الثلاثاء، 30 نوفمبر 2010

التسامح البريطاني المُغتصَب

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")



" عبر القرون.. تاريخ الشعوب ليس إلا دروساً في التسامح المتبادل"
إميل زولا أديب وكاتب فرنسي


 
 
محمد كركوتـي
 
لو كانت الأم تيريزا، أو كما يحلو للبعض مناداتها بـ "ماما تيريزا" ( تلك الإنسانة التي غمرتها إنسانيتها طوال حياتها)، على قيد الحياة، لقالت لـ "سَميتِها" وزيرة الداخلية البريطانية تيريزا ماي: مهلاً أيتها الوزيرة، لا تجعلي من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بلادك، ومعها بلدان العالم أجمع، أن تكون دافعاً لتجريد بريطانيا مما تبقى من تسامحها. مهلاً "يا سَميتي"، لا تكوني وقوداً، لـ "العنصرية الاقتصادية"، الهائمة في بحار من الوقود "الرخيص" أصلاً. مهلاً، لا تخلطي الأمور بعضها ببعض، ولا تدخُلي تاريخ بلادك، من نفس البوابة التي دخلها وسيدخلها، القوميون المتطرفون. أنا لا أفهم بالاقتصاد، ولم أستوعب ما يسمى بـ " الفقاعات الاقتصادية"، ولا دخل لي بارتفاع أو انهيار الأسواق، ولا أعرف كيف تجري العمليات المصرفية، سواء الحقيقية منها أو الوهمية، واستحال علي استيعاب كيف تتحول قيمة الأوراق المالية والأصول والممتلكات، إلى قيمة أوراق الأشجار المتساقطة، في خريف عاصف. الذي أعرفه – والكلام لماما تيريزا – أن "الاقتصاد" في معايير التسامح، يعني وفرة للمعايير غير الأخلاقية، وغير الإنسانية. ليمر الاقتصاد بفقاعات، لكن لتبقى الأخلاق عميقة، وليبقى التسامح أساسها.

سيقول المسؤولون البريطانيون، الذين يحاولون على طريق تغذية المشاعر القومية المتطرفة، الإبقاء على ائتلافهم الحاكم أطول مدة ممكنة، لتيريزا ماي: دعك من هذه المرأة الحالمة، التي لا تفهم بالاقتصاد ولا بالسياسة، وتريد أن تجرك إلى "قطاع" لا وقت لنا بدخوله. نحن نعيش أزمة، علينا أن نواجهها بكل الأدوات، بصرف النظر عن ماهيتها، وتعارضها مع "أخلاقيات ماما تيريزا". سيقولون: لتحل "ماما" مشاكلنا، ونحن نعدها بأن نحافظ على ما ترغب هي أن نحافظ عليه. إن واقعنا تجاوز مرحلة السماحة والتسامح. دعك يا ماي من هذا كله، وابدئي بتنفيذ قرارات حكومتك، بخفض 20 في المائة من التأشيرات التي ستمنح في العام 2011، إلى العمال القادمين من دول خارج الاتحاد الأوروبي، وقولي لـ "الماما": لأننا نحترمها ونقدرها، فسوف نخفف القيود بالنسبة للعاملين في الشركات متعددة الجنسيات!. لكن لن تقول الوزيرة البريطانية: إن عدة مؤسسات وشركات بريطانية كبرى، هددت الحكومة بترك البلاد، إذا لم تحصل على القرار الحكومي، بتخفيف القيود هذه!. فالحكومة استجابت للمطالب، التي تمكن المؤسسات المذكورة، من استقدام عمالها وموظفيها، لمدة أقصاها خمس سنوات، على أن لا يزيد ما تدفعه لكل فرد من هؤلاء، عن 40 ألف جنيه إسترليني (ما يوازي 47 ألف يورو) سنوياً.

من حق بريطانيا ومعها كل دول العالم أن تحمي نفسها اقتصادياً، من خلال تشريعات وقوانين جديدة تخص العمالة. ويخطئ من يقول عكس ذلك، سواء كانت البلاد في أزمة أو كانت في حالة ازدهار. لكننا ببساطة لا يمكن أن نُخرِج هذه القضية من ارتباطها العنصري أو القومي أو المحلي.. والسياسي أيضاً. ففي الغرب – عموماً – يسجل اليمين المتطرف نقاطاً انتخابية" وطنية" لصالحه، ابتدءاً بالسويد وهولندة والنمسا، وليس انتهاءً بفرنسا وألمانيا وإيطاليا. وقد استغل المتطرفون في الواقع، آلام الأزمة الاقتصادية العالمية ومصائبها، لكي يتقدموا إلى الأمام، مع تراجع حدة الاشمئزاز - وأحياناً "الاستحقار" - الذي كانوا يتعرضون له في مجتمعاتهم!. فما كان مُحرماً قبل الأزمة، بات مُباحاً بعدها، وما كان مُعيباً – قبلها – أصبح أمراً عادياً بعدها!. ولذلك سمحت الحكومات الخائفة من شعوبها (بسبب توريطها لهذه الشعوب بأزمة تاريخية كان بالإمكان تفاديها)، للعصبية – العنصرية، المحلية وبعدها الوطنية وبعدها القومية، لا أن تنطلق فحسب، بل وتنمو أيضاً!. فقد بات السماح لهذه النوع من العنصرية، جزءاً أصيلاً في التسويق الانتخابي، لأحزاب كانت حتى وقت قريب، بمثابة " ملاذ سياسي واجتماعي آمن" للمهاجرين الشرعيين والعمال والموظفين الأجانب. هذا التحول الخطير، يعطي مساحة للاستنتاج، بأن القوى اليمينية المتطرفة في الغرب – وتحديداً في أوروبا – ستصل إلى مرحلة تتمكن فيها، من تغيير القواعد التقليدية المتبعة، في مجال التعاطي مع الأجانب. والحجة موجودة " حماية اقتصاداتنا الوطنية"!.

المثير في الحالة البريطانية، أن الائتلاف الحكومي، بين حزبي المحافظين والديمقراطيين الليبراليين ( وهو ائتلاف لا يزال البعض يراه مضحكاً أكثر من كونه غريباً)، والذي سن قانون الحد من منح التأشيرات الشرعية للعمال والموظفين الأجانب، تمكن من تكميم أفواه قيادات الحزب الليبرالي في هذا المجال. فقد حلت عند هذا الحزب المعتدل والمدافع عن الحقوق الإنسانية بكل أشكالها، نشوة الحكم مكان "قدسية" الأخلاق والمبادئ!. ولذلك.. فلا غرابة في ظهور أصوات من الحزب الليبرالي بين الحين والآخر، تعبر عن مرارتها من هذا الائتلاف، ومن التحولات الأخلاقية السلبية لدى قيادته. إلى درجة أن اعترض وزير التجارة فينس كابل ( وهو عضو في الحزب الديمقراطي الليبرالي)، على مشروع حكومته نفسها، لأنه يتضمن – بالإضافة إلى الحد من تأشيرات العمل – تقليص عدد التأشيرات الممنوحة لمن؟ للطلبة والأسر!. وهذا وحده، يؤكد مرة أخرى، بأن القوانين البريطانية الجديدة، لا تستهدف العمال والموظفين الأجانب فحسب، بل تشمل بصورة خطيرة، الأجانب الذين يرغبون في التحصيل العلمي، والأسر التي تسعى إلى لم شملها بالطرق القانونية لا الاحتيالية. ولمزيد من التضييق، لم تخف وزيرة الداخلية في بريطانيا، أنها تدرس خفض أجور بعض العمال الأجانب، كجزء من عملية تشديد قوانين الهجرة.

ولأن المعايير الانتخابية – الشعبوية، هي التي تحكم حالياً في المملكة المتحدة ( والغرب عموماً)، فقد تناست حكومة الائتلاف، بأن بريطانيا – كغيرها من الدول الغربية – تحتاج إلى مهاجرين شرعيين، يساهمون في تصحيح الخلل الديموغرافي، الذي تعيشه كل هذه البلدان، من جراء ارتفاع متوسط الأعمار، وانخفاض نسبة مواليد السكان الأصليين!. وهذه وحدها أزمة، ستكون أمامها الأزمة الاقتصادية الراهنة، مجرد سحابة صيف!. وهي تعلم – على سبيل المثال – أن تخفيض عدد تأشيرات العمل التي ستمنحها في العام 2011 إلى 21 ألف و700 تأشيرة، من 28 ألف تأشيرة في العام 2009، ستخفض من قدرة الدولة في المستقبل، على مواجهة الأزمة الديموغرافية. ولكن، كيف يمكن لحكومة، أعلنت في برنامجها الانتخابي، أنها تضع تخفيض عدد العمال والموظفين والطلاب الأجانب، هدفاً أساسياً لتحققه خلال فترة وجودها في السلطة، أن تفهم ما يجب عليها أن تفهمه؟!.

يقول المؤلف والأديب الأميركي توم روبينز :" كن ملتزماً في قراراتك، لكن كن مرنناً في نهجك". لكن يبدو أن الحكومة البريطانية ( ومعها حكومات في بلدان غربية أخرى)، صارمة في قراراتها ونهجها. فعندما تتحول الرؤى الإستراتيجية إلى سلعة سياسية – انتخابية، تنزوي المعايير الأخلاقية، وتنتهي بيئة التسامح، التي لا تصب فقط في مصلحة الأجانب، بل في مصلحة الشعوب الغربية نفسها.

إن بريطانيا هي الدولة الغربية الوحيدة، التي فقدت أموالها في فقاعات اقتصادية تاريخية، وفقدت معها "حلاوة" تسامحها، الذي تميزت به على مدى عدة عقود من الزمن، مقارنة مع بقية الدول المشابهة لها. وإذا ما استشرت "العنصرية الاقتصادية" فيها، فسوف لن يتمكن هذا البلد، من استعادة ملامحه المتميزة. سيكون مثل باقي البلدان، التي لا تنظر أبعد من أنفها!.

هذا ليس طرح عاطفي، إنه طرح أخلاقي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق