الثلاثاء، 22 ديسمبر 2009

عام "التعري" الاقتصادي!

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





" المتفائلون ينتظرون حتى منتصف الليل، ليشهدوا بداية السنة الجديدة. المتشائمون ينتظرون أيضا ليتأكدوا من أنها رحلت"
الكاتب الأميركي وليم فاوجهان



محمد كركوتــي

أحسب أنه لا يوجد أحد في هذا العالم، يعارض "حذف" العام 2009، من ذاكرة التاريخ. وأحسب أيضا أن العالم كله يتمنى، لو أن مجموع سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يساوي تسع، لا عشر، وأن يقفز تسلسل الأعوام من 2008 إلى 2010 مباشرة، وأن يضيع العام 2009 من ملفات هذا الزمن وأوراقها. وأحسب أيضا.. وأيضا، أن الكبار والصغار.. الأثرياء والفقراء.. المتقدمين والناشئين - كل في موقعه وفي خضم ظروفه - سيحتفلون – من فرط سعادتهم – بعام مدمر رحل، لا بآخر مجهول آت. فمهما كانت سمات 2010، لن تكون أفظع من سابقه، ومهما كانت مصائب 2008، لن تكون بحجم ويلات تداعيات لاحقه 2009. وإذا كان الاقتصاديون درجوا على وصف الأيام التي تشهد انهيارا أو انخفاضا مريعا في الأسواق العالمية، بـ"السوداء"، يستطيع هؤلاء أن يصفوا 2009 دون تردد بالأسود، الذي جاء نتيجة الغليان الذاتي للون "الأحمر الدموي" الآتي من 2008. فهذا الأسود، هو اللون الوحيد الذي تكوَن نتيجة "مزج" الأحمر الدموي، بالأحمر الناري!.

لكن هل تُشطب السنوات بالتمنيات والقرارات؟. وهل تزول الآلام بالتجاهل والانصراف عنها؟. وهل يمكن أن تُمحى المصائب بكراهيتها فقط؟. وهل بالإمكان استبدال واقع أسود، بوهم أبيض؟!. نعم لا أحد يريد تكرارا للعام 2009، لكنه في النهاية هو امتداد لـ "عام الكارثة"، وسابق لعام يصعب تحديد ملامحه، حتى في زحمة التطمينات التي تطلق هنا وهناك، بأن الأزمة الاقتصادية العالمية، بدأت بالخروج من عنق الزجاجة، وأن الانتعاش آتٍ في طريقه. فالحمم التي قذفتها هذه الأزمة في العام 2008، غطت العام الذي لحقه، دون أي إشارات على استقرارها فيه فقط. فلا تزال الحرب المضادة التي يشنها العالم ضد الأزمة، دفاعية، ولم تدخل مرحلتها الهجومية بعد، ولا تزال هذه الحرب عبارة عن مجموعة معارك مفتوحة. ولأنها كذلك، فهي مرشحة للاستمرار في العام 2010، الذي يتمنى العالم أن لا يشبه سابقه، ولا ينقل العدوى منه. لماذا؟، لأن الأزمة العالمية، لم تُخلف "أنفلونزا" يمكن تحضير لقاح للقضاء عليها، ولا "حُمى قلاعية"، يمكن مواجهتها بالحجر الصحي (كرنتينا)، ولا وباء "جنون بقر"، يمكن إعدام أعداد من الماشية المصابة لاحتوائه، بل نشرت سرطانا، لا ينفع معه لقاحا، ولا حجْرا، ولا إعداما. سرطان لا دواء يحاربه سوى الاستئصال.

العام 2009 يمضي.. ولا يمضي!. يزول رقما، لكنه يبقى هما، وجرحا نازفا في هيكلية الاقتصاد العالمي، والمجتمع الذي يكوُنه. كان عام التداعيات والانهيارات، والإفلاس والإغلاق، والهموم والأوجاع، والتراجع والانخفاض. كان عام الجوع والفقر.. البطالة والأمية.. المحتالين والجشعين.. الديون والتشرد. كان عام "القومية الاقتصادية" المتحجرة، و"الوطنية المالية" الصلفة. كان عام.. حتى الطلاق والتشتت الأسري. لكن في النهاية كان 2009 عام الحقيقة المتأخرة. ولو ظهرت هذه الأخيرة مبكرا، ربما كان 2009 عاما ككل الأعوام، التي تأتي وتهرب وسط زحام السنوات وتدافعها، أو كتلك التي تُذكر برقمها لا بقيمتها. هذه الحقيقة تأخرت أكثر من عقدين من الزمن، لا سنة ولا اثنتين ولا ثلاث. حقيقة.. كانت مدفونة تحت أرجل "المُلهمين الاقتصاديين"، الذين قدسوا السوق، واستحقروا المجتمع، وبعضهم من ألغى هذا الأخير، كأداة من أدوات وجود الحياة أصلا!. "المُلهمون" الذين كانوا يسخرون ممن كان يحذر، من فداحة تجاوز السوق للمجتمع، ومن قدسية الأموال الوهمية. ولسان حال هؤلاء كان يقول :"لا صوت يعلو فوق صوت السوق"!، ولا مكان لمن يريد أن يجعل من المجتمع بوصلة للسوق. فهذه الأخيرة – بالنسبة لهؤلاء- هي البوصلة والربان.. وحتى نجوم السماء المرشدة للملاحين. وعلى هذا الأساس، حوَل "مقامروا الاقتصاد" المجتمع إلى سلعة تُنتج في مصانعهم!.

في العام 2009، تأكد العالم بأن عجلة الاقتصاد العالمي، كانت تدور بأموال وهمية، لا وجود لها في الواقع، وأن ثروة العالم الحقيقة – بما في ذلك تلك المدفونة تحت "البلاطة"- ليست أكثر من نصف ما يدار في الأسواق ويشكل وقودا لها. ولأنها كذلك، فقد توالت الانهيارات، بعد انفجار الفقاعات، وتداعت الصروح التي توهم "المقامرون" بأن قوة لم توجد على الأرض بعد يمكن أن تهزها!. لم يعد في 2009 مناعة لأي صرح كان، مهما كانت منغرسا في هيكلية البناء الاقتصادي. حتى الحكومات.. انهار بعضها، واهتز بعضها الآخر، وتحولت حكومات، إلى "ملاكم" يتهاوى على الحلبة، أمله الوحيد أن يعلن الحكم وقف المباراة!. لكن .. أين هو هذا الحكم الذي بإمكانه، أن يوقف "مباراة الأزمة الاقتصادية"؟!. فهذه الأخيرة، خربت المشهد، إلى درجة جعلت "الحكم" نفسه يستجدي إيقافا عاجلا واستثنائيا للمباراة!.

لقد عرَى 2009 كل الذين كانوا "مدججين" بالملابس، خصوصا أولئك الذين كانوا يستعرضون بملابسهم الـ "سينييه"، بعد أن حفِل 2008 ببداية "مهرجان العري الاقتصادي". وتساوى هؤلاء -لوهلة من الزمن- مع أولئك العراة أصلا، من فرط غياب العدالة الدولية. فالكبير لم يعد كبيرا. وإذا كان قد احتفظ برقمه الكبير، إلا أنه فقد من الهيبة، ما يوازي الرقم قيمة. وضَح العام 2009 الصورة الحقيقية للجميع، وأظهر الوزن الفعلي لكل لاعب على الساحة. وتبين أن بعض أصحاب الأوزان الثقيلة، لم تكن أوزانهم في الواقع أثقل من "وزن الريشة"، لكن الاقتصاد الوهمي، أفسح لهم المجال، لخوض مباريات في الوزن الثقيل. ماذا حدث؟، كانت اللكمة الموجهة إليهم، تساوي أضعاف قدرتهم على الصمود حتى في الجولة الأولى!.

في العام 2009 ضخت الحكومات حول العالم، ما يزيد عن 20 تريليون دولار أميركي، في اقتصاداتها، للحفاظ على مؤسساتها، وحمايتها من الانهيار، لكنها لم تستطع إنقاذ كل المؤسسات والشركات والمصارف، التي باتت تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، في مشهد تاريخي فريد. فقد أصبح – على سبيل المثال – إغلاق المصارف في الولايات المتحدة الأميركية (في العام 2009 بلغت 139 مصرفا)، خبرا يوميا أو أسبوعيا عاديا!، وبات ارتفاع عدد العاطلين عن العمل – في الولايات المتحدة وغيرها – خبرا مملا!، وصار تأميم هذه المؤسسة أو تلك، مثل خبر منشور في جريدة " البرافدا" الروسية، قبل "وفاة" الاتحاد السوفييتي السابق!. وحتى العجز في الموازنات العامة، انسحب من مقدمة الأخبار، إلى ذيلها. لقد غير العام 2009 – بفعل الأزمة الاقتصادية طبعا - نظرة العالم أجمع للأرقام. لم يعد المليار دولار أميركي رقما صعبا، بعد أن فقد هالته!. فعندما تكون الخسائر بالتريليونات، يبدو معها ذلك المليار، كمبلغ لـ "التسوق الأسبوعي"!، وعندما تحسب الأموال وهميا، تفقد قيمتها، وتتساوى المبالغ!.

لكن الأمر، ليس كذلك عندما يكون الحديث عن البشر. والخبر في هذا السياق، ليس عاديا، أو مملا. فالعام 2009 شهد – من ضمن ما شهد – تحولات اجتماعية ومعيشية كارثية، ستبقى ملازمة للمجتمع الدولي، حتى بعد تمكنه من عبور" نفق الأزمة". فقد تحول الفقراء إلى جياع.. وهؤلاء إلى موتى، أو مشاريع موتى!. وهذه لوحدها تحتاج إلى خطط إنقاذ تحسب بالعقود.. لا بالسنوات، إذا ما رغب المجتمع الدولي، بأعوام جديدة خالية من المصائب، ومن موروثات الجوع. وتحقيق منجزات في هذه القضية المتعاظمة، أو ما يشابهها، لن يتم بذهنية ما قبل 2009، بل برؤية العقود التسعة المتبقية في القرن الحادي والعشرين.

لقد أتى العام 2009، بحقيقة متأخرة، بعد أعوام من أخلاق غائبة.


الثلاثاء، 8 ديسمبر 2009

الأثرياء المدينون!



(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










" نحن ننسى دائما، أن المال يعني الثراء، وأن الديون تعني المال أيضا"
الكاتب الفنلندي بيتر كاجاندير


محمد كركوتــي

تستطيع الدول الفقيرة أو النامية أو الناشئة ( التوصيف لم يعد مهما) الغارقة في الديون الخارجية – والداخلية إن وجدت- أن " تفخر" بانضمام الدول الدائنة إلى "ناديها" الكبير الأكثر نشاطا هذه الأيام في ضم الأعضاء. وتستطيع - ولو للحظة – أن تقول : "ما فيش حد أحسن من حد"، لأن الغني والفقير بات يجمعهما "قاسم الديون المشترك"، بصرف النظر عن حجم الدَين وطبيعته، أو عن هوية الجهات المقرضة، أو عن ضعف وقوة المقترض. فالتحولات التي "ابتكرتها" الأزمة الاقتصادية العالمية، أفرغت الاستغراب من أدواته، من فرط تأثير صدماتها "النوعية" المتتالية. فالذي كان يشكل مفارقة، أصبح بعد الأزمة، جزءا من البديهيات، خصوصا عندما يصبح المستحيل ممكنا، والممكن مستحيلا!. وفي خضم هذا المشهد المرشح للاستمرار لأجل غير مسمى، لم تعد الديون "نخبوية" من الجهة السفلى لقائمة دول العالم، بل شملت كل دول القائمة، وساوت – مع اختلافات القوة وطبيعة الديون – بين دول كزيمبابوي، أو كينيا أو لبنان أو جامايكا، وبين دول كالولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا!. وعلى هذا الأساس، يستطيع روبرت موغابي رئيس زيمبابوي – حتى الموت – أن يقول ساخرا، لـ "زميله" باراك أوباما الرئيس الأميركي – حتى سقوطه في الانتخابات - : "أنت مَدين وأنا كذلك"!.

مهما كان شكل الدَين – خارجي أم داخلي – لا يخرج عن نطاق المصيبة المستمرة، طالما استمر دَينا، وتعاظم حجما، وزادت قيوده إحكاما. فالديون هي أبشع أنواع الفقر، وهي آلة من آلات "عبودية الأحرار". والدَين الصغير، "ينتج" دائنا، أما الدَين الكبير فلا "ينتج" إلا عدواً. وللرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية توماس جيفرسون، توصيفا بليغا للدَين. فهو يقول:" لا تنفق الأموال قبل أن تحصل عليها". ولمصائب الديون درجات أيضا. فالمَدين الذي لا يملك شيئا، لن يملك إلا ديونا متعاظمة عليه، أما الآخر الذي يمتلك بعضا من شيء، سيتنفس قليلا، وإن كان يستحيل عليه التخلص من قيود وسلاسل الديون.

لن أتناول هنا قضية ديون الدول الفقيرة. فهذه الديون حاضرة بصورة دائمة في كل الأزمنة. ومتأصلة ليس فقط على صعيد القيود، بل من جهة المعاناة والمشاكل الاجتماعية والصحية والتعليمية وبالطبع التنموية، لاسيما بعدما تحولت إلى "أسرع سرطان" في هيكلية هذه الدول. لكن المثير للاهتمام والمراقبة، تلك الديون التي تعيش بها وعليها الدول الثرية الكبرى، والتي تحولت – مع الأزمة الاقتصادية – إلى جرح نازف، وجدت حكومات هذه الدول صعوبة – بل لنقل: استحالة- تضميده!. ومن المفارقات – التي لم تعد تصدم- أن الدول التي تحتل رأس قائمة البلدان الدائنة، هي في الواقع بلدان لا تقوى على الاستمرار إلا بالديون!. وعلى الرغم من أن غالبية هذه الدول، كانت تلجأ إلى بعض الاقتراض المحلي أو ما يعرف بالإنجليزية (الأميركية) public debt وبالإنجليزية (البريطانية) national debt ، للإيفاء بالتزامات موازناتها العامة، إلا أنها – مرة أخرى بعد الأزمة – باتت تقترض محليا (أو وطنيا) لتغطي كل نفقات هذه الموازنات، إلى درجة أصبحت معها ديونها، تتساوى أحيانا -وتفوق في أحيان أخرى - مع مجموع الناتج المحلي لغالبية الدول الثرية!. وهذا يعني أنها يجب أن لا تنفق دولارا واحدا لمدة عام كامل لتسديد دَينها العام، وبعض هذه الدول، عليها أن لا تنفق لمدة عام ونصف العام، لتحقيق الهدف ذاته. وطبقا لمنظمة "التعاون والتنمية الاقتصادية"، فإن الدول الثلاثين الأكثر تقدما في العالم، ستشهد ارتفاعا في ديونها 100 في المئة، من إجمالي ناتجها المحلي في العام 2010، وهو ما يمثل ضعفي ديونها تقريبا في غضون عشرين عاما!.

