريق المساعدات الجديدة، يسعى نظام طهران، إلى تحقيق هدفين اثنين. الأول: إنقاذ سلطة الأسد المتهاوية، والثاني: شراء ولاء الشعب السوري، على طريقة شراء ولاء الموالين لحزب الله في لبنان. ومن أجل ذلك بدأ بالفعل في الأسابيع القليلة الماضية، بعمليات "رشى شعبية" بتنظيم من وكيلها القابع في دمشق. أخذت الأموال تظهر هنا وهناك، والمبالغ الملوثة كبيرة، لكن طهران أخطأت (ومعها الوكيل) مرة أخرى، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة. فالوطنية السورية، لم تكن بضاعة، حتى في عز ممارسة الأسد الأب سياسة الابتزاز، التي استهدفت العرب قبل غيرهم. فلم يكن تاجراً دمشقياً أو حلبياً أو حمصياً أو حموياً، كان تاجراً آتياً من مسرحية شكسبير الشهيرة (تاجر البندقية). لقد كان شايلوك نفسه في عصر حديث. والوطنية السورية لن تكون بضاعة، في ظل سلطة الأسد الابن الآيلة إلى السقوط. لن تشتري الأموال الإيرانية الملوثة، سورياً حراً واحداً، رغم أن شخصاً واحداً يسقط شهيداً كل ساعتين، وآخر يصبح مفقوداً كل ساعة، وجريحاً كل 15 دقيقة! وهذه الإحصائيات المريعة، ليست من عندي، بل هي لـ "منظمة العمل السياسي الدولية" المعروفة اختصاراً باسم "آفاز".

لم تع إيران بعد، أن ما ينفع في جنوب لبنان لا ينفع في سوريا، حتى وإن تساوت ميليشيا حزب الله مع قوات الأسد.