الأربعاء، 26 نوفمبر 2014

مصارف تكفكف دموع مساهميها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«النظام المصرفي الحديث يصنع المال من لا شيء»
جوزيف ستامب اقتصادي إنجليزي



كتب: محمد كركوتــــي

يستحق المساهمون في الشركات والمؤسسات الغربية الكبرى والصغرى التعاطف، من جراء الخسائر الفادحة التي أصيبت بها شركاتهم، كنتيجة طبيعية للأزمة الاقتصادية العالمية. فالخسائر نالت في الواقع من كل البنى التحتية والفوقية للاقتصاد العالمي. ولذلك شملت مستثمرين بملايين الدولارات، وفي الوقت نفسه أصحاب بقالات يستثمرون بألف دولار فقط. الخسائر واحدة، فمصيبة الخاسر لمئات الملايين من الدولارات هي نفسها الواقعة على الخاسر لبضعة آلاف من الدولارات. وفي كل الأحوال، يستحق الجميع التعاطف، ولاسيما أولئك الذين لا علاقة لهم بألعاب الاقتصاد المفتوح على كل شيء وأي شيء، دون ضوابط ومعايير. وبالطبع مع انعدام الأخلاق التي تمثل حصانة للسوق، بصرف النظر عن مكانها. لقد سخر المتلاعبون على مدى أكثر من عقدين من "أخلاق السوق"، بل كانوا يعتبرونها وهمية!
اليوم يندب المساهمون في المصارف حظهم، لأنهم يدفعون غرامات ضخمة تفرضها الحكومات الغربية على مصارفهم، عقاباً على سلسلة من المخالفات، بل ومن الجنح التي يرقى بعضها إلى الجرائم الاقتصادية التغرير بالمودعين، والتلاعب بأسعار الصرف، الغش الواضح في القروض السكنية، إلى جانب تبييض الأموال العائدة لمنظمات وعصابات إرهابية وإجرامية، وتوفير الحصانة لأموال المتهربين من الضرائب في بلدانهم. ولكن، هل يستحق مساهمو المصارف "النادبون" التعاطف على غرار غيرهم من المساهمين في الشركات غير المصرفية؟ هذا السؤال طرح أخيرا في أكثر من ساحة إعلامية عالمية، من بينها جريدة "الفاينانشيال تايمز"، خصوصا في أعقاب الإعلان عن حقيقة الغرامات الهائلة التي فرضت على هذه المصارف. مع قبول إدارات المصرف تلو الآخر بهذه الغرامات دون اعتراض ذي قيمة، خوفاً من محاكمات قد تؤدي إلى انهيار بعض المصارف بالفعل.
يقول توماس جيفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة "أؤمن تماما، بأن المؤسسات المصرفية أشد خطرا من الجيوش الجرارة". وهو بذلك لخص حقيقة الخراب الذي يمكن أن تتسبب فيه هذه المؤسسات. ويبقى الجواب المباشر على السؤال العريض، هو أن مساهمي المصارف المعنية لا يستحقون أي تعاطف، بل على العكس تماما، عليهم الإجابة عن تساؤلات عديدة، تخص أداء مصارفهم في السنوات التي سبقت الأزمة العالمية. لماذا لم تعترضوا على أرباحكم الهائلة غير المبررة؟ لماذا لم توقفوا الإدارات التي قامت بكل الأعمال الموبوءة على مدى سنوات طويلة؟ لم قبلتم صمتا مروعا أدى إلى ما آلت إليه أحوال مصارفكم والاقتصاد العالمي كله؟ لماذا لم تطرحوا (حتى ملاحظات) عن مصادر الأرباح؟ حسنا، لم تكونوا على علم بالحقائق، ألم تسمعوا بالتحذيرات المتكررة عن فقاعة مصرفية تتشكل؟!
