الخميس، 28 يناير 2010

الولايات المتحدة الأميركية "النامية"!

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




" ليس مهما أن تنشر إعلانات منتجات الطعام إلى الجائعين، ولا منتجات الوقود إلى الذين يموتون بردا، ولا العقارات إلى المشردين"
الاقتصادي الكندي – الأميركي جون كاليبريث

 

محمد كركوتــي
 
تحدُث في الولايات المتحدة الأميركية. تحدُث في بلد يستحوذ على أكبر اقتصاد في العالم. تحدُث في أقوى وأغنى جمهورية في العالم. تحدُث في دولة تعج بأكبر عدد من مقرات وفروع المنظمات والجمعيات الإنسانية والخيرية، بما في ذلك تلك التابعة للأمم المتحدة، التي تحتضن مقرها الرئيسي. تحدُث في مجتمع استطاع أن يرسل رجالا إلى القمر في ستينات القرن العشرين، وتمكن من اكتشاف ما كان مستحيلا اكتشافه. إنها قضية، لو لم تحدُث في أثيوبيا أو الكاميرون أو الصومال – مثلا – لكان هناك خطأ ما!. ولو لم تقع في هايتي ( قبل زلزالها المدمر وبعده)، لقلنا: إنه زمن المعجزات!. ولو لم توجد في دول في القارة الآسيوية، لاعتبارنا أننا على أعتاب نهاية الزمن!. المعادلة لم تُقلب، بل ضمت عناصر جديدة. ففي الولايات المتحدة تشردٌ مستمر ومشردون أكثر استمرارا!. وفي المناطق والدول المشار إليها، مشردون "متأصلون" مستمرون، وتشردٌ متجذر، قوي في استمراريته واستدامته ومصائبه. فالمعادلة إذن.. توسعت من حيث عناصرها، ولم تتجه بمسار معاكس. أي أن التشرد لم يتراجع هنا ويزداد هناك، بل ارتفع هنا وهناك. تعاظم في بيئته المعهودة الحاضنة التاريخية له، وأصاب بالعدوى بيئة ليست متداخلة مع الأولى!.

من الصعب تحميل الأزمة الاقتصادية العالمية المسؤولية المباشرة للتشرد المتزايد في الولايات المتحدة، وإن ساهمت هذه الأزمة، برفع أعداد المشردين ( أفرادا وأسر). فالتشرد وتوابعه، كان جزءا أصيلا من سياسة التجاهل أو عدم الاكتراث، التي مارستها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في الداخل الأميركي على مدى ثماني سنوات. كانت من "الثانويات" لا الأساسيات. وحين اندلعت الأزمة الاقتصادية في الأشهر الأخيرة من ولاية بوش الثانية، أضافت مشردين جدد إلى المشردين "المتأصلين"، لتكون "قضية هَمِ" إلى جانب "قضايا الهموم"، التي ورثتها إدارة الرئيس باراك أوباما. وكأن إدارة بوش "استصغرت" توريث الأزمة الاقتصادية الكارثية لوحدها، للإدارة التي خلفتها!.

ماذا فعلت إدارة بوش أثناء وجودها المريب في البيت الأبيض؟. منعت محققة تابعة للأمم المتحدة هي البرازيلية راكيول رولنيك المخصصة للتحقيق فيما يعرف في المنظمة الدولية بـ " المسكن اللائق كمكون رئيسي من مكونات العيش الكريم وحقوق الإنسان" أوAdequate housing as a component of the right to an adequate standard of living ، من دخول الأراضي الأميركية. فقد كانت هذه الإدارة تؤمن بأن "المسكن الكريم" ليس من حقوق الإنسان، ولا دخل للمنظمات الدولية فيه!. وجاء هذا المنع المشين، في إطار مقاطعة الولايات المتحدة – في عهد بوش بالطبع – مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ( لقد قاطعت إسرائيل أيضا نفس المجلس)!. ومع زوال الإدارة المذكورة، استطاعت رولنيك أن تدخل الأراضي الأميركية، وتتطلع على كمية هائلة من المعلومات والحقائق التي صدمت حتى المتخصصين الذين اطلعوا سابقا عن قرب على مصائب كثيرة. ولم تَسلَم إدارة أوباما في الواقع من لسان المحققة الدولية، التي وجدت قضية التشرد في الولايات المتحدة، مسألة معيبة بحجم حقيقتها، ومعيبة أكثر بحكم بيئتها. ماذا قالت؟ :" إن الولايات المتحدة الغنية تتجاهل قضية المشردين التي تواصل التردي، في الوقت الذي تقوم فيه بضخ المليارات من الدولارات الأميركية في المصارف لإنقاذها"!.

بعد أن أكملت رولنيك في أواخر العام 2009 جولة في سبع مدن أميركية ( منها شيكاغو وواشنطن ونيويورك ولوس أنجلس)، وصلت إلى الحقائق التالية: أن الحكومة الفيدرالية لم تنفق ما يكفي من أموال لانتشال مواطنيها من براثن التشرد!. وأن حقيقة أزمة المساكن – العقارات – ليست مرئية عند الغالبية من الأميركيين!. وأن مشكلتي السكن والفقر لا يتم التعاطي معهما كقضيتين خطيرتين!. وأنه حتى في عز التعاطي مع الأزمة الاقتصادية والبحث عن سبل لإنعاش الاقتصاد، لا توجد عمليا آليات ناجعة لحل مشكلة المشردين. وأن الغالبية العظمى من هؤلاء المشردين، هم من أصول أفريقية ولاتينية أميركية، وأميركيين أصليين ( من الهنود الحمر).

في العام 2008 بلغ عدد المشردين ( بلا مأوى) في الولايات المتحدة أكثر من 3 ملايين إنسان، والمثير أن الأرقام المتعاظمة لهؤلاء هي في أوساط الأسر لا الأفراد. وطبقا للمنظمات المختصة، فإن هناك ما يقرب من 17 ألف من الآباء والأمهات والأطفال يلتحفون السماء كل ليلة في مدينة لوس أنجلس. هناك من هؤلاء من يعثر على مأوى لليلة واحدة، لكن الغالبية العظمى من الرجال والنساء، لا يمكنهم ذلك!. صحيح أن الحكومة توفر معونة شهرية للمشردين، لكن المعونة الواحدة تقل 50 في المئة عن قيمة إيجار غرفة لمدة شهر!.