لقد ارتفعت مديونيات الدول الثرية بصورة جنونية، لأسباب عديدة، في مقدمتها: ارتفاع النفقات العامة، بما في ذلك الأموال التي ضُخت في الشركات والمؤسسات المالية الكبرى منعا لانهيارها، في أعقاب الأزمة الاقتصادية (بريطانيا لوحدها أنفقت حتى الآن أكثر من 850 مليار جنيه إسترليني على خطط الإنقاذ، بينها 131 مليار جنيه لإنقاذ المصارف)، وأيضا تراجع العوائد الضريبية نتيجة الكساد العارم وتردي حركة الاقتصاد بشكل عام، فضلا عن الدعم العام للاقتصادات الوطنية في مواجهة الأزمة. وتعطي الأرقام صورة واقعية ومرعبة في آن معا، لديون الدول المتقدمة – الثرية. فعلى سبيل المثال يصل حجم الدَين الحكومي في بريطانيا إلى 56.8 في المئة من حجم ناتجها المحلي، وقفز دَين الولايات المتحدة إلى 92 في المئة تقريبا من ناتجها، وفرنسا إلى 72 في المئة، وإيطاليا 127 في المئة، وألمانيا أكثر من 62 في المئة. والصدمة الكبرى، أن الدَين الحكومي الياباني بلغ حاليا أكثر من 170 في المئة من ناتج البلاد المحلي، ومرشح للوصول قريبا إلى 200 في المئة !.

وإذا كانت الديون تشكل مصدر تهديد للعديد من الدول غير الراسخة، فإن ديون الدول الثرية، تمثل أقوى عوامل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها. وعلى الرغم من سمعتها ومكانتها الدولية، وإمساكها بزمام صنع القرار الاقتصادي العالمي، إلى جانب عدد جديد من الدول المؤثرة، إلا أن هذا لن يضمن الحفاظ على مستوى سمعتها إلى الأبد. فالأسواق العالمية المؤثرة، لم تصل بعد إلى مرحلة الشك في قدرة الدول المتقدمة على تسديد ديونها، وعندما تدخل هذه البلدان ضمن دائرة الشك المخيفة، فمن الطبيعي أن تتحول الأسواق عن أسهم الدول المعنية العامة ( سندات الخزينة)، وبالتالي سيتوقف الإمداد بالأموال السائلة!. وهنا ستتغير التصنيفات والتقييمات، تماما مثلما تتغير حيال العديد من البلدان النامية أو الناشئة. والمصيبة الأكبر، هي أن الحلول المطروحة – أو الممكنة – ليس كثيرة. وفي الواقع لا تزيد هذه الحلول عن حلَين اثنين. الأول: زيادة الضرائب. والثاني: تخفيض النفقات العامة. هذان الحلان، هما أسوأ الحلول بالنسبة لحكومات الدول المتقدمة، لاسيما الضعيفة سياسيا وانتخابيا منها. فهي إن رفعت الضرائب، أغضبت أصحاب الأموال – إن وجدوا في هذه الأيام -، وإن خفضت الإنفاق، استشاط ناخبها غضبا يصعب وصفه، خصوصا في مواسم الانتخابات.

إنها قضية متفجرة، لا تنفع معها "التطمينات" ببداية خروج الاقتصاد العالمي من عنق الزجاجة، أو من براثن الأزمة الاقتصادية العالمية. كما أنها بمثابة جرح مفتوح، فشلت الحكومات الثرية الغارقة في الديون، في العثور على "جرَاح" يلملمه. والذي يزيد "الطين بلة"، أنه جرح يتوسع على مدار الساعة. فعلى سبيل المثال، يرتفع الدَين العام في الولايات المتحدة، بمعدل 3.79 مليار دولار أميركي في اليوم الواحد، منذ سبتمبر/ أيلول من العام 2007!!. وفي هذا البلد تحديدا، تبلغ حصة الفرد الأميركي من الدَين العام 39 ألف و110 دولارا و35 سنتا أميركيا!. يقول الرئيس الأميركي باراك أوباما: "فور تمكننا من الخروج من الأزمة، علينا أن نضع خطة على المدى البعيد، للتخلص من العجز في الموازنة العامة، لكي لا نتركها للجيل المقبل". والواقع أن هذا النوع من الديون، يخص الجيل الحالي، تماما كما يخص الجيل المقبل، الذي لا ذنب له في تكدسها. فهي ديون متوارثة، مثلما هو حالها في الدول الفقيرة. ولعل هذه الأخيرة، تشعر بنوع ما من المواساة، بوجود قاسم مشترك بينها وبين البلدان الثرية. فالأفراد في كلا الجهتين يعانون من المديونية، مع فارق كبير بالطبع، يتمثل في أن الذين يعيشون في الدول المتقدمة، يعرفون أن يوما جديدا سيشهدونه غدا، لكن "أقرانهم" الذين يعيشون في الدول المعاكسة، لا يعرفون إذا ما كان ليومهم الذي يعيشونه غد.


الثلاثاء، 1 ديسمبر 2009

أزمة الأزمات


(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")












"متى وأينما حَلت الأزمة.. إذا استطعت توفير الطعام للناس بصورة طبيعية، فإن الأمور ستتحسن"
الأديبة الأميركي مادلين إنجلي

 
محمد كركوتــي
 
لا أعرف إن كان القادة الكبار يستطيعون الفوز بنوم هانئ، وأزمة الغذاء العالمي تفوق الأزمة الاقتصادية العالمية مصائب وهموم ومحن؟!. ولا أدري إن كان هؤلاء يتذكرون جوعى هذه الدنيا، وهم يتناولون فطورهم الإنجليزي الدسم، أو الفرنسي "الأنيق"، أو فطور "كونتيننتال" الشامل بعسله وعصيره ومكوناته الأخرى؟!. كلما تناولت قضايا الغذاء والجوع والفقر، أتذكر قول رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويلسون: "إن أفضل جائزة لرئيس دولة، أن يستطيع النوم ليلة هانئة". فالمسؤوليات هي أقوى أنواع المنبهات، وعدم الشعور بالمسؤولية هو أقوى أنواع المنومات، وهذه الأخيرة، وإن وفرت نوما هانئا لليلة، فهي تُخلف يوما مرعبا بعدها. وعندما أبلغ القادة العسكريون البريطانيون رئيس وزرائهم ونستون تشرتشل خلال الحرب العالمية الثانية، عن احتمالات نجاح القوات النازية الألمانية باحتلال المملكة المتحدة ( كانت قد احتلت فرنسا أصلا)، استفسر تشرتشل (القائد الفعلي لقوات التحالف آنذاك) عن شيئين: متانة القضاء في بلاده، والاحتياطي الغذائي فيها. فقد كان يعرف أن الشح الغذائي، يصيب الصمود بالعدوى، في حرب كان فيها الصمود، أقوى أنواع الأسلحة.

منذ سبعينات القرن الماضي، تبدل مفهوم الأمن الغذائي العالمي، وتبدلت معه المشاعر الإنسانية الحارة إلى حرارة الثلج، وأصبحت الرفاهية المحلية، أكثر قدسية، من إطعام طفل يلفظ أنفاسه جوعا ( في ظل أزمة غذاء عالمي مرعبة)، ومن توفير مياه صالحة حتى للشرب الحيواني. فالمياه في بعض الدول النامية ملوثة وكريهة، يعف عنها حتى الحيوان!، ولذلك.. لا غرابة في رؤية الأقفاص الصدرية لها ولمربيها بادية للعيان. وأمام هذا المشهد يصعب العثور على مبررات لما يحدث، حتى لو كانت الأزمة الاقتصادية العالمية في أوج ثورانها، وحتى لو كانت الأموال تضخ في المؤسسات والبنوك من أجل بقاءها على قيد الحياة، وحتى لو كانت ديون الدول الكبرى، تساوي مجموع نواتجها الوطنية، وحتى لو ولدت أزمة هنا وأخرى هناك، من رحم الأزمة العالمية الكبرى. وإذا كان لا بد من توصيف ما لأزمة الغذاء العالمي، يمكن القول بسهولة ( ومن دون حذر) :"إنها أزمة الأزمات". دون أن ننسى بأنها ولدت قبل الأزمة الاقتصادية، "متسلحة" بعمر مديد، يفوق مجموع أعمار الأزمات كلها التي انطلقت منذ منتصف القرن الماضي وحتى يومنا هذا.

في العالم اليوم يموت طفل من الجوع كل ست ثواني!. وفي العالم نفسه ( وليس غيره) هناك 1,02 مليار جائع. ما يساوي شخصا واحد من كل ستة أشخاص!. وهذا لا يعني أن الأشخاص الخمسة الباقين، يعيشون حياة رغيدة. فبينهم اثنان على الأقل يعيشون على دولار أو دولارين أميركيين في اليوم. أي أنهما مرشحان للانضمام في أية لحظة إلى الجائع الأول. وإذا كنا نتحدث عن "عالمية" الجوع، فإن عدد سكان العالم سيصل إلى 9,1 مليار نسمة بحلول العام 2050، وهذا يتطلب زيادة في حجم زراعة الغذاء بنسبة 70 في المئة. والدول النامية تحتاج إلى زيادة حجم الاستثمارات الزراعية السنوية بنسبة 50 في المئة، أو ما يعادل 83 مليار دولار أميركي سنويا، في حال أراد العالم إنتاج ما يكفيه من غذاء بحلول العام 2050. وتمضي "منظمة الأغذية والزراعة " ( المعروفة اختصارا بـ "الفاو") التابعة للأمم المتحدة، أبعد من ذلك، عندما تقول:" في حال عدم تخصيص الآن – وليس غدا- مزيد من الأراضي في العالم لإنتاج المواد الغذائية، فإن 370 مليون شخص قد يواجهون المجاعة بحلول منتصف القرن الحالي"!.

ولنا أن نتخيل استحالة (ولمزيد من المرونة) نقول: صعوبة تحقيق ذلك، في ظل ظروف مناخية قاسية تقدم القحط على الزرع، وبالطبع في ظل عدم اكتراث عالمي بمستقبل العالم نفسه!. أمام هذا المشهد المخيف، أخفقت الدول الكبرى ومعها الصغرى بالطبع، في الوصول إلى نتائج عملية، في تحقيق " أهداف الألفية" التي وضعتها الأمم المتحدة في العام 2000 ، من أجل خفض عدد الجياع إلى النصف بحلول العام 2015 . ماذا حدث ؟. انضم إلى الجياع أكثر من مئة مليون جائع!. فاللقمة التي كان يتقاسمها 900 مليون من البشر، يتقاسمها الآن 1,02 مليار بشري!!.

وفي "قمة الغذاء العالمية" التي عقدت في روما ( نوفمبر/ تشرين الثاني 2009 )، بات المشهد المريع للجوع، أكثر وضوحا، وأشد وطأة، وأكبر مصيبة. فلا قرارات ناجعة اتخذت، ولا التزامات مسؤولة طرحت، ولا فهم لمستقبل "اللقمة" بدا على ساحتها. والنتائج جاءت – كما كان متوقعا – باهتة، لا طعم لها. صحيح أن اجتماعا واحدا لا يمكن أن يحل مشكلة أخذت مكانتها في التاريخ، لكن الصحيح أيضا، أن أحدا من الكبار، لم يتعاطى مع المسألة بصورة إستراتيجية. أي أنه لم يحاكِ المستقبل، في قضية تمثل المستقبل نفسه. لن أتحدث هنا عن الإهانة التي تلقاها العالم، من غياب الغالبية العظمى لقادة الدول الغنية عن قمة روما ( لم يحضر من قادة مجموعة الثمانية الكبار سوى رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، ولولا انعقاد القمة في بلاده لما حضر!). فقد أرسل هؤلاء رسائلهم المرعبة حول مستقبل الغذاء في العالم، بمجرد عدم الحضور والمشاركة، ليس فقط في وضع الحلول المطلوبة، بل وفي قراءة مستقبل الأمن الغذائي بشكل عام. ماذا نتج عن قمة باهتة كهذه؟، وعود عامة بالحد من المجاعة. متى؟، في "أقرب فرصة ممكنة"!!. والشيء المرعب لا يتوقف انتشاره عند هذا الحد، بل يشمل أيضا، عدم طرح الأسباب الحقيقية للأمن الغذائي والمجاعة على جدول الأعمال!. يا إلهي.. قمة عالمية من أجل الغذاء، لا تناقش أسباب المجاعة؟!. ولم ينفع صيام كل من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ورئيس منظمة "الفاو" جاك ضيوف، لمدة 24 ساعة، في خطوة رمزية تمهيدا لقمة روما. فالذي حدث أن الاثنين تضورا جوعا ليوم واحد فقط!.