هناك أسئلة أخرى عديدة يمكن أن توجه للمساهمين، لكن أحدا منهم لم يجب عنها، بل لا يجرؤ على الإجابة حقا. ولعل ذلك ما يتوافق مع ما قاله يوما الصناعي الأمريكي الشهير هنري فورد "من الأفضل أن الناس لا يعرفون نظامنا المصرفي والمالي. لو عرفوا بالفعل، أعتقد أن ثورة ستندلع قبل صباح اليوم التالي". هذا بالنسبة للناس العاديين الذين لا يرقون لمستوى المساهمين، وحتى المساهمين الذين لا يعرفون التفاصيل حقا، ألم تثر الأرباح الهائلة غير المبررة التي تلقوها أي شبهة أو حتى استغرابا عابرا؟! بالطبع لا يمكن تحميل المساهمين المسؤولية وحدهم فيما وصلت إليها أحوال المؤسسات المالية، ولكنهم يبقون جهة رئيسة توفر التمويل اللازم للأعمال المريبة لإدارات المصارف التي يتهمونها بالمخالفات والتجاوزات وحدها.
والحق أن الحكومات نفسها التي تفرض الغرامات الهائلة حاليا، تتحمل الجانب الأكبر من المسؤولية. لماذا؟ لأنها تركت "الحبل على الغارب"، رغم علمها بأن الكارثة قادمة لا محالة، وأن التحذيرات التي تصدر من هنا وهناك حقيقية، وأن الظلام آت في عز النهار، وأنها (الحكومات) ستتحمل مسؤولية ما بعد الانهيار، من خلال إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المؤسسات المالية، ولاسيما تلك التي تمثل جزءا أساسيا (وأحيانا وحيدا) من السمعة الاقتصادية والمالية للبلاد كلها. على الجميع المسؤولية، ولا حجة لدى مساهمي المصارف في التهرب، عليهم أن يدفعوا الآن "ضرائب" لأرباح لم يكونوا يستحقونها بأي حال من الأحوال. والحق أنهم يعيدون حالياً ما حصلوا عليه، ليس بالغش فقط، بل بالمخالفات الخطيرة. والمثير، أن إدارات المصارف التي تمكنت من البقاء حتى بعد الانهيار، لم تتوقف نهائيا عن ممارساتها المريبة، إلا بعد أن تضافرت الجهود في البلدان الغربية من أجل كبح جماحها. وحتى الإجراءات ضدها أخذت وقتاً طويلاً قبل أن تنفذ بصورة قطعية. بعض المصرفيين يعتقدون أنه بمجرد شعور إدارات المصارف بالذنب وتأنيب الضمير والاعتذار، يكفي لإنهاء الحملة المتواصلة عليها. ولكن لم يثبت التاريخ الحديث حالة واحدة، أظهرت أن "مشاعر" هذه الإدارات صادقة. ففي عز الانهيار، منح المديرون التنفيذيون أنفسهم مكافآت صادمة من حيث حجمها الهائل. تم ذلك في وقت كانت الحكومات تضخ الأموال فيها للإبقاء عليها! ومن السخرية، أنه يتم إنقاذ المصارف من قبل أموال الناس الذين خسروا بسببها!

قتل السوريين لكيلا يموتوا جوعا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«عندما يكون الطغيان حقيقة،  تكون الثورة محقة»
فيكتور هوجو أديب فرنسي راحل




كتب: محمد كركوتــــي

بعد تصدير اللاجئين والنازحين بحيث وصل عددهم إلى المستوى الثاني بعد اللاجئين الذين خلفتهم الحرب العالمية الثانية، يقوم سفاح سورية بشار الأسد بتصدير غذاء السوريين. إلى من؟ إلى روسيا. والحق يمكن لأتباع الأسد (الذي يستوي عنده قتل مسلح وقتل رضيع) يمكنهم القول، إن عدد سكان سورية بلغ النصف منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، وبالتالي هناك مبرر لتصدير المنتجات الزراعية بأنواعها! بالطبع لا يقولون ذلك علانية؛ لأنهم يعترفون رسميا بأن هذا النظام الوحشي إلى لا حدود، قلص عدد البشر في سورية إلى النصف في مدة زمنية صادمة من حيث قصرها، ومفجعة من جهة ما حفلت بالفظائع والخراب، إلى جانب الأكاذيب والمشاعر الطائفية الصادقة التي أظهرها الأسد وأعوانه ضد كل فرد صادف أن يكون سوريًّا.
رهن أسوأ نظام عربي على الإطلاق، مستقبل سورية للخراب المستدام حتى بعد أن يأتي اليوم المؤكد لزواله. ليس فقط عن طريق الديون التي اقترضها باسم السوريين لقتل السوريين أنفسهم بناتجها، وليس من خلال تملك جهات أجنبية حكومية إيرانية وروسية حقوقا طويلة الأجل في البلاد، وليس أيضاً بإفراغ كل خزائن البلاد للإنفاق على السلاح الذي يضمن استمراريته في الحكم ليوم إضافي آخر، وليس عبر السرقة التاريخية لمقدرات البلاد، وفي مقدمتها النفط. هناك دائما أدوات جديدة للخراب الآني والمستقبلي. والأسد الأب والابن تخصصا في ابتكار الجديد في الخراب، لا الجديد في النمو والانتعاش، والأهم لا الجديد في الوطنية والتسامح. لقد أثبتا طائفية دنيئة متجددة، من تلك التي تبرر قتل الرضيع، وبقر بطن المرأة الحامل. بل من تلك التي تستسهل ضرب الأطفال بالسلاح الكيماوي.
اليوم، غذاء السوريين يصدره الأسد لروسيا. ولا غرابة في أن تقبل موسكو هذا النوع من الصادرات، لسبب واحد فقط، أن من يحكمها هو نظام مارق، يمارس سياسة قطاع الطرق، بدلا من سياسة الدول، وهذا النوع من الأنظمة يمثل الوقود الحيوي والعضوي والاصطناعي لأنظمة مشابهة لنظام الأسد، رغم أنه لا يوجد له نظير، على الأقل منذ أعقاب الحرب الثانية. والأهم من هذا، أن روسيا (كما إيران) شريكة في الحرب على الشعب السوري. وغذاء السوريين الذي يصل إليها، هو في الواقع مرسل من حليف إلى حليف في هذه الحرب. دون أن ننسى أن روسيا الهشة اقتصاديا وإنتاجيا منذ الأزل، تعرضت إلى ضغوطات غذائية حقيقية، بمجرد إعلان العقوبات الغربية عليها. وهي الآن تئن ماليا واستثماريا، فضلا عن أنينها الناتج عن التراجع الكبير في أسعار النفط. فهي في النهاية بلد لا يرتزق إلا على النفط وتصدير السلاح حتى إلى العصابات. والقمح (مثلا)، لا يشكل شيئاً أمام عوائد النفط والسلاح.
يصدر الأسد غذاء السوريين إلى روسيا، بعد أن زادت أسعار الغذاء في كل أنحاء سورية إلى أكثر من 300 في المائة. وحتى في المناطق التي يحاول الأسد وعصاباته تسويق "هدوئها"، يعاني سكانها مشاكل معيشية لا تتوقف عند حد، بسبب الغلاء الناجم أيضا عن التراجع "الماراثوني" لسعر صرف الليرة. أي أن ما تبقى من السوريين في سورية، يواجهون شح الغذاء بسبب تصديره إلى الحليف المارق، وارتفاع أسعار المتوافر منه لشح المعروض وانخفاض العملة التي تتآكل قيمتها كل يوم. ويتم تصدير كل شيء تقريبا، ولو أراد فلاديمير بوتين استيراد القمح من سورية! لما تردد الأسد في التصدير، حتى لو كان هذا القمح روسيا أصلا. لقد وصل الأمر (وفق مسؤولين في النظام نفسه) لتصدير منتجات زراعية معلبة! فالأمر ليس مقتصرا على منتجات زراعية فقط!
يتم كل هذا في الوقت الذي أعلنت فيه أكثر من جهة دولية، بما فيها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، أن عدد محتاجي المساعدات الماسة للغذاء في سورية ارتفع بنسبة 50 في المائة منذ يونيو 2013 وحتى مطلع العام الحالي. وهناك مساحة زمنية لم تغطها (الفاو) بعد فاصلة بين الربع الأول من العام الجاري والربع الأخير منه. واستنادا إلى المنظمة نفسها، فإن ما يزيد على 6.3 مليون نسمة بحاجة ماسة إلى الغذاء، وإلى ماذا أيضا؟ إلى المساعدة الزراعية. وترى (الفاو)، أن الأسباب الرئيسة لهذه الوضعية الخطيرة، تتمثل في محدودية الغذاء، وعدم قدرة الناس على الوصول إليه أو تحمل تكلفته، وتقول "فالحقول والأصول الزراعية تركت أو دمرت بسبب العنف والتشريد، وزيادة تكاليف الإنتاج ونقص الإمدادات الزراعية الأساسية".
التقديرات الأكثر محافظة، تشير إلى أن عدد النازحين السوريين ضمن بلادهم بلغ سبعة ملايين نسمة، إلى جانب ما يقرب من 5 ملايين باتوا في عداد اللاجئين. ونظام وحشي طائفي كنظام الأسد، لن يتردد في خفض عدد النازحين لتحويلهم إلى لاجئين، إذا ما وجد أن ذلك يتوافق من الناحية الاقتصادية مع جدوى تصدير غذاء سورية إلى روسيا. بل لن يتردد على الإطلاق في قتل هؤلاء، ربما بحجة عدم تعريضهم للموت جوعا.

الغذاء .. في دائرة الصراعات والمناخ والهدر

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«سيأتي يوم سيكون فيه الزمن المطلوب لإنتاج الغذاء، موازيا للزمن المطلوب لجني المال من أجل شراء الغذاء»
فرانك كلارك، سياسي أمريكي راحل



كتب: محمد كركوتـــي

الفارق بين دولة نفطية كفنزويلا باتت مضطرة لاستيراد الوقود وبين مجموعة من الدول الزراعية تواجه نقصا في الغذاء أن الأولى وصلت إلى هذه الوضعية نتيجة سياسة تخريبية خرقاء نفذها رئيسها الراحل هوغو تشافيز على مدى سنوات، أما بلوغ الدول الزراعية حالة نقصان الغذاء فهو مسؤولية جماعية تشترك فيها حكومات الدول نفسها إلى جانب حكومات دول أخرى في العالم. إنها نتاج سياسة محلية إقليمية عالمية. بينما حالة فنزويلا محلية خالصة. والعجب يبقى موجودا في الحالتين وربما اختصرته بأفضل بلاغة إحدى قصائد طرفة بن العبد "كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول". دولة نفطية تستورد النفط، ودول زراعية مهددة في الواقع بمجاعات!
الأضرار الزراعية التي تحذر منها أكثر من جهة دولية لا تشمل فقط نقص الغذاء بتراجع مستويات المنتج الزراعي، بل تنال مباشرة من سكان البلدان المهددة عن طريق إخراج أعداد هائلة منهم من العمل وانضمامهم إلى صفوف المتعطلين. وبحسب شركة "مابلكروفت" الاستشارية البريطانية فإن ما يقرب من 65 في المائة من سكان 32 دولة يعملون في الزراعة، التي تمثل ما بين 28 و30 في المائة ناتجها المحلي. أي أن الكارثة غذائية واجتماعية أيضا. وهذه الدول تتعرض لصراعات واضطرابات منذ سنوات بأشكال مختلفة، وأطراف متعددة (منها خارجي). ولا يبدو في الأفق أي مؤشر على تراجع حدة هذه الصراعات، بل إن المختصين يتوقعون استمرارها لـ 30 عاما مقبلة. مما يعني، أن نقص الغذاء الآن سيتحول تدريجيا إلى مجاعة لاحقا، الأمر الذي يزيد من مسؤولية العالم عن كوارث محققة، أو في أفضل الأحوال شبه مؤكدة.
إن غالبية هذه البلدان تقبع في إفريقيا والبقية في القارة الآسيوية. علما بأن آثار المجاعة التي عمت القارة الإفريقية في ثمانينيات القرن الماضي لا تزال ماثلة على النسيج الاجتماعي في غير بلد إفريقي. والصور المؤلمة لأطفال ببطون منفوخة وأطراف مثل أعواد الكبريت لم تغب على الأقل عن أولئك الذين يشعرون حقا بالهم الإنساني لا السياسي.. بهمّ البشر لا بهموم الأحزاب والتيارات والقبائل وغيرها. وبصرف النظر عن تحسن أوضاع الغذاء بشكل عام في السنوات القليلة الماضية في المناطق التي شهدت الكوارث الغذائية إلا أن هذا لا يخفف من الحقيقة القادمة في الطريق. بنجلادش وسيراليون وجنوب السودان ونيجيريا وتشاد وهاييتي وإثيوبيا والفلبين وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا كلها عرضة للخطر الماحق، يضاف إليها دول سريعة النمو حقا، لكنها مهددة بلقمتها مثل كمبوديا والهند وميانمار وباكستان وموزامبيق.
 
