الجمعة، 8 ديسمبر 2017

شركات التكنولوجيا.. الإرهاب والعقاب





«التطرف يطمس مشاعر الإنسانية» 

ادوارد جيبون، مؤرخ بريطاني راحل


كتب: محمد كركوتي

لا، لم تقم شركات التكنولوجيا الأميركية (تويتر، فيسبوك، جوجل.. وغيرها) بما يكفي للوقوف في وجه التطرف والإرهاب والتضليل بشكل عام. تماماً، كما لم تتقدم بصورة مقبولة على صعيد الحد من الجرائم المالية التي تُرتكب عبرها. وهذه الشركات، وإن اتخذت مجموعة مع الخطوات الإيجابية في الآونة الأخيرة، إلا أنها لا تزال تتمتع بما يمكن وصفه بـ «الأمان العقابي» الفاعل. صحيح أنها ليست مع موجات التطرف البغيضة الدنيئة، لكن الصحيح أيضاً، أنها لا تتعاطى مع هذه المسائل بمستوى حجم خطورتها على كل المجتمعات المستهدفة. وُجه إليها الكثير من التحذيرات بلغت حد التهديدات من الجهات الحكومية، بل حتى من بعض الجهات القضائية، إلا أنها لم تغير من وتيرة تصديها للتطرف وحملات التضليل والجرائم الأخرى ذات الصلة.
الاتهام الموجه لهذه الشركات، جاء أخيراً من المنتدى الاقتصادي العالمي، وسبقته اتهامات من جهات أخرى مشابهة، عرضت كيف يمكن استخدام أدوات التواصل الاجتماعي فيما أُطلق عليه «الإرهاب المالي». وهذا الأخير مرتبط بصورة مباشرة مع المنظمات والعصابات المتطرفة، لأنه يوفر لها التمويل المطلوب، بعيداً عن أعين الجهات المختصة، علماً بأن هذا النوع من الإرهاب، ينسحب أيضاً على الجرائم المالية غير المرتبطة بالتطرف، بما فيها السرقة والاحتيال والتهديد والابتزاز، إلى آخر السلوكيات المالية المشينة. نحن أمام حقيقة ماثلة على الساحة، تتلخص بأن أدوات التواصل الاجتماعي، يمكن بسهولة كبيرة أن تتحول إلى وسائل إجرامية وإرهابية، بصور مختلفة. حقيقة يدركها خبراء هذه الأدوات، ومعهم أغبياؤها أيضاً.
المسألة تتطلب ضغوطاً أكبر على شركات التكنولوجيا لكي تدخل ضمن السياق العالمي العام الهادف إلى التصدي للتطرف والإرهاب والسرقة والاحتيال وغير ذلك. والواضح أن هذه الشركات تتجنب الانخراط الكامل في الحرب على هذه الأشكال الإجرامية، لأسباب مالية. فكل خطوة باتجاه تفعيل الحرب المشار إليها تتطلب ميزانيات أكبر، وهو أمر لا تحبه الشركات بشكل عام. واللافت أنها تحقق أرباحاً خيالية سنوية. تكفي الإشارة هنا، إلى أن مؤسسة كـ «الفا بيت» الشركة الأم لـ «جوجل» حققت أرباحاً العالم الماضي بلغت 26 مليار دولار بزيادة وصلت إلى 22 في المائة عن العام الذي سبقه. وأرباح الشركات الأخرى هائلة أيضاً (أرباح «فيسبوك» بلغت 3.9 مليار دولار)، ما يسمح لها برصد ميزانيات مرتفعة تخصص للحرب على الإرهاب والتطرف والاحتيال. ولا شك في أن التهديد بفرض عقوبات مالية عليها، سيجعلها ترفع من وتيرة نشاطها المطلوب في هذا الصدد. دون أن ننسى بالطبع، أن انخراطها التام في هذه الحرب، سيجعلها توفر فرص عمل في هذا البلد أو ذاك، مطلوبة لكل الاقتصادات، بما فيها اقتصادات البلدان الغربية الكبرى.
انها عملية متكاملة، تتطلب صرامة من الجهات الحكومية، ومشاعر أكبر بالمسؤولية الاجتماعية لدى القائمين على هذه الشركات التي تتصدر قوائم الأكبر والأكثر ربحاً على مستوى العالم.


(المقال خاص بجريدة "الاتحاد")

الفقر.. العدو المُعربد




طالما ظل الفقر والظلم وعدم المساواة في عالمنا لا أحد منا يمكنه أن يعيش بطمأنينة وراحة

نيلسون مانديلا زعيم جنوب أفريقيا الراحل

كتب: محمد كركوتي

ربما يكون المبلغ «10 تريليونات دولار» المقترح من قبل منظمة العمل الدولية لإنهاء الفقر في العالم كبيراً جداً، وقد يعتبره البعض «تعجيزياً»، ومن المحتمل أن يراه آخرون رقماً طرحته مجموعة من الحالمين، منغمسة بالنظرية ومبتعدة عن التطبيق..
إلا أنه لا حل لهذه الآفة «البشرية الصنع» من دون أن تتوافر هذه الأموال على مدى 15 عاماً من الآن.وهذا الحل لا يعني فقط نقل الفقراء إلى مستوى أعلى، بل هو أداة في نفس الوقت، لمنع تأجج المزيد من الصراعات والحد من ارتفاع مستويات الجرائم، ووقف الخراب الذي يستهدف الطبقة الوسطى في غالبية بلدان العالم.
ولم يحدث في التاريخ أن نجا مجتمع ما، بعد انهيار هذه الطبقة المحورية فيه.
إنها «السنيدة» الحقيقة لهذا المجتمع أو ذاك.
والبلدان الراشدة تصنع الآليات دائماً للحفاظ عليها، وعلى محركاتها للمجتمع والوطن. الفقر موجود حتى في البلدان التي تتمتع بأكبر الاقتصادات قاطبة.
صحيح أنه لا يُقارن، من حيث النسبة والفداحة بمثيله في البلدان الأقل ثراء، لكنه في النهاية يشكل وصمة عار على الحكومات المنتخبة المتعاقبة.
لندع هذا جانباً.. المصيبة الفعلية حقاً، أن العمل - إن توافر- ليس بالضرورة أنه ينهي الفقر لماذا؟ .. لأن 80 في المائة من العمال والمزارعين في الدول الأقل تقدماً، يرزحون في خانة الفقراء، لأن ما يقومون به لا يدر دخلاً كافياً للعيش الكريم.
أما في البلدان المتقدمة، فينتقل هؤلاء شيئاً فشيئاً من الطبقة الوسطى إلى الدنيا، بسبب تراجع الدخل!.. هذه أرقام ونسب اتفقت عليها مؤسسات ومنظمات عالمية معنية، وفي مقدمتها منظمة العمل الدولية.
المطلوب 1 في المائة فقط من حصيلة الناتج العالمي الكلي للقضاء على الفقر المدقع.
وهي نسبة كما تبدو ضئيلة، ولا تقارن بالنسبة المخصصة (مثلاً) للتسلح، أو للإنفاق على أسلحة الدمار الشامل.
مع ضرورة التأكيد دائماً على أن تكاليف الحروب والعنف تصل إلى مستويات خرافية مالياً، وأسطورية بشرياً.
وعندما نتحدث عن الفقر هنا، فإننا ندخل تلقائياً في الحديث عن «ميدان» الجوع، فإذا كان الفقراء يستطيعون العثور على اللقمة - بصرف النظر عن نوعيتها - ، فإنهم سرعان ما ينضمون إلى «جيوش» الجائعين في مرحلة لاحقة، مع استمرار تراجع مداخيلهم، وغياب استراتيجية واقعية للحد من التفاوت الطبقي هنا وهناك.
هي مصيبة مستمرة لعقود مقبلة.
صحيح أن الأمم المتحدة بمنظماتها الاجتماعية الإنسانية المعروفة تمكنت من تحقيق بعض أهداف الألفية الحالية، على صعيد الجوع والصحة والتعليم، إلا أنها لم تتمكن من إقرار مخطط عملي باشتراك الدول الفاعلة على الساحة الدولية، يستهدف إنهاء الفقر، أو مكافحته بالصورة التي يمكن أن تبشر بالخير أو تطرح تفاؤلاً ما.مصيبة الفقر لا تخص أصحابها فقط، لأنها ببساطة أزمة عالمية متصاعدة، حتى في البلدان التي بلغت إلى «سن الرشد».

(المقال خاص بجريدة "الاتحاد")

المخدرات كاقتصاد لـ «حزب الله»






"أنا رجل عصابة، ورجال العصابات لا يطرحون أسئلة"
ليل واين، مغني راب أمريكي

كتب: محمد كركوتي



لم تعد المعلومات التي تظهر بين الحين والآخر، عن تورط "حزب الله" اللبناني الإرهابي، في المخدرات وغسل الأموال والاتجار بالسلاح وحتى البشر وغيرها من الجرائم، خبرا لافتا، لأن هذا الحزب -العصابة- بات مكشوفا منذ سنوات طويلة، عندما لم يستطع تغطية حقيقته لمدة أطول. فالمخدرات، مثلا، تمثل موردا ماليا رئيسا لهذه العصابة منذ أن أسست، وهي تسيطر بالفعل على مساحات شاسعة في لبنان تعج بزراعة أغلب أنواع المخدرات. وساعدها نظاما الأسد الأب والابن طوال هذه السنوات على تنمية هذه الزراعة، وأفسحا المجال لها في تمريرها هنا وهناك. كما أن حسن نصر الله زعيم الحزب، أصدر مع علي خامنئي، رئيسه المباشر سلسلة من الفتاوى التي تبيح "دينيا" هذه الزراعة والتجارة المشينة.
هذه القضية مكشوفة، إلى جانب جرائم أخرى، مثل تجارة السلاح، وتبييض الأموال، إضافة إلى العصابات التي تعمل في محيط الاتجار بالبشر، ولها ارتباطاتها مع هذا الحزب. الذي طرح حديثا على صعيد تجارة "حزب الله" للمخدرات، أن الولايات المتحدة بدأت بالفعل تصعيدا ضدها، في إطار الإجراءات التي اتخذتها سابقا ولاحقا، ضمن عقوباتها المختلفة، كتجميد الأرصدة التابعة لإيران و"حزب الله"، وحظر سفر شخصيات إرهابية وإجرامية بعينها، وفرض عقوبات على أطراف غير مباشرة تعمل مع هاتين الجهتين، وإغلاق سلسلة من النشاطات التجارية في الأراضي الأمريكية تعمل لحساب نصر الله وخامنئي. بل قامت واشنطن في أكثر من مناسبة بتشجيع حلفائها الأوروبيين على اتخاذ خطوات أكثر صرامة مع هذا الحزب، الذي يمثل تهديدا مباشرا للأمن والسلم العالميين، إضافة إلى أعماله الإجرامية في المنطقة.
الجديد الآن، أن السلطات الأمريكية تمكنت من تحديد واحدة من أقوى شبكات المخدرات العالمية يديرها "حزب الله"، وتصل دورتها المالية سنويا إلى ملياري دولار. ويعترف الأمريكيون المختصون، بأن هذا الرقم ليس نهائيا، لأن الجهات المسؤولة لا تزال تمضي قدما في حصر ما أمكن لها من نشاطات المخدرات التابعة لهذا الحزب الإيراني في لبنان. ولأن الأمر يمثل مخاطر كبيرة، فقد دعت أخيرا نشرة "ذي هيل" المتخصصة في أخبار الكونجرس الأمريكي الرئيس دونالد ترمب، لتعيين رئيس جديد لإدارة مكافحة المخدرات، يمتلك رؤية واضحة لمعالجة البعد الدولي لهذه القضية. الشبكة المشار إليها تضم مناطق واسعة حول العالم، بما فيها المكسيك وفنزويلا، وعصابات متعاونة معها ضمن الأراضي الأمريكية، إضافة طبعا إلى دول في أوروبا وغيرها.
الخطوة الأمريكية المتوقعة سيكون لها أثر كبير في تجارة "حزب الله" بالمخدرات، إلى جانب طبعا محاصرته في تجارة السلاح وتبييض الأموال. والأهم من هذا وذاك، تحذيرات أطلقها ترمب علنا، من تنامي إدمان المخدرات على الساحة الأمريكية. وقد أثبتت التحريات والتحقيقات أن النسبة الأكبر من المخدرات التي تدخل الولايات المتحدة، تأتي من شبكات تابعة لـ"حزب الله". وهذا ما يعجل في إقدام الإدارة الأمريكية على اتخاذ إجراءات سريعة وقوية ومتلاحقة، لأن الأمر بات يتعلق بالأمن المجتمعي الأمريكي. وفي فترة حكم باراك أوباما، كان الأخير متباطئا في هذه المسألة، خوفا من تأثيرها في الاتفاق النووي مع إيران، هذا الاتفاق "المهزوز" الذي اعتبره الأهم في فترة رئاسته.
الوضع الآن تغير، والتدفقات المالية لـ"حزب الله" من نشاطاته الإجرامية هذه ستتعرض لمزيد من الضغوط في المرحلة المقبلة، خصوصا إذا ما علمنا أن النظام الإيراني الذي صنع هذا الحزب في قلب العالم العربي، طلب من حسن نصر الله في أكثر من مناسبة، إيجاد مزيد من مصادر التمويل المالي له، بسبب المشاكل المالية التي تعيشها إيران نفسها، نتيجة تكاليف الخراب الذي تنشره بمنهجية في هذه المنطقة أو تلك. أضف إلى ذلك، أن العقوبات التي فرضت عليها على مدى سنوات أثرت بشكل خطير في مواردها المالية، حتى بعد رفع جزء منها في أعقاب الاتفاق النووي المشار إليه. والآن هناك منظومة أمريكية أقرها الكونجرس نفسه لتشديد الحصار على المنابع والشبكات المالية لـ"حزب الله"، إضافة طبعا إلى النظام الإيراني.
إنها مرحلة جديدة ضد حزب الله تقودها الولايات المتحدة، ينقصها بعض السرعة من جانب الحلفاء الغربيين لواشنطن. فهؤلاء لا يزالون يعتمدون سياسة عقابية خجولة بعض الشيء، وكأنهم لا يعرفون حجم الخراب الذي أحدثه الحزب المذكور ومعه طهران. هذا الحزب طلب قبل سنوات من خلال مؤيديه ضمن الحكومات اللبنانية السابقة، أن يروجوا للمخدرات، بحجة أنه يمكن طرح عوائدها ضمن الميزانية العامة للبلاد! بالطبع لم يقبل أي مسؤول لبناني شرعي ذلك جملة وتفصيلا. "حزب الله" لا يمكنه أن يعيش ضمن المجال القانوني والشرعي على الإطلاق، فقد أُنشئ كعصابة، وبالتالي لا تنفع معه إلا معايير العصابات. إنه حزب تأسس ضد وطنه أولا، وضد كل حراك إنساني محليا كان أم خارجيا.


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

بريطانيا تحت التهديد



"بريطانيا اليوم تعاني عداء التقادم"
توني بين، وزير بريطاني سابق
كتب: محمد كركوتي
بلغ الوضع الراهن بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حدا، أن وجه الأخير للمملكة المتحدة تحذيرا هو أقرب للتهديد، فيما يرتبط بعرض الانفصال عن الاتحاد. ويتلخص التحذير - التهديد، في أنه إذا فشلت لندن في تحسين هذا العرض، فإنها بالضرورة ستفشل في إقناع زعماء هذا التكتل الكبير، بفتح محادثات تجارية مع المملكة المتحدة قبل نهاية الشهر المقبل. والعرض "كما هو معروف" يتعلق بحجم الأموال التي على الجانب البريطاني أن يدفعها لإتمام الانفصال نهائيا في آذار (مارس) من عام 2019. فحكومة تيريزا ماي تحاول بشتى الوسائل أن تخفضها إلى أكثر من النصف، في حين لا توجد إشارات واضحة من الجانب الأوروبي بقبول ذلك، بل تحدث بعض المسؤولين الأوروبيين بصورة غير رسمية بسخرية على العرض البريطاني المخفض.
المصيبة التي تواجهها بريطانيا اليوم لا تتعلق فقط بحجم أموال الانفصال، بل بالخلافات الحكومية والحزبية حول أمر الانفصال برمته. هناك كراهية واضحة لدى الوزراء في الحكومة البريطانية ضد بعضهم بعضا. والتكتلات السرية وشبه العلنية تسهم في إرباك المفاوضين البريطانيين بالفعل. بل ظهرت بعض السلوكيات البريطانية على الساحة أعطت إشارات سلبية إضافية للأوروبيين. كل الاجتماعات التي عقدتها رئيسة وزراء بريطانيا مع نظرائها في الاتحاد الأوروبي، لم تحرز أي تقدم. ناهيك عن بعض القضايا الأولية العالقة في المفاوضات لا تختص بفاتورة الانفصال، وتشكل في الوقت نفسه معضلات حقيقية. بينما تلهث لندن وراء اتفاق تجارة مع الاتحاد الأوروبي بعد خروجها حتى قبل أن يتحقق تقدم واحد يذكر في مفاوضات الخروج.
المعضلتان الرئيستان هما، وضعية جمهورية إيرلندا "العضو الكامل في الاتحاد"، وعلاقة هذه الجمهورية مع إقليم إيرلندا الشمالية البريطاني بعد الانفصال. وليس هناك تصور حتى الآن لهذه المشكلة الحساسة سياسيا واجتماعيا. وهذه النقطة أيضا أثارت مزيدا من الخلافات داخل الحكومة البريطانية نفسها، التي تجمع بين قادة الانفصال، والقادة الذين وقفوا ضده. المعضلة الثانية، هي وضعية المواطنين الأوروبيين في بريطانيا. وهذه كانت أول بند على قائمة المفاوضات ولا تزال. فالبريطانيون لم يقدموا أيضا أي تصور بهذا الصدد. ومسألة مصالح المواطنين الأوروبيين في المملكة المتحدة، تتقدم عند الاتحاد على أي موضوع آخر. هي قضية تتعلق بالفرد والناخب الذي يمثل المحور الرئيس لكل حكومات هذا الاتحاد، وأي تهاون فيها يسبب مشكلات سياسية حقيقية لكل هذه الحكومات التي تقوم بمهمة حماية حقوق مواطنيها.
الرعب الذي تعيشه الحكومة البريطانية يبقى دائما متعلقا بشكل العلاقة التجارية مع الاتحاد بعد الانفصال. إلا أن الأوروبيين يقولون لها، لنحل عدة مشكلات رئيسة أولا "فاتورة الانفصال، ووضعية إيرلندا، ومستقبل المواطنين الأوروبيين في بريطانيا"، قبل التفكير في بحث اتفاق تجاري بيننا. والاتفاق التجاري المستهدف يمثل المحور الرئيس بالنسبة لبريطانيا. هي لا تستطيع المضي مع الأوروبيين في علاقات طبيعية إلا باتفاق تجاري خاص، بحكم الصلات والتداخل في هذا المجال بينها وبين بلدان الاتحاد. واتفاق تجاري جيد، هو في الواقع بمنزلة جائزة لكل الأطراف البريطانية، بمن فيهم أولئك الذين قادوا عملية الخروج من الاتحاد. وستكون على شكل ترضية للذين يجدون أن الانفصال كارثة وطنية حقيقية على البلاد.
المفاوضات البريطانية - الأوروبية دخلت مرحلة التحذيرات - التهديدات، وهي لا تنذر بالخير، لأن المتشددين في لندن أعلنوها صراحة، أنهم يفضلون الانفصال بلا اتفاق، على طلاق باتفاق لا يمكن قبوله. وهذا ما نشر في الأجواء مزيدا من الغيوم على جانبي القنال الإنجليزي. لكن السؤال الأهم يبقى، هل تستطيع بريطانيا الانسحاب بلا اتفاق حقا؟! بل هل تسمح لها مكانتها القيام بذلك فعلا؟ الجواب ببساطة هو بالنفي القاطع. فالالتزامات بين الدول يمكن التفاوض حولها على مدى عقود، لكن من الصعب "وأحيانا" من المستحيل غسل اليدين منها. المهم الآن أن تكون هناك مرونة بريطانية، لأن الجانب الأوروبي لا ينوي توفيرها على الأقل في هذا الوقت بالذات. فالمبادرة تبقى على الجانب البريطاني.
المهلة التي منحها الاتحاد لبريطانيا لا تتجاوز عشرة أيام، وهو يريد حسمها نهائيا قبل نهاية العام الجاري، على أمل بدء مفاوضات تتعلق بقضايا أخرى في العام المقبل، بما فيها بالطبع تلك الخاصة باتفاق تجاري مستقل مع بريطانيا في أعقاب الانفصال. هناك كثير من القضايا المتشعبة تستدعي وقتا طويلا. بعض المنغمسين في المفاوضات الأوروبية - البريطانية، يقولون سرا، إن الزمن المتبقي من مدة المفاوضات لا يكفي لإتمام اتفاقات انفصال أو تجارة. وهؤلاء لا يبالغون في الواقع فيما يقولونه. فحتى لو تمت الاتفاقات في المواعيد الموضوعة لها، هناك إجراءات على المملكة المتحدة اتخاذها محليا لتسويقها شعبيا وبرلمانيا أيضا. إنها مسألة لن تفرغ بريطانيا على وجه الخصوص من آثارها لسنوات قادمة.


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

«كاتسا» .. البعبع الأمريكي





"الإرهاب صار منظومة عسكرية في الحرب، لا تعرف الحدود"
جاك شيراك، رئيس فرنسي سابق


كتب: محمد كركوتي


لنترك جانبا التهديدات الإيرانية للولايات المتحدة بـ"الويل"، إذا ما أقرت واشنطن قانون "كاتسا" الذي يفرض عقوبات على الأذرع الإيرانية الإرهابية هنا وهناك. ولندع أيضا على الهامش تصريحات إيرانية خرقاء على شاكلة "سنعتبر القوات الأمريكية في المنطقة والعالم كـ "داعش" أو تلك التعبيرات البلهاء مثل "القانون هو الثقب الأسود للعقوبات"، أو "أم العقوبات". القانون المشار إليه أقر بالفعل، ووزعت واشنطن قائمة بأسماء الأشخاص والجهات والعصابات والميليشيات التي ينطبق عليها القانون، وكلها بالطبع في قلب صناعة الإرهاب. تهديدات النظام الإرهابي في طهران، لم تلبث أن طارت مع رياح الخريف الذي شهدت بدايته إقرار القانون. هذا النظام، لا يجرؤ في الواقع على القيام بأي خطوة مباشرة ضد الولايات المتحدة، لأنه يعرف أن نهايته ستنطلق فورا. والإرهاب الإيراني المباشر ضد الولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي لا يصلح لهذه الأيام.
قانون "كاتسا"، أتى "كبعض الخطوات الأمريكية" متأخرا. ولكن هذا الأمر ليس مهما الآن، خصوصا مع وجود إدارة أمريكية حاسمة في مواقفها حيال الإرهاب الإيراني العالمي. وهي تعمل بالفعل على إزالة كل الفرص الرغيدة التي قدمتها إدارة باراك أوباما السابقة لنظام يتصدر الإرهاب. والأهم من هذا وذاك، أنها لن تتردد في توجيه الضربات العسكرية اللازمة في أي مكان يؤذي نظام علي خامنئي. ولعل هذا ما يفسر بعض التعليقات من جهات محسوبة على هذا الأخير، أن "كاتسا" لا يهدف للضغط على النظام فقط، بل يشجع على تغيير النظام نفسه. ولو حصل هذا الأمر بالفعل، لاختصرت المدة الزمنية للحرب على الإرهاب، لماذا؟ لأن إيران بعصاباتها ومخططاتها الإجرامية هنا وهناك، هي من يتصدر المشهد الإرهابي.
لا شك أن إدارة دونالد ترمب خطت خطوات واسعة لمعاقبة إيران التي تنشر الرعب والقتل والفوضى في غير بلد عربي، بل تقوم أيضا بواحدة من أكثر الأعمال دناءة وإجراما بتغييرها البناء الديموغرافي في بعض البلدان، ناهيك عن الإرهاب بالوكالة. والإدارة نفسها نزعت الامتيازات "الأوبامية" عن إيران. غير أن الأمر ليس بهذه الصرامة على صعيد البلدان الغربية الأخرى التي من المفترض أنها تشكل التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة، خصوصا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وعلى وجه الخصوص تسير أوروبا بسرعات بطيئة عن السرعة الأمريكية بهذا الصدد، لسبب وحيد، هو أن هذه القارة باتت صوتية أكثر منها فاعلة. صحيح أنها لا تخرج عن النطاق الأمريكي العام، ولكن الصحيح أيضا أن سياسييها باتوا يقبعون بين سماحة أوباما البلهاء مع إيران، وصرامة ترمب الواضحة معها.
هناك عقوبات تفرضها البلدان الأوروبية على إيران، لكنها تراجعت بصورة كبيرة في أعقاب التوقيع على الاتفاق النووي المهزوز مع طهران. والحق، إن الاتحاد الأوروبي بدا في أعقاب هذا الاتفاق كأنه غير مصدق أن بإمكانه العودة إلى إيران بشركاته وأموال التمويل والتسهيلات المصرفية المختلفة. ورغم تردد بعض الشركات الأوروبية في دخول السوق الإيرانية خوفا من الأمريكيين وعقوباتهم المحتملة عليها، إلا أن البعض الآخر من هذه الشركات عاد بقوة، بما فيها مؤسسات نفطية وتلك المختصة بصناعة الآليات وغير ذلك. ومع تحدي نظام خامنئي العالم بتطوير وتجربة الصواريخ الباليستية، لم يغير الاتحاد الأوروبي شيئا حيال العقوبات. ومن هنا، أسرعت الإدارة الأمريكية للتأكيد علنا، أنها تدعم أي خطوة أوروبية ضد إيران بسبب برنامجها للصواريخ الباليستية، إضافة "طبعا" لتورطها في تأجيج الصراعات والنزاعات في الشرق الأوسط.
ستتقدم أوروبا لاحقا خطوات في هذا المجال، لأن البلاهة السياسية التي أدمنتها لا تزال موجودة على الساحة. لنترك تلك "الهالة" التي اكتسبتها أوروبا في التعاطي السياسي مع المشكلات الكبرى. فأدوات الماضي لا تنفع مع معطيات الحاضر. ما هو مجد بالفعل، أن يكون التحرك ضد إيران واضحا وصارما فيما يتعلق بالعقوبات، لاسيما أن النظام الإرهابي الحاكم فيها، يمكنه الوصول إلى التمويل المالي اللازم عبر طرق لا حصر لها، ناهيك بالطبع عن سيطرته الكاملة على اقتصاد البلاد، وتحويل جانب كبير من الإيرادات لدعم عملياته الإرهابية هنا وهناك، والتوسع بالاحتلال لهذه المنطقة أو تلك. وقانون "كاتسا" نفسه "على صرامته" لا يحقق الأهداف المرجوة في تجفيف المنابع المالية لعلي خامنئي.
الإرهاب الإيراني لن يستهدف الولايات المتحدة فقط، كما أنه لا يستهدف دول المنطقة وحدها. إنه إرهاب صمم للانتشار حول العالم، وعلى الأوروبيين أن يخرجوا من تلك "العباءة" الهادئة في التعاطي مع قضية تتطلب مواقف وإجراءات وقرارات وقوانين حاسمة سريعة، خصوصا أن النظام الإيراني حصل على أكبر قدر من الفرص قبل وبعد مرحلة أوباما، الذي أراد أن يحقق نتائج تاريخية من خلال اتفاق مروع. كان حلما لهذا الأخير أخرجه على الساحة كابوسا مع زواله من الحكم.


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الثروات والملاذات الضريبية الآمنة





"الضرائب هي القيمة التي تدفعها المجتمعات المتحضرة لتبقى متحضرة"
ألبرت هارت مؤرخ وكاتب أمريكي راحل



كتب: محمد كركوتي

من حقائق ما كشفت عنه "أوراق الجنة" نسبة كبيرة من الشخصيات المعروفة عالميا مشتركة فيها. من الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا إلى المغنية شاكيرا. وما بينهما شخصيات من كل فن، وأخرى من كل أنواع الرياضة، إلى جانب طبعا الأثرياء العصاميين والنصابين، ناهيك عن أولئك الذين راكموا الثروات عبر سرقة المال العام، والصفقات المشبوهة في كل قطاع ممكن والسمسرة غير المشروعة. و"أوارق الجنة" كما يعرف الجميع، هو توصيف دقيق لقوائم حسابات مالية هائلة الحجم في الملاذات الضريبية الآمنة. فكل الأموال التي تصل إلى هذه "الجنان" تبقى آمنة من آلة المحصل الضريبي الحسابية، ويمكن تحريكها من ملاذ إلى آخر بأسهل الطرق، ولا خطر على هذه الأموال، مهما كانت الإجراءات التي تتخذها الحكومات حول العالم.
لا بد من التأكيد هنا، أن هذه الحسابات وقوائم الشركات والمصارف في الملاذات المشار إليها قانونية. صحيح أنها أقيمت هناك بهدف التهرب الضريبي على وجه التحديد، إلا أنها تدخل ضمن نطاق اللوائح المعترف بها عالميا. غير أن ذلك لا يمنح بعض هذه الأموال الشرعية من الناحية الأخلاقية، عندما لا يكون هناك تدقيق حقيقي في مصادرها. وهنا تختلط الأموال الشرعية الهاربة من الضرائب، بالأموال غير الشرعية الهادفة لشيئين، الأول تجنب الضرائب، والثاني "وهو الأهم" "إلباسها" الرداء المشروع! بمعنى آخر، إما أن تصل هذه الأموال والأعمال "مغسولة" إلى الملاذ الآمن، أو يتم غسلها فيه. والأمر ليس صعبا، طالما أن اللوائح الحكومية في كل البلدان لا تنطبق هذا الحراك المالي. دعك من تأكيدات حكومات الملاذات، بأن كل شيء تحت الرقابة قبلها فهي طرف مستفيد وبالتالي لن يكون محايدا.
المشكلة الأكبر هنا، أن الغالبية العظمى من "الجنان الضريبية"، هي في الواقع تقع تحت التاج البريطاني، بصرف النظر عن شكلية تبعيتها لهذا التاج. وهذا ما صنع حرجا قديما للمملكة المتحدة ما زال موجودا على الساحة حتى اليوم. والذي يزيد من الحرج مع الكشف عما يزيد على 13.4 مليون وثيقة، أن اسم ملكة بريطانيا ظهر فيها، بإحصاء أكثر من عشرة ملايين جنيه استرليني تابعة لها، قابعة في هذه الملاذات. صحيح أن الملكة إليزابيث لم ترتكب مخالفة في ذلك، لكن بحكم موقعها في بريطانيا وفي بلاد الملاذات التي ترأسها، وضعها في موقف أحسب أنها لا ترغب فيه. دون أن ننسى، أن الملكة لا تقوم مباشرة بتحريك أموالها، وبالتالي من الطبيعي أنها لا تعرف كل التفاصيل في هذا الخصوص.
الضرائب تبقى مسألة حساسة في البلدان الديمقراطية، وفي كثير من الأحيان تكون محورا للخلافات بين الأحزاب السياسية الوطنية، بل يتم وضعها في صلب البرامج الانتخابية لهذا الحزب أو ذاك. فإذا كانت لا تعني شيئا في بلاد غير راشدة، فهي ليست كذلك في بلد كبريطانيا. وقبل عامين عندما تم الكشف عن "أوراق بنما"، وجدوا مبلغا صغيرا لوالد رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون في هذه "الأوراق"، ما اضطر الرجل إلى القيام بحملة من أجل تبرئة نفسه من هذه الأموال، على أنها تخص أسرته قبل أن يصل إلى منصبه، وأنه لا علم له بها على اعتبار أنه لا يملكها. وغير ذلك من التبريرات. ورغم أنه حقق الهدف بالفعل من هذه التبريرات، إلا أن المسألة بقيت عالقة به، سواء نجح أم فشل.
ما يجعل "أوراق الجنة" خطيرة بتداعياتها، أنها تختص بـ19 ملاذا آمنا. كما أنها لن تتوقف عند الكشف عنها فقط، خصوصا أنها لا تتضمن تفاصيل استثمارات تنظر لها المؤسسات الدولية على أنها مشينة حقا، بما في ذلك أموال للملكة البريطانية نفسها، استثمرت في أعمال اعتمدت على استغلال العائلات الفقيرة، وغالبا ما تكون هذه العائلات في بلدان فقيرة جدا، إلى جانب عدم مراعاة قوانين التشغيل وغير ذلك. "الأوراق" كشفت كثيرا من الأعمال المريبة، وعن شخصيات لا تزال في قمة السلطة بما في ذلك رئيسي الولايات المتحدة وروسيا. والمصيبة الأكبر لا تكمن في الكشف عن الأموال في الملاذات المذكورة، بل في تفاصيل الاستثمارات التي يقوم بها أصحابها، ما يحول المسألة من تهرب ضريبي مريب لكنه مشروع، إلى سلوكيات استثمارية مشينة.
مع الضغوط الناجمة عن "الأوراق"، أسرعت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي إلى التعهد بمعالجة المخططات التي يتم عبرها التجنب الضريبي. لكن مهلا، هل تستطيع القيام بذلك فعلا؟ لا لن تستطيع، والسبب أنها تقود حكومة ضعيفة جدا تتعرض للتشتت بصورة مستمرة. كما أنها "أي ماي" صارت منذ أشهر أضعف من حكومتها. ستبقى كلماتها للاستهلاك الإعلامي فقط. الخطوة الأهم من "ماي" وغيرها من القيادات حول العالم، أن تكون هناك حملة دولية موحدة، على غرار تلك التي أطلقت في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية واستهدفت التهرب الضريبي، وركزت على الملاذات الضريبة الآمنة على وجه الخصوص، بشرط أن تكون مستدامة. فالحملة المشار إليها، سرعان ما خبت بعد أن تراجعت ضربات وتداعيات الأزمة العالمية.


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

«الردح» البريطاني - الأوروبي






"بريكست مثال دقيق لأمة أطلقت النار على نفسها في وجهها"
هيو جرانت ممثل بريطاني عالمي



كتب: محمد كركوتي

"الردح" السياسي ليس حكرا على أمة أو أمم. هو سلوك يستخدمه الغرب والشرق، وإن كان هذا الأخير أكثر استخداما له. ووفق هذا الاستنتاج، كان طبيعيا أن تدخل مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بينها وبين هذا الاتحاد مرحلة "الردح" السياسي، ولا بأس ببعض "الردح" الفكاهي الذي يسبب الغيظ حتى أكثر من السياسي. اللافت أكثر، أن "الردح" لم يعد قاصرا على البريطانيين والأوروبيين، بل شمل أيضا البريطانيين أنفسهم. وهذا في المعيار السياسي مصيبة، خصوصا عندما تكون البلاد في مرحلة مفاوضات شاقة وغير واضحة المعالم، بل دون ضمانات حقيقية أن تصل إلى نهاية محددة. فلا عجب، عندما يطالب الاتحاد الأوروبي المملكة المتحدة أن تكون متحدة في المفاوضات معه، وأن تتوقف عن التلاسن الداخلي، لأن ذلك ينعكس سلبا على مفاوضات مضطربة أصلا.
خمس جولات من المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد، استهلكت ستة أشهر تقريبا من الفترة الزمنية المحددة لها بعامين كحد أقصى. هذه الجولات لم تحقق شيئا. الاتهامات متبادلة، والأهداف تبدو في الوقت الراهن متعارضة. الأوروبيون لا يبدو أنهم في عجلة من أمرهم، على عكس البريطانيين الذين يريدون تقدما واضحا ملموسا، ليس فقط من أجل إتمام الخروج النهائي، بل أيضا كي تستطيع الحكومة البريطانية المضطربة تقديم شيء ما للبريطانيين أنفسهم. فالساحة الشعبية في المملكة المتحدة بدأت تميل بعض الشيء للاستنتاج الذي توصل إليه محبو الاتحاد الأوروبي، أن قرار الخروج كان خطأ. يضاف إلى ذلك، أن تيريزا ماي رئيسة الوزراء تعمق ضعفها على الساحة الداخلية يوما بعد يوم، ليس فقط جراء الارتباك في إدارة المفاوضات، بل أيضا من جهة "حروب" شبه مستترة داخل الحكومة نفسها!
هناك ما لا يقل عن 50 تقريرا سريا حتى الآن تحتفظ بها الحكومة حول الخروج البريطاني "بريكست"، تطالب تيارات سياسية قوية بنشرها على الملأ، في حين ترفض الحكومة الإقدام على هذه الخطوة. وهذا الرفض يعزز موقف المعسكر المخلص للاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة، الذي يقول منذ البداية إن الكارثة ستكون كبيرة على بريطانيا جراء الخروج، وإن من حق البريطانيين كلهم الاطلاع على الحقائق كما هي، ناهيك عن ترويجهم لضرورة عرض نتائج المفاوضات على استفتاء عام جديد. تيريزا ماي يبدو أنها لا تملك إلا الجملة الشهيرة التي ترددها في كل مناسبة "بريكست يعني بريسكت"، في محاولة باتت مملة للتأكيد أنها تحترم اختيار البريطانيين للخروج بدلا من البقاء. ولأن الضغوط باتت قوية عليها، أسرعت للإعلان أخيرا أن الاتفاق مع الاتحاد سيعرض للتصويت على مجلس العموم.
ولكن ما مصير التقارير السرية التي ترفض الإفراج عنها؟ سيظل مجهولا حتى تضطر إلى الرضوخ، لاسيما أنها ليست في موقف قوي يمكنها من التمسك بموقفها هذا إلى النهاية. فإذا كانت تحترم رغبة أغلبية الشعب البريطاني في الخروج، فإن عليها "بحسب المعسكر المضاد" أن تضع كل شيء على الطاولة. فهذا هو السلوك الديمقراطي الحقيقي. ورفض نشر التقارير التي أعدتها مجموعة من الجهات المختصة المستقلة، يفتح مجالا واسعا أمام من يرغب في التشكيك في "بريكست"، لدعم وجهة نظره بكارثية الانسحاب. معنى ذلك أن هناك شيئا خطيرا بالفعل تريد الحكومة التعتيم عليه خلال ما تبقى من زمن للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. وأيا كان محتوى التقارير المشار إليها، فقد أضافت هما جديدا لحكومة يمكن أن تنهار في أي لحظة.
الانهيار المشار إليه يقلق بالفعل المفوضية الأوروبية. فهي لا تعرف كيف ستتعامل مع الفوضى السياسية على الساحة البريطانية إذا ما حدث ذلك الانهيار. صحيح أن الاتحاد الأوروبي في موقف قوي، لكن الصحيح أيضا أنه بحاجة إلى جهة قوية للتفاوض معها. جهة يمكنها أن تسوق أي اتفاق معه على الساحة المحلية. جهة تستطيع أن تبرم اتفاقات جديدة بين بريطانيا الخارجة من الاتحاد وهذا الأخير. وهذه النقطة أيضا محورية، بل تتصدر كل المحاور. إنها تتعلق بمستقبل العلاقات بعد الانسحاب، من اتفاقات تجارية ومالية واجتماعية وغير ذلك. ثبت بالفعل أن "الردح" بين الطرفين يعطل مسيرة التفاوض، أو يطرح محاور جديدة لا يمكن أن تتحملها مثل هذه المفاوضات.
ضحك الأوروبيون كثيرا على ما أعلنته ماي أن "الكرة باتت في الملعب الأوروبي". وردوا أن العملية ليست بالضبط لعبة كرة. لماذا؟ لأن هناك تسلسلا واضحا للمفاوضات، وحتى الآن لم يتم إيجاد أي حل للخطوة الأولى. ما هي؟ إنها إجراءات "الطلاق". المصيبة، أن الأوروبيين بدأوا بالفعل يتحدثون عن "معجزات" من أجل أن تتقدم المفاوضات، ما يعني أن شيئا لم يتحقق حتى اليوم، وأن الأيام المقبلة ستكون مليئة بكل شيء إلا بالنتائج. سيكون "الردح" أعلى بين الجانبين. لكن الخطورة الأكبر في "الردح" الوطني البريطاني المحلي.


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")