وأمام هذه الحقائق المروعة، ضاعت قضية ارتفاع أسعار المواد الغذائية، المرشحة إلى الصعود بصورة مخيفة في منتصف العام 2010. وإذا كان ليس مهما البحث في أسباب الجوع، فإن طرح قضية ارتفاع الأسعار، يبدو أمرا مضحكا!. هذا الواقع "برر" رفض الدول الكبرى الالتزام بجدول زمني للقضاء على الجوع بحلول العام 2025. ولنا أن نعرف – على سبيل المثال- أن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، يحتاج الآن – مرة أخرى ليس غدا – إلى مليار دولار أميركي لإطعام 20 مليون شخص في شرق أفريقيا على مدار ستة أشهر فقط، بينما تحتاج دولة مثل أثيوبيا – لوحدها- نصف هذا المبلغ!. وبينما تتهم الدول الكبرى بعضها البعض في تلويث الكرة الأرضية، وتجنب بعضها التعاون للحد من التدمير البيئي والتغيير المناخي، فإن هذا التغيير الخطير، يؤدي إلى انخفاض الناتج المحتمل للغذاء في القارتين الإفريقية بنسبة 30 في المئة، والآسيوية بمعدل 21 في المئة!. أي أنه يجب أن لا يحلم أحدا منا، بتحسن الأداء الزراعي لاسيما في الدول التي تحتاج إلى لقمة العيش اليومية، لا إلى "الكفيار"، ولا إلى "السلمون المدخن"، ولا إلى "لبن العصفور"!.

إن أهم مصائب أزمة الغذاء العالمي، أن الغالبية العظمى من الدول الكبرى، تتعاطى معها كـ "أزمة اقتصادية". ولأنها ترتبط باللقمة، فهي ليست "اقتصادية"، بل هي "أزمة ضمير"، لايمكن أن تُحل، بمعاول الاقتصاد لوحدها، بل بالدافع الإنساني أيضا.


الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

"تسويق" حكومي أجنبي بفضائيات عربية


(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




" البث التلفزيوني الحكومي، يقوم على التبليغ لا على توصيل المُعلنين إلى المستهلكين"

بات ميتشيل الرئيسة التنفيذية
لمركز بالي الأميركي للإعلام
(متحف الإذاعة والتلفزيون سابقا)

 
 
محمد كركوتــي
 
لم يحظ المشاهد العربي في السابق تدافعا نحوه من جانب حكومات أجنبية، عن طريق إطلاق قنوات فضائية مجانية ناطقة باللغة العربية، كما يحظى اليوم. فقد تحول إلى هدف معلوم، لجهات معلومة أيضا، ومتلقي "متخم" بكل أنواع الفضائيات، بما في ذلك فضائيات التداوي بالأعشاب، وترتيب أطباق الطعام في الخزائن، وكيفية شرب المياه، وأغاني الـ "إس إم إس". ( يوازي عمق "طرب" هذه الأخيرة، مستوى "بلاغة" المفردات المستخدمة في الرسائل النصية القصيرة)!. فعلى مدى أعوام قليلة عج الفضاء العربي بفضائيات، بلغ نشاط توالدها معدل فضائية واحدة كل أسبوع، بصرف النظر عن جودتها ومهنيتها وحتى جدواها. لقد كانت الأموال متوافرة، في عالم كان يعيش طفرة اقتصادية تاريخية، تحولت في مساحة زمنية ليست طويلة، إلى قنبلة انفجرت في كل الأرجاء، لتخلف أزمة اقتصادية غافلت حتى أولئك الذين كانوا يصنعونها!. لن أتحدث هنا عن "البقالات الفضائية"، فبعضها انتهى – بفعل الأزمة- وبعضها الآخر ينازع، لأن الطفرة – عادة – لا تدوم طويلا، وهي على عكس النهضة التي تكفل استمراريتها الذاتية، أو على الأقل تضمن قدرتها على إعادة الانطلاق، في أعقاب حالة تستدعي التباطؤ في مرحلة ما.

توصيف "البقالات الفضائية"، لا ينطبق بأي حال من الأحوال على الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية. فوراء هذه الفضائيات دول كبرى، لها القدرة على إطلاق فضائيات "يومية"، وتحظى بمكانة – وفي كثير من الأحيان بهيبة - عالمية تؤهلها لامتلاك فضائيات بكل اللغات. لكن هذا لا يعني أن الفضائيات العربية الحالية المملوكة لدول أجنبية، تتمتع بميزانيات مفتوحة. ففي هذه الدول أنظمة محاسبة شعبية - برلمانية، لا يمكن لحكوماتها تجاوزها، وعلى هذه الأخيرة التي تدفع اليوم لفضائيتها العربية – وغير العربية – أن تبرر غدا مدفوعاتها. والخزائن العارمة ( أو التي كانت عارمة) في هذه الدول ليست مفتوحة دائما، لكنها تفتح وفق قواعد إجرائية ومهنية متعارف عليها.

في الفضاء العربي حاليا، باقة من الفضائيات الأجنبية – العربية سعت وتسعى إلى وجود لدولها على الساحة العربية، لاسيما في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، اليوم الذي غيرت فيه الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة الأميركية شكل العالم، وغيرت معه أدوات التشكيل أيضا. يضاف إلى ذلك "استحقاقات امتداد" العولمة – قسرية كانت أم طوعية – على الساحة الدولية، دون أن أستبعد تعاظم الفقاعة الاقتصادية العالمية منذ مطلع القرن الحالي. وباستثناء بريطانيا التي أطلقت فضائيتها العربية ( بي بي سي) في منتصف تسعينات القرن الماضي لفترة وجيزة، وأعادت إطلاقها قبل عامين ونصف العام تقريبا. فإن بقية الفضائيات الأخرى بدأت بإطلاق نفسها تباعا مع بداية الألفية الحالية. الولايات المتحدة الأميركية دخلت بـ " الحرة"، وتبعتها روسيا بـ " روسيا اليوم"، وفرنسا بـ " فرانس 24"، وألمانيا بـ " دويتشه فيلله". ولأنه كما يقول المصريون:" ما فيش حد أحسن من حد"، خاضت الصين غمار الفضاء التلفزيوني العربي بفضائية عربية، وكذلك فعلت كوريا الجنوبية بفضائية مُعرَبة. بل حتى الدنمارك درست – ولا تزال تفكر – إمكانية إطلاق فضائية موجهة إلى العرب.

ولكن هل يمكن لهذه الفضائيات أن تستقطب العدد الذي يبرر وجودها من المشاهدين العرب، في ظل فضاء عربي مفتوح، لا يشبه الفضاء التلفزيوني الذي كان يخيم على المنطقة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي؟. وهل يمكن للمادة العربية الأكثر حرية (الآن) في هذه الفضائيات، أن تغري هذا المشاهد بمتابعتها؟. وهل استطاعت أن تَوصِل بصورة "رشيقة" رسائل دولها إليه؟. لاشك في أن هذه الفضائيات أحدثت حراكا إيجابيا في عمليات تطوير القنوات الأرضية والفضائيات الحكومية العربية، لكنها لم تكن الأولى في هذا المجال. فقد استطاعت فضائيات عربية صرفة تتمتع بحد أعلى من المهنية الإعلامية، أن "تُجبر" عددا كبيرا في المحطات الحكومية في العالم العربي على التطوير – بصرف النظر عن مستواه وزخمه – وجعلت الحكومات أكثر خشية على مصير محطاتها. فعندما لا يكون هناك منافس، تغيب عادة معاول الإبداع. ولذلك لم تشكل الفضائيات الأجنبية – العربية عاملا رئيسيا في هذا المجال، وإن مثلت أداة مساعدة للتحفيز نحو التغيير أولا، وتلطيف الخطاب الحكومي ثانيا. يضاف إلى ذلك أن الفضائيات العربية (الصرفة) تجاوزت الحكومية بأشواط طويلة جدا، الأمر الذي جلب لها شرائح متعددة ومتنوعة وعريضة من المشاهدين العرب. فعندما كان المشاهد العربي يفضل – على سبيل المثال - الـ " بي بي سي" العربية في تسعينات القرن الماضي على قنوات بلاده، لم تكن في الأجواء العربية فضائيات أخرى أصلا، ولذلك كان يرى في هذه المحطة الأجنبية "ملاذا ومصدرا آمنا وصادقا" للحصول على معلومة ذات جودة عالية.

أما بالنسبة إلى المادة المقدمة. فقد تحسن مستواها في الفضائيات العربية – مرة أخرى الحرفية – وباستثناء بعض المحظورات (وهي قليلة بالفعل)، فإن مادة الفضائيات الأجنبية العربية، لا تسجل تفوقا عارما على مثيلاتها العربية. بل أن بعض الفضائيات العربية تقدمت في المادة الإخبارية في كثير من الأحداث الرئيسية، لأنها كانت تنفق عليها أكثر من إنفاق الأجنبية نفسها. وطبعا لا مجال للمقارنة في المادة الدرامية، بين الأجنبية ونظيراتها العربية. فهذه الأخيرة، تولي اهتماما كبيرا لهذه المادة، التي توفر لها أعلى درجة من المشاهدة، بينما لا تبدي "الأجنبية" أي اهتمام في هذا المجال.

لست متأكدا من أن الفضائيات الأجنبية تمكنت من تسويق دولها للمشاهد العربي. فهذا النوع من التسويق، يواجه عادة مصاعب كبيرة في تحقيق أهدافه، حتى في الدول التي تمتلك أدوات إعلامية متطورة. وأذكر أنني كنت ضيفا على إحدى هذه الفضائيات، أناقش موضوع الأزمة الاقتصادية العالمية، وأداء الدول الكبرى في مواجهتها، عندما أرادت المذيعة أن تدفعني للإشادة بأداء الدولة التي تمول هذه الفضائية. وعلى الرغم من "مقاومتي" الحوارية لكي لا أنجر ورائها، ظلت "تقاوم" من جانبها، إلى أن تمكنتُ من تحويل مجرى الحديث بصورة غير مباشرة، حفاظا على مستوى الحوار. إن الغالبية العظمى من مشاهدي الفضائيات – عربا أم أجانب – ليسوا مغرمين في متابعة " تسويق الدول". بل يسعون من خلال متابعاتهم التلفزيونية إلى مزيد من الخدمات (بكل قطاعاتها) وبالطبع يتطلعون إلى الترفيه. وإذا أرادت الدول التي تمتلك الفضائيات العربية تسويق نفسها للمشاهد العربي، عليها أن تتوجه إلى هذا المشاهد المقيم فيها في الدرجة الأولى. فهذا الأخير يحتاج بالفعل إلى مزيد من جرعات التعريف والتوعية المحلية، وهو أمر ليس متوافرا في أكبر الدول وأكثرها رسوخا، لاسيما وأن هناك جاليات عربية متعاظمة في البلدان نفسها، تحتاج أيضا إلى ما يمكن تسميته " الإشراك" في المجتمعات التي تعيش فيها، ليس من أجل الذوبان في هذه المجتمعات، بل للحصول على دور أكبر في عملية التنمية والتطور والتثقيف، وحتى المشاركة السياسية والاجتماعية.

أي أن تكون في الدول المتدافعة نحو المشاهد العربي في المنطقة العربية، وسائل إعلام تدعم المشاركة على صعيد الأجانب الذين يعيشون فيها. وهي بذلك تستطيع أن تحقق الكثير من الأهداف الذاتية، بينما ستكون عملية تسويق الدول نفسها أكثر سهولة ومنطقية في مرحلة لاحقة. وأحسب أن هذه الدول تعرف، بأن الفضاء العربي المليء بقنواته التلفزيونية الخاصة، ليس سهل الاختراق، خصوصا عندما يكون الهدف "تسويقا حكوميا".


الأحد، 22 نوفمبر 2009

بلير يخرج قبل أن يدخل!


( هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")











" السياسي يحتاج إلى القدرة على تنبؤ حدوث الشيء غدا.. وفي الأسابيع والشهور والأعوام المقبلة. وأن تكون له القدرة بعد ذلك على تفسير عدم حدوثه"
رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل


محمد كركوتــي

عندما خرج رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير من الحكم، كتبت مقالا تحت عنوان "بلير.. الخروج من الباب الخلفي". فهو لم يستطع الخروج من الباب الأمامي الذي دخل منه، كواحد من أقوى رؤساء الوزراء برلمانيا و"شبابيا" في التاريخ البريطاني، بعدما فشل في العثور على من يتفق معه في سياسته الخارجية ( لاسيما المرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية). فقد أراد أن يكون قائدا دوليا، لكنه اختار أسوأ الأدوات لتحقيق أمله هذا. فخسر "حلمه الدولي" في القيادة، قبل أن يخسر "حلمه الوطني" في الاستمرار أطول فترة ممكنة حاكما. ومع ذلك.. فالرغبة في الاستمرار على مسرح الأحداث لم تتراجع عند رئيس الوزراء البريطاني السابق. فقد اقتنص موقعا دبلوماسيا على ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، لكن عيناه لم تغب عن منصب رئيس الاتحاد الأوروبي. فهو موقع مرموق جديد، سيُدخل بلا شك شاغله التاريخ من بابه الواسع، لا من "مخرج الفرار" الضيق، وسيكرس الفائز به، كشخصية سياسية جامعة، لا كشخصية مفكِكة. لكن توني بلير خرج من أرفع منصب أوروبي، قبل أن يدخل إليه أصلا، بل قبل أن يُعتمد هذا المنصب في الهيكلية الإدارية والسياسية للاتحاد الأوروبي!.

وإذا كان "الالتصاق" البريطاني في عهد بلير، بالولايات المتحدة الأميركية في عهد جورج بوش الابن، سببا رئيسيا في رفض قبول ترشح الأول لموقع رئيس الاتحاد الأوروبي، فإن هناك عوامل أخرى، ساهمت في بقاء بلير مندوبا لـ "الرباعية الدولية" إلى مفاوضات الشرق الأوسط فقط. فلم تشفع له "توسلات" خلفيته جوردون براون أمام صناعي قرار التوظيف الأوروبي. وأحسب أن هذا الأخير، ما كان ليتوسل، إلا لكي يتخلص من "شبح" بلير على ساحة حزب العمال البريطاني الحاكم، الذي خرج من زعامته رئيس الوزراء السابق، كـ "اقتلاع الضرس" من دون تخدير. وقبل أن أتحدث عن العوامل الأخرى، التي أبقت بلير بعيدا عن رئاسة الاتحاد الأوروبي، لابد من الإشارة هناك، إلى التأثيرات السلبية لما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، عن علاقات بلير ببوش الابن، وعن المرحلة التي اختلط فيها على العامة، إذا ما كان بوش يحكم بريطانيا بالفعل!.