وإنصافا للحالة التي تعيشها البلدان المذكورة لا بد من الإشارة إلى أن عوامل المناخ تسهم هي أيضا في المأساة المتعاظمة. ويؤكد المختصون أنهم لم يتوقعوا هذا القدر من الصلة بين الأمن الغذائي وتغير المناخ. وهنا تزداد مسؤولية المنظمات الدولية ليس فقط في توصيف المشهد المأساوي العام، بل أيضا في التثقيف المطلوب لمواجهة استحقاقات البيئة وتوفير الأدوات السريعة واللازمة لذلك. في مقابلة أجريتها مطلع تسعينيات القرن الماضي مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران قال: "كيف يمكن أن نطلب من امرأة في قرية إفريقية نائية التوقف عن قطع شجرة للطبخ لأطفالها إذا لم نوفر لها نحن الوقود؟!". أي أن حماية البيئة وحماية البشر منها أيضا لا تتم نظريا وتخويفيا، بل بأدوات فاعلة وذات جدوى. والمسؤولية لا تختص بتلك المرأة الإفريقية، بل بالمجتمع الدولي كله.. بالدول القادرة على إحداث التغيير وليس فقط التحذير من الأسوأ القادم.
والأمر هنا لا يتعلق فقط بالصراعات المحلية والإقليمية وبالتغير المناخي، بل يشمل أيضا وبصورة مرعبة كميات الغذاء التي تهدر حول العالم. ففي آخر إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة جاء أن العالم يهدر 30 في المائة من الغذاء. وهذه الكميات الهائلة تكفي لإطعام 800 مليون جائع! وطبقا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) فإن ما يقدر بنحو 1.3 مليار طن من الإنتاج العالمي للغذاء تفقد أو تهدر سنويا. وبحسب التفاصيل، فإن أكثر من 40 في المائة من المحاصيل الجذرية والفواكه والخضراوات و20 في المائة من البذور الزيتية و35 في المائة من الأسماك لا تصل لأفواه الجائعين في العالم. والحقيقة، أن هذه الكميات المهدرة، تكفي البلدان الـ 32 المهددة بنقص الغذاء ومعها بلدان أخرى أيضا.
يقول العالم البيولوجي الأمريكي الراحل نورمان بورلوج: "الإنسانية كما نراها اليوم ما كانت لتتطور وتنجو بلا إمدادات غذائية كافية". وكما تهددت الإنسانية في السابق في بعض مناطق هذا العالم فإنها معرضة للمزيد من التهديد في المناطق نفسها تقريبا على الرغم من بعض الإنجازات التي تحققت في العقود الثلاثة الماضية. مع التأكيد على أنه حتى هذه الإنجازات دخلت دائرة الخطر وتنتظر منقذين لا سياسيين.. منقذون يتعاملون مع حالة بشرية متفاقمة.

الخميس، 6 نوفمبر 2014

قانون «فاتكا» أوروبي أيضا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


«الفارق بين الضرائب والموت أن الموت لا يمكن أن يصير أسوأ عندما يجتمع الكونجرس».
ويل روجرز كوميدي أمريكي




