الأحد، 26 أغسطس 2012

المهديان الإيراني الروسي في خدمة الأسد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"استعدوا لمهمة الإمام المهدي المنتظر، وخوض آخر الحروب تحت قيادته"
                                                                               علي خامنئي المرشد الأعلى لإيران  


كتب: محمد كركوتــــي


يبدو أن هناك أكثر من مهدي ''منتظر'' بجنسيات مختلفة في هذا العالم. ولولا حرب الإبادة التي يشنها سفاح سورية ضد شعبه لما ظهر هؤلاء. فهناك على الأقل مهدي إيراني وآخر روسي (الإيراني يحمل الجنسية اللبنانية أيضاً، ولديه وثيقة إقامة دائمة سابقة في العراق). ولأنهما يعملان لحساب الأسد، فهما بلا شك ينسقان جهودهما وبركتهما وتوزيع المهام والاختصاصات إلى ''مهادي'' آخرين - إن جاز الجمع. فهناك ''مهدي سياسي'' و''مهدي عسكري'' و''مهدي مالي'' و''مهدي نفطي'' و''مهدي تشبيحي''، إلى آخر الاختصاصات التي يحتاج إليها سفاح سورية. لقد استدعي جميع ''المهادي'' إلى الخدمة، بمن فيهم النظاميون والاحتياط، من أجل الإبقاء على الأسد. إنهم ببساطة في نفير عام! إنهم من وجهة نظر علي خامنئي يقودون الحرب الأخيرة! والحقيقة لم يكن لي جهد في الكشف عن وجود المهدي المنتظر إلى جانب بشار الأسد، فقد ''اعترف'' بذلك رسمياً (نعم رسمياً) أحمدي نجاد رئيس إيران نفسها. ولو كنت روسياً، لاحتججت على قبول الرئيس فلاديمير بوتين ''السيليكوني'' بالمهدي الأجنبي لمساعدته على مساعدة الأسد. فقد كان عليه أن يستحضر الروسي راسبوتين ''الخارق''، الذي (على الأقل) كان حاضراً في التاريخ وليس وهمياً. لكن من يتحدى بوتين؟ لقد منح المهدي الجنسية الروسية فوراً، وعفا نفسه من جلسة لاستحضار روح راسبوتين. مهلاً.. أليس الرئيس الروسي نصف سمي راسبوتين؟ إنه بوتين.
بعد أن أفرغ ''المهدي النفطي'' الإيراني حمولته للأسد وعصاباته من الوقود (المازوت والبنزين وغيرهما)، وأعلن عجزه عن استمرار التوريد، لأسباب مفهومة، أعطى الإشارة إلى ''المهدي النفطي'' الروسي للتحرك. فرغم أن إيران تحتل المرتبة الرابعة في قائمة الدول المصدرة للنفط الخام (قبل العقوبات)، فهي تستورد أكثر من 40 في المائة من احتياجاتها من الوقود، فضلاً عن أنها تعيش حصاراً اقتصادياً غربياً شاملاً، لأنها مصممة (حتى استكمال الخراب الكلي) على الوقوف ضد منطق التعايش والتفاهم، وفق حراك المجتمع الدولي.
لم يتقاعس ''المهدي الروسي'' عن واجباته حيال الأسد، فقد لبى النداء، و''أقنع'' بوتين بضرورة توفير المنتجات النفطية بصرف النظر عن تفاصيل الاتفاق المقبولة (بكل الأحوال)، سواء كانت تتضمن مقايضة النفط السوري الخام المنهوب، أو تحويل الصادرات إلى قروض يدفعها الشعب السوري لاحقاً، كما يدفع ثمن السلاح الذي يقتله. وبذلك سترسل روسيا الآليات العسكرية بكل أنواعها ومصائبها إلى الأسد، على خزانات من الوقود لتشغيلها. وطبقاً لمصادر روسية تكتسب أهمية، فقد طالب الرئيس الروسي بضرورة عدم الانغماس في تناول هذا الموضوع علانية، ربما لصيانة ''البركة'' وحمايتها من عين الحسود. الأمر نفسه ينطبق على القرض المالي الذي طلبه الأسد من بوتين، وينطبق أيضاً على الإمدادات العسكرية للأسد وعصاباته، لا سيما بعدما أعلنت موسكو أنها ستوقف توريد الأسلحة له. الكتمان أفضل وسيلة ''لفقء عيون الحاسدين''.
يشكل النقص في الوقود لدى الأسد مصيبة متنامية بمخاطرها الاستراتيجية. فبعد توقف الإمدادات الإيرانية للأسباب المعروفة، تراجعت الإمدادات العراقية أيضاً، لأسباب لوجستية، بعد أن سيطر الثوار السوريون على عدة معابر على الحدود المشتركة بين سورية والعراق، وأخرى ترتبط مباشرة باحتياجات العراق نفسه لهذه الإمدادات. أما الإمدادات التي تلقاها الأسد من فنزويلا، فلم تستند أساساً إلى بُعدٍ استراتيجي. كانت ولا تزال ''فشة خلق'' أكثر منها خطة متكاملة ومستدامة، تضاف إلى ذلك المصاعب اللوجستية الكبرى، لا سيما في ظل شبه الحصار البحري الذي تفرضه الدول الكبرى على الأسد، ضمن نطاق عقوباتها عليه.
لقد فشل سفاح سورية (حتى الآن) في عقد صفقات التفافية بقيم عالية في هذا المجال مع عدد من الشركات الأوروبية والآسيوية، خصوصاً بعدما تلقت تحذيرات متجددة من حكومات الدول الفارضة للعقوبات من أنها ستلقى هي نفسها عقوبات (وربما أحكام قضائية) لن تقوى على مواجهتها لفترة طويلة، إذا ما ساعدت الأسد على استراتيجية الاحتيال. ولذلك كان لا مناص من لجوء هذا الأخير إلى روسيا، التي أثبتت منذ اندلاع الثورة الشعبية في كل أنحاء سورية أنها لا تحتاج حتى إلى جهود ''المهدي النفطي الروسي''. فالذي وقف إلى جانب الأسد قبل أن تصل الحالة إلى مرحلة الاستعانة بـ ''المهادي''، والذي منع كل شكل من أشكال المبادرات لوقف قتل الشعب السوري، والذي يقاتل من أجل تكريس حكم الأقلية (بل والعائلة) في سورية إلى الأبد، والذي يبرر قتل المدنيين بطائراته المقاتلة وبارجاته الحربية وغيرها، والذي ضرب ما أمكن له من مسببات الانفراج الدولي من أجل حماية رقبة الأسد؛ لا يحتاج إلى ''بركات'' أي ''مهدي'' كان. ومع ذلك.. ليكن ''الخير'' خيرين، أو ثلاثة أو أربعة.
لكل ''مهدي'' دوره في حرب وحشية حقيقية على شعب أعزل. لكن مصيبة سفاح سورية ومعه بوتين وخامنئي، أنهم لن يعثروا على ''مهدي'' يضمن لهم الانتصار في هذه الحرب. ورغم وحشية الحرب، فقد أوصلتهم ''المهادي'' إلى أوهام نصر توازي وهم عودة ''المهدي'' نفسه، الذي يقود – حسب خامنئي - الحرب الأخيرة.

مصارف للغسل والتبييض و«الكي» والتعليق

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''المكاسب والأرباح حلوة.. حتى لو أتت عن طريق الخداع''
سوفوكليس أديب إغريقي

كتب: محمد كركوتــــي
ترتكب المصارف الكبرى جرائم و''فظائع'' بوزنها، وتلك الصغرى جرائمها بحجمها. وتركيبة المصارف (بصورة عامة) غريبة، ويبدو أنها ستظل حاملة لغرابتها. فالمؤسسات المالية الوهمية تنتج مصائب حقيقية، وهي الوحيدة التي لا يفرز فيها الوهم وهما، إلا عند الضحية (الضحايا). فلا غرابة إذن.. من أن عدد الذين يخشون المصارف في العالم أجمع، يزيد أضعاف أضعاف أولئك الذين يحبونها. وإذا كان ''الحب'' والخشية منها المصارف ينسحب على الأفراد، فهو أيضا يصيب الحكومات نفسها، التي من المفترض أن تشكل مصدر خوف وخشية (وحتى رعب) للمصارف! ومع ذلك، لا يوجد شيء اسمه ''عار مصرفي''، هناك ''اعتذار مصرفي'' غالبا ما يكون مقبولا من الجهة المتضررة. وفي أحسن الأحوال، يتكلل الاعتذار بغرامة مالية، وهي في معظم الأحيان لا تشكل عبئا على المصرف، الذي عادة ما يدفع من ''الجمل إذنه'' لا بدنه، ومن ''الفيل ذيله''، ومن ''الديناصور ظفره''! ولأن العقاب لا يكون على قدر هول الفعل، فالمصارف تحتال وتختلس وتتجاوز وتخرق القوانين، بحرية وسرية. إرهاب، مخدرات، تجارة بشر، غسيل أموال، تبقى أعمال ''مشروعة'' إلى أن تنكشف. وكم من هذه الأعمال بقيت في ملاذ السرية ''الناجحة''؟
من يملك القدرة على كتم ذهوله، من اتهام هيئة الخدمات المالية في ولاية نيويورك الأميركية، لمصرف ''ستاندارد تشارترد'' البريطاني، بإخفائه صفقات لمن؟ لإيران، بقيمة ماذا؟ بـ 250 مليار دولار أميركي! وماذا فعل هذا المصرف أيضا؟ ترك النظام المالي الأمريكي هشا أمام الإرهابيين، ومعهم مهربو الأسلحة والمخدرات والأنظمة السياسية الفاسدة! وكم كانت أرباح المصرف نفسه؟ مئات الملايين من الدولارات. كل هذا يجري، والدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تفرض عقوبات تلو الأخرى على النظام الملالي في إيران، بعد أن رفض على مدى سنوات طويلة، أن تكون بلاده جزءا طبيعيا من منظومة المجتمع الدولي. ولأن الأمر كذلك، فاقتصاد إيران لا يتأخر انهياره، إلا من عبر عمليات الاحتيال، التي تجد دائما المؤسسات المالية الكبرى والصغرى الحاضنة لها، في أي وقت وأي مكان. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن ''ستاندارد تشارترد'' ــــ حسب الوثائق التي تجمعت ضده وتقع في 30 ألف صفحة ـــ أجرى في ست سنوات 60 ألف عملية دفع وتحويل مختلفة بالدولار الأمريكي، عبر فرعه في نيويورك فقط!
بالطبع هذا المصرف ليس الوحيد (ولا الأول) الذي يمارس الأعمال السرية المشينة والخطيرة. ومن المصارف الكبيرة يأتي ''إتش إس بي سي'' ــــ ثاني أكبر مصرف في العال ــــ الذي وفر لنظام خامنئي، ما يحلم به من قنوات مالية سرية احتيالية دنيئة، ضاربا بكل القوانين العقابية التي فرضتها الحكومات الغربية على إيران، واستفاد حتى نظام سفاح سورية بشار الأسد (الذي اتخذ من شعبه كله عدوا له)، من هذه القنوات وغيرها، نتيجة التداخل المالي الاحتيالي بين النظامين في كلا البلدين، واستنادا إلى الحلف السرطاني بين الأسد وخامنئي. مصارف كثيرة بأسماء كبيرة تخرق العقوبات الأمريكية (والغربية عموما)، من بينها ''باركليز'' و''مجموعة لويدز'' البريطانيتان، و''كريدي سويس'' السويسري، و''آي إن جي'' و''مجموعة إيه بي إن أمرو'' في هولندا.. إلى آخر السلسلة.
ويعترف المسؤولون الغربيون، بصعوبة حصر مكامن خرق العقوبات كلها، حتى لو تم تحديد المصارف والمؤسسات المالية المشبوهة. ولعل هذا ما يساهم في تفسير محتوى رسالة إلكترونية لأحد كوادر ''ستاندارد تشارترد'' تم ضبطتها من قبل السلطات الأمريكية. فقد جاء بالحرف ''من تظنون أنفسكم أنتم الأميركيون لتقولوا لنا ولبقية العالم بوجوب عدم التعامل مع الإيرانيين''. وهذا أيضا يوضح ما قاله بنجامين لوسكي المشرف على الخدمات المالية في نيويورك في تقريره حول المصرف نفسه بأن ''ستاندارد تشارترد، مؤسسة محتالة خططت بعناية لخداع السلطات الأميركية، قامت باستخدام إجراءات مزورة، وسجلات تجارية زائفة من أجل تستر منقطع النظير على عملياته''.
أوجدت التحقيقات في حجم وهول تورط ''ستاندارد تشارترد'' في الإرهاب الإيراني وما يتصل به، ذهولا لن يزول بسهولة لدى المسؤولين الأمريكيين، خصوصا فيما يرتبط بحبكة العمليات الاحتيالية وتشعبها وتداخلها. لكن في النهاية، هذا هو القطاع المصرفي العالمي، الذي لم يخضع بعد إلى الإرادة التنظيمية بصورة كاملة، رغم كل القيود التي فُرضت عليه في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى. وهذا القطاع لا يختلف (في غالبيته) سلوكيا عن مرابي دنيء، لا يسعى إلا لتحقيق الربح المضاعِف لا المضاعَف، وليس مهما شكل وطبيعة الأدوات لتحقيق هذا الهدف. أموال منهوبة من الشعوب المحتاجة، وأخرى ناتجة عن تجارة الرقيق والمخدرات والسلاح.. أموال ''متوالدة'' من منظمات إرهابية، كلها قابلة للغسل والتبييض و''الكي'' والتعليق. وهذا كله يوفر البيئة المثلى لأنظمة مارقة (كنظامي الأسد وخامنئي)، خصوصا أن هذين النظامين، لا يشتغلان في السياسة، إلا عبر لوائح العصابات وقطاع الطرق. وإذا كانت بعض المصارف تحتال على الأفراد وتحول حياتهم إلى جحيم متواصل، فإن بعض المصارف الأخرى، تحتال على أمم بأكملها. إنها بالفعل ترتكب جرائم ضد الإنسانية.

وهْم المقاومة الاقتصادية في إيران

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''استعذ بالله من الفقر. إنه منقصة للدين، وداعية للمقت، ومدهشة للعقل''
الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

كتب: محمد كركوتي:
تنقل بعض المواقع على الإنترنت عن مجلة إيرانية تصدر في مدينة قم باسم ''باسدار إسلام''، ''أن المهدي - المنتظر - يتصل فقط بعلي خامنئي مرشد الثورة في إيران''. وهذا يعني أنه يتصل بأي ''آية'' من ''الآيات'' المنتشرة في البلاد، وبالتأكيد لا يفكر بالاتصال بأي ''حجة'' من ''الحجج'' فيها. ولا تتوقف المجلة عند هذا الحد في كشفها عن الاتصالات ''الخارقة'' بين الجانبين، بل تنقل هي نفسها عن خطيب في أحد مساجد طهران يدعى كاظم صديقي قوله: ''إن الاتصالات بين المهدي وخامنئي تتم أحياناً عبر الهاتف الثابت أو المحمول''! دون أن يحدد هذا الخطيب هوية الشبكة الهاتفية التي يشترك فيها المهدي. أمام هذه المعلومات ''المذهلة'' يحق لنا أن نسأل سؤالاً واحداً فقط على الأقل: لماذا لا يطلب خامنئي من المهدي حلاً فورياً خارقاً للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها بلاده، والتي تتجه بالفعل لنقل المجتمع الإيراني إلى مرحلة الجوع بعد الفقر؟ هل انتهى رصيد ''المخلص''، أم رصيد ''المرشد''؟ حسناً، هل عجز هذا الأخير عن تسديد فاتورة الهاتف الثابت، الأمر الذي أجبر شركة الهواتف على قطع خدماتها؟!
من أسوأ المحن في أزمة إيران الاقتصادية أن النظام الحاكم فيها يعيش وهم التغلب عليها. والأسوأ أن كل المعطيات التي أثبتت فشله لم تدفعه خطوة واحدة خارج ''استراتيجية الوهم'' التي أضيفت إلى استراتيجيات أخرى عديدة في هذا البلد، كـ ''استراتيجية الاحتيال''، و''استراتيجية الهلاك''، و''استراتيجية الخراب''، و''استراتيجية الفتاوى''، و''استراتيجية الشر''.. إلى آخر تلك الاستراتيجيات التي وضعت البلاد في مواجهة المجتمع الدولي. بات الوهم ممنهجاً، والعناد مخططاً، والعقل مشتتاً، إن وجد أصلاً لدى هذا النظام، الذي قرر مواجهة المنطق وحقائقه لمجرد المواجهة. وبينما يستشري الجوع في حضرة الفقر، والمصائب في سياق النكبات، لم يُظهِر نظام الملالي مؤشراً واحداً لاحتواء ما يمكن احتوائه، في حين يواصل تجاهله ليس فقط لبعض الأصوات الحكيمة التي تدعو إلى تفعيل العقل، بل أيضاً للأرقام والإحصائيات المخيفة التي تُصدرها مؤسسات النظام نفسها. وإذا كان هذا النظام يتهم أصحاب تلك الأصوات بـ ''الانهزاميين''، كيف له أن يهزم حقائق الأرقام، ''والبلاغة الاقتصادية'' للإحصائيات؟!
يعترف البنك المركزي الإيراني بوجود أكثر من 14 مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر. ويرى الإصلاحيون في طهران أن عدد الفقراء أكبر من ذلك، لأنه لا يشمل ما بين 2 و3 ملايين شخص يعيشون في فقر مدقع، مطلق، لا حدود له. ويؤكد عادل آذر رئيس مركز الإحصاءات في إيران، أن أكثر من 30 مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر النسبي. ولا شك في حقيقة هذه الأرقام إذا ما تذكرنا أن وزير الشؤون الاجتماعية عبد الرضا مسري أعلن في عام 2007 وجود 9.2 مليون فقير في مختلف أنحاء إيران، يشكلون 10.5 في المائة من سكان المدن، و11 في المائة من سكان الريف. ومنذ ذلك العام وحتى اليوم شهد الاقتصاد الإيراني انتكاسات متسارعة رفعت تلقائياً عدد الفقراء ومعهم عدد الجائعين. وفي عام 2008 بلغت نسبة التضخم في البلاد 26 في المائة، وواصلت الارتفاع التلقائي أيضاً إلى أن بلغت الضعف اليوم. هذا التضخم الذي يزيد بشكل أكبر في قطاع المنتجات الأساسية لم يتم تعويضه برفع الأجور، وهذا ما بدا واضحاً في اعتراف علي دهقان كيا عضو الهيئة الرئاسية لـ ''مراكز الشورى الإسلامية للعمل في طهران'' بأن 70 في المائة من العمال في إيران يعيشون اليوم تحت خط الفقر. وإذا كان هذا هو حال من يعمل، فيكف الحال بـ ''جيوش'' العاطلين عن العمل؟! وهؤلاء يمثلون واقعياً 45 في المائة من حجم القوى العاملة.
يأتي هذا الخراب المعيشي وسط هروب رؤوس الأموال، ما أدى إلى انهيار الحراك الصناعي والإنتاجي في البلاد. وطبقاً لرئيس غرفة العمل علي رضا، فقد أغلق في العام الماضي نحو 1200 مصنع ومنشأة إنتاج وتصنيع صغيرة ومتوسطة وكبيرة، وهو ما يوازي 80 في المائة من مجموع منشآت التصنيع والإنتاج في البلاد. ومع تضخم يزيد على 40 في المائة، ونقص شديد في السلع الاستهلاكية والأولية، إضافة إلى اعتماد إيران على استيراد 40 في المائة من احتياجاتها من الوقود (رغم امتلاكها ثالث أكبر احتياطي نفطي، ورابع أكبر مصدر في العالم)، وبوجود نصف الشعب تقريباً بين رحى الفقر المتعدد الأنصال.. يسود إيران اليوم اقتصاد الخراب بكل مآسيه وتبعاته، ومخاطره. ولا يرى نظام الملالي هناك، سوى ''التعبئة الشعبية''، بعد أن أغلق كل المخارج عمداً، استكمالاً لـ ''استراتيجية الوهم''.. تلك الاستراتيجية التي أزاحت في التاريخ القديم والحديث، كل الأنظمة الشريرة التي اتبعتها. وليس على خامنئي إلا أن يراجع بعض المحطات في التاريخ، حتى وهو ينتظر مكالمة هاتفية، أو رسالة نصية من المهدي ''المنتظر''. هذا إن بقي رصيد لدى الطرفين.

بوتين «السيليكوني» .. القتل عدة مرات لضحية واحدة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''لكل إنسان يومه.. وبعض الأيام تكون أطول من غيرها''
ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الراحل

كتب: محمد كركوتــــي
لا جدال في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرغب في قتل الشعب السوري أكثر من مرة. ولو حقن ''ودياناً'' من السيليكون في وجه (في إطار عمليات التجميل التي يُجريها دورياً، كأي راقصة أو مغنية)، لن يزيل ملامح القباحة عن هذا الوجه، ليس فقط عند الشعب السوري الحر، ولكن أيضاً عند أولئك الذين لا يزالون يفضلون الاختباء وراء موقفه، المعطِل لحماية السوريين من حرب الإبادة التي يشنها سفاح سورية بشار الأسد، والتي أطلق في إحدى مراحلها لواء خاصاً للتطهير الاجتماعي أيضاً. في الحرب يُقتَل المرء مرة واحدة، لكن في السياسة والاقتصاد يُقتَل مرات عدة. وبوتين الذي ضمن للأسد كل ما يحتاج إليه من سلاح (وربما منحه سلاحاً نووياً لو طلب ذلك) قبل الثورة وعززه بعدها، يضمن أيضاً لهذا السفاح سلاحاً، حتى بعد سقوطه الحتمي. فقد أراد للأسد أن ينعم بشيء من الانتصار، حتى لو انتهى هذا الأخير بحفرة أو في ماسورة مجاري، أو في منتجع إيراني أو روسي أو حتى زيمبابوي. ومن المفارقات أن هذا النوع من السقوط الحتمي، يتوازى واقعيةً مع نوعية التحالف الشيطاني بين قائد لمافيا سياسية اقتصادية عسكرية، وسفاح لشعب بأكمله.
قبل عدة أشهر، سمح بوتين للمافيا الروسية التي يقودها مرة.. وتقوده مرات، أن تشتري كميات هائلة من الذهب الذي نهبه الأسد وعصاباته من احتياطي الشعب السوري. ولم الاستغراب؟ هل للمسروقات أفضل من ''سوق'' تسيطر عليها العصابات، ويحكمها ''تجار'' يحملون مسدسات مكتومة الصوت؟ لم يبق في سورية الآن جرام واحد من ذهب الشعب. بل أن شبيحة الأسد (قطاع الطرق)، لم يتركوا جراماً واحداً من ذهب في المنازل التي هدموها على رؤوس أصحابها في مختلف المدن والمناطق في البلاد، والبيوت التي احتلوها، بعد أن تمكن ساكنوها (المحظوظون) من الفرار والهرب في كل الاتجاهات. لقد ذَهَبَ ذَهبُ الشعب وأفراده أيضاً!
بوتين أيضاً، وفي سياق قتله للسوريين أكثر من مرة، شجع من لا يحتاج إلى التشجيع (الصين) لشراء شيء من سندات الخزينة التي لا يزال الأسد يسوقها بحثاً عن مزيد من الأموال، لسرقة بعضها أولاً، ولتمويل حرب الإبادة، خصوصاً بعدما توقفت الإمدادات الإيرانية المالية الشيطانية لهذا السفاح، بسبب الخراب الاقتصادي الذي تعيشه إيران، بينما لم تنفعها وعود ونفحات المهدي المنتظر، للحد من هذا الخراب. ويبدو أن هذا المهدي مشغول بنفحات للأسد قاتل الأطفال وعدو الحياة، في الوقت الراهن. وماذا يفعل الرئيس الآتي إلى الكرملين على طريق تدوير السلطة قسراً؟ يسمح للمطابع الروسية بطباعة أوراق نقدية سورية لا سند ولا غطاء لها. وهذا يعني ببساطة، أن فاتورة ''مسروقات الأسد'' ستكون واجبة على الشعب السوري، حتى بعد أن يقع في أيدي هذا الشعب، في نهاية يتمناها كل سوري حر. ولا ننسى التسهيلات الاحتيالية التي يوفرها رئيس روسيا للأسد، في تهريب النفط السوري، مخترقاً العقوبات الغربية المفروضة على هذا القطاع. فقد عبر أتباع الأسد من ''المسؤولين'' صراحة عن سعادتهم في النفاذ من الحصار والاستمرار في تصدير النفط ومشتقاته، بالتعاون مع موسكو.
مهلاً، لم تكتمل عناصر القتل المستدام للسوريين على أيدي بوتين ''السيليكوني''. يريد هذا الأخير أن يتمتع بمعاناة الشعب السوري، حتى بعد أن يسقط الأسد. ولا بأس في أن يقوم بدور المصاص، فهو خبير بمكامن الشرايين. يدرس بوتين طلباً نقله إليه محمد جليلاتي وزير مالية الأسد للحصول على قرض بالعملة الصعبة. ولأن السلطة في سورية تكذب منذ أكثر من أربعة عقود، وفق منظور استراتيجي، لم يتردد هذا الوزير في القول ''لدينا احتياطات كافية من القطع - النقد - الأجنبي، لكن الظروف الحالية تتطلب وجود أموال إضافية''! حتى استراتيجية الكذب فرغت من مخزونها. كيف يمكن أن تكون هناك أموال كافية، ومعها الحاجة لأموال إضافية؟! الصحيح أن خزائن البنك المركزي ''السوري'' اسمياً والأسدي فعلياً، بدأت في تناقص مخزونها بصورة مذهلة، منذ انطلاق الثورة الشعبية العارمة في البلاد. وحسب التقديرات التي اتفقت عليها جهات محايدة، لا تحتوي هذه الخزائن في الوقت الراهن أكثر من ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار أمريكي، على أعلى تقدير، هابطة مما يقدر بـ 18 مليار دولار!
ولأن القرض المطلوب مسروق سلفاً، كما بقية القروض والمساعدات والمعونات التي خُصصت لسورية منذ احتلال السفاح الأول حافظ الأسد السلطة فيها، وصولاً إلى ما تبقى لوريثه المغتصِب من أيام، فقد امتنع جليلاتي عن تحديد قيمة هذا القرض. فقط علينا أن نتخيل الشروط والقيود التي سيتضمنها أي اتفاق من هذا النوع، قبل أن نخمن حجم القرض. لقد أمن فلاديمير بوتين لنفسه انتقاماً متواصلاً من الشعب السوري خلال وجود الأسد، وبعد سقوطه وعصاباته. ستكون القروض والديون أداة غير عسكرية روسية لخنق شعب، يبحث حتى اليوم عن سبب مباشر لحقد شخصي من متجمل قبيح.

الأسد يترك الجوع يستكمل الإبادة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''في سورية نظام حقير عليه أن يرحل''
فرانسوا هولاند رئيس فرنسا

كتب: محمد كركوتــــي
في سورية، لا يمكن لأحد أن يدعي أنه يستطيع تقييم مستوى الخراب الذي يلحق بهذا البلد على مدار الساعة. لسبب واحد، هو أن آلة التخريب التي أطلقها سفاح سورية بشار الأسد على الشعب برمته، لا تتوقف.. لا تتعطل.. لا ينقطع عنها الوقود.. بل لا تحتاج الصيانة. فهي متجددة دائماً، عبر جسور الإمدادات الروسية. روسيا التي تذرف الدموع بكل أنواعها، خشية على مستقبل الأقلية (الأقليات) في سورية، وتشارك مباشرة بعيون دامعة، في سحق الأغلبية. فلاديمير بوتين يبحث من خلال الخشية الروسية القاتلة، عن صدى لم يعثر عليه على أرض سورية، وإن عثر على شيء منه خارجها. لماذا؟ لأن أصدقاء الشعب السوري استسهلوا الاختباء وراء الموقف الروسي. وكلما تراجعت التكاليف الناجمة عن هذا الاختباء، ازدادت تكاليف الدم والخراب على الشعب السوري.
يتمنى الواقفون إلى جانب سفاح سورية، شيئاً شيطانياً آخر في سياق حرب الإبادة ضد الشعب السوري. يتمنى هؤلاء، أن يقوم سلاح الجوع باستكمال هذه الحرب، إذا تأكد فشل الأسد في إنهائها عسكرياً. وهذا السفاح الطائفي لا يضيع الوقت. فكل دقيقة محسوبة من مصيره الحتمي، بصرف النظر عن تقاعس الأصدقاء (أصدقاء الشعب السوري)، وعن شر الأعداء. وهو (أي الأسد) يخوض حرب إفناء لسورية وشعبها، بل لتاريخها. ألم يدمر ما أمكن له من الآثار والمواقع التاريخية في معظم أنحاء البلاد؟ وهذه الجريمة بالتحديد تأتي من إيمانه العميق بأن تاريخ سورية لا يمكن أن يخرج عن تاريخ عائلته وطائفته.. تلك الطائفة التي اختطفها من دون مقاومة تذكر من جانبها.
السلاح الآخر المتعاظم ضد السوريين الساعين إلى حرية للأبد، بدأ ''قصفه'' الوحشي، بقيام الأسد وعصاباته بحرق ممنهج للأراضي الزراعية، وقطع المياه عن بعض الأراضي، بل وتلويث مياه الري لتدمير المحاصيل. فمنذ اندلاع الثورة الشعبية في البلاد، اضطر السوريون إلى الاعتماد على مزروعاتهم للعيش، بعد أن نقصت الإمدادات الغذائية بصورة مخيفة. وحتى تلك التي توافرت في الأسواق شبه المغلقة، باتت صعبة المنال، مع ارتفاع فلكي في أسعارها. لقد بلغ إجرام هذا النظام حداً، أن منعت عصاباته المزارعين حتى من جني محاصيلهم، وتحديداً في المناطق البعيدة عن تلك التي تتمركز فيها طائفته. وفي المناطق التي لم تصل إليها هذه العصابات، تمنع عنها المستلزمات الزراعية، بما في ذلك طبعاً وقود الديزل (المازوت) الذي يستخدم في تشغيل معدات الري، إضافة إلى الحاجة إلى هذا الوقود في تسيير الجرارات والحصادات والآليات الأخرى. وفي السياق ذاته، رفع الأسد أسعار الأسمدة والمبيدات الحشرية، بصورة مدروسة يستحيل معها على المزارع الوصول إليها.
في العام الماضي، لم تحصد سورية سوى نصف محاصيلها الزراعية، بما في ذلك القمح. ومع حلول شتاء العام الجاري، فإن هذه النسبة ستنخفض في أحسن الأحوال، بسبب الخطة الممنهجة للتدمير الزراعي، إلى 30 في المائة، وهناك من يعتقد أنها لن تصل إلى هذه النسبة، على اعتبار أن التصعيد ضد المزارعين يتخذ منحى تصاعدياً سريعاً. وهذا ما يفسر تخلي أكثر من 60 في المائة من أصحاب المزارع والحقول الزراعية عن المزارعين العاملين فيها. فلم يعد لدى هؤلاء القدرة على دفع الأجور. مرة أخرى كل ذلك يجري في المناطق البعيدة عن تلك التي توالي سفاح سورية، الأمر الذي يدخل في نطاق التطهير الاجتماعي، شاء بوتين أم أبى. هل يريد هذا الأخير أن تصبح الأغلبية أقلية، لكي يقتنع بضرورة وقف حرب الإبادة؟
مهلاً.. الجريمة أيضاً لها شكل آخر. فحتى أولئك الذين نجحوا في حصد محاصيلهم في عدد من المناطق السورية، يضع الأسد يده عليها، ومن يستطيع من المزارعين النفاذ من قبضة هذا الأخير، يواجه صعوبات جمة في توزيعها. إنها حرب تجويع بدأت فعلاً، وآخذة في الانتشار مع استمرار هذا النظام الوحشي في السلطة. لو كانت هذه الحرب في ظل نظام أقل وحشية وبربرية، لانقلبت فوراً إلى عصيان مدني يسهم مباشرة (وإن يستغرق وقتاً) في زوال هذا النظام، لكن الأمر مختلفاً في حالة سورية، لأن نظام الأسد لا يشبه أي نظام آخر من حيث وحشيته، ولأن الحرب التي شنها على الشعب السوري متكاملة العناصر ومعها الخراب، ولأنه قتل الروح المدنية في الواقع على مدى أكثر من أربعة عقود، بدأها السفاح الأكبر حافظ الأسد، ويستكملها ابنه الآن.
مع دخول فصل الشتاء في سورية، سيرتفع عدد الذين يحتاجون إلى مساعدات غذائية إلى أكثر من 5 ملايين شخص، وسيرتفع عدد أولئك الذين يحتاجون إلى معونات إنسانية إلى ما يوازي هذا العدد. ببساطة سيكون نصف عدد سكان البلاد (على الأقل) بحاجة إلى إنقاذ إنساني، لا دخل للسياسة، ولا للتوازنات الدولية، ولا لتقاذف المسؤولية به. ولا أعرف إذا كان محامي الشيطان بوتين، يدرك مخاطر إنشاء أغلبية من نوع آخر.

الأسد وخامنئي.. تناغم الاحتيال أيضا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''النظام الإيراني ليس سوى مشاكل، ودائماً كان كذلك''
جاي روكيفيلير سيناتور أمريكي سابق

كتب: محمد كركوتـــــي
تواجه الإدارة الأمريكية (والغرب عموماً) مشاكل ومطبات جمة في تطبيق مُحكَم للعقوبات الغربية المفروضة على نظامي سفاح سورية بشار الأسد، وعلي خامنئي الإيراني. وهي تعرف أن هذين النظامين مستعدان للتحالف والتعاون مع الشيطان من أجل الوصول إلى أعلى درجة من الاحتيال على العقوبات، بما في ذلك طبعاً عمليات غسل الأموال، التي بلغت أعلى مستوى لها منذ عامين تقريباً. فالأخلاق الغائبة عن هذين النظامين تمنحهما مساحة بلا حدود لسيل لا يتوقف من الفتاوى التي تجيز كل شيء وأي شيء. وبغيابها أيضاً، لا مكان لدين يردع، وقيم تمنع، وإنسانية تصد. المهم أن تنفذ استراتيجية الهلاك الشيطانية. وإذا كانت هذه هي سلوكيات الأسد وخامنئي في الحالة الطبيعية، علينا أن نتخيلها في الحالة غير الطبيعية الناجمة عن سلسلة من العقوبات المفروضة عليهما، والتي تتصاعد بصورة متوالية، خصوصاً أنها (أي العقوبات) أثرت وتؤثر بشكل كبير على النظامين المذكورين، وإن كانت (كغيرها من العقوبات) عاجزة عن إسقاطهما، أو إحداث تحول ما في سلوكياتهما.
مع أول موجة من العقوبات على الأسد وخامنئي، تحول الحراك الاقتصادي لكليهما شيئاً فشيئاً إلى طرف ثان للاحتيال عليها، والالتفاف حولها، ولتخفيف ضرباتها، خصوصاً أنهما لم يبديا أي نية في الالتزام بمطالب المجتمع الدولي، بل حتى بحلول وسط معهما. بالنسبة للأسد، التوقف عن قتل شعبه، من خلال حرب الإبادة التي أطلقها على هذا الشعب. وبالنسبة لخامنئي، التوقف عن أحلامه بامتلاك سلاح نووي، سيكون موجهاً في الدرجة الأولى إلى العرب أجمعين، في إطار تنفيذ استراتيجية الهلاك. والطرف الثاني (الأطراف) المؤهل للقيام بأعمال الاحتيال على العقوبات، يجب أن يكون أجنبياً، لا سورياً ولا إيرانياً. لماذا؟ لأن غالبية المحتالين من السوريين والإيرانيين المتعاونين مع الأسد وخامنئي دخلوا إلى قوائم المقاطعة والعقوبات والتجميد، بمن فيهم أولئك الذين استطاعوا الحصول على جنسيات أجنبية مختلفة، أسهموا لسنوات طويلة، في تقديم خدمات الاحتيال لنظام أسدي غير شرعي، ولنظام إيراني غير سوي.
وقد استطاع الأسد وخامنئي بالفعل العثور على جهات أجنبية تساعدهما في الالتفاف على العقوبات، بما في ذلك جهات أمريكية وأوروبية، وقليل من الجهات العربية المرتبطة في الواقع طائفياً بهما، إلى جانب (طبعاً) ارتباطها بفسادهما. وعلى هذا الأساس، كان طبيعياً أن تعلن الولايات المتحدة رسمياً بأنها ستلاحق أجانب يساعدون دمشق وطهران على التهرب من العقوبات الأمريكية، وتمنعهم من الوصول إلى الجهاز المصرفي الأمريكي. وإذا لم تقم بذلك، فهي في الواقع تسهم في خرق العقوبات التي فرضتها. فالعقوبات تعني ببساطة تجفيف المنابع المالية لهذين النظامين الخارجين عن معايير المجتمع الدولي. وعلى هذا الأساس فإن أي منبع مالي (مهما كان بسيطاً) يُحدث فجوة في هيكلية العقوبات.
أثبتت التحقيقات الأمريكية (والغربية)، أن هناك مؤسسات وشركات وشخصيات أجنبية عديدة لا تنتمي إلى الدول التي فرضت العقوبات، تقوم بالعمل الشيطاني لحساب الأسد وخامنئي. بل إن تحقيقات أخرى أظهرت أن نسبة كبيرة من هذه المؤسسات لها ارتباطات مع أخرى أمريكية وأوروبية، من خلال اتفاقات معقدة ومتشعبة يصعب فك طلاسمها الاحتيالية، ما دفع السلطات المختصة إلى فتح ملفاتها أيضاً. فهذه المؤسسات (بصرف النظر عن حجمها ودورها) لا تجد قيمة لما قاله وكيل وزارة الخزانة الأمريكية المتخصص بمعلومات المخابرات المالية، ومكافحة الإرهاب، من أن ''من يحاول التهرب من عقوباتنا، يفعل ذلك على حساب شعب سورية وإيران، وستتم محاسبته على ذلك''. وقد أجبر التهديد بالمحاسبة، بعض المؤسسات الأجنبية المشينة، على التراجع عن تقديم خدماتها المخزية، للنظامين المذكورين.
ومهما بلغت قوة وقدرات الولايات المتحدة (والغرب عموماً) على تعقب المحتالين كمؤسسات وأشخاص، إلا أنها تقوم بمهام صعبة في هذا المجال، ليس فقط لتعدد وتنوع أشكال الاحتيال، بل أيضاً للحاجة إلى وقت ليس قصيراً لاستكمال مهامها. فعلى سبيل المثال، يقوم الأسد وخامنئي باستخدام مؤسسات غير مصرفية، مثل مكاتب الصرافة، وشركات خدمات مالية وأخرى تجارية، وكيانات وهمية (بعضها صغير وآخر كبير) لتسهيل المدفوعات وتحويل الأموال. وفي الحالة العادية يصعب فرض الرقابة على هذا القطاع، فكيف الحال والحالة غير عادية؟! ولذلك فالمهام صعبة التنفيذ، ويحتاج المشرفون عليها إلى تعاون حكومات لدول مجاورة لكل من سورية وإيران، وهو أمر أيضاً ليس سهلاً، بوجود دول مثل لبنان والعراق وروسيا تسيطر عليها حكومات توفر كل أشكال الدعم للأسد وخامنئي.
وفي كل الأحوال، بدأت الحملة الأمريكية - الغربية تعطي ثمارها على الجهات الأجنبية المساندة احتيالياً لنظامي سورية وإيران، إلا أن ''محصولها'' لا يزال دون مستوى المخاطر التي تستهدف العقوبات. المطلوب الآن كشف الأوراق على الملأ، وفضح كل من يوفر الدعم (بصرف النظر عن أشكاله) لنظامين لا يستمران إلا بتطبيق مُحكَم لاستراتيجية الهلاك.

مصبغة حزب الله لغسل الأموال

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''ستصل إلى نقطة تكون فيها عمليات غسل الأموال، وتهريب المخدرات، وتمويل الإرهاب، عبارة عن وحدة متكاملة''.
سيبيل إدموندز، موظفة سابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي.
كتب: محمد كركوتـــي
يستطيع القائمون على القطاع المصرفي اللبناني أن ينفوا (بل ويهاجموا) كل اتهام بتبييض الأموال في هذا القطاع، ويستطيعون أيضاً أن يتغنوا بـ ''احترافية'' القطاع، وأن يعرضوا خبراتهم على من يرغب في تعلم ''الفنون المصرفية''، وأن يكتبوا شِعراً في نزاهة مصارفهم ومكاتب الصرافة وغيرها.. لكنهم لا يستطيعون أن يضمنوا جمع ما يكفي من المُصدِّقين لما يطرحون وما يعرضون وما ''يغنون''. غير أن هذا لا يعني، أن كل المصارف اللبنانية، منغمسة في الغسل والتبييض ''والتجفيف'' الداخلي. لا يزال هناك بعض منها، يقاوم الأموال القذرة التي يوفرها بصورة أساسية نظام سفاح سورية بشار الأسد، وذراعه اللبنانية الطائفية حزب الله، ولا بأس من وجود عصابات من جنسيات مختلفة، تستغل هذا المشهد المصرفي المشين. ففي البيئة القذرة الملوثة لا تعيش إلا الجراثيم والأوبئة.
في مقال سابق لي، كتبت عن ''مصابغ الأسد لغسل الأموال''، وهي في الواقع فروع للمصابغ الرئيسة في لبنان، لأن الحراك المصرفي السوري المحدود، لا يوفر المساحات المطلوبة، لغسل الأموال الناتجة عن كل ما هو مشين ومخزٍ، وخارج عن القوانين الدولية والأخلاقية. الابتزاز، الإرهاب، المخدرات، الاتجار بالبشر والسلاح، التهريب، القتل المأجور، سرقة المال العام، سرقة الآثار، تزوير العملات، الاختلاس، الرشا.. كلها ''قطاعات'' منتجة للأموال القذرة. وكلها توفر ''الاستثمارات'' المطلوبة، لعصابة كحزب الله. ولذلك فقد أتت اتهامات وزارة الخزانة الأمريكية لهذا الحزب، بتبييض الأموال والاتجار بالمخدرات على نطاق واسع، متأخرة جداً، بصرف النظر عن أي مبررات، بما في ذلك تلك الخاصة بـ ''جمع الأدلة''. فقد كان يكفي للمسؤولين الأمريكيين أن يستمعوا إلى موظفين مصرفيين (وصرافين) لبنانيين من الدرجة العاشرة، كي يتأكدوا، من أن مصابغ حزب الله المالية، لم تتوقف يوماً، وأنه ''استثمر'' في كل مجال من المجالات المشينة، بما في ذلك المخدرات بأنواعها وكوارثها.
والحقيقة أن هذا الحزب (العصابة) الإيراني - الأسدي في لبنان، صعَّد من حجم تجارته في المخدرات في السنوات الأربع الماضية، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، التي نالت من كل شيء. وطبقاً للمعلومات التي رشحت من سراديب الحزب وجحوره، فقد واجه زعيمه حسن نصر الله، أسئلة متصاعدة من بعض قياداته حول البعد الأخلاقي لهذه التجارة، فما كان من زعيم مقاومة الأخلاق، إلا أن لجأ إلى مرشده علي خامنئي الذي لم يتردد في إصدار فتوى سرية، تجيز الاتجار بالمخدرات! وربما استعان بـ ''المهدي المنتظر'' في صياغة هذه الفتوى. فإيران هي الدولة الوحيدة التي تبيع الفتاوى السرية، خصوصاً بعد أن انفضح (قبل سنوات طويلة) أمر أحلامها، وطبيعة أوهامها.
وقد عزز تصاعد أعمال الاتجار بالمخدرات من قبل حزب الله وعصاباته المنتشرة حول العالم، تراجع واضح في التمويل المالي الإيراني لهذا الحزب، بعد اندلاع الثورة الشعبية ضد نظام سفاح سورية بشار الأسد، في الوقت الذي تعاني فيه إيران عقوبات اقتصادية شديدة، بسبب برنامجها النووي. فقد أمن نظام الملالي للأسد إمدادات مالية (إلى جانب إمداده بالمرتزقة وقطاع الطرق)، بلغت في عام واحد أكثر من ستة مليارات دولار أمريكي؛ كان من المفترض أن يذهب جزء كبير منها إلى حزب حسن نصر الله. ومع ذلك، لم يؤثر هذا التوجه المالي المصيري بالنسبة لإيران والأسد، في تسليح حزب الله. الذي تأثر مباشرة هو تمويل نشاطاته الإجرامية الخارجية. ففي العامين الماضيين تركزت هذه النشاطات بصورة كبيرة جداً في كل من سورية والبحرين فقط، ولا بأس من بعض العمليات البسيطة هنا وهناك.
المشكلة التي يواجهها حزب الله الآن، أنه يحتاج إلى الأموال، لاستمرار ولاء الشيعة في لبنان له. فبعد أن انكشف (قبل سنوات طويلة) بأنه مجرد عصابة مأجورة، لا حزباً وطنياً، بات عليه أن يمول الموالين، ولا سيما الفقراء منهم. هكذا تعمل العصابات في كل مكان. فليس هناك هدف سام يمكن أن يستثمره، في إبقاء هؤلاء إلى جانبه. وعلى هذا الأساس عليه رفع حجم الإيرادات المالية (بصرف النظر عن طبيعتها) للاستمرار. وبما أن حزب الله (ووراءه نظام الأسد)، يسيطر واقعياً على القرار السياسي والاقتصادي اللبناني، فإن الأمر سهل في تحويل الأموال غير المشروعة إلى أموال نظيفة، عن طريق القطاع المصرفي اللبناني. ولكن المصيبة أن الدول الكبرى، لا تزال مترددة في قضية مؤكدة، وهي أن هذا القطاع ملوث بكل الموبقات المالية، الأمر الذي أفلت القطاع المذكور من عقوبات باتت حتمية الآن أكثر من أي وقت مضى. فالنظام المصرفي اللبناني (بغالبية مؤسساته)، هو بمنزلة مصبغة مالية كبرى ليس فقط لحزب الله، بل أيضاً لسفاح سورية، ولنظام الملالي في إيران. وهذا الثالوث لم يعد يشكل مخاطر على المنطقة فحسب، بل على العالم أجمع. إن الواجب الأخلاقي يحتم تخفيف المنابع المالية ومصابغها، لأنه ليس خياراً.

الأربعاء، 1 أغسطس 2012

موسم الجهاد الاقتصادي في إيران!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"مع الوقت.. الإرادة الشعبية سوف تسود في إيران"
                                     فرانك كارلوتشي وزير الدفاع الأميركي الأسبق 

كتب: محمد كركوتـــــي

لو افترضنا أن هناك في إيران استقرار سياسي اجتماعي، فقد بات مهدد اليوم أكثر من أي وقت مضى. ولو افترضنا أنه بإمكان السلطة الحاكمة في طهران، الاستمرار في سياسة القمع والقتل والتخويف والترهيب والاعتقال ضد الإيرانيين الحالمين بوطن طبيعي مستقر، فإنها تواجه اليوم سلاحاً شعبياً مخيفاً، وهو نقمة مع "كراهية اقتصادية" شعبية لها، وصلت إلى أعلى مستوى، وذلك بسبب التدهور المتكامل للأوضاع المعيشية في البلاد. أما لماذا وصل إلى حد التكامل؟ فلأنه شمل كل شيء، من المواد الغذائية الرئيسية، إلى تذاكر السفر، فالتعليم.. فالسكن.. فالصحة.. فالعمل.. إلى آخره. فالاقتصاد الإيراني اليوم، لا يشبه نفسه، حتى عندما كان تحت ضغط الحرب ومتطلباتها، وقد تحولت أدواته إلى آليات من الاحتيال على الشعب الإيراني، وعلى المجتمع الدولي في آن معاً. لقد وصل إلى مرحلة ما قبل الخراب، التي تصطف بعد مرحلة الأزمة الشديدة ومعها الاضطراب.
المرشد الإيراني علي خامنئي لديه حل للأزمة الاقتصادية المعيشية. ولو قبله الإيرانيون وعملوا به، فسيكون هذا المرشد أول المتضررين، هو ونظام الملالي الذي يحكم البلاد بالأوهام ولا بأس بـ "سلاح" التمنيات معها! ولا أعرف إذا ما كان قد وضع جانباً "عودة" المهدي المنتظر، كسلاح أخير لتطبيق نظريات اقتصادية "مهدية"، لحل الأزمة الكارثة التي تعيشها بلاده. الحل الذي أعلنه خامنئي في بداية العام الإيراني الجديد في مارس/آذار الماضي، هو ببساطة إطلاق "الجهاد الاقتصادي"! وهو في الواقع جهاد مبتكر، لا يمكن لأي جهة في العالم أن تستولد مثله، كما أنه يأتي في سياق جهاد وهمي أطلقه نظام الملالي منذ أكثر من ثلاثة عقود ضد كل شيء وأي شيء. ولذلك لا عجب أن نشهد في إيران لاحقاً، "جهاد رياضي" وآخر "غنائي" و "سياحي". و"الجهاد الاقتصادي" الذي ينادي به خامنئي جاء في الواقع بعد أن فشل حل أطلقه المسؤولون الإيرانيون في العام الماضي، وهو اللجوء إلى "اقتصاد الحرب"! فهم يرفضون منذ أن وصلوا إلى السلطة أن يقتنعوا بأن "اقتصاد السلم"، لا يحل المشكلات فحسب، بل يؤسس لعلاقات طبيعية مثمرة مع العالم أجمع.
ماذا حدث بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على إطلاق "الحل الخامنئي"؟ هرب –حسب مصادر إيرانية مقربة من مجلس مصلحة النظام- ما تبقى من رؤوس الأموال الموجودة في إيران. وهذا أمر طبيعي من البديهيات الاقتصادية، وارتفعت معدلات التضخم بصورة متسارعة، وبالمقابل تراجعت قيمة الريال الإيراني بشكل مخيف. وإذا كان مرشد إيران يعتبر أن  "الجهاد الاقتصادي"، يقضي بتخفيض مستوى دعم السلع الأساسية والمحروقات، فقد أضاف الزيت على نار اجتماعية معيشية مشتعلة أصلاً، منذ أكثر من خمس سنوات. لا شك في أن العقوبات الغربية المفروضة على إيران، وفي مقدمتها تلك التي طالت القطاع النفطي، ساهمت بصورة أولى في الركود والإخفاقات في البلاد، لكن يجب ألا ننسى بأن الاقتصاد الإيراني لم يقم على أسس منطقية وطبيعية، منذ أكثر من ثلاثة عقود، كما أنه لم يطور أدائه. بل لم تشهد حتى الحقول النفطية الإيرانية أي استثمارات في آلياتها وإمكانياتها. وتكفي الإشارة هنا، إلى  أن الإنتاج النفطي الإيراني انخفض من 6 ملايين برميل يومياً في أواخر سبعينات القرن الماضي، إلى 2,2 مليون برميل حالياً!
الإنتاج الحالي، بات رهن عقوبات صارمة، تحاول السلطات الإيرانية الالتفاف عليها بكل الطرق، بما في ذلك تمويه الناقلات بأعلام دول أخرى، وتصدير النفط من أماكن تخزين خارج إيران (ولاسيما في فنزويلا)، ومقايضة النفط بالذهب والحبوب، إلى آخر أدوات "اقتصاد الاحتيال"، بالإضافة طبعاً إلى بيع النفط بأسعار مخفضة على طريقة التنزيلات الموسمية، بحيث تم تخفيض سعر البرميل الواحد، ما بين 20 و25 دولاراً أميركياً! والنفط الإيراني –كما هو معروف- يوفر 80 في المائة من القطع الأجنبي للبلاد، الأمر الذي يبرر "تحرق" طهران إلى بيعه بأي طريقة وبأي سعر كان. ولكن في النهاية أصبحت إيران اليوم معزولة بشكل لم يسبق له مثيل عن ماذا؟ عن نظام التجارة الدولي، الأمر الذي يجعل حتى عمليات الاحتيال صعبة، ويكشفها بسهولة، خصوصاً في ظل التهديدات الغربية لأية دولة تساعد إيران في ممارسة "اقتصاد الاحتيال".
لن ينفع "الجهاد الاقتصادي" الذي أطلقه خامنئي في حل مشكلة واحدة من تلال المشاكل الاقتصادية التي تواجه بلاده. تماماً كما لم ينفع إيران الجهاد الوهمي الذي أطلقته في كل الاتجاهات، ولا تزال تطوره بأدوات بالية ومكشوفة. كما ان الشعب الإيراني سئم وفاض به الكيل من "ثقافة الجهاد"، التي لم تُزل عقبة واحدة في طريق النمو والعيش الكريم. و"النظرية الجهادية الاقتصادية الخامنئية" الجديدة، ستساهم بلا شك في رفع مستويات الغضب الشعبي، الذي سيكون السلاح الأقوى، في طريق التغيير. فلا يمكن لإيران أن تعيش إلى الأبد بأوهام مسؤولين يعيشون هم أنفسهم خارج الزمان.

قارة الأسئلة الكثيرة والأجوبة القليلة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"لا يمكن حل الأزمة الراهنة في منطقة اليورو، عن طريق سندات باليورو"
                                                                                       أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا

كتب: محمد كركوتــــــــي

هل  تكفي "المسكنات" المالية التي وصفتها "عيادة" القمة الأوروبية الأخيرة، لعلاج مرض اليورو، وبمعنى أصح لمعالجة وباء هذه العملة؟ ومع هذا السؤال، هناك عشرات (بل مئات) الأسئلة التي تُطرح بكل لغات الاتحاد الأوروبي، في مقدمتها مَنْ هزم مَنْ، على صعيد العلاج أو محاولة العلاج؟ بصياغة أخرى للسؤال، هل هناك منهزم أصلاً وبالتالي هناك منتصر؟ وبصورة أكثر تفصيلاً، هل سيكون هناك منتصرون في النهاية؟ علماً بأن هذه النهاية لن تكون قريبة، بل هي بعيدة.. وبعيدة جداً. الأسئلة كثيرة، والأجوبة أقل منها عدداً، وأمام هذا المشهد، يستطيع أي إنسان أن يصف الأزمة بالكارثة، والمشكلة بالمصيبة، والمرض بالوباء. وفي المشهد نفسه، يعلو صوت أولئك الذين لا يزالون يحلمون باستعادة عملاتهم الوطنية، ورمي أوراق اليورو الخريفية في أقرب صندوق للقمامة. ففي المصائب الكبرى، تزدهر عادة مشاعر الوطنية الضيقة، وتتأجج العواطف، وإن تعارضت مع المصلحة الذاتية.
الأسئلة أكثر من الأجوبة، في حين تعيش أوروبا موسماً دائماً للتخفيضات، ليس لأسعار السلع المباعة في متاجر التجزأة فيها، بل للتصنيفات الائتمانية. إنه بحق موسم الفصول الأربعة لـ "تنزيلات" المستويات الائتمانية للحكومات والمصارف والمؤسسات المالية الكبرى. أما بالنسبة للمؤسسات الصغرى منها، فهي ترتبط شاءت أم أبت بالكبرى، وتنخفض مستوياتها تلقائياً معها وترتفع مخاطرها بها. ومن المفارقات، أن المصرف الناجح في أوروبا حالياً، هو ذاك الذي تأجل تخفيض مستواه ليوم آخر. لقد بلغ الحال المصرفي في هذه القارة، حداً فقدت المصارف الكبرى القدرة على مجرد التفكير، في "التهام" مصرف صغير هنا، وآخر متوسط هناك. فقد أصبح المفترس هو نفسه مشروع فريسة، تماماً كما يحدث في الغابات عندما تنقلب قواعد الحياة فيها بين الحين والآخر.
كانت أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، تعيش بعضاً من المأساة – الملهاة التاريخية لخسارة منتخب بلادها في كرة القدم، أمام نظيره الإيطالي، في نهائيات كأس الأمم الأوروبية، عندما أعلنت بأنها حققت أمراً مهماً في القمة الأوروبية الأخيرة، ولكن مع اعتراف حتمي منها بأنه "لا تسوية بدون مقابل". والذي تابع عن قرب مواقف ميركل من خطط الإنقاذ الخاصة بالديون الأوروبية، لا بد أن يلحظ هزيمة لها واضحة في هذا المجال. والأمر لم يكن كذلك بالنسبة للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذي كان ولا يزال يدفع باتجاه مغاير لما تدفع به جارته الألمانية، حتى لو وصف نتائج القمة المذكورة بأنها "تبعات سعيدة". وإقرار صندوقين هما "الآلية الأوروبية للاستقرار" و"الصندوق الأوروبي للاستقرار"، مهمتهما إعادة رسلمة المصارف والمؤسسات المالية الأوروبية (الغارقة أو تلك التي تتجه إلى الغرق) مباشرة وفق شروط الصندوقين، هذا الإقرار بحد ذاته خطوة عملية تصب في سياق التوجه الفرنسي. بل كان مطلباً سابقاً للبنك المركزي الأوروبي. أما كيف تَعارَض مع رؤية ميركل، بصورة أو بأخرى، فلأن الصندوقين يستطيعان شراء سندات الدول غير المستقرة مباشرة من الأسواق، وهو أمر اعتبرته المستشارة الألمانية في السابق، نوعاً من أنواع المقامرة.
الاتفاق الذي تم التوصل إليه، هو بمنزلة تأجيل (أو تلطيف) للخلافات الفرنسية-الألمانية، وهو مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، ليس بسبب استفحال أزمة الديون الأوروبية فحسب، بل لغياب التناغم السياسي بين برلين وباريس، الناجم عن رؤى مختلفة لرئيس فرنسي، يريد نمواً مع قليل من التقشف، ولمستشارة ألمانية تسعى إلى تقشف كبير وواسع، بصرف النظر عن مستوى النمو. ولكن يبقى الدافع الأهم لهذا الاتفاق، وهو حرص كلا الطرفين الرئيسيين على الساحة الأوروبية، على بقاء كل دول اليورو في منطقة هذه العملة، ولولا ذلك، لشهدنا انسحابات متتالية، طوعاً أو قسراً، ولدارت المطابع لتُعيد طباعة العملات الوطنية السابقة.. درخمات، ماركات، فرنكات، ليرات.. إلى آخره.
غير أن هذا كله لا يعني أن أزمة الديون الأوروبية في طريقها إلى الحل. فما طُرح ليس سوى "مسكنات" مالية تنفع عندما تكون الخيارات محدودة، والرؤى السياسية (وبالتالي الاقتصادية) غير متوافقة بما يرقى إلى مستوى الأزمة. وهنا تأتي أهمية قيام اتحاد اقتصادي ونقدي حقيقي، أي وحدة اندماجية، ليس على طريقة الوحدات الاندماجية العربية الغوغائية التي شكلت مجموعة من "الصرعات" في القرن الماضي، بل على شكل أقرب لما هو قائم في الولايات المتحدة الأميركية. بمعنى آخر أن تتضمن هذه الوحدة الركائز الأربع، التي بدأ بالفعل القائمون على الاتحاد الأوروبي تسويقها وترويجها، وهي اتحاد مصرفي، وآخر موازني، وآخر اقتصادي، إلى جانب طبعاً اتحاد سياسي. وهذا لن يضمن حل المشاكل التي قد تظهر في مرحلة أو أخرى، بل يحتويها في إطار محلي أوروبي. إنها عملية ليست سهلة، لكن أساساتها موجودة على الأرض، تحتاج فقط إلى حملة تثقيفية شاملة، لأولئك الذين لا يزالون يرفضون فهم مخاطر الانغلاق المحلي الوطني، في قارة مفتوحة طبيعياً على بعضها البعض.