كان هناك من يرى، أن "التلاحم" بين الرجلين، لم يكن خاطئا، بل على العكس، كان ضروريا، لماذا؟. لأن وجود شخص كتوني بلير، مع آخر أحمق وأمي سياسي كجورج بوش الابن، يشكل توازنا مطلوبا، ويقلل من الحماقة "البوشية" التي شملت كل شيء خارج الولايات المتحدة وداخلها. ولكن ماذا يقول باول هنا :" لقد حاولت ومعي زميلي وزير خارجية بريطانيا آنذاك جاك سترو، أن نجعل بلير يُقدم على مراجعة بوش الابن". ويضيف قائلا:" لقد وجدنا أن رئيس الوزراء البريطاني السابق، جاهز لمراجعة بوش حول العديد من القضايا، وفي مقدمتها الشأن العراقي. لكن ما أن يرى بلير الرئيس الأميركي حتى يفقد عزمه"!!.

إذن.. لم تكن العلاقة ضرورية بين الاثنين، إذا لم تصل إلى مستوى، يمكن توني بلير "الحكيم والسياسي المحنك" من مراجعة بوش " الأحمق والسياسي الجاهل". ويضاف إلى "قنبلة" باول التي انفجرت في وجه بلير، أن الاتجاه لتقديم رئيس الوزراء البريطاني السابق إلى محاكمة بسبب حربه في العراق، أو على أقل تقدير استجوابه "بعنف تحقيقي" - غير جسدي بالطبع- لإشراك بلاده في حرب غير مبررة من الناحية القانونية أو لنقل: من الناحية المعلوماتية، لاسيما فيما يتعلق بالقدرات النووية العراقية التي لم تكن موجودة أصلا، هذا الاتجاه، ساهم هو الآخر في إبقاء بلير خارج المنصب الأوروبي الأكبر.

أما من الناحية الأخرى، فيرى الأوروبيون الموالون للاتحاد الأوروبي، أن توني بلير، لم يقم بما يكفي من خطوات عملية، لدمج بلاده بالاتحاد، خلال فترة حكمه التي دامت قرابة العشر سنوات. فلا تزال بريطانيا خارج نطاق منطقة اليورو، ولم تقم – حتى الآن – بإقرار الدستور الأوروبي، ولا تزال تعمل على بعض " الجبهات"، كبريطانيا لا كدولة عضو في اتحاد يتكرس يوما بعد يوم، ويتحول شيئا فشيئا إلى دولة واحدة. والأوروبيون الذين رفضوا توني بلير رئيسا للاتحاد، يعتقدون بأن هذا الأخير، يمثل الماضي ولا يرتبط بالمستقبل. وهذا لوحده سببا كافيا، لإبقاء بلير في أي مكان، إلا المكان الأوروبي.

والحقيقة، أن هؤلاء يمسكون بمبررات لا تقهر في هذا المجال. فكيف يمكن أن يأتي شخص من بلد ليس مندمج تماما مع وتيرة اندماج الاتحاد الأوروبي، ليكون رئيسا لهذا الاتحاد؟!. وكيف يمكن القبول بهذا الشخص، بينما لا تزال شوائب علاقاته مع إدارة بوش السابقة، على الساحة، بتداعياته وتبعاتها؟.

إنها مسألة فيها الكثير من النظر، والكثير من المنطق، والكثير من الحكمة. كما أنها ستكون مثالا يحتذى لأي زعيم أوروبي، يسعى في المستقبل للخروج عن "النص الأوروبي". فالاتحاد الأوروبي أصبح مثل الحزب السياسي، من يخرج عن نطاقه، يخرج منه.. وإلى الأبد، أو في أحسن الأحوال، يتعرض إلى تقليص نفوذه، بكل الوسائل المتاحة.


الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

"المتشائلون" الاقتصاديون!!

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")








" إذا كنت تعتقد أن أحدا لا يحفل إن كنت حيا أو ميتا.. جرب التوقف عن دفع أقساط سيارتك "
لاعب البيسبول الأميركي روبرت إريل ويلسون




محمد كركوتــي

ليس مسموحا لشخص بوضعية ومسؤوليات رئيس البنك الدولي روبرت زوليك، أن يكون متفائلا أو متشائما، فيما يرتبط بتداعيات وآفاق الأزمة الاقتصادية العالمية. وليس مقبولا منه أيضا، أن يكون متفائلا حينا، ومتشائما حينا آخر، لأنه ليس على طاولة "بوكر" أو " روليت" أو " بلاك جاك" في إحدى الكازينوهات. فهو يمثل مؤسسة يفترض أنها تتمتع بأعلى درجات من الشفافية والواقعية والحقيقة المجردة.. وبالطبع النزاهة. وهو أيضا بمثابة مؤشر، لما ستؤول إليه الأمور – خصوصا في زمن الأزمات - لا محلل يمكن أن تخطئ توقعاته أو تصيب. هو مثل سائق يقود قطارا، ينبغي أن يعرف بالضبط مواقع محطاته، وفي مقدمتها محطته الأخيرة. والأمر نفسه ينطبق على رؤساء ومدراء المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. فالخطأ في تقديرات هذه الهيئات، لا يُخيب الآمال فحسب، بل يُوصل الإحباط إلى أعلى قمته، أو يُلون الخراب بأزهى الألوان وأقواها بريقا!، والنتيجة في كل الحالات، لن تكون أقل من مأساة ضمن كارثة.

لقد اتبعت بعض الحكومات في العالم – راشدة وغير راشدة- منذ اندلاع الأزمة العالمية، أساليب الإنكار في البداية لبلوغ الأزمة دولها في المرحلة الأولى، والتخفيف من آثار الأزمة – لفظيا لا عمليا - في المرحلة الثانية، والتفاؤل -التسويقي الوهمي - في المرحلة الثالثة. لكن سرعان ما وجدت نفسها، مثل شخصية سعيد أبو النحس، التي رسمها الأديب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي في روايته الشهيرة " المتشائل". وإذا كان "التشاؤل" الفردي يؤذي فردا، فإن "التشاؤل" العام يؤذي أمة – بل أمم – بأكملها. ولأن الأمر كذلك، فقد أسرعت الحكومات "المتشائلة"، إلى الهروب من حالتها المرضية هذه إلى الواقع، الذي ربما لا يضمن لها استمرار شعبيتها – لاسيما في الدول الراشدة -، ولكن بالتأكيد يوفر لمصداقيتها الحصانة المطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى. وإذا كان التفاؤل –غير الواقعي – ينتج وهمًا، كذلك الأمر مع التشاؤم، لكن " التشاؤل" لا يؤدي إلا إلى انفصام في الشخصية، في وقت يحتاج فيه العالم، إلى كل إمكانيات الشخصية المتماسكة.

لا شك في أن بعض دول العالم، شهدت نموا ما في غضون الأشهر القليلة الماضية، خصوصا مع بداية الربع الأخير من العام 2009. لكن هذا النمو ليس طبيعيا، ولا يدخل ضمن نطاق التطور الاقتصادي الذي يكمل المشهد التنموي العادي. هو أشبه بامرأة تحمل جنينها خارج الرحم، ولا أحد يستطيع أن يخمن، إذا ما كان هذا الجنين قابلا للحياة( جنينا أو إنسانا)، قبل أن تتضح الصورة الكاملة للحمل. والنمو الذي يتحدثون عنه الآن، هو في الواقع، عبارة عن توقف الانهيار أو الكساد أو الركود. والحراك الاقتصادي الراهن، لا يستحق صفة النمو، إلا بعد مرحلة الانتعاش. وطالما أن هناك عمليات إنقاذ – لا أقول تحفيز – تجري في كل الأرجاء، تبقى مرحلة النمو سابقة لأوانها. فعلى سبيل المثال، يجري الحديث عن خروج منطقة اليورو ( الدول التي تعتمد اليورو كعملة وطنية لها، ويصل مجموع ناتجها السنوي إلى 8400 مليار يورو) من الكساد. وعلى الرغم من الشكوك التي تلف هذا الخروج الهش، إلا أن الوضع الاقتصادي المتحسن لهذا المنطقة، لا يزال يعتمد على عمليات الإنقاذ، التي دفعت البنك المركزي الأوروبي، إلى ضخ المليارات من اليورو، لتشجيع الإقراض. وهذا يعني، أن الأموال الحكومية هي التي دفعت الحال إلى التحسن، لا الأداء المتكامل والطبيعي لاقتصاد منطقة اليورو. ولا بد من التأكيد هنا، على أن عمليات الإنقاذ تختلف عن عمليات التحفيز. فالأولى أُطلقت لانتشال الشركات من الغرق، لاسيما تلك التي تُعتبر رمزا من رموز السيادة الوطنية، والثانية لا تُطلق إلا في نطاق الشركات التي استجمعت أنفاسها. والسؤال يبقى: هل استجمعت الشركات والمؤسسات المعنية أنفاسها فعلا؟. وهل بلغت من القوة لتشجيعها؟، أم أنها لا تزال في أوضاع تحتاج فيها إلى المساندة، للحفاظ على كياناتها؟.

ولأن الصورة لا تزال غائمة، والمؤسسات التي أُنقذت لا تزال مضطربة، والوضع بأكمله لا يزال عائما، تبدو التوقعات المتناقضة للهيئات الدولية المعنية حول النمو – خصوصا البنك وصندوق النقد الدوليين – خارجة من اللوحة العامة للاقتصاد العالمي. فعندما يقول رئيس البنك الدولي، قبل أشهر: إن اقتصاد العالم، سيشهد نموا في العام المقبل، ويدعمه زميله رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس، علينا أن نفرح وتغمرنا السعادة. ولكن ما عسانا أن نشعر، عندما يعود زوليك وشتراوس للقول: إن النمو العالمي يواجه مخاطر التراجع في العام 2010؟!. ولأن هذا النمو الذي يتحدثان عنه هشًا، أسرعا للتأكيد على ضرورة أن لا يتم سحب إجراءات " التحفيز" الاقتصادي في العام المقبل. وإذا كان شتراوس – على سبيل المثال – يرى بأن أوروبا لن تشهد انهيارات جديدة للمصارف، كيف يفسر لنا الانهيارات المتتالية للمصارف الأميركية، حيث بلغ عدد المصارف التي أُغلقت نهائيا في غضون عام واحد 120 مصرفا. أليس لهذه الانهيارات تبعات عالمية؟، أم أن الاقتصاد الأميركي بات منفصلا عن الاقتصاد العالمي؟!!.

ربما كان وزراء مالية " منتدى التعاون لدول آسيا والمحيط الهادي" - المعروف اختصارا بـ " إيبك" - البالغ عددها 21 دولة، أكثر مسؤولية من رئيسي البنك وصندوق النقد الدوليين، عندما حذروا من تصور انتهاء الأزمة الاقتصادية العالمية. فهي – حسب هؤلاء - لا تزال موجودة، وأن الموقف لا يزال هشًا، رغم التحسن المالي. وتكمن مسؤولية وواقعية هذا التوجه، أن ما يشهده العالم حاليا، ليس سوى هدنة، ضمن نطاق الحرب الشاملة على الأزمة، لاسيما وأن بعض المسببات الحقيقية التي وَلدت الأزمة، لا تزال على الأرض، في مقدمتها، عدم التوصل إلى اتفاق عالمي نهائي، ينظم الأداء المالي للمصارف والمؤسسات المالية. ومما لاشك فيه، أن أصحاب القرار الاقتصادي العالمي، باتوا يعرفون الآن (بفعل الأزمة) أن الانتعاش – وإن تحقق مستقبلا وبصورة واقعية – عليهم أن يعملوا على احتواء المتغيرات التي أحدثتها هذه الأزمة. ولا أبالغ إن قلت، إن الأمر يحتاج لعشر سنوات أخرى، لأن السلوك الاستثماري والتنموي تغير في بعض البلدان، وانقلب رأسا على عقب في بلدان أخرى. مع ضرورة الإشارة، إلى أن أنماط الطلب الاستهلاكي تغيرت أيضا وبصورة متطرفة، وإلى التراجع المخيف في وتيرة تنفيذ مشروعات البنى التحتية، خصوصا في البلدان الأقل تقدما.

في الأزمات الكبرى، تبرز أزمات من قلبها، إلى جانب الفرص التي تستحدثها. لقد حدث هذا في الكسادين الطويل والعظيم اللذين انطلاقا في الولايات المتحدة الأميركية في القرنين السابقين. لم ينفع وقتها التفاؤل المستند إلى التمنيات، ولا التشاؤم المرتكز على الخوف. الذي ينفع في مثل هذه الحالات التاريخية، هو التعاطي مع الواقع كما هو، إلى جانب – بالطبع - التعاون الدولي الشامل. فالأزمة لم تكن خاصة بالولايات المتحدة – وإن انطلقت منها – ولا بالاتحاد الأوروبي، ولا بالصين أو الهند أو غيرهما من الدول. هي أزمة جمعت العالم تحت عباءة واحدة. عباءة مليئة بثقوب الجشع والاحتيال والخوف والإحباط .. والأمل أيضا، لا يستطيع حتى أمهر الخياطين ترقيع هذه الثقوب بمفرده، فما بالك برَتيها. إنها مسؤولية أمم بأجمعها. ومسؤولية حكماء – لا ملهَمين - يعرفون متى يتفاءلون ومتى يتشاءمون.. وأيضا.. متى لا " يتشائلون". حكماء يعرفون أهمية التحرك، ليس فقط لمواجهة الأزمة، بل أيضا للحيلولة دون اندلاع أخرى. فالعالم أُجهد بما يكفي من أزمة، أزاحت مسرات وهمية، وجلبت أحزانا واقعية.


الأحد، 15 نوفمبر 2009

السوق في مواجهة المجتمع!

(هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")













" الأشياء الأخرى قد تغيرنا.. لكننا نبدأ وننتهي مع الأسرة "
الكاتب الأميركي أنتوني براندت


محمد كركوتــي

لم تنجح حكومات على مر التاريخ، في تكريس مبدأ، أن السوق هي التي تضع معايير المجتمع، لا العكس. فهذا المبدأ الذي وضعته والتزمت به بعض الأحزاب السياسية التي حكمت عددا من البلدان الأوروبية، وكذلك الأمر مع بعض الإدارات التي حكمت الولايات المتحدة الأميركية، كان يعيش لفترة، ولكنه لا يموت إلا بمصيبة اقتصادية – اجتماعية عامة. كانت مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية المحافظة السابقة، الرمز الأكبر لـ "التيار السوقي"، وكانت لا تعترف بالمجتمع كمحرك لذاته، بل لا تعترف بوجوده أصلا. ماذا حدث على مدى 11 عاما، حكمت خلالها تاتشر بريطانيا طوال العقد الثامن من القرن الماضي؟. أشرف اقتصاد بلادها على الانهيار، بعدما تمزقت مفاهيم الأسرة، وسادت مفاهيم السوق الخالية من الضوابط. ونشأت في تلك الفترة شريحة طفيلية مدمرة، استطاعت أن تحقق مكاسب مالية كبيرة، عن طريق الغش والخداع، تشكلت من الفاشلين في كل شيء، إلا في الاحتيال.

كانت الأسرة التي تشكل المجتمع، في الدرجة الأخيرة من أولويات حكومة تاتشر – والحكومات الأخرى التي استلهمت المبدأ التاتشري- وتصدرت المصارف التي كانت تعقد الصفقات الاسمية أو الوهمية أو الورقية سلم الأولويات ( وهذا ما حدث قبل الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة)، والشركات الصغيرة والمتوسطة، التي كانت تظهر لأقصر فترة ممكنة، ثم تختفي، بعد أن تكون قد جمعت ما أمكنها من الأموال غير الشرعية، وأيضا المحتالون الذين عرفوا كيف يقدمون لوحة جميلة، لأبشع منظر ممكن. وسط هذا الخراب الاقتصادي المتعمد، كانت الأسرة تتعرض للقضم شيئا فشيئا، إلى أن زال حراكها الاجتماعي تماما، وأصبحت عبارة عن مجموعة أفراد تجمعهم صلة القرابة فقط، لا حراك الحياة. ماذا حدث بعد ذلك؟. قام قادة مؤثرون في حزب المحافظين الحاكم آنذاك، في ليلة ظلماء بعملية انقلاب بيضاء ضد تاتشر، التي خرجت بأبشع صورة مهينة من الحكم. فقد وجد المحافظون العقلاء، أن الخراب لم يتسيد المجتمع فحسب، بل وصل إلى الحزب نفسه الذي تردت سمعته، وخبا بريقه، وتراجع تأثيره.

حل جون ميجور المحافظ مكان تاتشر زعيما للحزب ورئيسا لحكومة البلاد. وعلى الفور رفع شعارا أراد من خلاله أن يستعيد حزبه بعضا من الشعبية التي فقدها على مدى 11 عاما. ما هو هذا الشعار؟ : العودة إلى الأصول". كان ميجور والفريق الحاكم الجديد، يريد أن يكرس حقيقة أن المجتمع ( بتكوينه الأسري) هو الذي يحدد المعايير العامة للسوق، وأن السوق عندما تخرج عن نطاق خصوصيتها ودورها، تجعل من المجتمع ساحة للذئاب، وسط مجموعة من الحملان.

في بريطانيا اليوم، توجها حكوميا مباشرا لتشجيع تشغيل الأزواج وفق عقود عمل لـ "جزء من الوقت"، أو ما يعرف بالإنجليزية بـ Part-time ، لأن حكومة جوردون براون، توصلت إلى ضرورة إبقاء الأسرة مع بعضها البعض لأطول فترة ممكنة، وبأكثر عدد من أفرادها، وتدعيم معاييرها وأخلاقياتها. وبالفعل طلبت وزيرة العمل إيفيت كوبر من رؤساء المؤسسات والشركات البريطانية، توفير الوظائف وفق هذا النوع من العقود، كما طلبت من مكاتب التشغيل ( التابعة للحكومة)، عرض هذه الوظائف على الأزواج الذين يتقدمون بطلبات العمل لديها. وتقول الوزيرة: "إن الحكومة التي تهتم بأداء الشركات والمؤسسات المختلفة، تهتم بصورة أكبر بنوعية الحياة الأسرية،و سبل دعمها". ولأن هذا الأمر لا يروق للشركات، فقد اتهم رؤساؤها الحكومة، بأنها لا تولي اهتماما لأوضاع شركاتهم، التي ترزح تحت ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية.

لكن للحكومة نقطة لصالحها. فهي لم تطالب بتوفير الوظائف من قبل الشركات وفق عقود العمل لجزء من الوقت، بل طالبت بعرض الوظائف ذات عقود العمل الكاملة أو ما يعرف بالإنجليزية بـ Full-time ، على أن يجري اقتسام الوظيفة الواحدة بين شخصين، في مكاتب التوظيف التابعة للحكومة، فضلا عن أن المطالبة الحكومية لا تجبر الشركة على تحويل عقد الموظف الحالي لديها من "كل الوقت" إلى "جزء من الوقت"، إلا إذا قبلت الشركة بذلك. وفي كل الأحوال، جاء اتهام رؤساء الشركات للحكومة بعدم اهتمامها بأوضاع شركاتهم تحت الأزمة العالمية فارغا، لأن وزير الأعمال اللورد بيتر ماندلسون، قام بتأخير فرض قانون التشغيل "جزء من الوقت"، إلى أن تنجلي صورة الاقتصاد البريطاني تماما ككل.

لاشك في أن هذه الخطوة، تعزز من الحياة الأسرية. فعلى سبيل المثال، أظهرت إحصائية صدرت مؤخرا، أن البريطاني يحظى بأعلى دخل مقارنة بزملائه في الدول الأوروبية الأخرى، لكن الامتيازات الاجتماعية والترفيهية التي تمنح له، هي الأقل مقارنة بمثيلاتها في بقية دول أوروبا، بما في ذلك طول ساعات العمل. وبصرف النظر عن هذه النقطة، إلا أن التوجه العام لتوفير أكبر قدر من الالتفاف الأسري، بات مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى. لأن المجتمع يعيش حاليا، أسوأ أزماته بسبب تداعيات الأزمة العالمية، ولأن عمليات التصحيح التي فرضتها الأزمة، تشمل بصورة أساسية المجتمع. فهذا الأخير كان – ولا يزال – الأكثر تعرضا لأذى الكارثة الاقتصادية العالمية، والأقل حصانة منها.


الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

توقيع كتاب " في الأزمة" لمحمد كركوتي


دبي: خاص


أقام "نادي دبي للصحافة"، حفل توقيع كتاب " في الأزمة" لـ محمد كركوتي، وذلك بحضور عدد من ممثلي وسائل الإعلام في الإمارات، بالإضافة إلى مجموعة من الكتاب والمهتمين. وسبقت التوقيع جلسة نقاش حول الكتاب بشكل خاص، والأزمة الاقتصادية العالمية بشكل عام. وأدار الجلسة كل من الزميلين نهى علي المذيعة في قناة "سي إن بي سي عربية" ، والدكتور صباح ناهي من قناة " العربية".

وتناول النقاش جوانب الأزمة الاقتصادية العالمية، التي تنال من العالم العربي، بالإضافة طبعا إلى هيمنة الأزمة على الحراك الاقتصادي العالمي. وشدد كركوتي، على أن الأزمة لم تهدأ بعد، وتوقع أن يتواصل وجودها عالميا وعربيا لفترة طويلة، خصوصا وأن خطط الإنقاذ التي اعتمدت منذ انطلاق الأزمة، لم تظهر نتائج عملية وفاعلة، بهذا الصدد. كما أشار المؤلف: إلى أن ضرورة أن يتخلص العالم، من ثقافة الأسواق المنفلتة، مع التشديد على أنه لا يطالب بسيطرة حكومية كاملة عليها.

وتضمنت جلسة النقاش أيضا، آفاق الأزمة وتاريخ الأزمات والمقارنة بينها. وتم التركيز على دور الإعلام العربي الغائب على صعيد تناول الأزمة بصورة تصل إلى القاعدة العريضة من المتلقين العرب للإنتاج الإعلامي بكل أنواعه. وأثيرت في الجلسة أيضا، مواقف وتنبؤات وسائل الإعلام العالمية، قبل الأزمة الاقتصادية.

وقام "نادي دبي للصحافة" بتقديم هدية تذكارية للكاتب، عبارة عن مجسم زجاجي لشعار النادي، الذي يقوم بنشاطات مختلفة على صعيد خدمة الإعلام والإعلاميين العالمين في الإمارات ككل.

يذكر أن كتاب " في الأزمة" صدر تحت عنوان فرعي هو " النمو لمجرد النمو مبدأ الخلية السرطانية"، عن مركز الإمارات للدراسات الاقتصادية. ويقع الكتاب في 342 صفحة، تتضمن مجموعة من الإحصاءات والبيانات المساندة للموضوعات الأساسية فيه. فضلا عن قسم للصور المعبرة، عن فداحة الأزمة الاقتصادية العالمية.


الصورة الأولى: محمد كركوتي

الصورة الثانية: كركوتي/ نهى علي/ صباح ناهي

















الاثنين، 9 نوفمبر 2009

جرائم الـ"دوت" والـ "كوم" ؟!



(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










 " أُفضل الفشل بشرف عن النجاح بالاحتيال "
الكاتب الدرامي الإغريقي سوفوكليس


محمد كركوتــي

ليس غريبا أن توفر الأزمة الاقتصادية العالمية آليات و"معاول" لمرتكبي الجرائم المالية عبر الانترنت، أو ما أصبح يعرف بـ "الجريمة الالكترونية". فعندما تجف المياه، تزدهر سرقة الآبار من فوهاتها، ومن أخاديدها المخفية تحت الأرض. وعندما تتبخر الممتلكات، تتوجه العيون على ما تبقى منها. والأزمة "شفطت" ما كان في الأيدي والجيوب والخزائن، بما في ذلك الممتلكات ورؤوس الأموال "الوهمية"، أو الاسمية، أو الورقية. ومن كان يعتقد ( فردا أم مؤسسة) أنه يملك المال، اكتشف أنه يخزن "أموالا وهمية"، وممتلكات اسمية!. والجريمة الالكترونية المتصاعدة، تواكب الجريمة التقليدية في كل مكان على وجه الأرض، وتفوقها من حيث الخسائر. فالنشل اليدوي، والسطو المسلح، والسرقة الليلية والنهارية، والاحتيال المتنوع، هي مرادفات، لنشل الهوية الالكترونية، والسطو على مواقع الأفراد والمؤسسات، والسرقة من بطاقات الائتمان وغيرها من أدوات التحويل المالي، والاحتيال على مفاتيح الدخول إلى الشبكة الدولية، مع اختلافين واضحين، الأول: أن احتمالات وقوع المجرمين التقليديين أعلى من إمكانية القبض على المجرمين الالكترونيين، والثاني: أن وسائل وأدوات "التقليديين"، تظل أقل "توالدا" من مثيلاتها عند "الالكترونيين". لماذا؟، لأن "الإبداع الإجرامي" الالكتروني لا آفاق له، وتبدو ملاحقته أقرب إلى اللحاق بالسراب. ولعل هذا ما جعل حكومات تندفع للاستعانة بالمجرمين الالكترونيين التائبين، لملاحقة زملائهم السابقين. ويبدو أن هذه الحكومات – بمؤسساتها الأمنية المختصة – أخذت بنصيحة الشاعر المثير للجدل أبو النواس الذي قال : "وداوها بالتي كانت هي الداء".

لم تكن جرائم الـ"دوت" والـ "كوم"، أو الجرائم الالكترونية، جديدة على الساحة العالمية. فقد بدأت مع تعاظم اتساع رقعة الشبكة الدولية، وعلى الفور أقدمت المؤسسات – بكل أنواعها- على بناء جدران الكترونية مضادة، نجحت في بعض معاركها، وفشلت في بعضها الآخر. كانت – ولا تزال – أشبه بالملاكم، الذي يحقق نقطة لصالحه في المباراة، لكن سرعان ما يحقق خصمه نقطة أخرى. ومع التطور المذهل لأدوات الجريمة الالكترونية، بات المجرمون يحققون نقطتين لصالحهم مقابل واحدة لضحاياهم. والأمر ليس كذلك بالنسبة للأفراد، فهؤلاء بدون "جدران الكترونية مضادة"، ولا يملكون من " الأسلحة" سوى تلك التي توفرها الشركات أو الجهات التي تقدم لهم الخدمات الالكترونية، وهي عادة ما تكون متواضعة من حيث الفاعلية. ومع اندلاع الأزمة الاقتصادية، دخل العالم الالكتروني في فوضى تحمل معها المخاطر أكثر مما تحمله من تشتت.

وفي ظل استفحال الأزمة، حققت الجريمة الالكترونية معدلات عالية لم يسبق لها مثيل. ففي غضون عام واحد فقط ارتفعت في الولايات المتحدة الأميركية أكثر من 33 في المئة، وبلغت الخسائر الناجمة عنها في العام 2008 أكثر من 264 مليون دولار أميركي، مرتفعة من 239 مليون دولار في العام الذي سبقه، بينما لم تتجاوز في العام 2001 حدود 18 مليون دولار، وذلك طبقا لـ "مركز شكاوى الاحتيال عبر الانترنت"، التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالية، المعروف اختصارا بـ "إف بي آي". ومع نهاية العام 2009 ستقفز النسبة إلى مستويات أعلى، لأن العوامل المشجعة على ارتكاب هذه الجرائم لا تزال موجودة على الساحة. والولايات المتحدة تتصدر – من ضمن ما تتصدر – قائمة الدول الأكثر إنتاجا لهذه الجرائم، ومعها بريطانيا وكندا، ومن أيضا؟، نيجيريا والصين!. ولمزيد من "الهم الالكتروني" تعتقد شركة " تريند مايكرو" الأميركية المتخصصة في مجال البرمجيات وخدمات "الأمان الالكتروني"، أن مجرمي الانترنت يستغلون الأعداد الهائلة من المبرمجين المحترفين والبارعين في اختصاصاتهم الذين فقدوا وظائفهم بفعل الأزمة!. وهذا يعني أن العالم لن يصاب فقط بزخم إجرامي الكتروني، بل بـ "عديد" بارع من المجرمين!. مع الإشارة إلى أن الأجواء مواتية أيضا لهؤلاء، بفعل الضبابية التي تشهدها بيئة الأعمال في العالم، لمهاجمة المؤسسات، وطبعا لسلب أكبر عدد ممكن من الأفراد.

لا توجد أرقام حقيقية بعد عن الحسابات المصرفية المخترقة من قبل "مجرمي الانترنت"، ولكن العدد، طبقا لبعض المصارف التي تنشر البيانات في الولايات المتحدة وأوروبا عن هذه العمليات، يتزايد، وبصورة مريعة. فالسرقات تستهدف أكبر قدر من المعلومات المصرفية والهوية والموارد، بواسطة أكثر الطرق تعقيدا. دون الإشارة بالطبع إلى المواد الالكترونية الخبيثة التي ينشرها هؤلاء في أوسع نطاق ممكن، والرسائل الالكترونية غير المرغوبة، التي يصل عددها وفي الوقت الراهن يوميا إلى 115 مليار رسالة، مقابل 75 مليار رسالة في العام 2005 . ومن المذهل ، أن البرمجيات الخبيثة الموجودة على عناوين الانترنت ارتفعت في العام 2008 - حسب شركة " تريند مايكرو" – 256 في المئة، مقارنة بالعام الذي سبقه!!. وإذا كانت المؤسسات والشركات المستهدفة، تستطيع تحديد حجم خسائرها المالية، والعمل على احتواء أزماتها مع مجرمي الانترنت، فإن الضحايا الأفراد يستطيعون – بالطبع - معرفة مستوى خسائرهم، لكن لا توجد طريقة أو وسيلة لتحديد الحجم الحقيقي لخسائر الأفراد مجتمعين، فالغالبية العظمى من هؤلاء، لا يبلغون الجهات الأمنية المختصة، عن عمليات الاحتيال والسرقة التي يتعرضون لها، على الرغم من وصول عدد الشكاوى المرفوعة في الولايات المتحدة وحدها في العام الماضي، إلى 275284 شكوى!. وإذا ما وزع حجم الأموال المسروقة خلال عام واحد فقط على الضحايا المعلومين، فتبلغ الخسائر حدود 931 دولارا لكل ضحية.

ومن ضمن "التسهيلات" التي قُدمت للمجرمين الالكترونيين، أن الشركات والمصارف والمؤسسات المالية، خفضت الإنفاق على حربها ضد هؤلاء، وذلك في إطار التخفيض الذي اتبعته، لمواجهة تبعات الأزمة الاقتصادية. وسرعان ما وجدت نفسها أمام كارثة الأزمة، ومصيبة جرائم الانترنت!. وفي الجانب الآخر، فإن غالبية مستخدمي الشبكة الدولية، ليسوا على قدر من الكفاءة والفطنة التي تمكنهم من المواجهة. فالبرامج الخبيثة لا حدود لها، والأفكار الالكترونية المدمرة تتوالد مثل الفئران. فلم تعد الرسائل غير المرغوبة – على صعيد الأفراد - أداة ناجعة من أدوات الاحتيال والسطو، لأن أمرها فضح عند الجميع، والبرامج التي تستهدف المؤسسات، لم تعد هي الأخرى كما كانت. فالمنهجية الاحتيالية تتغير على مدار الدقيقة لا الساعة، وخسائر هذا النوع من الجرائم يفوق الخسائر الناجمة على الجرائم التقليدية. ويكفي الإشارة إلى دراسة كندية حديثة، أظهرت أن معدل خسائر السطو المسلح يصل إلى 3200 دولار للحالة الواحدة، وترتفع إلى 22500 دولار في حالة السطو عن طريق الغش والخداع. بينما تقفز خسائر السطو الالكتروني إلى 430 ألف دولار، ومعدلات ضبط الجناة تهبط من 95% في حالة السطو المسلح إلى 5% في حالة السطو الإلكتروني!. والمصيبة - حسب الدراسة – أن معدل ملاحقة المجرمين قضائياً لا تتجاوز 1% من "الحالات الالكترونية"!. وتعزيزا لهذه الدراسة هناك أخرى أصدرتها الأمم المتحدة حول جرائم الانترنت، أظهرت أن ما بين 24 و42 في المئة من مؤسسات القطاع العام والخاص في العالم، تعرضت لنوع من أنواع الجريمة الالكترونية، وقد شهدت ارتفاعا أيضا في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية.

وإذا كانت الأزمة قضية – أو مصيبة – عالمية، وفعَلت من مكنونات الجريمة الالكترونية، تبدو على الساحة الآن، ضرورة لـ " عولمة" هذا الهم المتوالد. فهناك الكثير من بلدان العالم ( بأفرادها وحكوماتها) لا تزال دون مستوى خوض الحرب ضد هؤلاء المجرمين. وإذا كانت الدول المتمرسة في هذه الحرب، تربح معركة وتخسر اثنتان، فلا غرابة في أن تخسر بقية الدول المعارك كلها في هذه الحرب. دون أن ننسى بأن غالبية المجرمين الالكترونيين، يعيثون في الانترنت فسادا وإجراما من مواقعهم في الدول المتمرسة نفسها!.


الأحد، 8 نوفمبر 2009

كساد الطلاق!


( هذا المقال خاص بموقع "سي إن بي سي عربية")







" الطلاق باللاتينية.. هو سطو غير مسلح على جيب الرجل "
الممثل الأميركي روبين وليامز


محمد كركوتــي

غيرت الأزمة الاقتصادية العالمية، المفهوم التقليدي للطلاق. واستحدثت نوعا من المستجدات تبدو غريبة وغير متوافقة مع المنطق. لمَ لا؟ والأزمة نفسها، لم تكن وليدة مسببات منطقية، ولا عوامل طبيعية. فقد تجمعت حممها "خارج النص"، وقذفت بها في كل الأرجاء. وإذا كانت عمليات الانتحار الفردية التي انتشرت في العالم، بسبب الخسائر من الأزمة وضياع الأموال إلى الأبد، تبدو مفهومة، رغم كونها مرفوضة إنسانيا. فإن تأثر "حراك" الطلاق بصورة عكسية بها، طرح الكثير من التساؤلات، ونشر حالة من الاستغراب. وأحسب أنه حتى "الملهمين الاقتصاديين" انضموا إلى قوائم المستغربين.

هناك الكثير من مسببات الطلاق. من بينها شخصية، وأخرى ترتبط بمؤثرات خارجية، فضلا عن تدهور الأوضاع المعيشية للأسرة، لاسيما إذا ما كان الشح المالي يتسيد الموقف داخلها. فعندما تفرغ الجيوب، تبدأ الأزمات، وعندما تستفحل هذه الأخيرة، تنطلق المواجهات، وعندما تفشل كل الجهود للحد منها، يبرز الطلاق كحل أمثل للحالة كلها. وفي المجتمعات الغربية، كِلا الطرفين ( الزوج والزوجة) يجهزان أسلحتهما، ويتقمصان شخصيات أكثر الرموز عنفا في التاريخ، للحصول على أكبر قدر من المكاسب المالية أولا، والمعنوية ثانيا. والطلاق في الغرب، أعلى كلفة للطرفين منه في الشرق. وعلى هذا الأساس، تدخل عملية الطلاق في طرق ومسارب طويلة وأحيانا معقدة، وتستهلك مساحة زمنية ليست قصيرة، تُنهك الزوج والزوجة، قبل أن يفترقا ويستريحا من بعضهما البعض.

غير أن أحد عوامل الطلاق، شهد تغيرا في اتجاهه أو مفهومه بصورة عكسية. فعلى الرغم من المشاكل الاجتماعية والمعيشية والمالية والإسكانية، التي أتت بها الأزمة، تراجعت حالات الطلاق في الغرب بشكل عام، وفي الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص. لماذا؟، لأن الطرفين لا يستطيعان تحمل نفقات الطلاق، في الوقت الذي يبحثون فيه عن دولار أميركي منسي هنا وهناك، لمواجهة تبعات الأزمة معيشيا. وبذلك أخرجت الأزمة " لسانها" في وجوه الساعين إلى الطلاق، والخلاص من شركائهم إلى الأبد، تماما مثلما أجرت الـ " لسان" نفسه في وجوه الساعين إلى الزواج. فالتكاليف عالية في الحالتين، والمال تبخر في كل الحالات، من جراء تقليص الوظائف وتخفيض الرواتب وتراجع أسعار المنازل.

وطبقا لـ "الأكاديمية الأميركية لمحاميي قضايا الزواج"، فإن 57 في المئة من هؤلاء أكدوا وجود تراجع كبير في دعاوى الطلاق في الربع الأخير من العام 2008، مقابل 14 في المئة منهم قالوا: إن هذه الدعاوى زادت بشكل طفيف. والأمر مشابه إلى حد بعيد في الدول الأوروبية، التي تتبع أنظمة طلاق متقاربة مع الولايات المتحدة. وهذا يعني أن الأزواج غير القادرين على تحمل بعضهم البعض، باتوا مكبلين ومتسمرين في مواقعهم غير المرغوبة، إلى أجل غير مسمى. وما على هؤلاء إلا أن "يجتروا" حبا سابقا، ربما يستجمع حال الأسرة عاطفيا، أو أن يعيشوا خانعين لأزمة اقتصادية لم يرتكبوها. فعندما يكون الطلاق في كفة، والميزانية "النافقة" في الكفة الأخرى، يصبح " الحب المستعاد" أقل كلفة.

ومن يدري؟، ربما تقدم الأزمة الاقتصادية آلية لصيانة الحب، حتى لو كان مكروها!.


الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

حفل توقيع كتاب " في الأزمة"



يقيم (نادي دبي للصحافة ) الاثنين المقبل في مقره بدبي، حفل توقيع كتاب (في الأزمة)"النمو لمجرد النمو...مبدأ الخلية السرطانية" لمؤلفه محمد كركوتي. وستعقب الحفل جلسة نقاش يشترك فيها ممثلو وسائل الإعلام والمهتمين حول الكتاب، تتناول آفاق الأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيراتها في المجالات السياسية والاجتماعية والعسكرية. فضلا عن انعكاساتها على القطاعات التعليمية والإنسانية والصحية والبيئية والإعلامية والأخلاقية وغيرها، بما في ذلك تشكيلها – أي الأزمة – ما يمكن تسميته بـ " القومية الاقتصادية". وتتناول الجلسة أيضا قضية العولمة، وضرورة أن تكون شاملة في الأوقات المحن والأزمات، وفي زمن الازدهار والمسرات.
يذكر أن كتاب " في الأزمة" صدر في أبوظبي عن مركز الإمارات للدراسات الاقتصادية، ويقع في 342 صفحة. ويتضمن مجموعة كبيرة من البيانات والإحصاءات كملاحق للموضوعات التي تم تناولها، بالإضافة إلى عرض للأزمات الاقتصادية التي مر بها العالم على مدى قرنين من الزمن، مع توثيق أقوال القادة والمسؤولين حول الأزمة، في الدول المؤثرة على الساحة الدولية.


المكان: مقر " نادي دبي للصحافة "  في دبي
الزمان: الاثنين التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2009
الوقت: الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر 16.30

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

البطالة.. "بطلة" المستقبل العربي!!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )








" أنت تقتلني عندما تأخذ آلية العيش مني"
الأديب الإنجليزي وليم شكسبير


محمد كركوتــي

أتلقى عددا ليس قليلا من الرسائل الالكترونية التي تصلني في نطاق التعقيب على ما أكتب، يطلب فيها مرسلوها تناول قضية البطالة في حقيقتيها العالمية والعربية. ويبدو أن ما يُكتب عن البطالة – في كل الوسائل الإعلامية – لا يزال عند هؤلاء، أدنى من بشاعتها وعمقها ومصائبها. فهي مشكلة شبه دائمة في زمن الأزمات، وأوقات النمو. قد تتفاوت ضراوتها من مرحلة إلى أخرى، لكنها حاضرة تقض مضاجع المسؤولين والمشرعين الاقتصاديين، و"تلغي" مسببات النوم عند ضحاياها المباشرين. ولذلك فهي تشكل العنوان الدائم الذي لا يغيب، في الموازنات العامة، وتتمثل بشبح مريع للعاطلين أنفسهم. وإذا استطاع هذا العاطل أو ذاك، الفوز في نوم لا أرق فيه، فإنه في الدقيقة الأولى لاستيقاظه، يبدأ "عمله" كعاطل. فهو لا يحتاج لـ "تحضير" نفسه لهذا النوع من "الوظائف". وفي التاريخ الحديث، عُرف عن رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويلسون، أنه كان يوجه السؤال الأول لوزير ماليته الآتي إليه بحقيبة الموازنة العامة : "كم عدد العاطلين عن العمل لدينا؟". كان هذا السؤال يسبق أسئلة أخرى تتعلق بالعجز وبالميزان التجاري وبالخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من العناصر التي تشكل مكونات هذه "الحقيبة". وأحسب أن قادة بقية الدول الراشدة، يوجهون السؤال ذاته، بنفس ترتيب ويلسون. وفي الإطار نفسه، كان الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون يقول :" أنا لا أعتقد أنه باستطاعتنا إصلاح نسيج مجتمعنا، قبل أن يجد القادرون على العمل وظائف لهم". وهذا صحيح، لأن العمل ينظم الحياة، ويبني لها أساسا منضبطا.