لست هنا في معرض الحديث التفصيلي عن الأوضاع المعيشية للفقراء في الولايات المتحدة. لكني وجدت معايير جديدة تتشكل على الساحة الأميركية بفعل الأزمة الاقتصادية، من بينها تدخل الأمم المتحدة نفسها، وتحت مسمى وشعار حقوق الإنسان. وللتذكير، أنا لا أتحدث هنا عن أثيوبيا أو الصومال أو نيجيريا أو غيرها من الدول الفقيرة والمنكوبة، التي ينبغي أن لا تغيب المنظمة الدولية عنها، قبل أن تحقق الحد الأدنى من كرامة العيش، ولا أقول الكرامة الإنسانية، لأن هذه الأخيرة تبدو جزءا أساسيا من المستحيل!. فبعد زوال إدارة بوش، وحضور الأزمة، سمحت إدارة أوباما لمحققة الأمم المتحدة، بعقد اجتماع "جماهيري" في قاعة بلدية لوس أنجلس، مع الأميركيين الذين خسروا منازلهم وافترشوا حدائق وأزقة المدينة. ومثل أي مواطنين في الدول النامية ( عندما يعثرون على مسؤول دولي يستمع إليهم)، قام المجتمعون بتقديم الشكاوى لرولنيك، بأن المسؤولين المباشرين عن المساكن، لا يولون قضاياهم اهتماما، بل يولونها تجاهلا!. اللافت في الأمر أيضا، أن المسؤولين في إدارة الرئيس أوباما، يوفرون كل الإمكانيات للمحققة الدولية من أجل إتمام مهامها، ويمنحونها الحرية المطلقة للتحرك، كيفما تشاء في البلاد. فهذه الإدارة أعلنت صراحة، أنها تسعى إلى الاستفادة من مهام هذه الشخصية الدولية، ولا تهتم بالإحراج الذي قد ينجم عن تكشف الحقائق. ففي وقت الأزمات، يبدو الإحراج نوعا من أنواع الرفاهية.

لقد صدَرت الولايات المتحدة إلى العالم على مر سنوات طويلة، "طرازا اقتصاديا" – موديل - يقوم على مبدأ "أن كل فرد يستطيع تنظيم نفسه ماليا، وبإمكان أن يحقق ما يريد في هذا المجال". حسنا، من الأهمية بمكان بالنسبة لدول العالم التي "اشترت" هذا "الموديل"، أن تعرف وتحدد الشخص المؤهل لهذا " الطراز"، والشخص غير المؤهل له. إنه "طراز" عائم غائم ومغر في آن معا. وفي الواقع أن هذا " الطراز"، حل على مدى عقود من الزمن، مكان آخر كان يقوم على مبدأ" توفير المسكن اللائق لذوي الدخل المنخفض". ما الذي حدث ؟. ساد الأجواء "اقتصاد الوهم"، وهو أن كل إنسان يمكنه أن يمتلك بيتا بمعايير وهمية، لا حقائق واقعية ملموسة. ماذا نتج عن ذلك؟ أزمة عقارية تاريخية، تحولت إلى أزمة مالية أكثر تاريخية منها، تحولت بدورها إلى أزمة اقتصادية، حفرت لنفسها أبرز مكان لها في التاريخ!.

نعم.. إن جزءا أصيلا من الأزمة الاقتصادية مرتبط بهذا الطراز من السياسة الإسكانية الورقية أو الاسمية أو الوهمية ( لنختر ما شئنا من التوصيفات). فعلى رأس أولويات هذه السياسة، بند تسويق المنازل – العقارات – إلى الأشخاص الذين لم يكونوا مؤهلين للحصول على قروض مصرفية أو إسكانية، ولم يصلوا في حياتهم إلى وضعية ائتمانية، تضمن لهم القروض. وفر "الموديل العقاري" القروض ( الديون) لهؤلاء.. وبسخاء. ولكن أحدا من "المُلهَمين الاقتصاديين"، لم يوجه لنفسه السؤال الأهم وهو "هل يمكن أن ينطبق هذا (الموديل) على الفقراء"؟!.

لقد عبرت راكيول رولنيك بعمق عن الحقيقة الماثلة أمامها حين قالت : " إن الولايات المتحدة واحدة من أغنى دول العالم. أعتقد أنه من الأهمية بمكان، أن يعرف العالم حقيقة ما يجري فيها". كأنها أرادت أن تقول، لأولئك الذين " استلهموا" الطراز الاقتصادي الأميركي : "احذروا التقليد"!.


الاثنين، 25 يناير 2010

الفحش المصرفي!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )










"المصرف هو المكان الذي يُقرضك الأموال، إذا استطعت أن تثبت أنك لا تحتاجها"
الممثل الكوميدي الأميركي بوب هوب



محمد كركوتــي


صعد الرئيس الأميركي باراك أوباما "عاقد الحاجبين" على منصة أحد المؤتمرات الصحافية، وقال موجها كلامه إلى رؤساء المصارف: "أريد أن تعيدوا لنا أموالنا". ولكن كيف؟.. يتابع أوباما: "يجب على المصارف أن تدفع ضرائب جديدة، من أجل استعادة الأموال العامة (الحكومية) التي أُنفقت عليها لإنقاذها". كان غضبه من هؤلاء، في قمة فورانه، ومن الواضح أنه بحث عن تعبيرات، تفي غضبه بلاغة، لكنه لم يجد تعبيرا يلاءم حجم المكافآت "المشينة" التي منحها رؤساء المصارف لأنفسهم سوى "الفحش" obscene. وهذه الكلمة يمكن أن تُترجَم أيضا ( حسب سياق وخصوصيات التعبير) إلى "فاسق أو فاجر أو قذر أو داعر"!. وطرح الرئيس الأميركي مسألة منطقية، وفق المعادلة التالية: إذا كانت المصارف والمؤسسات المالية في وضعية تسمح لرؤسائها بمكافأة أنفسهم، بكميات هائلة من الأموال، فهي بالتأكيد قادرة على إعادة كل سنت من أموال دافعي الضرائب التي أنقذتها من براكين الأزمة الاقتصادية العالمية. فكل "مكافأة" يمنحُها رئيس مصرف لنفسه ولمساعديه، "تُنتج" غضبا رئاسيا أميركيا، يفوق "المكافأة" حجما.

يبدو أن إصلاح النظام المالي المحلي والعالمي، بصورة تكفل درء الأزمات وضخ الأخلاق، وإيداع الضمير فيه، أشبه بإصلاح مجرم المافيا الأميركي (الراحل) آل كابون، أو ملك المخدرات الكولومبي(المقتول) بابلو أسكوبار، وأشبه أيضا بتحويل "الإمبراطور" الأفريقي (الراحل) بوكاسا من آكلٍ للحوم البشر، إلى نباتي يعيش على الخس والطماطم والخيار!. فعلى الرغم من كل الإجراءات التي اتُخذت – وتتخذ- بقيت المخاوف من سلوكيات المصارف والمؤسسات المالية، حاضرة لدى مالكي صناعة القرار والمُشرعين، وبقيت معها مشاعر الشك والريبة تستحوذ على هؤلاء. فهم يعرفون، أن أبطال الجريمة الكبرى ( الأزمة الاقتصادية) الذين استمروا على الساحة، لن يستطيعوا إزالة آثارها، ليس فقط من حجم قوتها، بل من فرط الأدلة الهائلة الدامغة حولها، ومن فقدان الأخلاق في مسرحها. ولذلك، فالأمر يتطلب أكثر من ضريبة جديدة تفرض على المصارف وما يشبهها من مؤسسات، وأكثر من غضب رئيس دولة هنا وآخر هناك، وأكثر من إجراءات مرحلية، وأكثر من ضوابط موسمية. فحتى الضريبة التي اقترحها أوباما وسيعمل على فرضها، وُضع لها مساحة زمنية – إذا ما فُرضت – لا تزيد عن عشر سنوات!.

والحقيقة أن الرد الأقوى والأمثل والأنجع، على سلوكيات المصارف ورؤسائها، جاء عمليا من تحرك الاتحاد الأوروبي، عبر حث صندوق النقد الدولي، على السعي لفرض ضريبة عالمية على المعاملات المالية – إلى جانب طبعا ضريبة الدخل - للحد من مخاطر حدوث أزمة اقتصادية جديدة، ولوضع الحراك المصرفي العالمي، ضمن نطاق حجمه الحقيقي.. لا الوهمي. ويرى رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو، "أنه من المنطقي أن يقدم من تسببوا في الأزمة لاقتصاداتنا ولدافعي الضرائب، مساهمة عملية للاقتصاد بوجه عام". وهذا يعني أن الساعين إلى فرض ضرائب جديدة على المعاملات المالية، يرغبون في استخدام عوائدها في تمويل عمليات إنقاذ محتملة في المستقبل، خصوصا وأن الاقتصاد العالمي سيظل لمدة – أجد صعوبة في إيجاد من يمكنه تحديدها – طويلة، تحسب بالسنوات لا بالأشهر. لا بأس في هذا التوجه. فالأوربيون متحمسون إلى سَن مزيد من القوانين الضابطة للحراك المصرفي العالمي، لكنهم – وهنا الغرابة - اصطدموا بموقف أميركي رافض، لأن واشنطن لا تعتقد بأن مثل هذه الضريبة، سوف تؤدي إلى الحد من الممارسات المصرفية التي تحفها المخاطر من كل حدب وصوب!.

وتكمن الغرابة هنا، في أن موقف إدارة الرئيس أوباما، حيال الإصلاحات المالية العالمية، يتسم بالكثير من المرونة والإقدام، بل والإصرار على إنجاز المهمة بأسرع وقت ممكن، من خلال التعاون الثنائي بين الدول، وأيضا عن طريق المجموعات الدولية، لاسيما "مجموعة العشرين" التي استلمت زمام المبادرة وصنع القرار على الساحة الدولية، في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية. ولمزيد من الغرابة، فقد أنشأت الإدارة الأميركية "هيئة تحقيق لمكافحة الجريمة المالية"، وصفها وزير العدل إريك هولدر بأنها "ستتم بالحزم والصرامة، وذلك بهدف تجنب أزمة مالية (اقتصادية) أخرى". وفي الإطار نفسه، يقول بين برنانكي رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ( البنك المركزي) : "نعمل بالتعاون مع زملائنا في الداخل والخارج، لتعزيز معايير رؤوس أموال المصارف والسيولة وإدارة المخاطر، والحوافز التشجيعية وحماية المستهلك ضمن ميادين أخرى". فالذي يتخذ هذه المواقف، ويُقدِم على تلك الخطوات، ينبغي أن يكون مؤيدا للجهود الأوروبية بفرض ضرائب على المعاملات المالية، ليس فقط لجني الأموال، بل للمساهمة أيضا في معرفة دقيقة وواقعية، لطبيعة هذه المعاملات التي كانت السبب الأول في انفجار الأزمة.

وإذا كانت خطة الإصلاح المالي الأميركي، التي طرحتها الإدارة الأميركية هي الأضخم على الإطلاق منذ ثلاثينات القرن العشرين، تتضمن توصية بادخار مبالغ مالية لاستخدامها في الأزمات وتحمل الخسائر، يبدو طبيعيا أن تقف واشنطن إلى جانب فرض الضرائب على المعاملات المصرفية. هي تخشى من أن يتأثر النشاط المالي من العبء الذي سيتأتى من الضرائب، لكنها -أي واشنطن – تعرف أكثر من غيرها، أن هذه الطريقة هي الأنجع – مع طرق أخرى إلى جانبها- لتأمين نشاط مالي خال من "مسببات" أزمة، وخال من العمليات الوهمية وتلك المُبالغ فيها، وخال أيضا.. وأيضا من "صفقات الفقاعات"، ومن النشاطات الاحتيالية. فعندما تكون أنت مدينا للمصرف بمئة دولار أميركي، فهذه مشكلتك. ولكن عندما تكون مدينا له بمئة مليون دولار، فإنها مشكلة المصرف. وقد أثبت التاريخ، أن أحدا لا يستطيع أن يلغي أو يقلل من رغبة المصرفيين – في كل مكان – بالإقراض، لأنه مجبول في تركيبتهم المهنية - العملية. صحيح أن القوانين التي وضعت، وتلك التي ستوضع في ماكينة النظام المالي، تفرض رقابة على عمليات الإقراض، لكن هذا النوع من العمليات، يشكل "بحرا هائجا"، من السلوكيات الالتفافية، تحول القوانين الصارمة، إلى "قوانين مجاملة"!. وعندما تفرض الضرائب على المعاملات المالية، تكون المتابعة أشد وأكثر إحكاما، مع التأكيد بأنها لن تشكل لوحدها، الرادع الأقوى.

هناك الكثير من الخطوات التي يجب أن تُتخذ لإحكام القبضة "الاقتصادية والأخلاقية"، على الساحة المالية العالمية. وقد كان حاكم بنك انجلترا المركزي ميرفين كينج ( وهو أحد المسؤولين المباشرين عن الأزمة المالية العالمية)، شجاعا عندما طالب بتجزئة المصارف الكبيرة. فهو يعرف أن كل مصرف منها يمكن أن يتحول إلى مارد، يستحيل معه حمايته من نفسه، ووقوعه بالفشل. ويتفق ما يُعرف بـ " مصرف التسويات الدولية"، الذي يتخذ من مدينة بازل في سويسرا مقرا له، مع كينج، ويرى ضرورة حتمية للإصلاح واتخاذ الإجراءات التي تكفل ضوابط أكثر صلابة، في قطاع له القدرة على كسر كل القيود، وعلى تصنيع "الفقاعات"، وعلى تجاوز كل المعايير، بما في ذلك الأخلاقية منها.

يقول المذيع الأميركي الشهير جوني كارسون ساخرا :" في أي وقت يدخل أربعة "نيويوركيين" (يقصد سكان نيويورك)، إلى سيارة تكسي معا، من دون أن يتجادلوا، يعني هذا أن عملية سطو على مصرف تجري في ذلك الوقت". وهو هنا لا يقصد فقط اللصوص والسارقين التقليديين، بل قصد أيضا العمليات السوداء التي تجري داخل المصارف.

إن العالم بعد الأزمة الاقتصادية، لا يحتاج إلى تسويق للمصارف ومنتجاتها وخدماتها، بقدر احتياجه إلى "عقلنتها" أولا، وتنظيفها من رواسب تجمعت على مدى أكثر من عقدين من الزمن. والخوف من تأثر الحراك المصرفي بضرائب على معاملاته، لا مكان له في ظل أزمة، ولدت أصلا من معاملات، يبدو اللون الأسود أمامها، أبيضا!.



الأربعاء، 13 يناير 2010

المصابغ المصرفية؟!

(هذا المقال خاص بجريدة" الاقتصادية")









"غسيل الأموال.. جريمة معقدة، يتوجب إيجاد آليات معقدة في الحرب عليها"
النائبة العامة الأميركية السابقة جانيت رينو


محمد كركوتــي

كتبت الأسبوع الماضي عن "الجريمة المتوالدة" من "رحم" الأزمة الاقتصادية العالمية، و"المنبثقة" عن ظلامها. ومررت على الجريمة المُنظمَة ( بما في ذلك جرائم غسيل الأموال)، كصورة من صور الجريمة ككل، وكمنظر قبيح أطْر المجتمع الدولي ما قبل الأزمة، وصبغه بلون أسود بعدها، وضع العالم أجمع أمام استحالة العثور على "صبغة" مضادة، تقلل ( أو تخفف) السواد الإجرامي المشين. فجرائم غسيل الأموال، تحتاج إلى معجزة ( في زمننا هذا)، لا للقضاء عليها، بل للحد منها، بل.. وحتى لتحديد هوية مجرميها. ولأنها تأصلت بعد الأزمة، وأوجدت لنفسها مكانا أعمق في الهيكل ( والنظام المالي) الاقتصادي العالمي، فإن أسلحة "محاربيها" لا تزال أدنى بكثير من أدواتها العدوانية. فعندما تشح الأموال وتنضب، يصبح تتبع مصادر الأموال المطروحة على الساحة، أمرا غير مرغوب فيه، بل وتشطب الجملة الشهيرة " من أين لك هذا" من اللوائح والضوابط والقوانين المعمول بها!.

ليس صعبا تتبع مصادر الأموال القذرة، والأمر لا يحتاج إلى خبراء أمنيين وماليين ومحققين دوليين، لتحديد هذه المصادر، والوصول إلى أوكارها. هي خليط من "صناعة وتجارة" الدعارة، والاتجار بالبشر، والسلاح، وسرقة المال العام، والسمسرة المشينة، والإرهاب، والسرقة، والمخدرات. أو هي "صناعة وتجارة" لكل "قطاع" من هذه القطاعات على حدة. هي صناعة "المصيبة"، وتجارة بـ "المصير". هي أكثر من سرطان عدواني، وأكثر أيضا من دمار اقتصادي وأخلاقي. فلا يمكن أن تأتي أموال قذرة، من تجارة أو مصادر نظيفة. ولا تنتج المصادر القذرة، إلا أموال أشد قذارة منها، ولأنها كذلك.. يبحث أصحابها، عن أفضل "مساحيق التنظيف" وأفخر أنواع "الغسالات". لا يهم أن تكون صناعة إيطالية أو ألمانية أو فرنسية أو أميركية أو غيرها. المهم أن تكون قادرة على إزالة أدران وقذارة الأموال، بأسرع وقت ممكن، وبأعلى سرية ممكنة. أما لماذا السرية؟ فلأن هذا النوع من الغسيل، هو الوحيد الذي لا يمكن نشره لا على الأسطح ولا في الحدائق ولا على الشرفات "لتجفيفه"!.

بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، تحولت بعض المصارف الكبرى والصغرى (المنكوبة) في العالم، إلى "مصابغ" لغسيل الأموال. وتظل المصارف – بشكل عام – أفضل "المصابغ" في هذا المجال، حيث توفر كل طرق الغسيل، بما في ذلك " الناشف" أو "المبتل"، وتوفر أيضا خدمات "الصباغة" بكل الألوان التي تفي بالغرض!. وتخصصت هذه المصارف في العامين 2008 و 2009 ، بغسيل أموال المخدرات، على وجه التحديد، ولكن لا بأس لو كانت هناك أموال قذرة من قطاعات قذرة أخرى. ولكي لا أُتهم بالتحامل على هذه المصارف، أنقل ما قاله رئيس مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة أنطونيو ماريا كوستا. ماذا قال ؟: "إن أموال المخدرات حافظت على بقاء النظام المالي قائماً إبان ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية"!. مرة أخرى أموال ماذا؟.. المخدرات!!. ويتابع المسؤول الدولي كلامه الصادم فيقول: "إن معظم أرباح تجارة المخدرات، التي يصل حجمها سنويا إلى 352 مليار دولار أميركي، تم استيعابها في النظام الاقتصادي، وإن عائدات الجريمة المُنظمَة كانت (السيولة الاستثمارية) الوحيدة المتاحة لبعض المصارف التي كانت على حافة الانهيار في العام 2008 والعام الذي تلاه!!.

يا إلهي.. أُنقذت المصارف من أموال "التدمير"، بعد أن شاركت المصارف نفسها (بصورة رئيسية) في عملية تدمير المجتمع الدولي، عندما أغرقت البشر بالديون، وأغرقت نفسها معهم، من خلال أزمة مالية، استحقت – عن جدارة- توصيف الأزمة الاقتصادية الشاملة!. لقد منحت المصارف لنفسها "قروض داخلية" مولت من أموال مصادرها المخدرات، والتجارة السوداء المريعة. عمليات الإنقاذ المشينة هذه، طرحت مجموعة من الأسئلة على الساحة الدولية، في مقدمتها: ما هو نفوذ الجريمة على النظام الاقتصادي العالمي في أوقات الأزمات والمحن؟. وما هي الآليات الجديدة التي تعتزم الدول الكبرى على وضعها، من أجل بناء نظام مالي عالمي شرعي محصن من الأزمات والجرائم؟. وقبل هذا وذاك، كيف يستطيع القادة الكبار الفوز بنوم ليلة هانئة، وهم لا يعرفون ( أو يعرفون)، حجم تدفق الأموال القاتلة في "الجسم" المالي العالمي، وتحديدا في بعض مصارف بلادهم؟!. ولا شك في أن هؤلاء على دراية، بأن صاحب رأس المال، يمتلك الحق في إدارة أمواله، وتوجهيها بالشكل الذي يرغب، وبالتالي يحظى بنفوذ يوازي حجم ما يملك، داخل المؤسسات ( المصارف)، التي يضع فيها رأس ماله. وأمام هذه الحقيقة البديهية، سيكون رئيس العصابة "عضوا غير مُعلن" في مجلس إدارة هذا المصرف أو ذاك، وهذه المؤسسة أو تلك، وسيفرض بالضرورة معاييره الدنيئة!.