كتب: محمد كركوتــي

سيكون لعام 2017 محور خاص في التاريخ من جهة الحرب المستعرة على المتهربين من الضرائب. وهو العام الذي تبدأ به 51 دولة غالبيتها أوروبية، بتبادل المعلومات حول الأرصدة المصرفية لرعاياها خارج نطاق حدود دولهم. الذي يرفع من أهمية هذه النقلة، أن بلدانا مثل سويسرا وإمارة ليختنشتاين وجزر العذراء البريطانية وجزر كايمان. وبعض من أشباه الدول الأخرى. فهذه البلدان لم تعد قادرة على المقاومة ضد الهجمة الغربية على وجه التحديد، لفتح الحسابات، سواء للبحث عن ضرائب أو للعثور على أموال قذرة بصور مختلفة. لقد استسلمت، ليس حبا في القوانين والإجراءات الجديدة، بل خوفا من عقوبات لا تقوى عليها، عقوبات قد تؤدي إلى "إغلاق" أبواب البلدان المشار إليها نفسها، ومعها مصارفها ومؤسساتها المالية المارقة.
ولعل اللافت أيضا، أن الولايات المتحدة لم تنضم إلى الدول الموقعة على اتفاق تبادل المعلومات المصرفية الخاصة بالأفراد، على الرغم من أن واشنطن، هي التي بدأت الحرب على التهرب من الضرائب، وأقرت في عام 2010 قانون "فاتكا" المعروف، وهو يماثل في حيثياته ومعاييره وقواعده طبيعة اتفاق الدول الإحدى والخمسين، بل إن قانون "فاتكا" نفسه، بات معتمدا من الدول الأوروبية وبعض أشباه الدول الأخرى. المسؤولون الأوروبيون يرون، أن للأمريكيين مناقشاتهم وطروحاتهم الخاصة بهذا الأمر، لكنهم يؤكدون في الوقت نفسه أنه لن يحدث تعارض على الإطلاق على طرفي الأطلسي، بل على العكس، فالاتفاق يصب في صميم "فاتكا" والعكس صحيح. فإذا كانت واشنطن تبحث في مصارف الدول الأخرى عن حسابات مواطنيها، فإن العواصم الأخرى تستعد للبحث عن حسابات مواطنيها أيضا في الولايات المتحدة.
ولا شك أن التأخر الأمريكي في الانضمام إلى الاتفاق الـ (51)، يعود إلى أسباب إجرائية، خصوصا أن الاتفاق نفسه لن يدخل حيز التنفيذ قبل أيلول (سبتمبر) من عام 2017، وهناك ثلاث سنوات على الأقل، للوصول إلى صيغة مشتركة. فقد أثبتت الأحداث ومعها التطورات، أن إدارة باراك أوباما، أكثر الإدارات الأمريكية ملاحقة للمتهربين من الضرائب، بل استخدمت ما يعرف بسياسة "العصا والجزرة" منذ البداية مع البلدان التي أبدت ترددا في التعاون مع "فاتكا". وسرعان ما استبدلت "الجزرة" بـ "العصا"، عندما وجدت مقاومة من الطرف الآخر، وهذا يعني أن الولايات المتحدة بإدارتها الراهنة، لن تتوانى عن أي تعاون في مجال التهرب الضريبي، فهي (كغيرها من البلدان الغربية الأخرى)، تعتقد أن الأموال الهاربة من الضرائب، تمثل محورا ماليا مهما لمواصلة محو آثار الأزمة الاقتصادية العالمية على اقتصاداتها.
المنتدى الكبير الذي عقد في برلين أخيرا، وأنتج الاتفاق المذكور، حظي بتأييد 80 دولة، والدول التي لم توقع على الاتفاق ولكنها تؤيده، تعمل على تمهيد الطريق للتوقيع عليه في الوقت المناسب. هناك الكثير من القضايا القانونية والإجرائية وحتى السيادية تتعلق بتنفيذ الاتفاق كما هو، يتطلب بعضها اللجوء إلى البرلمان في بعض البلدان. وفي كل الأحوال، لا عودة عن الاتفاق، تماما مثلما لا عودة عن "فاتكا". وكما قبلت بعض الدول العربية معايير القانون الأمريكي، فإنها قبلت القانون الأوروبي بهذا الخصوص، الأمر الذي يُدخل هذه الدول في صلب حراك الحرب على المتهربين من الضرائب، وهم في غالبيتهم من الرعايا الغربيين، كما أنهم ليسوا بالضرورة من أصحاب الملايين. فالقوانين الجديدة تلاحق حتى الموظفين ذوي الدخل المحدود.
يقول كالفين كوليدج الرئيس الثلاثون للولايات المتحدة: "جني الضرائب بصورة تفوق الحاجة، ليس إلا عملية سطو قانونية". والحق أن العالم الغربي بملاحقته المتهربين من الضرائب، لا يتقاضى أموالا زائدة، بل يحتاج إلى المزيد من الأموال لسد العجز في الموازنات العامة، والوصول بالإصلاحات الاقتصادية إلى المستوى المقبول، والأموال المتوقعة من الضرائب المفقودة هائلة بالفعل، ويمكن ببساطة أن تحدث فرقا في الموازنات المشار إليها. في تقديرات لمنظمة التعاون والتنمية الدولية المعروفة بـ OECD، حصلت 25 دولة على 47 مليار دولار من أموال الضرائب التي قام أصحابها بدفعها للسلطات المالية المختصة طواعية. وكلها تقريبا أموال جاءت من مصارف تتخذ من بلدان "الأوفشور" مقرات لها. ورغم أنه تم تحديد سبتمبر من عام 2017 موعدا لتنفيذ الاتفاق الأوروبي- الدولة، فقد سمح لبعض البلدان (ومنها سويسرا والإمارات وأستراليا) أن تبدأ بالتنفيذ في عام 2018. فقد أثبت الأوروبيون أنهم أكثر مرونة من الأمريكيين بهذا الصدد.
قبل نهاية العقد الجاري، لن تكون هناك ملاذات آمنة للمتهربين من الضرائب من الرعايا الغربيين. ولا يبقى أمام هؤلاء إلا البحث عن جنسيات أخرى والتخلي عن جنسياتهم الأصلية أو المكتسبة، وقد تكون وظائف شرائح من هؤلاء في بلدان لا تفرض ضرائب بلا مكاسب حقيقية، وربما وجدوا أن أعمالهم في بلدانهم الأصلية تقدم المزايا نفسها التي يحصلون عليها خارجها. من أهم الأشياء في قضايا "فاتكا" الأمريكية والأوروبية، أن البلدان "المتمردة ماليا"، لم تعد كذلك إلى الأبد.

 

المهاجرون الأوروبيون أقوى من كاميرون

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"الأمة التي لا تستطيع السيطرة على حدودها، ليست أمة"
رونالد ريجان، رئيس أمريكي راحل


كتب: محمد كركوتـــي


يجهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون نفسه منذ أشهر، لإقناع البريطانيين الخائفين من المهاجرين، بأنه حازم في هذه المسألة، وأنه سيتخذ سلسلة من الإجراءات للحد من الهجرة، وقبل أقل من عام على الانتخابات البريطانية العامة، يتجه كاميرون نحو اليمين أكثر وأكثر، بحجج عديدة، لعل أبرزها، أنه لا يريد للحزب القومي البريطاني أن يحصل على مكاسب انتخابية. وهذه حجة فيها من المكر أكثر مما فيها من الحقيقة. مع التأكيد أن الحزب القومي المشار إليه، كغيره من الأحزاب القومية الأخرى، التي لا تنظر للأمور (مهما بلغ تشعبها) إلا من خلال عينها الخاصة، والخاصة جدا. ولذلك، فهي توفر الحجة الأقوى لكاميرون، خصوصا بعد أن حقق الحزب القومي بالفعل، مكاسب محلية في الآونة الأخيرة.
لكن الأمور لا تجري كما يشتهي رئيس الوزراء البريطاني. فهو لا يستهدف فقط المهاجرين القادمين من خارج الاتحاد الأوروبي، بل يضع المهاجرين الأوروبيين أنفسهم في دائرة "الحرب" على الهجرة بصورة عامة. وهنا تكمن مشكلته. فأي تغيير في القوانين الخاصة برعايا الاتحاد الأوروبي، لا يمكن أن يتحقق إلا بموافقة الاتحاد نفسه. فمثل هذه التغييرات تنال مباشرة من القوانين التي اتفقت عليها كل دول الاتحاد. يضاف إلى ذلك، أنه لو سار بالفعل في طريقه نحو التغيير، فالأمر يتطلب وقتا طويلا جدا، لحسمه. ولن يحسم مثل هذا الأمر إلا بشيء واحد فقط، وهو خروج المملكة المتحدة نفسها من الاتحاد الأوروبي. وقد وعد كاميرون بالفعل البريطانيين، أنه سيطرح موضوع عضوية بلاده في الاتحاد على استفتاء شعبي عام، في حال نجح حزب المحافظين الذي يتزعمه في الانتخابات العامة المقبلة.
قبل أيام، تلقى كاميرون الضربة الكبرى حتى الآن في سعيه لوقف تدفق المهاجرين الأوروبيين إلى بلاده. لقد قالت له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بوضوح، إنها لن تؤيد فرض قيود على حرية تنقل العمال داخل الاتحاد الأوروبي. وكانت أوضح من ذلك حين قالت "ألمانيا لن تعبث بالمبادئ الأساسية لحركة التنقل في الاتحاد الأوروبي". والموقف هو نفسه لدى بقية قادة الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم أولئك الذين لا يحبون المهاجرين. فالنظام الأوروبي اكتسب قوة متزايدة على عقود، بحيث سحب الكثير من الصلاحيات وبعض أدوات صنع القرار من الدول المنضوية تحت لوائه. ورغم أن مساعي كاميرون، لا تستهدف منع المهاجرين الأوروبيين من دخول بلاده، بل العمل على وضع حد أقصى لأعدادهم (ولاسيما أولئك الذين يصنفون بـ "محدودي المهارة")، إلا أن الفكرة مرفوضة من أساسها من مؤسسات الاتحاد. فهذا الأخير أقيم لضمان حرية التنقل بين دوله. وحرية التنقل هذه ترتبط مباشرة بالاقتصاد والتنمية.
في عام 2004، وصلت نسبة المقيمين في بريطانيا الذين ولدوا خارجها إلى 9 في المائة. وهذا العام بلغت النسبة 12 في المائة. وقبل 20 عاما، كان أغلب هؤلاء من أصول هندية وباكستانية وكاريبية. لكن الأزمنة تتغير، وتتغير معها الأوضاع. اليوم، يصل عدد الأوروبيين المقيمين في المملكة المتحدة إلى أكثر من 2.5 مليون نسمة، أغلبهم (بالطبع) من دول أوروبا الشرقية، والعدد الأكبر من هؤلاء جاؤوا من بولندا، وتقدم عدد البولنديين حتى على عدد الباكستانيين الذين يشكلون النسبة العليا من المهاجرين في البلاد. وإذا كانت هناك مصاعب أمام الآسيويين بشكل عام للوصول إلى بريطانيا، فإن الأمر ليس كذلك على الإطلاق بالنسبة للقادمين من أوروبا.
وبعيدا عن حسابات كاميرون الانتخابية، التي يعتبرها البعض خرقاء، لأنه لا يستهدف الناخبين المترددين، بل الناخبين المتطرفين. فإن وعوده حول مسألة المهاجرين الأوروبيين لا قيمة لها. لماذا؟ لأن تحقيقها يتطلب إصلاحا شاملا لقواعد وقوانين الاتحاد الأوروبية، وهذا يعتبر من المستحيلات السياسية الأوروبية. ليس لأن القوانين لا تعدل، بل لأن الدافع لها يستهدف كينونة الاتحاد نفسه. ظلت بريطانيا خارج اتفاقية "شنجن"، لكن وضعيتها هذه لم توفر لها حصانة من مهاجري أوروبا على وجه الخصوص. والحق، أن معظم المهاجرين الأوروبيين الذين قدموا إلى بريطانيا تحتاج إليهم البلاد من ناحية الخدمات والمهن المختلفة. وليس هناك توصيف واضح للمهاجر الذي يتمتع بالمهارة. لقد استخدم حزب المحافظين الحاكم هذا لدعم توجهاته المشار إليها فقط.
سيمضي ديفيد كاميرون إلى النهاية في حربه على مهاجري أوروبا. لكن لن يصل إلى غاياته على الإطلاق، على الأقل قبل الانتخابات العامة التي ستجري في أيار (مايو) من العام المقبل. وكما كاد يغرق بالاستفتاء الذي وعد به ونفذه حول استقلال اسكتلندا، ربما سيغرق في الاستفتاء الشعبي الذي وعد به حول وجود بريطانيا نفسها في الاتحاد الأوروبي، متجاهلا تحذيرات قادة الأعمال في المملكة المتحدة، بأنها خطوة خطيرة ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل والاقتصادي في الدرجة الأولى. لقد أثبت تاريخ الاتحاد الأوروبي، ومخرجاته الاقتصادية، أن بريطانيا الأوروبية، أفضل بكثير من بريطانيا البريطانية.