قبل أن تتفجر الأزمة الاقتصادية العالمية، كانت هناك بطالة عالمية أقل عنفا، لكنها لم تكن كذلك على الساحة العربية، رغم كل مؤشرات النمو الذي شهدته المنطقة العربية في الأعوام التي سبقت الأزمة. كانت عالميا.. تحت السيطرة، وعربيا فوقها. كانت منسجمة إلى حد ما، مع هيكلية الاقتصادات الراشدة، لكنها خارج نطاق الانسجام على الساحة العربية. والمريع أن المنطقة العربية كانت – قبل الأزمة – الوحيدة بين مناطق العالم، التي شهدت نموا اقتصاديا، مصاحبا لـ "نمو" العاطلين!. وعندما حلت الأزمة كـ " زائر" مدمِر، تسارع قطار البطالة عربيا، بصورة باتت السيطرة عليه، مجرد حلم، في عدد كبير من البلدان العربية. ولأن الآليات المساندة لمواجهة البطالة، إما غائبة أو متواضعة، تحولت القضية من مشكلة إلى مصيبة، تجاوزت كل القدرات والإمكانيات، بعدما رمت بالمخططات المحلية في كل بلد، والاستراتيجيات العربية الشاملة، على قارعة الطريق، في ظل إرباك رهيب، في فهم عمليات التحفيز. وهذه النقطة تحديدا، أضافت هما فوق هم على المشهد الاقتصادي العربي. لماذا؟ لأن صانعي القرار الاقتصادي، فهموا التحفيز، على أنه أداة من أدوات خلق الوظائف، لكنه في الواقع ( عربيا وعالميا)، هو آلية لحماية ما تبقى من الوظائف والأعمال، وإبقائها على "قيد الحياة" أطول فترة ممكنة. فحتى خطط التحفيز في الدول الكبرى، فشلت في "تكريس" المفهوم العربي لها. إن هذه العمليات ليست تحفيزية، بل إنقاذية، والفارق شاسع في مساحته بين التوصيفين. والتحفيز – بشكل عام – لا يصلح إلا في زمن التباطؤ، أما في زمن الانهيار، لا ينفع إلا الإنقاذ.. بل والنجدة.

مع نهاية العام 2009 ، سيصل عدد المنضمين الجدد للعاطلين على مستوى العالم، إلى 59 مليون عاطل ( حسب منظمة العمل الدولية). وطبقا للتقديرات المتداولة، بلغ مجموع العاطلين في العام 2007 أكثر من 190 مليون شخص، وبإضافة ضحايا الأزمة، سيرتفع هذا العدد إلى قرابة 250 مليون. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن هناك دول لا توفر الأرقام الحقيقية لعاطليها، لأنها لا تطرح أصلا أرقاما حقيقية لاقتصاداتها. في الجهة المقابلة يبلغ المجموع الكلي للعاطلين العرب، مابين 17 و18 مليون (حسب منظمة العمل العربية)، أي ما يوازي 20 في المئة من مجموع عدد السكان. ولمزيد من الصدمة، هناك سبع دول عربية، في قائمة الدول الثلاثين الأكثر ابتلاءا بالبطالة!. هذا يعني أن نصيب العرب من "حاصل" مجموع عدد العاطلين الجدد – بفعل الأزمة- سيكون كبيرا، مع الاعتراف باستحالة تحديد أرقام واقعية للعاطلين السابقين والجدد، لكن في كل الأحوال، لن تكون أقل مما هو متداول على الساحة. ومع ذلك، فالقضية لا تنحصر فقط فيما هو موجود أو واقعي، بل تكمن في مسألة مواجهة الكارثة. وأقول كارثة، لأنها تضع تحت جناحيها، مشاكل معيشية وإنسانية واجتماعية، وحتى أمنية، وتؤثر بصورة مخيفة في التشكيل الاجتماعي العام وتطوره.

يحتاج العالم العربي، إلى ما يقرب من 5,5 مليون وظيفة، ليس خلال قرن أو عقد من الزمن، بل كل 12 شهرا!. وكانت هناك حوالي 3,5 مليون وظيفة متاحة – أو شبه متاحة- قبل الأزمة العالمية، لكن هذه الأخيرة، خفضت حجم هذه الوظائف، كما خفضت عدد المؤسسات والشركات، التي يمكن أن تساهم في توفير فرص العمل. وقد ضربت هذه الحقائق – عرض الحائط – ما اتفق على تسميته بـ " العقد العربي للتشغيل 2010 – 2020 "، وهذا العقد يهدف إلى خفض البطالة العربية، ليس فقط عن طريق توفير الوظائف، بل من خلال استحداث برامج للتدريب المهني والتطوير الوظيفي، ورفع نسبة الملتحقين في التعليم والتدريب المهني، بحدود 50 في المئة في العقد الثاني من القرن الحالي. هذا هو الجانب " الجميل" من القصة. أما الجانب القبيح منها، يتمثل في أن الموجود على الساحة، لا يزال – وسيظل لفترة طويلة – أدنى من طموح واضعي المشروعات أو الإستراتيجيات المطروحة. وطبقا لتقديرات "منتدى دافوس الاقتصادي" الذي عقد في الأردن في مايو/ أيار من العام 2009 ، فإن عدد العاطلين عن العمل سيبلغ 80 مليون شخصا بحلول العام 2013. بينما جاء في "المنتدى العربي للتنمية والتشغيل" الذي انعقد في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2008 ، أن عدد العاطلين العرب سيصل إلى 70 مليون بحلول العام 2018. وعلى الرغم من التفاوت في السنوات والعدد، فإن الرقمين التقديرين، "يعلنان" عن انفجار محقق لـ " قنبلة نووية" مصنوعة من البشر، لا من اليورانيوم المخصب!، لاسيما إذا ما أخذنا في الاعتبار التقديرات بوصول مجموع الكتلة البشرية للعرب في غضون عقد مقبل من الزمن، إلى 350 مليون نسمة، مرتفعا قرابة 30 مليون نسمة، عن ما هم عليه الآن!.

إن الأزمة الاقتصادية العالمية – بالإضافة إلى سوء التخطيط والتنمية – أفرغت قرارات هامة خرجت بها القمة العربية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، التي عقدت في الكويت مطلع العام الجاري، من محتواها، بل وضعتها إلى جانب " زميلاتها" من القرارات السياسية في الأدراج، وفي أرشيف جامعة الدول العربية. فهذه القرارات وضعت تصنيفا عربيا ضروريا للمهن بشكل عام، بلغ 1200 مهنة جديدة. لكن لكي يمضي هذا التصنيف قدما، يجب أن تكون هناك خطوات عملية، على صعيد تسهيل انتقال العمالة العربية، على أساس أن هذا التصنيف يلبي احتياجات الدول العربية نفسها. وفي ظل الفوضى التي خلفتها الأزمة، بات من الصعب تكريس التصنيف على أرض الواقع، في المدى المنظور على الأقل. فغالبية الدولية العربية، تقوم حاليا بإعادة هيكلة اقتصاداتها وفق المعايير التي طرحتها الأزمة، وتحاول بناء مصدات دفاعية لمواجهة أي أزمة محتملة في المستقبل. طبعا هذا لا يعني أن هذه الدول أوقفت قطار التنمية فيها، لكن الأمر يتطلب – بعد الاتفاق العام -، وجود آليات متطورة وواقعية لتطبيق أية مخططات في مواجهة البطالة العربية. والتصنيفات المطروحة تندرج ضمن هذا النطاق.

نحن نعلم، أن البطالة – في أي دولة أو منطقة – تمثل إحدى المصائب الاجتماعية - الاقتصادية، لكنها في المنطقة العربية، لا تزال تمثل لوحة مشوهة، لمستقبل مشوش.


الأحد، 1 نوفمبر 2009

مادوف.. كـ "مصاص دماء"


( هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")













" نكون غير أخلاقيين، لم تركنا هذا المصاص المحتال يحتفظ بأمواله"
رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل





محمد كركوتــي

يبدو أن المحتال الأميركي الأكبر برنارد مادوف المحكوم بالسجن 150 عاما، سيدخل التاريخ عدة مرات، ولكن من الأبواب الخلفية. كيف لا؟ وهو الوحيد في التاريخ قاطبة، الذي استطاع أن يجمع أكثر من 65 مليار دولار أميركي، عن طريق الاحتيال والخداع، وأوقع من الضحايا ما يزيد عن 30 ألف بين مؤسسة وشركة وجمعية خيرية واجتماعية و مدرسة جامعة ومصارف وأفراد، بل وحتى كنائس!، ونشر الهموم في كل الأرجاء. فقد تفوق على أستاذه الإيطالي – الأميركي تشارلز بونزي، الذي ابتكر "نظاما" استثماريا احتياليا في عشرينات القرن الماضي، يقوم على دفع "الأرباح" للمودعين ( المدخرين) الأقدم، من أموال المودعين الجدد، دون استثمار دولار واحد في أي عمل أو مشروع!. وهذا التفوق ليس فقط على صعيد حجم الأموال، حتى لو حسبت بأسعار اليوم (تشارلز بونزي سرق ثمانية مليون دولار)، ولكن أيضا من حيث المدة الزمنية الطويلة. فقد احتال مادوف وسرق على مدى عقدين من الزمن، بينما لم تدم عمليات الاحتيال على يد بونزي أكثر من خمس سنوات، تخطيطا وتنفيذا!.

الاثنان دخلا التاريخ من أضيق أبوابه الخلفية، وسيخلدان على رأس قائمة المحتالين واللصوص، لكن مادوف عاد ودخله من جديد من باب تخليد مصاصي الدماء! كيف؟. في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام، يحتفل الأميركيون – وغيرهم من شعوب الدول الغربية - بيوم يطلق عليه "هالوين" ، ويرتبط هذا اليوم بالطقوس السلتية الوثنية التي كانت تمارس في الجزيرة الأيرلندية منذ 800 سنة قبل الميلاد. وهذه الطقوس هي عبارة عن استذكار الأموات والإيمان بالتجدد. لكن مع مرور الزمن، تحول الاحتفال بهذا اليوم، إلى ما يشبه مهرجان مخصص للأطفال، لكنه يجتذب الكبار أيضا. ولأنه يوم يرتبط بالموت، فقد اعتاد المحتفلون التنكر في ثياب تجسد الخوف والرعب، كما أطلقوا العنان لمخلياتهم، لتصميم أقنعة تتناغم مع كل عناصر الرعب.

ماذا فعلت الشركات التي تنتج هذه الأنواع من الملابس والأقنعة هذا العام في الولايات المتحدة؟ أضافت قناعا مستوحى من وجه برنارد مادوف، وطرحته كرمز للخوف والشر، وقبل هذا وذاك، كمصاص دماء. واللافت أن الشركة التي صنعت هذا القناع، أعلنت بأنها سجلت أفضل المبيعات له، مقارنة ببقية الأقنعة.

وعلى الرغم من أن هذه الاحتفالية لا تجري إلا مرة كل عام، فإن دخول مادوف عالم الأقنعة، يعزز مرة أخرى، مدى تأثير العمليات الاحتيالية الإجرامية التي قام بها هذا المحتال في المجتمع الأميركي، ومدى التصاق آثامها بهذا بأفراد هذا المجتمع. لا غرابة هنا. فهذا " المصاص" نال من الأثرياء، ومن أولئك الذين كانوا يبحثون عن مئة دولار إضافي لمواجهة متطلبات الحياة، بعد أن سرق من مؤسسات يفترض أنها محصنة بفعل الضمير والأخلاق لا القانون. فهو لم يوفر حتى الجمعيات الخيرية، ومؤسسات الوقف التي تشرف على مدارس وجامعات وغيرها من مراكز للثقافة والفنون.

ولو كان هناك يوم أو مهرجان لـ "الاحتيال"، من ينافس برنارد مادوف كشعار له؟!.



الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

سرطان "وول ستريت"!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )






" في الكونجرس.. كل نكتة هي قانون، وكل قانون هو نكتة"
الممثل الفكاهي والمعلق الأميركي ويل روجرز


محمد كركوتــي

لم يكن المخرج الراديكالي الأميركي مايكل مور متحاملا أو متجنيا على سوق المال والأعمال الأميركي الشهير "وول ستريت"، عندما وضع شريطا على مبنى هذه السوق في فيلمه "الرأسمالية.. قصة حب"، كتب عليه "مسرح الجريمة". ولو وضع الشريط نفسه على البيت الأبيض في واشنطن، لما خرج عن النص. فـ "راديكالية الجريمة" التي ارتُكبت في هذه السوق، أجازت راديكالية المخرج وخففت من عنفها، حتى عند أولئك الذين يرون في التشدد أشياء لا تواكب تطورات العصر، ولا تحاكي متطلبات المستقبل. الجريمة ارتُكبت في "وول ستريت" لكن ضحاياها وقعوا في كل الأسواق، وأوقعوا معهم أشد الصروح مناعة، وأكبر الخطوط الدفاعية قوة، بعدما نالت من الأسس التي يقوم عليها المجتمع الدولي قاطبة. وعندما تخرج الجريمة عن نطاق مسرحها، تتحول إلى أزمة محلية، وعندما تمتد أكثر تتبدل إلى مصيبة وطنية، وعندما تتجاوز إطارها المحلي – الوطني، تصبح كارثة دولية – تاريخية، لتكون قضية "هم عام"، لا رأي عام.

في عالم الجريمة، يقع المجرمون في أيدي السلطات، ويُلاحق من استطاع منهم الإفلات إلى أن يقع، ليمثل أمام عدالة الأمة. لكن مجرمي "وول ستريت" الذين وقعوا لم يقفوا أمام هذه العدالة، وأولئك الذين لم يقعوا بعد، لا يزالون يقاومون محاولات القبض عليهم -إن وجدت أصلا – ويحرصون في الوقت نفسه، على إبقاء ما أمكنهم من "الكتل" السرطانية داخل السوق، والسعي الدائم لنشرها على أوسع نطاق، وبأقل ضجيج ممكن. ولعل هذا النوع من المجرمين، هم الوحيدون الذين يقاومون الوقوع والنهاية، بالحفاظ على السوق ملوثة ومصابة، لا عن طريق التخفي. وهم بذلك يحاولون – بكل الوسائل- حماية ما تبقى من "أيديولوجية وول ستريت"، التي كان من المفترض أن تسقط في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، ولو لم يكن هناك "ملهمون اقتصاديون حكوميون"، لسقطت هذه الأيديولوجية قبل وقوع الأزمة نفسها. فغالبية حكومات الدول صانعة القرار الاقتصادي العالمي، كان تتعاطى مع هذه السوق و"زميلاتها" الأخريات، على أنها منزهة عن الأخطاء، ومنيعة من الانهيار، وطاهرة من الآثام.. وقبل هذا وذاك، قوية لا تهزها حتى الزلازل الكبرى!. بل وقفت هذه الحكومات في وجه أولئك الذين طالبوا فقط بضرورة فرض رقابة – ولو مستترة – على هذه الأسواق.

لقد دمر "سرطان وول ستريت" كل شيء، بما في ذلك الأخلاق، وهز أركان الدولة الاتحادية الأميركية، وشت قوة الإدارة المركزية لهذه الدولة، إلى درجة دفعت تيارا انفصاليا في عدد من الولايات الأميركية، للمناداة برفض تطبيق القوانين الاتحادية، لأن الجهات التي تصدرها لا تَحُكم نفسها، بل تُحَكم من "مسرح الجريمة" في "وول ستريت". وقد شعرت إدارة الرئيس باراك أوباما، بآثار العمليات الاحتيالية والوهمية التي تجري في هذه السوق، حتى في أعقاب وقوع الجريمة. فلا تزال مؤسسات أميركية كبرى تقاوم .. وتقاوم ما أمكنها من القواعد التنظيمية لنشاطاتها وأعمالها. ولا تزال السوق التي تحتضنها تعج بـ "المضاربات المتهورة"، التي كانت – لمن نسي- السبب الرئيسي في انفجار الأزمة. وهذا ما دفع أوباما، إلى إطلاق حملة "توبيخية" جديدة لمؤسسات "وول ستريت"، لعدم تقدمها خطوة واحدة باتجاه تشجيع الإقراض للشركات الصغيرة، التي وضعتها الأزمة، في صف المنقذين المؤهلين للاقتصاد الوطني. ووبخها أيضا لأنها لم تتعلم من "تجربة الأزمة".

صحيح أن خطط التحفيز (الإنقاذ) التي وضعتها الإدارة الأميركية السابقة والحالية، لم تنضج بعد، وتحتاج لمزيد من الوقت، لكن الصحيح أيضا، أن تعاظم مقاومة الإصلاحات في "وول ستريت"، تساهم في إبطاء تسارع مركبة الإنقاذ، التي تسعى إلى منع حدوث انهيار مالي جديد، يمكن أن يدمر ما تبقى من الاقتصاد المحلي والعالمي أيضا. والواقع أن مقاومة "ملهمي" – أو مجرمي وول ستريت لا فرق – لا تنحصر في الإجراءات الرقابية أو التنظيمية التي وُضعت في أعقاب الأزمة، بل تشمل أيضا القوانين المزمعة التي لا تزال في أروقة مجلس النواب الأميركي. وهذه القوانين هي بمثابة "سلاح دمار شامل" لهؤلاء. لماذا؟.. لأنها ستأتي بآليات تشدد القيود على تداول الأوراق المالية ومشتقاتها، وستؤسس لجهة رقابية استهلاكية جديد للمنتجات المالية برمتها، وستضع إصلاحات تنظيمية ستضمن متابعة – وبكلمة أكثر ملائمة : تتبع - كل المؤسسات المالية كمجموعة موحدة. أي أنها لن تُبقي "الحبل على الغارب"، في مسألة القروض المنفلتة ولا الإقراض الذي يستند إلى ضمانات وهمية، ولا التداول المالي – وغيره- وفق قواعد "المقامرة"، هذا إن وجد لـ "المقامرة" قواعد أصلا. بمعنى آخر، أن القوانين المزمعة، لن تترك مساحة للتحرك، أمام أولئك الذين عملوا- على مدى عقدين من الزمن- " البحر طحينة"، حسب المثل المصري الشهير!.

القضية ليست مرتبطة فقط بمدى مقاومة مَن تبقى من "مجرمي" السوق في أماكنهم، لما طرح وما سيطرح من قواعد وقوانين وضوابط ورقابة وغيرها. بل تتعلق بوجود هؤلاء أصلا في مواقعهم، ومدى تأثيرهم على الحراك التنظيمي – الإصلاحي الذي تسعى الإدارة الأميركية إلى تطبيقه، قبل فوات الأوان، لاسيما بعد معاناة من " فوات أوان" أفضى إلى كارثة يعيشها العالم أجمع الآن، رغم كل ما يقال عن الانتعاش البطيء أو التعافي المتوقع في العام المقبل. إن القضية تتطلب -بالإضافة إلى قوانين وإصلاحات ومراقبة ومتابعة – إقصاء تاما لهؤلاء عن الساحة الاقتصادية في "وول ستريت" وفي البلاد كلها، وإعادة تقييم أولئك الجدد الذين دخلوا السوق في أعقاب الأزمة. فغالبية هؤلاء هم من تلاميذ "الملهمين – المجرمين" السابقين، ولن يرضوا بأرباح وإنجازات واقعية، فقد أدمنوا على "استثمارات الفقاعات". وعلى هذا الأساس، فعملية "الغربلة" للكوادر الجديد، تبدو مسألة ملحة الآن. لماذا؟.. لأن سن القوانين، لا يرتكز نجاحها وتمريرها على المُشرعين فقط، بل على المعنيين مباشرة في تنفيذها أيضا، وهؤلاء يستطيعون – كما يحدث في الوقت الراهن- "سن" قوانين سرية مقاومِة. ولأن العلاج الأمثل والأجدى لمقاومة السرطان هو استئصاله، على إدارة الرئيس الأميركي، أن تبدأ عملية استئصال جديدة، وعليها أن تعرف أن "التوبيخ الدوري" الذي توجهه لهؤلاء، لن يسفر إلا عن "مانشيتات" باهتة لوسائل الإعلام.

يقول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل، في وصف عنيف للاقتصادي الجشع والمحتال والنصاب: " نكون غير أخلاقيين، لو تركنا هذا المصاص يحتفظ بأمواله". وهذا ينطبق على من كانوا – وبعضهم لا يزال – يمسكون بزمام الأمور في الأداء الاقتصادي العام والاستثمارات المالية وغيرها – لاسيما في سوق وول ستريت - وفق "قواعد" المقامرين، وأحيانا على طريقة قطاع الطرق. لكن الأهم من هذا، أن لا يستمروا في الحفاظ على مواقعهم، بما في ذلك أولئك الذين أتوا من تحت عباءاتهم، وولدوا وظيفيا في مكاتبهم. لا .. لا ينفع التوبيخ، ولا التشهير، ولا حتى العقاب، فالذي ينفع هو إخراج هؤلاء من غرفة القيادة الاقتصادية - المالية. وإذا كان أوباما يعمل على تكريس التعاون الدولي في مواجهة الأزمة التي ارتكبتها "وول ستريت"، ونشرت حممها في كل الأرجاء، عليه أن يقنع المجتمع الدولي، بأن "مسرح الجريمة"، بات خاليا من المجرمين، بعد أن خلت البلاد من الإدارة السياسية التي وفرت لهم أقوى حماية، قياسا ببقية الإدارات الأميركية السابقة، التي ساهمت هي الأخرى – بشكل أو بآخر- بتوفير أنواع أخرى من الحماية.

إنها مسألة استئصال.. لا توبيخ، وقضية وجود.. لا توزيع أدوار. وإلى أن يتم العمل وفق هذا التوصيف، ستظل "المانشيتات" الباهتة على الساحة، وسيواصل السرطان انتشاره بخبث.




الأحد، 25 أكتوبر 2009

جمعيات ماذا؟!



( هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية" )









" لإسرائيل الحق في محاكمة الآخرين، لكن لا أحد يحق له محاكمة اليهود ودولتهم "
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (المغمى عليه) أرييل شارون



محمد كركوتــي

سقط الرئيس الأميركي باراك أوباما في الامتحان الفلسطيني – الإسرائيلي الأول. فلم يعد ( مع إدارته) متشددا في مسألة تهويد مدينة القدس المحتلة، ولا في توسيع المستعمرات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية. وتوبيخه المعلن للإسرائيليين على هاتين القضيتين المحورتين، تحول إلى صمت معلن أيضا. ويبدو أن سقوطه في الامتحان الأول، يؤسس لسقوط آخر في امتحان ثان مرتبط بإعفاءات ضريبية تتمتع بها المؤسسات والشركات الأميركية – وحتى الأفراد - التي تتبرع لـ " الجمعيات الخيرية" اليهودية. فلم يحرك الرئيس الأميركي ساكنا – حتى الآن – تجاه إعادة النظر في الإعفاءات الضريبية لهذه المؤسسات، بعدما تأكد للجميع، بأن متلقي تبرعاتها، يدفعون بالأموال الهائلة، ليس للتعليم ولا الفنون ولا لحوار الحضارات، بل للمستعمرات والمشاريع الجارية حاليا لتحويل القدس المحتلة، إلى مدينة يهودية صرفة، بعد أن يُقذف أصحابها إلى الجهة الأخرى من جدار الفصل العنصري المُهين، ولا بأس لو قذفوا إلى ما بعد حدود فلسطين نفسها. ويكفي أن نعلم، أن الحكومة الإسرائيلية رصدت ضمن ميزانيتها للعام المالي 2009 – 2010 ما يزيد عن 167 مليون دولار أميركي لإتمام عملية التهويد المتواصلة!، بعدما خصصت قرابة الـ 50 مليون دولار لتوسيع مستعمرتي "معالية أدوميم" و " جبل أبو غنيم"!.

في غضون ثلاث سنوات، قدمت "الجمعيات الخيرية" اليهودية الأميركية أكثر من 133 مليون دولارا أميركيا لدعم المستعمرات الإسرائيلية، وحصلت جمعية يهودية صهيونية واحدة، هي "إتيريت كوهانيم" على أكثر من 30 مليون دولار في عام واحد، لدعم جهود طرد 250 ألف فلسطيني من القدس الشرقية، لدمجها ديموغرافيا ( وجغرافيا بالطبع) بالقدس الغربية "المهودة أصلا". ومع ذلك لا تزال هذه الأموال – وغيرها – محصنة من الضرائب الأميركية، وهي ببساطة أموال يقدمها دافع الضرائب الأميركي غصبا عنه، أو في الأفضل الأحوال، يقدمها دون أن يعلم. ولا بد أن أوباما يعرف بأن هناك المئات من المؤسسات التي تقدم هذا النوع من التبرعات، مخالفة للقوانين الأميركية، التي تحظر على الجمعيات الخيرية – أيا كانت - الانخراط في نشاطات سياسية. وإذا كان قد "نسي" ، فقد وضعت مجلة " فوربس" الأميركية مؤخرا 12 جمعية يهودية في الولايات المتحدة، ضمن قائمة أكبر 200 جمعية في البلاد. ولمزيد من "التذكير" يبلغ مجموع اليهود في الولايات المتحدة 6,4 مليون فقط من أصل المجموع الكلي للسكان البالغ 307,784,000 .

والمريع في الأمر، ليس فقط سكوت الإدارة الأميركية عن المخالفات و "الجرائم" الضريبية في بلادها، بل أن القانون الأميركي ينص – يا للمصيبة – على أن أي جمعية خيرية إسرائيلية معترف بها، أين؟ في القانون الإسرائيلي، تخضع تلقائيا للإعفاءات الضريبية، أين أيضا؟ في الولايات المتحدة!. وللمزيد من الصدمة، فإن مثل هذا الامتياز لا ينطبق على الكثير من دول العالم!. ولكي تتحول الصدمة إلى ذهول، أظهرت دراسة للبروفيسور في الجامعة العبرية الإسرائيلية إيليز جاف، أن عدد "الجمعيات الخيرية" في الدولة العبرية يبلغ 27 ألف جمعية!، وجميعها معفاة من الضرائب. أي أن هذا العدد الهائل من الجمعيات، يحظى أيضا بالإعفاءات الأميركية التلقائية!!.

لا تزال سلطات الضرائب الأميركية ترفض الدعاوى المرفوعة ضد "الجمعيات الخيرية" اليهودية. ففي القضايا الإجرائية هناك آلاف المسارب و"الأزقة"، يمكن أن توفر حماية أو مبررات لرافضي هذه الدعاوى من "رجال ونساء القانون". لكن على الصعيد السياسي، تكون "الأزقة" محدودة، والانكشاف سريع جدا. وطبقا للمحامي الأميركي إيريك لويس، فإن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية، فيما لو رغبت الإدارة الأميركية في منع التبرعات الخبيثة – المدمرة، من خلال أمر تنفيذي. لكن لا تبدو في الأفق، أي إشارة إلى تحرك أميركي حكومي، حيال قضية لا تخص الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل ترتبط بالمواطن الأميركي نفسه، الذي يدفع جزءا من فاتورة توسيع المستعمرات وتهويد القدس ونقل واستيعاب المهاجرين اليهود، وقبل هذا وذاك، القضاء على ما تبقى من الهوية الفلسطينية انتسابا ووجودا.

يقول أول رئيس لوزراء إسرائيل ديفيد بن غوريون، في هجومه على ما كانوا يعترضون على بناء المستوطنات اليهودية على الأراضي الفلسطينية: " إنكم لا تعرفون حتى أسماء المناطق الفلسطينية التي بنينا عليها قُرانا. وأنا لا ألومكم، لأن كتب الجغرافية لم يعد لها وجود". لا شيء يعزز هذا التوصيف العنصري الإجرامي، سوى الأموال المتدفقة إلى القرى والمستعمرات اليهودية – الصهيونية. ولا أعرف إن مر ما قاله بن غوريون على الرئيس الأميركي، الذي يرغب بأن ينظر إليه الفلسطينيون بصورة مختلفة عن زملائه السابقين.