عندما يصل حجم الديون المعدومة في القطاع المصرفي في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، إلى أكثر من 1000 مليار دولار أميركي بين يناير/ كانون الثاني من العام 2007، وسبتمبر/ أيلول من العام 2009، بالإضافة إلى الخسائر الأخرى، وعندما يصل عدد المصارف الأميركية التي أُغلقت في عام ونصف العام إلى 140 مصرفا، وعندما لا تحقق عمليات الإنقاذ الحكومية الأهداف المرجوة .. تصبح أموال المخدرات والجريمة المنظمة، مطلوبة عند رؤساء المصارف، فاقدي السيولة ومعها الأخلاق والضمير. ولكن السؤال الكبير هنا هو: هل تعرف الحكومات بهذه الحقيقة.. أم لا تعرف؟. فإذا كانت لا تعرف، فتلك مصيبة وكارثة وطامة كبرى. أما إذا كانت تعرف، فالمصيبة والكارثة والطامة الكبرى أعظم، ولن تكون مختلفة أخلاقيا عن العصابات المنظمة نفسها، وسيكون رئيس الحكومة بمثابة رئيس العصابة!.

والذي يرجح معرفة بعض الحكومات، لتمويل مصارف بلادها بأموال المخدرات والجريمة المنظمة، أن مسؤول الأمم المتحدة ( كوستا)، الذي أعلن عن وجود أدلة على هذه العمليات المشينة، رفض تسمية مصارف بعينها. وهذا يعني تفجر فضائح لن تُنسى، إذا ما أعلن عن هوية هذه المصارف، لأنها سيورط الحكومات أيضا. ولهذا السبب تُرك العنان لـ " رابطة المصرفيين البريطانيين"، للدفاع عن المصارف الملوثة بالقول: "إن أموال الدعم تأتي من المصارف المركزية". وهذا صحيح بالفعل. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل هناك "قدسية" للمصارف المركزية؟. لقد أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية، تورط هذه المصارف في ارتكابها، وإن تحملت العبء الأكبر في عمليات الإنقاذ. هذا ليس تشكيكا في أخلاقيات المصارف المركزية، ولكنه مجرد تساؤل، على حكام هذه المصارف الإجابة عليه، لاسيما وأن الاتهامات لم تأت من عصابة تابعة لـ "المافيا"، بل من مكتب تابع للأمم المتحدة، يُعنى بمكافحة المخدرات والجريمة المنظمة.

وأقدم هنا مثالا واحدا  يمكن أن يُوضح شيئا من غشاوة المشهد. ففي العام 2007 دفعت مؤسسة "أميركان إكسبريس" الشهيرة، غرامة بلغت قيمتها 65 مليون دولار أميركي، لماذا؟ لأنها فشلت في متابعة وملاحقة أموال المخدرات في عمليات التحويلات المالية التي تقوم بها على مدار الساعة!. وقد اعترفت المؤسسة المعروفة بـ "تقصيرها"، ولا نعرف، إن كانت تعرف، بحقيقة التحويلات المذكورة. ولنا أن نتخيل حجم الأموال القذرة، إذا كانت الغرامة بهذا الحجم!.

لقد تحول غسيل الأموال، في الأعوام الماضية، إلى ما يمكن وصفه بـ "الاقتصاد الخفي" أو "الاقتصاد الأسود" أو ما هو أسوأ من ذلك " اقتصاد الظل"!. ويقول جون وللكر في كتابه " ما هو حجم غسيل الأموال" الصادر في العام 1999، إن حجم الأموال التي "تُغسل" سنويا حول العالم، تصل إلى 2850 مليار دولار أميركي!، وهي مركزة بصورة كبيرة في كل من أوروبا وأميركا الشمالية ( الولايات المتحدة وكندا). وهذا يعني أن "المصابغ" المصرفية وغير المصرفية في العالم، تعمل على مدار الساعة، "لغسيل" ناصع البياض، "نُظف" بمساحيق تبدو أمامها منتجات "إريال " و"برسيل" ، مجرد "مُوسخات" لا منظفات. وهذا يعني أيضا، أن المؤسسات المالية وغيرها، ليست محصنة من تدفق هذه الأموال الهائلة إليها، خصوصا عندما تكون أدوات المقاومة ضعيفة في أزمنة الازدهار، ومفقودة في أوقات الأزمات.

وهل تركت الأزمة الاقتصادية العالمية شيئا منها على الساحة؟!.



الخميس، 7 يناير 2010

الجريمة المتوالدة؟!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")






" المجتمع يُحضر الجريمة.. والمجرم يرتكبها"

المؤرخ الإنجليزي هنري توماس باكلي

 
 
 
 
محمد كركوتــي
 
سيحمل العام 2010 ( المولود من عام قلَ العثور على شبيه له)، انتعاشا هنا وتعافيا هناك، وانفراجا هنا وتقدما هناك، بصرف النظر عن حجم وطبيعة هذه التحولات أو المستجدات المتوقعة. وهي كذلك لأنها لن تصل إلى مرحلة " الاستحقاقات الانتعاشية" – إن جاز التعبير – في هذا العام، وحتى في العام الذي يليه. سينقشع جزء من غشاوة الأزمة الاقتصادية العالمية، في العام الأخير من العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، لكن السماء الملبدة بالغيوم، ستبقى إلى أجل "غير مرئي"، حتى عند أولئك الذين ينظرون إلى الأزمة بعيون ترى ومكبرات تُوضَح، مما يجعل الحرب أقرب إلى صالح الأزمة، منها إلى حساب "محاربيها". فعتاد هؤلاء لا يزال هشا، وعديديهم لا يزال مبعثرا في ساحة القتال، بينما لا تزال عمليات "تعزيز الصفوف" قيد التنفيذ. وإذا كان العالم بعيد عن استحقاقات الانتعاش أو التعافي أو الانفراج أو التقدم (لا يهم اختيار التوصيف إذا لم تثبت الرؤية!)، فإنه قريب من استحقاقات الأزمة، كقربه من آلامها ومصائبها وزلازلها، ومحصور في زواياها. فهي ليست أزمة آنية لتنتهي في زمنها، بل أزمة تاريخية فرضت زمانها، وشكلت الخطوط العريضة (والرفيعة) للمجتمع الدولي، بكل أطيافه ومكنوناته، وقبل هذا وذاك "موجوداته". والطاقة التي كانت هيكلية هذا المجتمع تقوم عليها، بدلتها الأزمة بطاقة فريدة من نوعها وطبيعتها، تحرك المجتمع وتحرقه في الوقت نفسه!. طاقة تغذي المحرك، ليدفع العربة إلى الوراء، فلا يمكن لهذه الطاقة أن تُشَغل إلا محركات "الدفع الخلفي"، ولا تصلح إلا لـ " التقدم" باتجاه المؤخرة!.

الفوران الاجتماعي الذي "غَلتْه" الأزمة، ظهر بمجموعة من الأشكال، كانت الجريمة - بكل أشكالها أيضا - المالية والجنائية والمُنظَمة والالكترونية منها. ولأنه فوران تاريخي من حيث درجة الغليان، فإنه لن يتوقف سوى بتحولات تاريخية صارمة، لن تأتي أو تُستحضَر، إلا ضمن نطاق الانتصار الشامل في الحرب المفتوحة على الأزمة. فالجريمة المتعاظمة، ما كان لها أن تصل إلى هذا الحجم المخيف، بمعزل عن الجريمة الاقتصادية الكبرى، وما كان لها أن تصبح جزءا من الحراك الاقتصادي – الاجتماعي العالمي، لو حقق العالم خطوات كبرى على صعيد حربه الدائرة ضد الأزمة بـ "عتادها وعديدها". وكلما فشلت معركة – في هذه الحرب – أو تأخرت، كلما تأصلت الجريمة بأشكال ومصائب جديدة. والواقع أن الحد من الجريمة المتعاظمة، لا يمكن أن ينجح لو استند فقط إلى الطرق التقليدية المعروفة، بما في ذلك القبض على المجرمين ومحاكمتهم ووضعهم في السجون أو حتى إعدامهم. فهذه الجريمة هي الوحيدة التي لن تهدأ، إلا بحلول اقتصادية – معيشية ناجعة. ولن تتراجع، إلا بخفض عدد العاطلين عن العمل، ووقف ارتفاع عدد الجياع، وتقليل معدلات الفقر، وخلق وتأسيس وتكريس عدالة اجتماعية عالمية (لا محلية). كيف يمكن أن يتحقق هذا، وقد أضافت الأزمة 59 مليون عاطل عن العامل في عام 2009، وضمت ما يقرب من 100 مليون جائع في العام نفسه ليصل العدد الإجمالي إلى 1,02 مليار إنسان، وأوقعت أعدادا هائلة من البشر تحت خط الفقر، حتى في الدول المتقدمة؟!.

إنها مصيبة كبيرة، دفعت مكتب مكافحة الجريمة والمخدرات التابع للأمم المتحدة، إلى تحذير الحكومات من تعاظم الجريمة بفعل الأزمة، سواء الفردية منها أو الالكترونية أو المنظمة. وهذه الأخيرة تجد من السهل في أوقات "المحن المالية" تحويل أموال غير شرعية إلى المصارف، التي تعاني من مشاكل في السيولة!. يا إلهي .. لقد حصلت هذه المصارف على "الأموال السوداء، لتبييض أيامها السوداء"!!. فالعصابات المنظمة التي كانت موجودة قبل الأزمة، وجدت فيها ملاذا آمنا وسهلا، لغسل أموال القتل والسرقة والمخدرات والاتجار بالبشر والأطفال والدعارة!. ومصادر الأموال لم تعد مطلبا مهما لهذا المصرف أو ذاك، وبعض الحكومات في الدول غير الراشدة، شجعت على شطب "من أين لك هذا" من لوائح مصارفها، بينما لا توجد لوائح أصلا في بعض دول أخرى!.

الجريمة المنظمة.. بحر هائل من الأوساخ والقمامة والشر وموت الضمير، يصعب حتى على الدول الكبرى حصرها، لكن من السهل تحديد الجرائم الفردية، لاسيما تلك الناجمة عن الأزمة. فعلى سبيل المثال، في منتصف العام 2009 أعلنت الحكومة البريطانية عن الحاجة إلى ألفي ضابط أمن إضافي خلال ثلاث سنوات، للسيطرة على الجرائم التي ارتفع معدلها بشكل مطرد بسبب حالة الركود الاقتصادي‏. وتتوقع إدارة الشرطة، أن ترتفع الجرائم ‏ بنسبة ‏25 في المئة خلال العامين 2010 و2011‏.‏ ولأن روسيا "ليست طاهرة" من الجرائم – في زمن الأزمات وغيره – فإن ظروف الحياة التي تحولت إلى الأسوأ، رفعت من معدلات الجريمة فيها، في خضم استياء لا حدود له لدى المستثمرين في هذا البلد. ففي شهر واحد فقط ارتفع معدل الجريمة في موسكو 16 في المئة، والاعتداءات التي تؤدي إلى الموت ارتفعت 44 في المئة!. أما السبب المباشر لهذا الارتفاع؟ فيعود إلى أن المهاجرين الذين تدفقوا على موسكو من الجمهوريات السوفيتية السابقة خلال سنوات الازدهار للعمل في مواقع التشييد والبناء والأعمال الصغيرة، فقدوا وظائفهم، ولم يعد أمامهم ملجأ من برد العاصمة ولا لقمة فيها. ولنا أن نعرف أنه في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام 2008 فقد 5,8 مليون روسي وظائفهم. والأمر بنفس البشاعة على ساحة الولايات المتحدة الأميركية. فقد أظهر تقرير أميركي مستقل، أن العلاقة قوية جدا، بين انخفاض الأجور، ومعدلات البطالة المرتفعة للأفراد الأقل تعليماً، وبين ارتفاع نسبة الجريمة وتزايدها في كل القطاعات، وأن الساحة الأميركية تشهد جريمة واحدة كل خمس دقائق، في أعقاب اندلاع الأزمة الاقتصادية. والتاريخ يعزز هذه النتيجة. ففي زمن الانهيار الاقتصادي الولايات المتحدة الذي انطلق عام 1978، تصاعدت معدلات الجريمة، متى؟ في السنوات اللاحقة لهذا الانهيار، وبلغ ذروته في العام 1981، حيث ارتكبت ما يزيد عن 107 آلاف جريمة سرقة في مدينة نيويورك وحدها!، أي بمعدل294 جريمة في اليوم الواحد!.

هذه هي الصورة في ثلاث دول كبرى مؤثرة على الساحة العالمية، وصاحبة قرار اقتصادي عالمي. والوضع لا يختلف في بقية الدول الأخرى المشابهة مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها، فضلا عن الدول الفقيرة. ومن المصائب أيضا، أن جرائم السرقة ارتفعت داخل الشركات والمؤسسات، على أيدي موظفين فيها، وليس على أيدي عاطلين أو لصوص من خارجها!. والسبب الذي يروجه "السارقون الداخليون" تبريرا لسرقاتهم، أنهم يريدون الحفاظ على مستوى المعيشة المرتفع، الذي تعودوا عليه أثناء فترات الازدهار الاقتصادي. ولمزيد من الصدمات، فقد أنعشت الأزمة في بلد كالولايات المتحدة، تجارة بيع الأسلحة الشخصية، حيث اعتبر "المتسوقون" الجدد، أن احتمالات تعرضهم للسرقة والاعتداء من أجل السرقة، ارتفعت بصورة كبيرة ومخيفة في أعقاب الأزمة. وطبقا لشركة "سميث أند ويسون" Smith and Wesson الأميركية المتخصصة بصناعة الأسلحة النارية، فإنها تتوقع مضاعفة مبيعاتها في غضون ثلاث إلى خمس سنوات، بعد أن حققت في العام 2009 ارتفاعا في مبيعاتها بلغ 13 في المئة.

يقول الكاتب والمؤلف الأميركي جاري ويلس: " إن المنتصرين هم وحدهم فقط الذين يحددون ساعة انطلاق الحرب ضد الجريمة". والطامة الكبرى، أنه لا يوجد منتصر على الساحة في الوقت الراهن. فالحرب لا تزال جارية ومفتوحة على كل الجبهات ضد الأزمة الاقتصادية العالمية، كما أن مسببات الجريمة جاثمة على صدر المجتمع الدولي كله. وإلى أن تضع "الحرب" أوزارها، في زمن يمتد إلى سنوات لا أشهر، لا عجب إذا ما بدأ الأميركيون العاديون بشراء المدافع ، بدلا من المسدسات، والصواريخ بدلا من البنادق، لحماية أنفسهم من مجرمين، لم يكونوا على الساحة أصلا، قبل سبتمبر/ أيلول من العام 2008، الشهر الذي انفجرت فيه " القنبلة النووية البشرية"، ولوثت المجتمع الدولي، بإشعاعات، لا تنفع معها الكمامات ولا السترات الواقية!.


الأربعاء، 6 يناير 2010

مصرفيو الـ "ثلاث ورقات"!



( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")







" المصرفيون يفشلون، لأن المودعين لا يقدمون ما يكفي من المال، لتغطية خسائر المصرف الناجمة عن سوء الإدارة"
نائب الرئيس الأميركي الأسبق دان كويل

 
 
 
محمد كركوتــي
 
إذا كان "ملهَمو" الأسواق المالية، لاسيما سوق "وول ستريت" الأميركية، لعبوا بـ "البيضة والحجر" على مدى عقدين من الزمن، إلى أن وقع الحجر على البيضة وكسرها ، ماحقا صفارها وبياضها، فإن "ملهَمي" المصارف، لعبوا بـ "الثلاث ورقات"، وهي لعبة الأزقة والشوارع الخلفية، التي تمثل فرعا وضيعا لألعاب الكازينوهات في الصالات الفاخرة. فقيَم هذه الألعاب.. واحدة، وإن اختلف مسرحها وتعددت أمكنتها، من بقعة بجانب صندوق قمامة، إلى صالة فارهة مُلحَقة بأفخم الفنادق وأكثرها رفاهية، يعيش روادها ساعات "عز" مع أحلام ربح، لا تتحقق عادة إلا بمعجزة!.


"مُلهَمو" الأسواق باعوا وهمًا وسط فائض من الجشع والطمع المَرضي الموبوء، و"مُلهَمو" المصارف باعوا سرابا في خضم جشع وحاجة. وماذا فعلوا أيضا؟، تحولوا إلى وكالات تصنيف متخصصة بالأفراد، أزاحت من سجلاتها درجات التقييم السلبية الواقعية، وعززت فيها درجات التقييم الإيجابية الورقية أو الاسمية أو الوهمية. فلكل – وفق معاييرها- مؤهل لـ "الفوز" بالقروض، بعيدا عن الملاءة والقدرة على التسديد الكامل والمنتظم، وبعيدا عن واقعه المالي، وإمكانياته العملية!. الكل يستطيع أن "ينعم" بهذه القروض، بل ويمكنه أن يحصل على أخرى إضافية في أي وقت يشاء، بصرف النظر عن الحِجة (أو السبب) لهذا القرض أو ذاك!. ولأن الأموال لم تكن حقيقية أو محسوسة، فهي متوفرة مثل الأمطار في المناطق الاستوائية، ومثل عدد الجياع والمشردين في العالم ( لاسيما ذلك العالم المنسي). إنها مثل أموال "قارون"، ولكنها ليست كأموال حاتم الطائي. فما عليك إلا أن توقِع على قرض، مع رجاء بسيط بـ "دعم الانتباه" إلى أنه سيقع بك في الحضيض!.

وقع الواقعون، ودبت المصيبة. فلا أموال موجودة، ولا أصول أو عقارات تقوم مقامها. انكشفت المصارف، وانكشف معها (أو تعرى) مدرائها "المُلهَمون"، وتبين لهؤلاء أن "موجودات" مصارفهم ليست في الواقع سوى عشرات الآلاف من المقترضين الذين لا يملكون شيئا، ومليارات من الأموال المعدومة، وهموم في كل الأرجاء!. لم يخجل مدراء المصارف المتورطة في الأزمة الاقتصادية العالمية ( وأزمة الناس ) من نتيجة أعمالهم، ولم يغيروا من سلوكهم الجشع. فقبل وبعد استغلالهم لطمع وحاجات الأفراد، واصلوا جشعهم ضد مصارفهم نفسها، عن طريق مواصلة منح أنفسهم المزيد من المكافآت والمخصصات المالية السنوية، حتى في عز الأزمة العالمية، وفي بؤرة الخراب، وحتى بعد أن تحولت هذه المصارف إلى ملكيات حكومية أو شبه حكومية، بغية إنقاذها!. ففي عز فوران الأزمة، منح مدراء المصارف في الولايات المتحدة الأميركية أنفسهم، ما يقرب من 19 مليار دولار أميركي كمكافآت، بل أن أندرو كومو المحامي العام لولاية نيويورك كشف، بأن المكافآت التي حصل عليها كبار المسؤولين في تسعة مصارف، تدخلت الإدارة الأميركية لإنقاذها عام 2008، فاقت في بعض الحالات صافي الربح!.

هذه الحقائق المريعة، دفعت الرئيس باراك أوباما، إلى الفوز بإقرار مجلس النواب مشروع قانون إصلاح سوق وول ستريت والمؤسسات المالية، كما شن هجوما شرسا على المدراء والرؤساء، ووجه أقذع كلمات التوبيخ لهم، واعتبر" أنه لا يُعقل منح مكافآت ضخمة، بينما يعاني الأميركيون من الفقر والبطالة"، ومضى أوباما أبعد من ذلك حين قال : "لم أترشح للرئاسة، كي أساعد حفنة من (القطط السمان) في وول ستريت". لقد أثبت هؤلاء، أن قضية الأخلاق والإحساس، مسألة ليس فيها نظر، وأن مشاعر العالم الذي يكتوي بنار أزمة كانوا من أدوات تأجيجها، لا معنى لها. بل أن مشاعر الأميركيين الذين دفعوا من أموالهم فاتورة إنقاذ المصارف عن طريق الضرائب، لا قيمة لها!.

أمام هذا المشهد المصرفي العالمي، لم تستطع الحكومة البريطانية الاكتفاء بمواصلة التنبيه والتحذير للمصرفيين، بأن يُظهروا شيئا من الخجل. وأدركت هذه الحكومة أن الغضب الشعبي، وصل إلى أعلى مستوياته، وأنها لن تتمكن من كبح جماحه، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه. ماذا فعلت؟، فرضت ضريبة تبلغ 50 في المئة على مكافآت المصرفيين التي تتجاوز 25 ألف جنيه إسترليني، في جميع المصارف والمؤسسات المالية البريطانية وفروع المصارف الأجنبية. وتشمل الضريبة الجديدة، كل المدفوعات التقديرية، مثل الأسهم والخيارات وزيادات الرواتب المؤقتة. ولنا أن نعرف، أن هذه الخطوة ستدر على الخزينة العامة للبلاد، أكثر من 550 مليون جنيه إسترليني، في وقت تحتاج فيه بريطانيا – كغيرها من الدول الأخرى – إلى جنيه إسترليني إضافي لمواجهة تبعات الأزمة، علما بأن الحكومة أقرت رصد هذه الأموال، لتمويل عمليات تشغيل العاطلين عن العمل الذين "تكاثر" عددهم بفعل الأزمة. إنها خطوة ضرورية جاءت متأخرة ومنقوصة. لماذا؟ لأن الضريبة على مكافآت المصرفيين تستمر لمدة ستة أشهر فقط!. ومع ذلك، لم تخجل المجموعات المصرفية من القيام بهجوم على الإجراءات البريطانية الجديدة، بحجة أن "معاقبة" أصحاب الدخول الكبيرة في القطاع المصرفي، ستؤدي إلى هجرة الكفاءات، بينما ظهر عضو في مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، ليقول : "إن فرض ضريبة استثنائية على مكافآت موظفي القطاع المصرفي، لن يكون فعالا في تشجيع سلوك ينطوي على مخاطر أقل بين المصارف على المدى البعيد"!.

أية كفاءات تلك التي ستهرب؟، وأية خسارة في الكوادر ستنجم عن فرض ضريبة على المكافآت الهائلة؟. إن مسؤولية أولئك الذين استمروا في مناصبهم المصرفية بعد الأزمة، في اندلاع هذه الأخيرة، تستدعي فصلهم، لا فرض ضرائب على مكافآت لا يستحقونها. وإذا كانت الضريبة سوف تُبعد هؤلاء عن القطاع المصرفي، فإنها بذلك تحقق هدفين. الأول: "استئصال" الأموال من جيوبهم، وتحويلها إلى الخزانة العامة. والثاني: تشجيعهم على هجرة القطاع المصرفي، الذي ابتلي بهم لسنوات طويلة، دمروا خلالها الثقة، بل والكيان المصرفي برمته، مع ضرورة عدم منحهم رسالة "حسن سيرة وسلوك". كما أن وجود هؤلاء في خضم إعادة التكوين المصرفي العالمي، سيقوض العديد من الخطوات الهادفة لإصلاح هذا القطاع. يضاف إلى ذلك، أن "متورطي الأمس"، لا يمكن أن يكونوا من إصلاحيي اليوم. ويكفي أن نعلم، أن الحكومات في الدول المؤثرة على الساحة العالمية، تقوم بصورة يومية بتوجيه التحذيرات إلى القائمين على المصارف، للالتزام بسلوكيات ما بعد الأزمة، لاسيما في ظل ظهور تراخ هنا وآخر هناك.

لقد بدأت الحكومات التي ترزح تحت وطأة الشح المالي، وخطط الإنقاذ المستمرة المحسوبة بعشرات المليارات من الدولارات الأميركية، بإتباع سياسة حازمة في هذا المجال، خصوصا في ظل تنامي مشاعر الامتعاض والسخط، في أوساط الرأي العام. لكن ينبغي أن لا يكون الحزم موسميا. صحيح أن هناك رؤى مختلفة في أوساط صناع القرار الاقتصادي في الدول المتقدمة، حول مسألة التضييق على مكافآت ورواتب المصرفيين، وصحيح أن كل دولة تسعى إلى تكريس ما تبقى من وضعيتها المالية، من خلال سياسة مرنة، تحافظ على سمعتها السابقة، لكن الصحيح أيضا.. أن الأزمة الاقتصادية العالمية، غيرت المفاهيم، وفرضت واقعا جديدا في كل الميادين، وفي مقدمتها الميدان المصرفي. فالقضية لم تعد وطنية أو محلية، بل عالمية. والمشاركة الدولية في صنع القرار المالي، لم تعد خيارا، بل ضرورة حتمية، اعترفت بها وقبلتها كل الدول دون أي استثناء.

إن خطط الإنقاذ والضخ المالي – على أهميتها – ليست كافية لإنهاء الأزمة العالمية، ولا يمكن أن تحصن الاقتصاد العالمي من أزمة أخرى، ربما تكون أكثر شناعة. فإلى جانب هذه الخطط، لابد من "إنشاء مصنع" عالمي لإنتاج الثقة. مصنع عصي على الإغلاق، ينتج أيضا سلوكيات اقتصادية ومالية جديدة، تقوم على ما هو موجود في الواقع، لا على ما هو وهم في الخيال. ومحاصرة "المُلهَمين المصرفيين"، جزء أساسي لبناء الثقة، وتدمير المقامرة والجشع.

إنها في النهاية مسألة أخلاقية لا يمكن أن تتكرس إلا بالممارسة، وبأدوات هجومية تُبقي الوحوش بعيدة عن الحظيرة.