الاثنين، 13 ديسمبر 2010

"ويكيليكس" جرينسبان

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")










" الفضائح الكبرى تصنعها دول كبرى"
وليام شكسبير أديب ومؤلف وشاعر إنجليزي

 
محمد كركوتـي
 
 
ذكرتني أكوام الوثائق الأميركية على موقع " ويكيليكس" – فاضح الأسرار – بأغنية للمغني الأميركي الشهير بوب ديلان، أطلقها في العام 1965 تحت عنوان "لا بأس يا أمي.. إنني أنزُف فقط" أو It's Alright, Ma I'm Only Bleeding . ففي أحد مقاطع الأغنية يقول ديلان: ".. في بعض الأحيان، حتى رئيس الولايات المتحدة، يجب أن يقف عارياً". فقد أراد أن يقول: في العمل العام ( ولاسيما السياسي والاقتصادي)، لا أحد يمتلك القدرة على البقاء وراء الستار ( أو خلف القناع) إلى ما لا نهاية. وقتها كان ديلان ينشد هذه الأغنية على قارعة الطريق مقابل البيت الأبيض الأميركي. لا نعرف إذا ما كان موقع " ويكيليكس"، يمتلك وثائق سرية أميركية اقتصادية داخلية، أو أنه سيمتلكها في المستقبل. لكن المرجح أن هذا الموقع الذي أهان الدبلوماسية الأميركية بتعريتها على طريقة الـ "استربتيز" (أو التعري قطعة بعد أخرى)، بات متخصص في البرقيات التي ترسلها سفارات الولايات المتحدة الأميركية في العالم، إلى وزارة خارجيتها مصنفة تحت ختم "سري"، وتعد بعشرات الآلاف. وفي الواقع.. أن الموقع " الفاضح"، استبق الكشف عن الوثائق ثلاثين عاماً. فالغالبية العظمى من هذه الوثائق، تدخل في الغرب الخزائن الموصدة بكل الأقفال المتوافرة، قبل أن تُطرح للعامة بعد ثلاثة عقود من الزمن. وبعض هذه الوثائق تُقفل لمدة خمسين عاماً، وبعضها الآخر يبقى تحت الأرض لـ 75 عاماً، بعد أن يدخل أبطالها تحت الأرض إلى الأبد.

ماذا لو تمكن "جنود ويكيليكس" من الوصول إلى الوثائق المرتبطة بمقدمات الأزمة الاقتصادية العالمية؟. دون أن ننسى، أن هذه الأزمة التي اندلعت في العام 2008، تحفل بمقدمات تعود إلى أكثر من عشرين عاماً قبل الانفجار. ماذا يمكن أن تحتوي هذه الوثائق؟. كيف كانت سوق "وول ستريت" تعمل؟. كيف كانت البنوك المركزية – وتحدياً الأميركي - تغطي على الجريمة الاقتصادية الكبرى؟. ما هي التفاصيل الحقيقية الخاصة بالأدوار التي لعبتها الحكومات الغربية، في فوضى الأسواق والمصارف؟. كيف ستكون وثائق "البطل الاقتصادي" آلان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) السابق؟. وكيف استطاع هذا "البطل" الإنفراد في القرار الاقتصادي دون تدخل من الإدارات الأميركية المتعاقبة على مدى 18 عاماً متواصلة؟. ما هي المراسلات والاتصالات الخاصة بنشاطات المحتال الأميركي الكبير برنارد مادوف؟. وهل تم بالفعل متابعة هذا المحتال؟. ماذا تضمنت الوثائق – إن وجدت – من معلومات عن القروض التي كانت تُمنح لمن يرغب، من دون الحد الأدنى من الضمانات؟. هل كانت هناك مراسلات (وثائق) تُحذر بالفعل من مغبة الفوضى المالية، وتجاوز المصارف الحدود الآمنة؟. ما هو محتوى الوثائق الخاصة بتحذيرات شخصيات غربية مختلفة، من العواقب المترتبة على ترك الأسواق تعمل بدون ضوابط أو حتى رقابة، وبالتأكيد بدون سلوك أخلاقي؟.

نحن نعلم أن "ويكيليكس" سينشر مجموعة من الوثائق الخاصة بالشركات، وذلك طبقاً لما أعلنه الموقع المذكور، ولكن غالبية هذه الوثائق تختص بنشاطات وتحركات شركات على الساحة العالمية، بما في ذلك علاقاتها المُريبة مع الحكومات الأجنبية، والضغوط – بل والتهديدات- التي تمارسها على بعض الحكومات للفوز بعقود تصب في مصلحتها أولاً وأخيراً، لا في مصلحة الدول المعنية. ولا بأس في أن تعم الفائدة بصورة أو بأخرى أولئك الذين يقومون بتسهيل وتمرير العقود!. ونعلم – حسب "ويكيليكس" – أن هناك مصارف تستعد لـ "دور البطولة" في الوثائق المزمع نشرها. لكن تبقى الوثائق ( المراسلات، محاضر الاجتماعات، الاتصالات) الاقتصادية المحلية في الولايات المتحدة، هي الأهم في معرفة ما خُفي من حقائق عن الأزمة الاقتصادية العالمية. وهذه الوثائق في الحقيقة لا يتم تداولها بين واشنطن وسفاراتها، وبالتالي لا تدخل ضمن الملفات "السرية" لوزارة الخارجية.

إذا كان العالم يحتاج إلى معرفة الحقائق عن عالم السياسة والدبلوماسية - بصرف النظر عن الطريقة – فإنه بحاجة قوية لمعرفة تفاصيل المقدمات التي سبقت الأزمة. لماذا؟ لأنها – أي الأزمة – نالت من كل شيء، الاقتصاد ومعه السياسة والثقافة والمجتمع والأخلاق والتسامح والانفتاح والتعاون. نالت من كل معاول البناء. والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: هل لو كانت "ويكيليكس" حاضرة على الساحة الأميركية – العالمية قبل عشر سنوات أو أكثر، يمكن أن تساهم في كبح جماح مقدمات الأزمة الاقتصادية العالمية؟. وبصيغة أخرى للسؤال نفسه، هل لو تم الكشف عن الألاعيب الاقتصادية التي سادت الساحة الأميركية بصورة لم يسبق لها مثيل، يمكن أن توفر حصانة ضرورية ومطلوبة للاقتصاد العالمي؟. لا شك في أن ظهور الحقائق – أي حقائق – تسهم إلى حد بعيد في تغيير السياسات المتبعة، وتُحدِث تبدلاً في المنهج المعتَمد. ففي العادة، ما ينفع سراً لا يستوي علناً، مع الاعتراف بأن الكشف عن الحقائق والخبايا – والنيات – في السياسة والاقتصاد تحديداً، يعزز مواقع أولئك الذين يُحبون إسقاط نظرية المؤامرة على كل شيء. ولا شك في أن هؤلاء يتمسكون بما قاله المؤلف والكاتب الأميركي فينيمور كوبر "الجميع يقولونها. وما يقوله الجميع يجب أن يكون صحيحاً". ومعه قال مؤلف وكاتب أميركي هو لوجان سميث "إنه لأمر مفزع.. أن يكون ما يقوله الناس علينا صحيح".

محبو عامل المؤامرة – أو نظريتها – يستطيعون في ظل أكوام وثائق "ويكيليكس"، أن يمضوا قُدماً في إسقاطها على الأزمة الاقتصادية العالمية، رغم أنها – أي الأزمة – لم تكن مؤامرة بأي حال من الأحوال، وذلك طبقاً لنتائجها الكارثية على المُتَهمين أنفسهم بالمؤامرة. ولكن بلا شك، كان وراء الأزمة مؤامرة ما. أبطالها أولئك الذين تسيدوا الأسواق العالمية الكبرى، وفي مقدمتها "وول ستريت". مؤامرة تورط فيها السياسيون الكبار، لا حباً فيها، ولكن لإيمانهم الأعمى، بضرورة أن تبقى الأسواق بمعزل عن الرقابة والقيود والضوابط، بل والمحاسبة أيضاً!. ولأن الأمر كذلك، فقد انزوت القيم والأخلاق، وتقدمت على مدى أكثر من عقدين معايير تعالي السوق على المجتمع!. ومما لاشك فيه، لو ظهر "ويكيليكس" اقتصادي أميركي محلي، لاطلعنا على مراسلات بين آلان جرينسبان – مثلاً – ووزراء المالية الأميركيين الذين تبدلوا وهو في منصبه، تتضمن تطمينات منه على الأمور تجري على ما يرام، بل أفضل مما يرام!. وأن أولئك الذين يحذرون من وقوع أزمة، ليسوا سوى أفاقين أو متشائمين أو كارهي النجاح!. وسيقول جرينسبان: إن الأم تيريزا ليست أكثر أخلاقاً أو نظافة من سماسرة "وول ستريت"، وأن القروض التي تُمنح للناس بدون ضمانات، هي لمساعدتهم ومساعدة أسرهم، لا لتكبيلهم بديون لن يستطيعوا ما عاشوا تسديدها. سيقول: انظروا إلى برنارد مادوف، كيف يخصص عشرات الملايين من أمواله للجمعيات الخيرية. إن أولئك الذين يصفونه بالمحتال، هم المحتالون!. سيكتب جرينسبان في الوثائق: إن الأزمة الحقيقية، هي تلك التي يعيشها الذين لا يرغبون في اقتصاد حر، ويعتبرون النمو الراهن الذي يخلب الألباب.. عبثياً. لماذا؟ - والكلام لـ "بطل الأزمة" - لأنهم يريدون منا أن نعيش كما كان الشعب السوفييتي يعيش تحت الحكم الشيوعي!.

وبالطبع لن يقول جرينسبان في مراسلاته المفترضة – قبل الأزمة – ما قاله بعدها. ماذا قال؟ إن هذه الأزمة لا يمكن لأحد أن يتصورها. إنها لا تحدث إلا مرة واحدة كل مائة عام!!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق