الثلاثاء، 28 مارس 2017


اقتصاد الإرهاب والخراب




"ترمب وضع تحت عينيه إيران كراع قيادي للإرهاب"
مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي

كتب: محمد كركوتي

كيف يمكن لعلي خامنئي أكبر قائد للإرهاب على مستوى العالم، أن يقدم رؤية اقتصادية هادئة ومتوازنة وحقيقية لبلاد؟! والأهم من هذا، كيف يمكن لمخرب أن يبني؟! ولراع لأنواع مختلفة ومبتكرة من الإرهاب والخراب، أن يتحدث عن خطة تنمية بصرف النظر عن عمقها أو قوتها أو اتساع دائرتها؟! مثل هؤلاء الأشخاص لا يمكن أن يقدموا أي مساهمة للحياة الإنسانية، بما فيها تلك الحياة التي تخص شعوبهم مباشرة. فلا غرابة في زمن الإرهاب الإيراني وتصديره إلى ما أمكن من مناطق، أن يرتفع عدد الفقراء في إيران، وأن تزيد البطالة، وأن تنخفض بصورة تسلسلية قيمة العملة الوطنية، وأن تبحث طهران عن "مواخير" مصرفية لتمرير معاملاتها، وأن يسيطر قائد الإرهاب على اقتصاد البلاد دون مساءلة أو رقابة. هذا واقع يعرفه الإيرانيون قبل الجميع، وهم أول المبتلين بداء إرهاب النظام الإيراني، الذي أثبت أنه يفضل تمويل عملية إرهابية هنا وهناك، على أن يحول هذا التمويل إلى سد رمق أولئك الذين انضموا إلى صفوف الأشد فقرا. ماذا كان يفعل هذا النظام، لتبرير الخراب الاقتصادي الذي تعيشه البلاد؟ يحمل مباشرة المسؤولية للحكومات المتعاقبة، وغالبا ما يحرص خامنئي "وقبله الخميني" على إظهار الخلاف بين القيادة الفعلية للبلاد "مرشد الثورة" وبين الرئيس أو حكومة الرئيس إذا كان هذا الأخير مقربا من المرشد. غير أن اللعبة فضحت منذ زمن، صحيح أن الحكومات لها أخطاؤها، لكن الأصح أنها لا تتحكم بالموارد ولا يمكنها أن تحاسب من المتحكم الفعلي فيها. لا بأس، يخرج خامنئي ويوجه انتقاداته (بل هجومه الشديد أحيانا) للحكومة والرئيس، دون أن يعطي أي حلول ممكنة للمشاكل التي تواجهها بلاده. في الواقع يقوم "المرشد" بتكريس الأدبيات التي قامت عليها "الثورة" وهي أن ولاية الفقيه لا تمس، وأي شيء دونها قابل للهجوم والانتقاد والعزل وغير ذلك. أقصى ما قدمه خامنئي شعار يليق بكل المناسبات المحلية، والإقليمية والعالمية ذات الصلة "الاقتصاد المقاوم". وهذا الشعار بات مثارا للسخرية السرية حتى في أوساط المسؤولين المتفتحين قليلا في طهران، ناهيك عن المعارضين والشرائح المجتمعية المعدمة في هذا البلد، فضلا عن القوميات والطوائف الأخرى التي لا تعاني مر الاقتصاد فقط، بل وحشية النظام في آن معا. أخيرا خرج علي خامنئي بـ "رؤية اقتصادية" لخصها بـ "صنع في إيران" المرشد الاقتصادي طالب بحظر بعض الواردات، وتمكين الصناعة المحلية. ومثل هذا الأمر لا يحتاج إلى "رؤية اقتصادية"، كما أنه لا يحتاج لمختصين اقتصاديين. من الطبيعي أن تمنح الأولوية للإنتاج المحلي، ليس فقط لتوفير العملة الصعبة المستخدمة للواردات، بل أيضا لتوفير فرص عمل للعاطلين المتزايدين. إلا أن الأمر لا يتم هكذا نظريا، بل يتطلب بيئة اقتصادية تتمتع بالحد الأدنى من الصحة، وأن تكون الموارد الحقيقية للبلاد على الطاولة وليس تحتها، وأن تمنح الحكومة بالفعل صلاحية صنع القرار الاقتصادي على أساس ما لديها وما تتحكم فيه. وكل هذه المعايير لا توجد على الساحة الإيرانية، وهي غائبة في الواقع منذ أكثر من ثلاثة عقود. كلام يقوله خامنئي ويمضي دون أثر حقيقي، تماما مثل كلامه عن ضرورة التخلص من تجارة التهريب التي قدر قيمتها بـ 15 مليار دولار سنويا. وهنا تكمن مشكلة أكبر من الأولى. لماذا؟ لأن عمليات التهريب التي تحدث عنها يسيطر عليها "الحرس الثوري" الذي يقوده خامنئي مباشرة. أي أن زعيم التهريب يطالب بمحاربة التهريب! من يجرؤ على ذلك من كل السلطات الموجودة في إيران؟ لا أحد! من يمكنه أن يمضي قدما في مقاومة التهريب استنادا إلى مطالبة خامنئي نفسه؟ لا أحد! رافد واحد من روافد التهريب المتعددة؟ لا أحد! كل شيء مرهون بالمرشد المهرب، ولا بأس من إطلاق شعارات لاحتواء ما يمكن من الكارثة الاقتصادية التي تعيشها البلاد. ولذلك فهو عندما تحدث عن التهريب وصنع في إيران، كان حريصا على الإعلان أن "بعض المسؤولين لا يقنعون الشعب الإيراني"! هذا عن التهريب. فماذا عن غسل الأموال والاتجار بالمخدرات والبشر، وتمويل العمليات الإرهابية في كل مكان تمكن إيران من الوصول إليه؟ لا شيء بالطبع. فالمرشد مهتم بجريمة واحدة، عله يستطيع التغطية على بقية الجرائم التي لا تنال من الإيرانيين فحسب، بل من كل الشعوب التي وقعت بصورة أو بأخرى تحت الآلة الإجرامية الإيرانية هنا وهناك. ستنتهي حكومة حسن روحاني، ويأتي خامنئي بواحدة غيرها. دعك من الانتخابات التي تجري عادة في البلاد، ويعرف المرشد نتيجتها حتى قبل معرفة شخصياتها. إيران ليست بلدا يمكن أن تطبق فيه أي معايير اقتصادية بدائية كانت أم معقدة. إنه بلد منتج ومصدر للإرهاب، ونظام يؤمن حرفيا بأن "المهدي المنتظر" الخاص به، لن يأتي إلا بقتل ما أمكن من شعوب لم تنظر يوما لإيران على أنها من الأعداء. ناهيك عن الخراب المحلي الذي يتجلى في أرقام لا نقاش فيها.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الثلاثاء، 21 مارس 2017


مرحلة تجارية عالمية صعبة



"لست انعزاليا ولكنني نصير للتجارة الحرة"
دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة

كتب: محمد كركوتي

ليس مهما مسألة عدم مصافحة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لمستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل. في الواقع صافحها عند استقبالها على مدخل البيت الأبيض، وهذا من الناحية البروتوكولية يكفي. وليس مهما أيضا استحواذ هذا الحدث على وسائل الإعلام والتواصل الغربية، هو في النهاية حدث مثير، لكن لا قيمة له. أما المسألة التي تخص ألمانيا والعالم، وترتبط مباشرة بالولايات المتحدة، فهي التجارة العالمية وآفاقها، بل لنقل "التجارة العالمية ومستقبلها" في ظل المتغيرات التاريخية الهائلة بالفعل، ولا سيما في أعقاب وصول ترمب إلى السلطة في البيت الأبيض. إلى جانب طبعا تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتحول الشعبوي المخيف في غير بلد غربي يفترض أنه يتمتع بحد معقول من الرشد.
ستمضي مسألة المصافحة من عدمها بسرعة، لكن الذي سيبقى الآن هو الخلاف الخطير الذي ظهر بصورة واضحة على صعيد اجتماعات وزراء المالية في مجموعة العشرين في ألمانيا، الذي برز بالطبع في البيان الختامي لهذا التجمع المهم، الذي أخذ زمام المبادرة على الساحة الدولية في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. ببساطة هذا الاجتماع فشل في إعادة تأكيد التزام "أطراف العشرين" بالتجارة الحرة. وهذا الالتزام بات تقليدا معروفا منذ أن أطلقت هذه المجموعة. بمعنى، أن التجارة الحرة تعتبر عماد مجموعة العشرين، التي بدورها تتحرك على بقية الساحة العالمية لتكريسها وتمكينها لتوسيع نطاقها، وضم مزيد من البلدان إلى نطاق "الدائرة" التجارية العالمية الحرة. إنها (أي التجارة الحرة) رمز للتعاون الدولي، والتنمية العالمية المستدامة بصرف النظر عن الجهات المنغمسة فيها.
هذه المرة لم يصدر وزراء مالية مجموعة العشرين بيانا متجانسا ومتناغما ومتفاهما حول القضايا الرئيسة على الأقل، لماذا؟ لأن تأثير الموقف الأمريكي الجديد حيال مفهوم التجارة العالمية كان سائدا على أروقة هذه الاجتماعات، بصرف النظر عن التصريحات الإيجابية التي أطلقها ترمب خلال لقائه بميركل، أو تصريحات وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين التي تكتسب الإيجابية نفسها. قال الأول، إنه ليس عدوا للتجارة الحرة بل نصير لها. بينما قال الثاني "نؤيد التجارة الحرة شريطة أن تكون نزيهة ومتوازنة". وهذا المستوى من الخطاب لم يتخلف عنه أي مسؤول في إدارة ترمب، على الرغم من توقع مراقبين أن تظهر اختلافات ضمن هذه الإدارة، مستندين إلى حقيقة أن بعض السياسات التي تتخذها لا يمكن أن تلقى إجماعا مقبولا عليها حتى ضمن التيار السياسي الواحد. وهذا يفسر في الواقع التباين الواسع في رؤية الحزب الجمهوري للأشياء ورؤية ترمب لها.
على كل حال، لا متمردون في إدارة الرئيس الأمريكي على الأقل في الوقت الراهن، وهم واضحون كرئيسهم، لا بد من إعادة النظر في المعاهدات والاتفاقيات التجارية ـــ الاقتصادية العالمية، ليس لتعزيز الحمائية، بل لتكريس النزاهة في هذا المجال. غير أن واقع الحال ليس كذلك على الإطلاق، لأن سعي ترمب إلى فرض رسوم جمركية على الواردات تحت اسم "ضريبة حدود تصحيحية" تقارب 20 في المائة، يتعارض مع المواقف والعبارات الأمريكية المرنة التي أطلقت قبل اجتماعات وزراء مالية العشرين في ألمانيا. ناهيك طبعا عن الخلافات الكبرى الحقيقية في المفهوم العالمي البيئي، ومفهوم دونالد ترمب، الذي لا يرى أي أضرار بشرية على البيئة العالمية، ما أسقط أيضا ثابتا من ثوابت المجموعة في الاجتماع المشار إليه.
وربما الموقف الأمريكي الراهن من ألمانيا يلخص المشهد العام للحراك الاقتصادي العالمي المقبل، أو يعطي مؤشرات سلبية مستقبلية لهذا الحراك. وتكفي الإشارة هنا إلى إعلان ترمب بوضوح أن على برلين أن تدفع أموالا أكثر ضمن نطاق حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية الدول الأعضاء في هذا الحلف. وهو يقول هذا الكلام بعد أن توقف عن الهجوم على ألمانيا من ناحية "اليورو" الضعيف ـــ حسب اعتقاده ــــ الذي يؤثر سلبا في الصادرات الأمريكية. ألمانيا لم تواصل الصمت طويلا، وإن كانت تحاول حل المشكلات ضمن أضيق نطاق إعلامي ممكن. الأمر على ما يبدو لا يحتمل صمتا دبلوماسيا، ولهذا السلب أطلقت بريجيت تسيبريس وزيرة الاقتصاد تهديدا برفع شكوى أمام منظمة التجارة العالمية ضد الولايات المتحدة، في حال قررت هذه الأخيرة فرض ضرائب على الواردات.
لكن مهلا، هل ينظر الرئيس الأمريكي أساسا بأي شيء من القيمة لمنظمة التجارة العالمية؟ الجواب بالتأكيد هو لا كبيرة، لأنه بدأ الهجوم على هذه المنظمة منذ سنوات، أي قبل أن يفكر حتى في الترشح للرئاسة. وهو يعتقد أن القوانين الخاصة بها غير عادلة بالنسبة لبلاده. لكن الواضح أن كل الاتفاقيات التي وقعتها واشنطن طوال العقود الماضية لا تروق لترمب ولا لكل أركان إدارته. بدليل أنه يريد التفاوض على اتفاقية "نافتا" لشمال القارة الأمريكية. وكذلك الأمر بالنسبة لاتفاقيات ثنائية مع المكسيك وكندا وغيرهما من البلدان الأوروبية، بما فيها تلك التي تدخل ضمن إطار الحلفاء! إنها مرحلة تجارية عالمية صعبة، بمخاطر عديدة ومؤشرات سلبية.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الثلاثاء، 14 مارس 2017

الإجراءات المنكوبة للأموال المنهوبة



"الفساد هو الهلاك الأكبر لنا"
أوليسجون أوباسنجو - الرئيس النيجيري السابق


كتب: محمد كركوتي

يبدو أن دور الأمم المتحدة في استرداد الأموال المنهوبة من الشعوب، مثل دورها في صناعة القرار العالمي، أي بلا قيمة عملية. وقد تكون الأموال التي صرفتها المنظمة الدولية على الاجتماعات الخاصة ببحث كيفية استرداد ما تم نهبه من الشعوب على مدى عقود، أكثر جدوى بالتبرع بها إلى منظمات الأمم المتحدة نفسها، ولا سيما تلك التي تعنى بمسائل الغوث والمعونات والمساعدات في زمن الطوارئ. لماذا؟ لأن هذه الاجتماعات، على الرغم من ضمها لمختصين من كل أنحاء العالم، لم توفر أي دفعة على صعيد العمل في مجال استرداد الأموال، خصوصا تلك التي تعود لشعوب أنهكها الفساد على مدى سنوات طويلة، وتم امتصاص ثرواتها ومقدراتها بأقذر الوسائل الممكنة وغير الممكنة. وبهذه الصورة، تضيف الأمم المتحدة فشلا جديدا لها، في ظل فشلها على أكثر من صعيد لأسباب معروفة للجميع. الواضح أيضا، أن الدول التي تتجمع فيها الأموال المنهوبة من الشعوب، ليست متعاونة بما يكفي سواء مع المسؤولين في الأمم المتحدة، أو الجهات المعنية مباشرة بهذه السرقات. وفي أحسن أحوال التعاون، تقوم حكومات هذه الدول بترك القضايا للإجراءات القضائية التي تستغرق سنوات بل عقودا لكي تتم أو تتوصل إلى نتيجة ما. في حين أن مثل هذه القضايا لا تتطلب الخضوع للإجراءات القضائية المعمول بها على مستوى الأفراد، لأن الأموال المستهدفة تخص شعوبا ثبت عمليا أنها سُرقت ونُهبت بأشكال مختلفة، من جهات كانت تمتلك السلطة والنفوذ والحكم على مدى سنوات. دون أن ننسى، أن الاعتراف بالحكومات الجديدة "النظيفة" على المستوى الدولي، لا يوفر دعما واقعيا للمطالبات بالأموال المنهوبة! كل عام تظهر التقديرات الخاصة بحجم الأموال المنهوبة من الشعوب، وهي كبيرة إذا ما أخذنا الحد الأدنى منها. وأسهمت الملاذات الضريبية والمالية الآمنة في أسوأ عملية تغطية عن أموال مسروقة من أصحابها. وعلى الرغم من الخطوات التي اتخذت ضد هذه الملاذات في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أنها ما زالت قاصرة عن فتح الملفات المالية للأفراد والجهات التي تخص الأموال فيها. وإذا كانت سويسرا تمثل بؤرة تاريخية للأموال المنهوبة، إلا أنها تبقى واحدة فقط من عشرات البلدان أو المناطق التي تستوعب هذه الأموال وتوفر لها الحماية، ليس فقط من أصحابها الحقيقيين، بل من الحكومات الغربية التي اعترفت أخيرا بأن الملاذات الآمنة، تعمل ضد الجميع، وأن حريتها وسريتها المالية أسهمت في فقدان مئات المليارات من الضرائب والرسوم إضافة طبعا إلى الأموال المنهوبة. لا شك أن حجم الأموال المنهوبة هائل، والممتلكات التي تم شراؤها من هذه الأموال كبيرة ومتعددة وموجودة في أغلبية البلدان، بما فيها بلدان تحارب الملاذات الآمنة كبريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها. ليس المقصود هنا التقليل من حراك الأمم المتحدة في هذا الاتجاه، ولكن كان على المنظمة الدولية أن تتخذ موقفا أكثر وضوحا حيال عدم تعاون بعض البلدان في مسألة الأموال المنهوبة، أو تلكؤ البعض الآخر في هذا السياق. وكان بإمكان الأمم المتحدة أن تستند إلى الحملة الكبيرة والسريعة التي شنتها البلدان الكبرى في السنوات الماضية ضد الملاذات الضريبية ــــ المالية الآمنة. وفي الواقع، أن المشاركين أنفسهم في اجتماعات الأمم المتحدة بهذا الخصوص يعترفون علنا بعدم تحقيق أي خطوة في هذا المجال. وإذا لم تتقدم البلدان الكبرى بهذا الخصوص، فإن مسألة الأموال المنهوبة ستبقى مراوحة مكانها إلى عقود أخرى مقبلة. لم تعد تشريعات الأمم المتحدة مهمة في قضية ينبغي أن تكون متفاعلة بسرعة وبوتيرة إجرائية عالية النشاط. علما أن حجز أموال أشخاص أو جهات لأسباب سياسية يمثل الخطوة الأولى على صعيد حصر الأموال المنهوبة، لكن في أغلب الأحيان تبقى الأموال محجوزة لسنوات طويلة جدا. والمسألة ، على الرغم من تعقيداتها، تتسم بالبساطة، كيف؟ إذا تم نزع الشرعية الدولية ، مثلا، عن هذا النظام أو ذاك، أليس هذا كافيا لأن ينزع الشرعية مباشرة عن أصول وممتلكات وأموال هذا النظام سواء على شكل جهات أو أفراد؟ وعندما يصل الأمر إلى هذه المرحلة، فإن الإجراءات القانونية لن تكون معقدة أو بطيئة. الرغبة والإرادة لدى البلدان المؤثرة كفيلتان بأن تحسما موضوع الأموال المنهوبة من الشعوب بصورة سريعة، وبقالب قانوني شرعي لا غبار عليه على الإطلاق، خصوصا أن الأصحاب الحقيقيين لهذه الأموال في أمس الحاجة إليها الآن، ولا سيما في أعقاب التحول من مرحلة إلى أخرى، بل من عصر إلى آخر. إن الأموال المنهوبة ستظل هكذا حتى تتغير "الذهنية" العالمية تجاه أمر لا يختص فقط بحقوق كانت مسلوبة ومقدرات نهبت، بل بكرامة تمت استعادتها، مع التأكيد هنا أن بعض هذه الشعوب يمكنها النهوض الاقتصادي بصورة أفضل فيما لو استعادت أموالها حقا.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الثلاثاء، 7 مارس 2017

بريطانيا بين «انفصالين»



"رسالتي بسيطة. الاتحاد الأوروبي ليس مثاليا، لكن مصلحة اسكتلندا أن تكون عضوا فيه"
نيكولا ستيرجن - رئيسة وزراء الحكومة المحلية في اسكتلندا


كتب: محمد كركوتي

لم يتأخر التلاسن، ومعه المناكفة، بين تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا ونظيرتها الاسكتلندية نيكولا ستيرجن. كان مؤكدا الحصول، بصرف النظر عن الأيام القليلة الأولى من عهد ماي، التي شهدت تجاذبات دبلوماسية بلغة هادئة جدا. وهذا مفهوم، لأن المسؤولة الاسكتلندية رغبت في منح المسؤولة البريطانية وقتا للملمة الأشلاء الناجمة عن تصويت البريطانيين الصادم لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي. الصدمة كانت بالفعل كبيرة على بريطانيا كلها. وانسحاب رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون من الساحة، أربك المشهد السياسي العام، سواء على ساحة حزب المحافظين الحاكم، أو الأقاليم البريطانية، أو في ميدان مجلس العموم نفسه. بصرف النظر عن الجانب الديمقراطي والأخلاقي لانسحاب كاميرون هذا. فالرجل كان صادقا، لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يقود المفاوضات لانسحاب بلاده من الاتحاد، بينما هو شخصيا يؤيد بقوة بقاءها فيه.
عرفت تيريزا ماي منذ يومها الأول في الحكم، أن عليها الاطمئنان على وضعية الاتحاد، ليس الأوروبي بالطبع، بل البريطاني. فهذا الاتحاد ليس قويا بما يكفي للصمود في وجه عاصفة الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست". في الواقع، ألهبت نتيجة الاستفتاء الشعور القومي ــــ المحلي في اسكتلندا، كما حصل في إيرلندا الشمالية. لا نتحدث هنا عن ويلز، هذا الإقليم المندمج أكثر الأقاليم مع الجسم البريطاني. وظهر هذا واضحا من تصويت أغلبية الويلزيين لمصلحة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، رغم أن ذلك شكل بالفعل مفاجأة لكل المتابعين. المهم الآن الإقليم الشمالي اسكتلندا، التي صمتت بعض الوقت، لكنها لم تستطع الاستمرار في ذلك لمدة أطول. لا يهم الآن وضعية تيريزا ماي وحكومتها ونواب مجلس العموم، المهم أن الاسكتلنديين صوتوا لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، ولأن الانسحاب سيتم بالفعل، فهم لا يستطيعون الاستمرار في الاتحاد البريطاني.
عند هذه النقطة وصلت المملكة المتحدة إلى وضعية ما بين انفصالين، واحد من خارج حدودها والآخر من قلب أراضيها. صحيح أنه تم الاتفاق الضمني على أن نتيجة الاستفتاء الذي جرى في اسكتلندا حول انفصالها عن بريطانيا، وصوت الاسكتلنديون لمصلحة البقاء ستكون النتيجة نهائية، أي ألا يأتي حزب أو سياسي في هذا الإقليم ليطرح المسألة من جديد، على الأقل في غضون العقدين المقبلين، لكن الصحيح أيضا، أن الذين صوتوا للبقاء في بريطانيا صوتوا أيضا للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وهنا ينتهي، عند الاسكتلنديين، الاتفاق الضمني. كيف يمكنهم القبول بما رفضه الشعب؟! ألم ترضخ تيريزا ماي لرغبة الشعب البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وفق القواعد والأعراف والأخلاقيات الديمقراطية؟ عليها إذن القبول برغبة الاسكتلنديين أيضا. إنها الصيغة الأكثر عدلا في حالة هي الأكثر اضطربا وفوضى على الساحة البريطانية كلها.
غير أن رئيسة الوزراء البريطانية تصارع ذلك بكل ما لديها من قوة، وهنا انتقلت التجاذبات السياسية من حالة دبلوماسية مفهومة إلى تلاسن مفهوم أيضا. خصوصا بعد أن رفضت المطالبة بتصويت نواب اسكتلندا حتى على الاتفاق الذي ستتوصل إليه مع المفوضية الأوروبية، بعد عامين على الأغلب من الآن. وهنا يمكن أيضا فهم ما قالته نيكولا ستيرجن أخيرا، بأن الوقت ينفد أمام لندن لتغيير المسار. وتسلحت هذه الأخيرة بالحقيقة الواضحة، وهي أنه من حق الاسكتلنديين إجراء استفتاء جديد لتحديد البقاء ضمن الاتحاد البريطاني أو الخروج منه، في أعقاب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. التزمت ماي الصمت قليلا لكنها ما لبثت أن أظهرت موقفها الواضح أيضا، "لا استفتاء للانفصال"، ولا حتى استشارة ممثلي الاسكتلنديين في فحوى اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي.
أمام هذا الواقع، لن تكون هناك مساحة كبيرة للحوار بين رئيستي وزراء، الأولى "البريطانية" مضطربة سياسيا بما يكفي للصداع الدائم في عمق رأسها، الثانية "الاسكتلندية" التي تدغدغها مشاعر القومية الجلية. يضاف إلى ذلك، أن تصاعد الخلاف بين الطرفين، سيضعف كثيرا الموقف التفاوضي البريطاني مع الأوروبيين، الذين كانوا أكثر صراحة بالإعلان رسميا أن انفصالا سهلا لن يحدث لبريطانيا كما يتمنى المسؤولون في المملكة المتحدة. انفصال صعب على الساحة الأوروبية، وانفصال ممكن على الساحة الداخلية، هذا هو الوضع الراهن. ومن الصعوبة العثور على من يمكنه أن يحسد تيريزا ماي على وضعها. وإذا كان ديفيد كاميرون قد دخل التاريخ كرئيس وزراء أخرج بلاده من الاتحاد الأوروبي، فخليفته ماي ستدخل التاريخ أيضا، كمنفذ لعملية الخروج، مع إضافة أخرى في سجلها قد تكون انفراط حلقة من سلسلة المملكة المتحدة، دون أن ننسى أن القابعين في إيرلندا الشمالية ليسوا أقل قومية من الذين يسكنون في الشمال البريطاني.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")