الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

الاقتصاد العالمي.. إلى الشرق دُر

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")








" القوة ليست فقط ما تملك.. ولكن ما يعتقد العدو أنك تملك"
ساول ألينسكي كاتب وناشط اجتماعي أميركي



محمد كركوتـي


يجري في هذا العالم تحول تاريخي، لا يقل أهمية عن التحولات التاريخية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولن يقل أثراً عنها. تحول، كان قبل ثلاثة أعوام فقط، أقرب إلى الدراما غير الواقعية، وإلى قصة بالغ كاتبها في تقدير الأشياء، وفي إعطاء أبطالها أكثر مما يستحقون. فقد أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية ( بالإضافة إلى مصائبها التي باتت معروفة)، أنها مُولِد مرتفع "الإنتاج" للتحولات التاريخية.. لا الآنية، وللتبعات القاسية ( بل والقاضية أحياناً).. لا العابرة أو "اللطيفة". فمن كان قبلها كبيراً، لم يعد كذلك، ومن كان صغيراً، بات يقف جنباً إلى جنب من كانوا كباراً، أو من تصدعت عظمتهم. بل أصبح جزءاً أصيلاً، ليس فقط في الحراك الاقتصادي العالمي، بل في رسم اللوحة النهائية المقبلة لهذا الاقتصاد. كانت أوروبا والولايات المتحدة الأميركية قبل الأزمة، سيدتا صنع القرار الاقتصادي ( والسياسي) العالمي، وأصبحتا بعدها، مشاركتان ( قويتان بالطبع) في عملية الصنع هذه. ورغم الظلم في أن صنع القرار الكامل، كان في أيدي دول الغرب في أزمنة الازدهار أو الانتعاش أو الطفرة، ولم يكن للدول الأخرى دور يُذكر، إلا أن الأزمة فرضت عملية تصحيح في هذه "الصناعة"، وإن دمرت الصناعات الأخرى. فنحن نعلم، أن الأزمات تحمل معاول الإصلاح، تماماً كما تحمل آليات التدمير. وكلما كانت تاريخية، كلما كانت التحولات التي "تُنتجها" بحجم تاريخيتها. وهل من أزمة أخرى، يمكن أن توازي الأزمة الحالية، في استحقاقاتها التاريخية، وتبعاتها المستقبلية، وهمومها الآنية؟!.

باتت السرعة التي يخرج بها اقتصاد ما في هذا العالم من مطبات الأزمة، مؤشراً واضحاً لمدى قوة هذا الاقتصاد، وقابليته على الاستدامة، ومرونته في أوقات المحن والمصاعب. وعلى العكس تماماً أصبح البطء في خروج اقتصاد آخر منها، علامة أكثر من واضحة، على أنه ليس ضعيفاً فحسب، بل يعاني "موروثات" اقتصادية، كانت حتى وقت قريب، جزءاً أساسياً من عظمته. فما كان ينفع قبل الأزمة، أصبح حِملاً ثقيلاً بعدها. وعندما يكون "الحامل" هشاً، لنا أن نتخيل فداحة هذا الحِمل، ومدى ضرورة التخلص منه، بأسرع وقت ممكن. فالأزمة كانت أسرع من كل آليات صدها، وأقوى من كل الدفاعات الموجودة على الأرض. فهي من تلك التي تُخرب من دون رحمة، وتدمر من دون أن تترك معولاً واحداً لإعادة البناء. وقد اعترف المخربون الاقتصاديون أنفسهم، بأنهم لم يتوقعوا أزمة، يمكن أن تُحدث مثل هذا الدمار. لا عجب، فهؤلاء لم يكونوا يتوقعونها أصلاً، وكانوا يعيشون في وهْم نمو اقتصادي، لا يأتي إلا في الأحلام.

التحول التاريخي الذي "أنتجته" الأزمة، ليس أقل من تحول ميزان القوى من الغرب إلى الشرق، وتحديداً من أوروبا إلى آسيا. أي من معقل صنع القرار الاقتصادي، إلى معقل صنع الاقتصاد. ولأن القوة باتت تحسب بالقدرة على الخروج من الأزمة الاقتصادية، لا بالتاريخ الاقتصادي، ولا بمعايير اتفاقيات "بريتون وودز" التي أُطلقت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي دمغت اقتصاد العالم بختمها، فقد تعافت اقتصادات القارة الآسيوية بسرعة، في حين لا تزال دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، تعيش معاناة تبدو طويلة، من ارتفاع العجز في موازناتها، وازدياد البطالة، وانخفاض معدلات النمو. وقبل أربع سنوات فقط، كانت دول الغرب تحب أن تقوم بدور "الحكيم والمرشد" للدول الآسيوية، خصوصاً بعد انهيار ما كان يسمى بـ " اقتصادات النمور الآسيوية"، إلا أنها ( بعد الأزمة) "تقاعدت" عن القيام بهذا الدور. كيف لها أن تستمر بدورها، وهي غارقة في بحار من المشاكل الاقتصادية، إلى درجة هددت بانهاير بعض الدول فيها، تحت وقع الديون الحكومية (السيادية) والفوضى الاقتصادية، والهشاشة الشعبية لحكوماتها، وفقدان بوصلة الخلاص الاقتصادي؟!.

ما كان يُصنف تحت بند المفارقات، لم يعد كذلك الآن، وما كان من المستحيلات، أضحى وراداً. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن رئيس الوزراء الصيني وين جياباو، تعهد للمسؤولين اليونانيين الذين يعشون أسوأ أيامهم السياسية والاقتصادية والشعبية أيضاً، بأن تقدم بلاده المساعدة لهم، وأن بكين سوف تشتري سندات اليونان، فور طرحها في السوق. وهذا الرجل القادم من جهة الشرق، لم يكتف بهذا التعهد، بل بات يقدم "المحاضرات" للدول الغربية، في كيفية مواجهة أزماتها الاقتصادية. إنه يتحدث من موقع القوة التي اكتسبتها بلاده من جراء نجاح مواجهاتها لتداعيات الأزمة العالمية، ومن آليات اقتصادية، لم تكن موجودة قبلها. لقد بلغ الأمر حداً، دفع المسؤولين الأوروبيين، إلى التوسل لنظرائهم الصينيين، بأن يساعدوهم، عن طريق تشديد قبضتهم على العملة الصينية اليوان. لماذا؟ لأنها تخفيف القبضة تؤثر بصورة سلبية على الاقتصادات الغربية. لقد أصبحت المساعدة في أيدي الصينيين، لا الأميركيين ولا غيرهم. الأميركيون أنفسهم يحتاجون إلى المساعدة الصينية في هذا المجال. وما قاله مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الاقتصاد أولي رين، يمثل حالة توسل غربية أخرى. فلترغيب الصينيين يقول : "إن وجود اقتصاد أوروبي قوي يصب في مصلحة الصين لأن الاتحاد الأوروبي هو أكبر سوق تصدير لها. وإذا استمر اليورو في تحمل عبء غير متناسب، فإن هذا قد يؤدي إلى ضعف التعافي الأوروبي".

آسيا تحولت بالفعل ( لا بالقول)، إلى محرك لنمو الاقتصادي العالمي، بينما يخشى العالم من انهيارات جديدة قادمة (مرة أخرى) من جهة الغرب. ليس مهماً في هذا المجال ما يقوله المسؤولون الآسيويون، بقدر أهمية ما يقوله نظرائهم الغربيين. فقد اعترف رئيس وزراء لوكسمبورج، جان كلود يونكر، بأن أداء النمو الصيني مؤخراً، كان عاملاً مهما في التغلب على الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. إنها نقطة أخرى لصالح آسيا، وإشارة جديدة إلى أن الأمور لن تعود كما كانت قبل الأزمة. وذهب رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني أبعد من ذلك حين توقع أن يتفوق اقتصاد الصين على اقتصاد الولايات المتحدة، في السنوات القليلة المقبلة. هذا الطرح يأتي قبل أيام من تسجيل الولايات المتحدة ثاني أعلى عجز في موازنتها العامة، منذ الحرب العالمية الثانية. فقد بلغت في أيلول/ سبتمبر الماضي 1,29 تريليون دولار أميركي، أو ما يعادل 8,9 في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في العام الجاري!.

إن تحول ميزان القوة الاقتصادي من الغرب إلى الشرق، لا يستند فقط إلى مدى سرعة نجاة القارة الآسيوية من براثن الأزمة، بل من مجموعة جديدة من التحالفات الاقتصادية، وحكمة جديدة، وُلدت من المحنة. قد يحتاج الأمر مزيداً من الوقت، لكي تستكمل آسيا بناء مركز الثقل العالمي فيها، لكن بالتأكيد تحولت عناصر القوة إليها في الأشهر الماضية، ومعها معايير جديدة، لا ترتبط بما كان، بل متشابكة بما سيكون. وهذا ما يحتاجه العالم الآن، لكي يخرج من أزمة وُلدت في الغرب، لكنها لم تترك مكاناً في العالم، لم تصل إليه. أزمة صُنعت من " مواد أولية" - انتهى مفعولها - تعود إلى ستة عقود، لكنها أتت تحمل معها أيضاً "مواد أولية"، تاريخ مفعولها بلا حدود.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق