الثلاثاء، 24 يونيو 2014

العنصرية البريطانية الاقتصادية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"الوطنية لا تكفي. علي ألا أضمر كراهية أو مرارة لأحد"
إديث كافيل - أديبة بلجيكية


كتب: محمد كركوتــــي

تزداد في بريطانيا مشاعر العنصرية تجاه الأجانب. هذا أمر بات مؤكداً من أكثر من جهة بحثية واستقصائية محلية. ومهما كانت الأسباب، هناك سبب رئيس في هذا المجال، يتعلق بالجانب الاقتصادي. فالبريطانيون يعتقدون أن الأجانب يأخذون فرصهم في العمل، ولاسيما أولئك القادمون من شرق أوروبا، الذين باتوا يشكلون بالفعل ثقلاً عمالياً كبيراً في مختلف أنحاء المملكة المتحدة. ويرى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عكس ذلك، بل يهاجم البريطانيين، ويتهمهم بالكسل، ولذلك فهم يبحثون عن مبرر، ولم يجدوا إلا توجيه الاتهام للعمالة الأجنبية تحديداً، وبصورة متصلة، الأجانب (الأوروبيون منهم وغير الأوروبيين) الذين يستفيدون من نظام المعونة الاجتماعية الحكومية. واستنتاج بلير فيه من الصواب والخطأ في آن معاً. فالأمر لا يتعلق فقط بكسل البريطانيين، بل بتحولات اقتصادية واجتماعية وجغرافية.. وغيرها من المؤثرات الأخرى.
والحديث عن تزايد مستوى عنصرية البريطانيين يجري بصورة أكبر منه عن العنصرية في بقية بلدان القارة الأوروبية، ولاسيما الغنية منها على الرغم من أن بريطانيا تحتل المراتب الدنيا في العنصرية مقارنة ببعض البلدان الأوروبية الأخرى، مثل فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا وغيرها. بل إن العنصرية في العديد من بلدان أوروبا الشرقية تفوق تلك الموجودة في المملكة المتحدة. ولأنها تتمتع بقدر أدنى من العنصرية (تاريخياً)، فإن أي ارتفاع في مستواها داخل الأراضي البريطانية، يبقى لافتاً أكثر من غيره. يضاف إلى ذلك، حوادث الاعتداءات القاتلة الأخيرة التي شهدتها لندن، ضد عدد من الرعايا الخليجيين، وهي بالفعل اعتداءات لم تألفها العاصمة البريطانية سابقاً، التي تتصدر قائمة المدن العالمية، كأفضل مكان لتآلف الأعراق والجنسيات. بل إن سياسيين بريطانيين بارزين، يفخرون بهذه الصيغة الاجتماعية المميزة.
الأوقات تتغير، وتتغير معها المشاعر والرؤى والمفاهيم. فتآلف الأمس ليس بالضرورة أن يحتفظ بآلياته الإنسانية والحضارية. وفي كل الأحوال يعود السبب الرئيس إلى الأوضاع الاقتصادية غير المريحة التي تعيشها بريطانيا، رغم أنها أفضل حالاً من غيرها ضمن نطاق الاتحاد الأوروبي، باستثناء ألمانيا. في بحث لمؤسسة البحوث الاجتماعية البريطانية المعروفة باسم NatCen، أظهر أن ثلث البريطانيين يعترفون بأنهم متعصبون عنصرياً. اللافت في هذا البحث، أن التعصب العنصري عاد إلى الارتفاع منذ انخفاضه إلى أدنى نسبة بلغت 25 في المائة عام 2001! وأكد مرة أخرى ميزة لندن في هذا المجال، إذ اعترف 16 في المائة من سكانها بأنهم متعصبون، في حين ارتفعت النسبة إلى 35 في المائة في منطقة غرب وسط البلاد. مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه النسبة ترتفع في أوساط العمال الذكور، أكثر منها في شرائح المتعلمين والمثقفين. وبلغت النسبة لدى حملة الشهادات 19 في المائة، فيما تجاوزت 38 في المائة عند الذين لا شهادة لهم.
هذه النسب وتفاصيلها ليست غريبة. فدائماً.. تكون مشاعر التسامح والتفهم أعلى في أوساط المتعلمين منها في أوساط غير المتعلمين. الغريب فيها أنها ترتفع في ظل انتعاش اقتصادي واضح تتمتع به بريطانيا مقارنة بغيرها من بقية الدول الأوروبية. أي أن العنصرية ارتفعت والبلاد في طريقها للخروج من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية. وهذه الأخيرة كما نعلم، جلبت معها كل خراب ممكن، وأججت مشاعر العنصرية في غالبية بلدان العالم. لقد بات الناس ينظرون إلى القادم الجديد، كمقتنص لفرصة عمل، حتى وإن لم تكن هذه الفرصة متاحة أصلاً! فالمسألة تبقى أساساً اقتصادية، وبقية العوامل الأخرى، ليست سوى تفاصيل تظهر تارة هنا وتارة هناك، لكنها قابلة للتراجع أيضاً هنا وهناك.
و"اقتصادية" المسألة ترتبط ارتباطاً يكاد يكون وحيداً في عملية الهجرة. فحتى ما قبل الأزمة العالمية، كان تدفق الأوروبيين الشرقيين إلى بريطانيا هائلاً، خصوصاً من البلدان التي بدأت بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في أوائل العقد الماضي. وهؤلاء (كالعادة) يوفرون عمالة أرخص من العمالة البريطانية. فضلاً عن أنهم يتمتعون بمزايا الرعاية الاجتماعية المختلفة، باعتبارهم مواطنين ضمن نطاق الاتحاد الأوروبي. ولهذا السبب ليس غريباً، أن يظهر البحث المشار إليه حقيقة اعتبرتها دوائر المؤسسات الاجتماعية البريطانية مقلقة. ففيما قال 90 في المائة من الذين اعترفوا بأن لديهم تعصبا عنصريا، إنهم يريدون خفض عدد المهاجرين إلى بريطانيا، قال 73 في المائة من الذين ادعوا أنهم لا يضمرون مشاعر عنصرية إنهم يريدون ذلك أيضا. وأمام هذه النسب، يمكن تفهم حقيقة ارتفاع مستوى التعصب العنصري في بريطانيا. فهذا التعصب، بات موجوداً حتى بين الشرائح التي لا تضمر مشاعر عنصرية!
حتى ما قبل الأزمة العالمية، كان تدفق الأوروبيين الشرقيين إلى بريطانيا هائلاً، خصوصاً من البلدان التي بدأت الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في أوائل العقد الماضي. وهؤلاء (كالعادة) يوفرون عمالة أرخص من العمالة البريطانية. فضلاً عن أنهم يتمتعون بمزايا الرعاية الاجتماعية المختلفة، باعتبارهم مواطنين ضمن نطاق الاتحاد الأوروبي. ولهذا السبب ليس غريباً، أن يظهر البحث المشار إليه حقيقة اعتبرتها دوائر المؤسسات الاجتماعية البريطانية مقلقة. ففيما قال 90 في المائة من الذين اعترفوا بأن لديهم تعصبا عنصريا، إنهم يريدون خفض عدد المهاجرين إلى بريطانيا، قال 73 في المائة من الذين ادعوا أنهم لا يضمرون مشاعر عنصرية إنهم يريدون ذلك أيضا.

الثلاثاء، 17 يونيو 2014

هلع المصارف من عقوبات مستحقة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"المصرفي هو الشخص الذي يقرضك مظلة في يوم مشمس، ويطلب إرجاعها في لحظة سقوط الأمطار"
مارك توين أديب أمريكي

كتب: محمد كركوتــــي

تمر المصارف الكبرى والمتوسطة في الدول الغربية على وجه الخصوص بحالة هلع شديد، لم تشهدها منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية قبل ست سنوات. وهي حالة تشكل امتداداً طبيعياً للأخلاقيات المصرفية الغائبة عن هذه المؤسسات المالية. وتمثل أيضا استحقاقاً عليها أن تواجهه. وبصيغة أوضح، عليها أن تتحمل عواقبه وعقوباته ومعاييره وقراراته وأحكامه. ظن القائمون على بعض هذه المصارف، أن الكوارث التي مرت بها من جراء الأزمة الكبرى كافية. وأن الأزمة (وآثارها التخريبية) ستبرر السلوكيات المصرفية غير اللائقة، أو في أسوأ الأحوال، ستخفف الغضب من جانب السلطات عليها. واعتقد هؤلاء، أنه في زمن الطوارئ، تباح المحظورات! ألم تستخدم (المصارف) أموال المخدرات القذرة خلال الأزمة المشار إليها، في محاولات يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟!
لكن الأمر ليس بهذه السهولة أو السذاجة. ما كان سارياً قبل الأزمة وخلالها، لم يعد له مكان على الساحة المصرفية. وسلوكيات الأمس المشينة، باتت اليوم تهدد وجود المؤسسات المالية ككيانات مصرفية. وأصبحت خطيرة إلى درجة لا يمكن التهاون فيها، أو التعامل المرن معها. باختصار، لم تعد العيون مغمضة، بل صارت قوتها ضعف ما كانت عليه في السابق. إنه استكمال لعملية إصلاح كانت مستحقة منذ أكثر من ثلاثة عقود. صحيح أنها أتت بفعل أزمة، وليس وفق المعايير الواجبة، لكنها ماضية حتى النهاية للوصول إلى الهدف. والهدف واضح. كل مصرف (أو مؤسسة مالية) يرتكب مخالفات أو تجاوزات سيدفع الثمن غالياً جداً، بما في ذلك إمكانية إغلاقه إلى الأبد. ولذلك ينتشر الهلع والخوف في أجواء المؤسسات المالية، التي تعرف أنها ارتكبت خطايا أكثر مما ارتكبت من أخطاء، وأن أيام الحساب حُددت لكل مصرف متورط.
لا يزال المال غير الأخلاقي يمر عبر المؤسسات المالية، بل إنه تجاوز في بعض المؤسسات المال الأخلاقي نفسه. وهذه مسألة تحتاج إلى سنوات طويلة وقرارات قاطعة من قبل السلطات الرقابية والحكومية المختلفة. اليوم، المسألة السائدة، هي تلك المتعلقة بانتهاك قرارات الحظر المفروضة غربياً على دول مثل إيران والسودان وسورية، وحتى بعض المنظمات الإرهابية، كحزب الله اللبناني - الإيراني. تضاف إليها قضية الملاذات الآمنة للأموال الهاربة من الضرائب في بلادها، وتحديداً من الولايات المتحدة. غالبية المؤسسات المالية الكبرى متورطة في هذه المسألة وتلك القضية. وفي ظل تفعيل التحرك ضدها، زادت المخاطر عليها. لقد بدأت الولايات المتحدة الحملة القوية بهذا الصدد، وتفكر دول أخرى (منها بريطانيا)، في شن حملة مشابهة في أقرب فرصة. وإذا كانت هناك مصارف "تخصصت" في انتهاك قرارات الحظر، وأخرى ركزت في الأموال الهاربة من الضرائب، فإن هناك مصارف مارست المخالفتين معاً.
بعض المصارف اختصرت الطريق وفتحت ملفاتها، أملاً في غرامات مخففة أو بعقوبات يمكن أن تتحملها. وبعضها بدأ سلسلة من المفاوضات. لكن البعض الآخر لا يزال يعاند. بل إن مصرفاً كـ "بي إن بي باريبا" الفرنسي الكبير، تمكن من تحويل مشكلته مع الولايات المتحدة بخصوص انتهاكات قرارات الحظر، إلى مشكلة بين هذه الأخيرة وفرنسا، خصوصاً والحديث يجري عن غرامة قد تصل إلى 10 مليارات دولار، كافية "لقصم ظهر" أي مصرف. وقد بلغ الأمر حداً، أن ربطت الحكومة الفرنسية (نظرياً في الوقت الراهن) المسألة بمستقبل العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، بحيث كان موضوع المصرف المذكور على رأس جدول المحادثات الثنائية الأخيرة التي جرت بين رئيسي البلدين. غير أنه لا توجد أي مؤشرات على تراجع من الجانب الأمريكي. فالمصرف ارتكب بالفعل انتهاكات كبيرة جداً لحساب إيران والسودان، ولا بأس من منظمة إرهابية هنا وأخرى هناك.
تقوم المصارف الكبرى والمتوسطة حالياً بإعادة تقييم الوضع العام. فتلك التي لم يأت دورها، بدأت بالفعل سلسلة من الاتصالات للتوصل إلى صيغة حل يضمن لها دفع الحد الأدنى من الغرامات، بعيداً عن القضاء وساحاته. وهناك عشرات من المصارف السويسرية توصلت بالفعل إلى اتفاق مع واشنطن في الأشهر الماضية حيال الملاذات الضريبة الآمنة، بما في ذلك فتح ملفات عملائها بالكامل للسلطات الأمريكية. على الساحة المصرفية حالياً معايير جديدة، وحملات متجددة، تعيد الحد الأدنى المطلوب من النزاهة إلى القطاع المصرفي العالمي. أما مسألة النزاهة الكاملة، أو المرتفعة، فهي قضية ستبقى بعيدة عن هذا القطاع، لأن الأدوات التصحيحية المصرفية لم تستكمل بعد، والعمل على إحداثها جار.
إن زيادة المال الأخلاقي في المؤسسات المالية، يحتاج أيضاً إلى زمن يوازي الزمن الذي قضم فيه المال غير الأخلاقي الأموال المشروعة. وهذه في النهاية قضية، تفوق انتهاكات العقوبات والتهرب الضريبي بشاعة وعنفاً وضرراً. إنها ترتبط بكل الموبقات، من المخدرات إلى الاتجار بالبشر إلى سرقة المال العام، إلى التهريب، والتزييف وغيرها. هي قضية لا تختص بحكومة ومصرف، أو حكومة وأخرى، بل تتعلق مباشرة بالوجدان الإنساني.

قنبلة الغذاء البشرية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





 
«الجوع ليس قابلاً للنقاش»
هاري هوبكينز - وزير التجارة الأمريكي الأسبق




كتب: محمد كركوتــــي

الفارق بين الجوع وسوء التغذية، أن الأول يُميت الآن، والآخر يُميت لاحقاً. البعض يعتقد أن الجوع أفضل! لأن المعاناة الناجمة عنه تنتهي بمساحة زمنية قصيرة، تمثل ''رأفة قاتلة'' في حين أن سوء التغذية يوفر أطول مدة للمعاناة. أي أنه ''قاتل تدريجي''، وطبعاً ''تسلسلي''. وفي كل الأحوال، هما عار متجدد على الإنسانية، وتحديداً على الدول التي تضع المخططات تلو الأخرى، لماذا؟ لـ ''رفعة'' البشرية، في أن يكون للإنسان حد أدنى للعيش، يتدبر فيه أمر كرامته وإنسانيته. هذه المخططات، لا تختلف كثيراً، عن باب جميل مزخرف، منقوش ومحفور بمهارة عالية، لمنزل عامر بالخراب والمصائب، والويلات المتجددة. لو تحولت كلمات ومواقف السياسيين ''الكبار''، حول ضرورة صيانة الإنسانية، إلى مال يُصرف وتنمية واقعية، لتحققت كل الأهداف قبل مواعيدها، ولوفر المخططون أوقاتهم لعمل شيء آخر. ولا بأس لو استثمروها في إجازات فقط.
اليوم، توصل المختصون إلى ماذا؟ إلى أن الارتفاعات الكبيرة في أسعار المواد الغذائية، توقف التقدم العالمي في خفض معدلات وفيات الأطفال والأمهات. ويمكن لأي إنسان بسيط يجلس على ''ترعة'' في إحدى القرى النائية في أفقر دولة في العالم، أن يتوصل إلى هذه النتيجة، دون الحاجة إلى ''مفكري'' منظمة الغذاء العالمية، ولا ''مبدعي'' البنك وصندوق النقد الدوليين، ولا لخبراء ''ملهَمين''. فارتفاع أسعار الغذاء، يهدد مباشرة حياة أكثر من 165 مليون طفل حول العالم، خصوصاً أولئك الذين يعيشون (إن اكتسبوا هذه الصفة) في البلدان الفقيرة. البنك الدولي ''يُشكر'' على دراسته الأخيرة، التي أكد فيها، أن تمويله لبرامج الغذاء سيزيد إلى 600 مليون دولار أمريكي في عامي 2013 و 2014، من 230 مليوناً في 2011 و 2012، على أن يوزع هذه الأموال، عبر المؤسسة الدولية للتنمية التابعة له، خصوصاً في إفريقيا وجنوب آسيا.
لا يمكن بالطبع تحميل المؤسسات الدولية مسؤولية استفحال هذه الكارثة. فهي تعمل وفق الموارد التي تصلها من الدول المعنية بهذا الأمر، فضلاً عن أن هذه الدول هي التي تسيطر على قرارات هذه المؤسسات، كما تسيطر على قرارات المنظمات والهيئات الدولية الأخرى. وعلى هذا الأساس، ليس هناك مخرج واقعي، إلا بتحويل الأزمة من قيد المؤسسات المذكورة إلى عهدة الحكومات الكبرى مباشرة. فكل المؤشرات، تدل على أن المصيبة لا تتضخم فحسب، بل توسع نطاق انتشارها، حتى في الدول التي تشهد نمواً اقتصادياً عالياً. وطبقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو).. فحتى مع ارتفاع مداخيل الدول، فإن تحسن التغذية لا يحدث تلقائياً. وقد أعطت الهند مثالاً على ذلك. ففي هذا البلد نما الاقتصاد ثلاثة أضعاف في الفترة الواقعة بين عامي 1990 و2005، غير أن 42 في المائة من الأطفال دون الخامسة، كانوا أقل من الوزن الصحي في العام الماضي، وهو المعدل نفسه الذي سُجل قبل خمس سنوات!
أسعار الغذاء ستواصل الارتفاع في العامين الجاري والمقبل، في الوقت الذي ينخفض فيه المخزون الغذائي، بسبب تراجع الحراك الزراعي في الكثير من البلدان. وهذا يعني أن الأسعار ستمضي إلى مزيد من الارتفاع، خصوصاً مع نقص المحاصيل. وفي تقرير (مرعب بالفعل) لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بالاشتراك مع (الفاو)، فإن الصين (أكبر بلدان العالم من حيث عدد السكان) ستستورد مزيداً من اللحوم والبذور الزيتية في السنوات العشر المقبلة. والسبب بسيط وخطير، يكمن في أن وتيرة الاستهلاك فاقت نمو الإنتاج، الأمر الذي سيسهم مباشرة في ارتفاع أسعار الغذاء على الساحة العالمية. ويعطي التقرير صورة قاتمة، عندما يؤكد أن ارتفاع التكاليف وتزايد صعوبة استغلال الموارد، وتنامي الضغوط البيئية، ستعوق الإنتاج الزراعي، في السنوات المتبقية من العقد الحالي. والأهم من هذا كله، فإن متوسط النمو سيبلغ 1.5 في المائة سنوياً بين عامي 2013 و2022 انخفاضا من 2.1 في المائة في العقد السابق. وفي كل الأحوال، ستبقى المخزونات الغذائية في الدول المستهلكة والمنتجة متدنية، وهذا يعني أن قوة على هذه الأرض، لا تستطيع السيطرة على الأسعار، ولا حتى ''تلطيف'' تقلباتها.
قبل أكثر من عامين كتبت مقالاً بعنوان ''قنبلة الغذاء النووية''. غير أن تصاعد أزمة الغذاء وأسعاره، وتراجع نمو الإنتاج الزراعي، ونقص المخزونات، كفيلة بتحويل هذه ''القنبلة'' إلى ''هيدروجينية بشرية''، ستنفجر في العالم أجمع. التوقعات تجمع، على أن أسعار الغذاء سترتفع في السنوات المقبلة ما بين 10 و40 في المائة. وهذه النسب ترفع تلقائياً نسب الذين لا يملكون قوت يومهم. فالذي كان يملك ما يضمن له يوماً آخر في الحياة، سينضم إلى أولئك الذين ليسوا على يقين بأنهم سيشهدون فجراً جديداً آخر. والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، الذي لا يزال في مرحلة التشكل، لن يتحقق بالصورة التي يحتاج إليها العالم فعلاً، إذا ما أغفل هول أزمة الغذاء العالمية. فسوء تشكيل هذا النظام، لن يرفع معدلات سوء التغذية، بل سيأكل التغذية نفسها، دون أن يتمكن من هضمها.


 

الناتج الإجمالي الإجرامي

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


" كيف يُحصلِون ضرائب شرعية، من أموال غير شرعية؟!"
آل كابون أحد أشهر زعماء المافيا في الولايات المتحدة




كتب: محمد كركوتــــي
 
في التاريخ، يبقى آل كابون أكثر زعماء العصابات في الولايات المتحدة، الذين تمكنوا ببراعة من مقارعة سلطات مكافحة العصابات فيها إلى أن وقع. ويظل هذا المجرم، رمزاً رئيساً ليس فقط للإجرام، بل أيضاً لـ "الذكاء" الذي وفر له مساحات زمنية طويلة قبل الوقوع في أيدي العدالة، وكذلك رمزاً للمكر، والتنظيم، وتشتيت المسؤولية المشينة بين أكثر من طرف. ولكن تبقى المفارقة ماثلة في الذاكرة الأمنية والإنسانية، أن آل كابون لم يقع بالجرم المشهود، بل انتهى عن طريق ملاحقته الضريبية. فرغم قدرات القائد الأشهر لمكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية ادجارد هوفر، لم يتمكن هذا الأخير من اصطياد آل كابون إلا عبر المصيدة الضريبية. وهي مصيدة يمكن أن يقع فيها صاحب بقالة لا يزيد رأسماله على 2000 دولار، أو مدرس خصوصي، يتقاضى عشرة دولارات في الساعة. وكانت مقولة آل كابون الشهيرة.
تتقدم دول في الاتحاد الأوروبي حالياً (كبريطانيا وإيطاليا) نحو احتساب الأموال التي تدرها الدعارة حتى المخدرات والجرائم الأخرى المختلفة، ضمن ماذا؟ ضمن الناتج الإجمالي المحلي! الأمر الذي دفع مفوضية الاتحاد إلى مراجعة القواعد التي تستند إليها في تحديد حجم الناتج المحلي لكل بلد تنضوي تحت لوائه. المعارضون لمثل هذه الخطوة المحلية والأوروبية، أسرعوا بإطلاق تسمية "إجمالي الناتج الإجرامي". وهو تعبير واضح، على أن العوائد الوطنية لم تعد نظيفة، أو في أفضل الأحوال، باتت ملوثة بمداخيل مواخير الدعارة وأزقة المخدرات وشبكات الاتجار بالبشر، وغيرها من الجرائم التي يفترض أنها على رأس أولويات المكافحة العالمية. ببساطة ستكون عوائد باعة الهوى، جنباً إلى جنب عوائد صناعة السيارات والجمارك وكل قطاع توفر الدخل المحلي.
المدافعون عن هذه الخطوة يعتقدون، أنه طالما هناك مدخول يتم محلياً، فلا بد أن يجمع مع الدخل الوطني العام، بصرف النظر عن الجوانب الأخلاقية، التي تبدو بلا قيمة حقيقية، وسط بحث الحكومات الأوروبية عن مزيد من القطاعات لرفد النمو المتواضع الناجم أصلاً عن الأزمة الاقتصادية العالمية. يضاف إلى ذلك، فإن العجز في الموازنات سينخفض تلقائياً، مما يعزز تثمين الاقتصادات المعنية من قبل المفوضية الأوروبية والمؤسسات الأخرى المستقلة، خصوصاً أن كل الاقتصادات الأوروبية (بدون استثناء) تمر بمرحلة مؤلمة من التقشف، الذي لن ينتهي في وقت قريب. ولكن ماذا عن الجانب الأخلاقي؟ يقول المدافعون: الأخلاق؟! لا دخل لها هنا، في رد على الهجوم الذي تعرضت له كل من الحكومتين البريطانية والإيطالية، من جانب وزراء فرنسيين، ورؤساء ورئيسات جمعيات نسائية مختلفة وغيرها.
وفي كل الأحوال، لن تتجاوز أي دولة ترغب في إدراج مداخيل الدعارة والمخدرات وغيرها ضمن ناتجها الإجمالي المحلي، الإجراءات المتبعة أوروبياً. ويدافع معهد "يورستات" الأوروبي للإحصاء عن مثل هذه الخطوة، لأن القائمين عليه ينظرون إلى العوائد المالية بعيداً عن طبيعتها. المهم بالنسبة إليهم قيمتها ودورها بالفعل في حراك الاقتصاد الوطني. فعلى سبيل المثال، تصل عوائد الدعارة والمخدرات في بلد كبريطانيا إلى 17 مليار دولار سنوياً، وهذه الأموال ترفع بالفعل الناتج المحلي. فقد كان عن المعهد الأوروبي المذكور أن يجد رداً مقنعاً على أولئك الذين يبحثون عن الأخلاق في هذا المجال. فلم يجد أن يقول سوى "لنترك الاعتبارات السياسية جانباً". ولكن مهلاً، هل الأمر يتعلق بالفعل باعتبارات سياسية، أم أخلاقية؟!
ولعل السؤال الأهم الذي لم يطرح من قبل المدافعين عن "إجمالي الناتج الإجرامي"، يبقى، كيف يمكن حساب حجم أموال الدعارة والمخدرات بالفعل؟ هل هناك سجلات ودفاتر حسابية؟ هل توجد جداول بعدد وأسماء العاملين في هاتين الجريمتين؟ هل يمكن تحديد دخل كل بائعة هوى مثلاً؟ ما الطريقة التي تكفل حساباً واقعياً لاستهلاك المخدرات؟! وإذا ضبطت بعض المخدرات، هل تحسب ضمن القيمة المضافة؟! أسئلة كثيرة من هذا القبيل تبقى بلا أجوبة، ليس للامتناع عن ذلك، بل لاستحالة التوصل إليها بالفعل. ولهذا السبب بالتحديد، يجري حالياً وضع قواعد حسابية جديدة، ستشمل بالتأكيد تقديرات عوائد الدعارة والمخدرات، بعيداً عن أرقامها الحقيقية المستحيلة. وفي كل الأحوال، لن ينخفض صوت المعارضين، وسيظلون يتحدثون عن الجانب الأخلاقي في هذا الأمر.
لن تشكل هذه الخطوة نفس الخطورة، التي شكلها غياب الأخلاق عن الأسواق المالية العالمية، الأمر الذي أدى إلى الأزمة الاقتصادية الشهيرة، وستكون مشينة بالنسبة للسياسيين الذين اعتمدوها فقط، خصوصاً أن العوائد الدنيئة هذه ستكون اسمية أكثر من كونها فعلية. غير أنها فعلية حقيقة على الأرض، وضمن ساحة المجتمع نفسه. وإذا كانت بعض الحكومات ارتضت بضم أموال قذرة لأموال الوطن المشروعة، عليها أن تواصل تحملها العوائد الاجتماعية الناجمة عن هذا النوع من التجارة أو كما تسمى سوقياً بـ"الصناعة". اليوم، دعارة ومخدرات.. ربما في الغد، الاتجار بالبشر والأموال المنهوبة من الشعوب، والصناعات المزيفة، والتهريب وغيرها، تدخل جميعها ضمن نطاق إجمالي الناتج الإجرامي.

«لا بأس».. إنه دواء قاتل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





لفن صناعة الدواء درجة عالية من الحب.. هو نفسه حُب للإنسانية"
أبقراط عالم إغريقي يلقب بـ "أبي الطب"

كتب: محمد كركوتــــي

لا شيء صعباً على المجرمين. كل المشاريع الإجرامية قابلة للتنفيذ، والأهم.. كلها قابلة لإنتاج المزيد من الأموال القذرة إلى حد يصعب تنظيفها. وإن تمكنوا من تنظيفها فأدران التخريب تظل عالقة بها. لا مجال لإخفائها. من تجارة الأعضاء البشرية والبشر، والحيوانات المنقرضة، والمخدرات، والدعارة، والمراهنات الرياضية، إلى تجارة الربى (أو بالعامية "الفايظ") التي تستهدف الفقراء على وجه الخصوص، وتجارة الشهادات العلمية. وإذا كانت التجارة المشروعة عرضة للكساد والازدهار، حسب الحراك الاقتصادي العالمي وأزماته، فإن تجارة المجرمين دائماً في ازدهار، وفي تنوع، وفي تطوير. فلا عجب، أن تسند المصارف المشروعة الكبرى نفسها في الأزمة الاقتصادية العالمية بأموال الجريمة، وأرصدة المافيات عابرة القارات. العجيب (ربما)، أن الحكومات التي قامت بإنقاذ هذه المصارف، اعترفت بهذه الحقيقة المخيفة.
المال القذر في كل مكان، وينتج عن كل شيء. بما في ذلك الدواء المغشوش. والدواء.. السلعة الوحيدة التي يفترض أنها تخفف الآلام، لا أن تزيدها، وأن تساهم في مد عمر المريض، لا أن تقصفه، وأن تشكل أملاً لا أن تنشر اليأس والانهيار، وأن تكون بلسماً لا سماً. والدواء المغشوش ليس صناعة جديدة، ولكنها كغيرها من صناعات الهلاك، تتطور شكلاً ومضموناً، والأهم أنها تنتج مع ما تنتجه أدوات الحماية لها. فالقائمون عليها، يستخدمون "أدوية" فاعلة حقيقية، ضد أي تحرك يستهدفهم، ويصنعون أيضاً أدوات الاستدامة لهم ولصناعتهم، في مجالات الإنتاج والتسويق والبيع، والوصول إلى أفقر قرية في أفقر بلاد العالم. ليس مهماً أنهم يستغلون الجهل في تجارتهم المشينة، المهم أنهم يستغلون الفقر. والأهم من كل هذا، أنهم يستغلون حاجة مريض يعيش آلامه بصمت وأمل في دواء عابر يخفف شيئاً من حدتها وعدوانيتها.
حجم تجارة الأدوية المغشوشة يفوق حجم تجارة المخدرات! هذا ما توصلت إليه المؤسسات الحكومية في غير بلد. وكغيرها من أنواع التجارة الإجرامية الأخرى، فإن مرتكبيها لا يلقون إلا جزءاً بسيطاً من العقاب إذا ما ضبطوا، مقارنة بالمجرمين المختصين بتجارة المخدرات. سنة سجن مع غرامة بسيطة لمجرمي الدواء، مقابل 40 سنة أحياناً وغرامات مالية هائلة لتجار ومروجي المخدرات. والمخيف أن تجارة الأدوية المغشوشة تشهد رواجاً في السنوات القليلة الماضية، لأسباب عديدة، أهمها أن مستوى الدخل المالي تراجع في غالبية دول العالم بفعل الأزمة العالمية، إلى جانب الاهتمام شبه الغائب بهذه الجريمة المتوالدة، من قبل السلطات في غالبية البلدان. وبحسب دراسة أمريكية صدرت في عام 2010، فإن حجم مبيعات الأدوية المغشوشة عالمياً بلغ 75 مليار دولار، بزيادة وصلت إلى 90 في المائة عما كان عليه في عام 2005، ووفقاً لمنظمات دولية مختصة، فإن حجم هذا الدواء المروع يتراوح ما بين 26 و48 مليار دولار من الحجم الإجمالي لسوق الدواء العالمي، البالغ 317 مليار دولار.
وإذا ما عرفنا أن الأرقام الأخيرة تعود إلى بداية القرن الحالي، علينا أن نتخيل الحجم الفعلي لتجارة الأدوية المغشوشة الآن. تقول ميراي بالسترازي مديرة شرطة الإنتربول المشاركة في مؤتمر فرنسي عقد في واشنطن حول هذه الجريمة: "هناك انفجار في تجارة الأدوية المغشوشة". وتوصل المشاركون في هذا المؤتمر (الذي كما يبدو لم يحظ باهتمام مستحق إعلامياً) إلى أن ما يقرب من نصف الأدوية المباعة عبر الإنترنت مغشوشة! وكيف تغيب إفريقيا المسكينة عن مثل هذه الجريمة؟! لقد أكد المختصون أن ما بين 30 و40 في المائة من الأدوية المباعة في القارة الإفريقية.. مغشوشة! وبحسب نائبة مديرة الإنتربول ألين بلانسون، توفي عشرات الأطفال في إفريقيا بسبب دواء مغشوش يحتوي على مادة نفطية توضع في البطاريات. ولمزيد من الفاجعة، تودي الأدوية المغشوشة بحياة 200 ألف مصاب بالملاريا سنويا في العالم!
حقائق مرعبة حقاً، مع ضرورة الإشارة إلى أنه من الصعب الوصول إلى أرقام فعلية لعدد ضحايا هذه الأدوية القاتلة، لأسباب تتعلق حتى بالسلطات الحكومية في عدد كبير من البلدان النامية، التي لا تعتبر الرقابة الطبية والصحية ذات قيمة. يقول الشاعر الإنجليزي اللورد بايرون "اضحك دائماً عندما تستطيع.. إنه دواء رخيص". لكن حتى هذا ليس متوافراً في البلدان والمجتمعات الفقيرة، الذي تتوافر لديها مجموعة هائلة من الأدوية الفاسدة. أدوية يعدك تجارها بأنها الوحيدة التي ستخفف آلامك. وهؤلاء (كما العادة) يكذبون، لأنها لا تخفف الآلام بل تزيلها تماماً بزوال متعاطيها إلى الأبد. لا غرابة أبداً، عندما تعلن السلطات (على سبيل المثال) في كردستان العراق، أنها ضبطت أكثر من 900 طن من الأدوية الفاسدة في شهر واحد فقط. السلطات في هذه المنطقة امتلكت الجرأة لتعلن ذلك. لكن كم من السلطات الأخرى تمتلك مثل هذه الجرأة؟! قليل، وقليل جداً، لأن بعضها فاسد كما الأدوية ذاتها.

أموال «تغسل» بمياه الأخيار

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«الذي يؤمن بأن المال يفعل كل شيء، قد يفعل أي شيء من أجل المال».
بنجامين فرانكلين كبير مؤسسي الولايات المتحدة

كتب: محمد كركوتــــي


كأن العالم ينقصه المزيد من الأدوات الفاسدة لصناعة المزيد من الأموال القذرة! إنها تسود الاقتصاد العالمي، وتشكل اقتصاداً موازياً، لم تنفع كل الحروب التي قامت (ولا تزال) للوصول به إلى الحد الأدنى المطلوب على الأقل. إنه اقتصاد يتوسع كلما ضاقت حوله الآفاق. تتحقق انتصارات عليه هنا وأخرى هناك، غير أنها تبقى محدودة. فأدواته متجددة مبتكرة، ووسائل أعدائه بقيت دون تغيير تقريباً، منذ أن ظهر على الساحة، وبات يمثل محركاً رئيساً. حتى عندما اعتمدت أساليب جديدة في الحرب عليه، تمكن القائمون على الاقتصاد القذر، من فك “شيفرات” الأسلحة، وطوعوا آلياته ضدها. هناك تعاون دولي بلا شك، لكن هناك أيضاً تعاونا دوليا من حكومات مارقة، مع منتجي الأموال القذرة. ولم تنفع في الكثير من الحالات العقوبات التي تفرض عليها.
غسل الأموال عبر المراهنات الرياضية ليس عملية جديدة، بل يعود إلى أوائل القرن الماضي. وازدهر بصورة أساسية قديما في الولايات المتحدة، لينتشر بصور مروعة في بقية أنحاء العالم، وفي مقدمتها بلدان القارة الأوروبية. الجديد أنه بات يستحوذ على نسبة متعاظمة من حجم الأموال القذرة عالميا، حتى إنه في بعض البلدان، بات يحقق عوائد كبيرة جدا إلى درجة فاقت عوائد المخدرات. مع ضرورة الإشارة إلى أن العقوبات التي قد تفرض على الذين يضبطون في قطاع المراهنات، لا ترقى إلى مستوى طبيعة الجريمة. خصوصاً أن غسل الأموال غير الشرعية، يتم عن طريق أدوات غير شرعية أيضاً، وهي تلك المرتبطة بطبيعة المراهنات التي تتم “تحت الطاولة”.
الدراسة الجديدة التي صدرت في فرنسا أخيرا، تظهر الحجم الهائل للجريمة المنظمة التي تستخدم في غسل الأموال من خلال المراهنات الرياضية. والدراسة أعدها باحثون في جامعة السوربون، على مدى عامين، خلصت إلى نتيجة مرعبة، وهي أن 80 في المائة من الرهانات الرياضية في العالم غير شرعية. وبعيدا عن التفاصيل، فقد ثبت أن كرة القدم ورياضة الكريكت هما أكثر الرياضات عرضة للتلاعب في نتائج الرهانات، تليهما رياضات التنس والسلة ثم تنس الريشة وسباق السيارات. بالطبع شنت مكاتب الرهانات الكبرى المعروفة، حملة شعواء على جامعة السوربون، منتقدين الطريقة التي اعتمد عليها الباحثون في الوصول إلى الاستنتاجات النهائية. لكن الحقيقة، تكمن في أنه في العام الماضي فقط، شهد العالم آلاف الحالات من الغش في هذا المجال، وهي الحالات التي تمت ضبطها، ما يعني أن هناك آلافا أخرى منها تتم على مدار الساعة حول العالم.
المهم في هذه المسألة، أن الجريمة فيها ترتكب مرتين. مرة بضخ الأموال القذرة أصلاً بغية تنظيفها، ومرة عن طريق الغش الرياضي نفسه. وماذا أيضا؟ تغلغل الجريمة المنظمة في قطاع يفترض أنه من القطاعات التي تساهم في تكريس الأخلاقيات العامة والخاصة. وتقدر الأموال التي يتم تبييضها سنويا عن طريق الغش الرياضي بأكثر من100 مليار يورو (هناك تقديرات دولية بوصول الرقم إلى 189 مليار دولار. اللجنة الأولمبية الدولية تتحدث عن 140 مليار دولار). وهو رقم هائل، يضاف إلى خزانة الجريمة المنظمة، والمنظمات المتعاونة معها، إلى جانب الحكومات المارقة المنتشرة في العالم. وإذا ما اعتمدنا على التقديرات الدولية، فإن أموال المراهنات القذرة تشكل12 في المائة من حجم الأموال التي تم تبييضها في الأسواق الناشئة في عام 2011، التي تصل إلى 947 مليار دولار! علينا أن نتخيل الحجم الكلي لهذه الأموال، بإضافة مناطق أخرى في العالم!
كل هذه الأموال “تُغسل بمياه” الأخيار والمحتاجين. هذه هي الحقيقة الثابتة. هناك أموال يتم تبييضها عن طريق مشاريع وهمية، أو مصارف قذرة في العمق ونظيفة في الخارج، أو بشراء عقارات أعلى من قيمتها الحقيقية، أو بإطلاق منتجعات ومؤسسات خاسرة أساسا، إلى آخر الوسائل المعروفة وغير المعروفة. ويتم تبييض الأموال عبر المراهنات عن طريق رشوة الحكام واللاعبين وحراس المرمى في مباريات كرة القدم، لمنعهم (كما يقول المهتمون) من إطلاق صافراتهم أو تسجيل الأهداف أو التصدي للكرات! والغريب بالفعل، أن بعض الجهات الأوروبية غير المتورطة في المراهنات المشينة، تقف ضد أي تغيير في القوانين الأوروبية، لجعل الرقابة أشد على عمليات المراهنة! ما يفسح المجال لمزيد من الأسئلة، حول دور الأموال القذرة في بعض اقتصادات الدول الراشدة نفسها.
لا شك في أن تبييض الأموال عبر المراهنات الرياضية سيتواصل، وسيحقق زخما جديدا في الأعوام المقبلة. فحتى الآن لم يتم اتخاذ قرارات حاسمة قاطعة في هذا المجال في جميع البلدان التي تجيز المراهنات في كل شيء، بما في ذلك اسم المولود الجديد للأمير وليم نجل ولي العهد البريطاني. ولا شك أيضا، أن أموال الجريمة المنظمة ستتعاظم. وليس مهما كثيرا (مثلا) خسارة منتخب إيطاليا أو البرازيل أو نادي ريال مدريد أو برشلونة. المهم أن تكون الخسارة رابحة.

الاثنين، 16 يونيو 2014

إلى وكالات التصنيف.. البحر لم يكن «طحينة»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"أن تستحق التقدير ولا تحصل عليه، أفضل من أن تحصل عليه دون استحقاق"
مارك توين، أديب أمريكي

كتب: محمد كركوتـــي

مهما كانت جودة الإصلاحات التي أحدثتها وكالات التصنيف الائتماني العالمية على "سلوكياتها" وأساليب عملها، ستظل تحتل مكاناً بارزاً في "التاريخ الاقتصادي"، على أنها كانت آلية من الآليات التي ضربت الاقتصاد العالمي، وأوقعته في أزمة فاقت كل الأزمات عنفاً وخراباً وبطشاً وهماً. أزمة، لا تزال آثارها ماثلة على الساحة بعد أكثر من خمس سنوات على انفجارها. لقد عملت هذه الوكالات "البحر طحينة". فكل المؤسسات والشركات أداؤها جيد! إلى درجة أنها انهارت في لمح البصر! والمثير للسخرية المُرة، أن مصرفاً كـ "ليمان براذرز" الأمريكي تمتع بتصنيف عال جداً من قبل هذه الوكالات، وكان أول وأسرع المؤسسات المالية التي انهارت في عام 2008. والأمر نفسه انطبق على كل المؤسسات، التي لم تجد في خزائنها في اليوم التالي للانفجار دولاراً واحداً، ولجأت إلى الحكومات لإنقاذها. لقد عادت إلى التأميم!!
حسنت وكالات التصنيف من "سلوكياتها"، ولكن "أدبياتها" ظلت كما هي، وآليات عملها بقيت كما كانت منذ تأسيسها. ورغم ذلك، ورغم "التحسين".. استمرت الشكوك والظنون حولها. بل إن الضرب فيها مستمر من قبل عديد من الجهات، بما فيها تلك التي تسعى لإيجاد صيغة مثلى لقطاع التصنيف الائتماني العالمي. فتحسين "السلوكيات" لم يوفر لها الغطاء المطلوب. وبقي السؤال القديم ــ الجديد مطروحا على الساحة. هل يمكن لوكالات التصنيف القيام بدور نزيه في مهماتها؟ ومنه يُشتق آخر: كيف يمكن أن تصل إلى المستوى المقبول في هذا المجال؟ وهل هناك آليات لم تستخدم في السابق، يمكن استخدامها الآن لتحقيق الهدف؟ هناك أسئلة كثيرة في هذا المجال، تطرح جميعها تحت عنوان عريض "الشك ما زال قائماً في وكالات التصنيف". وعلى هذا الأساس، يطرح موضوع العثور عن بديل نزيه بمعايير لا تشبه المعايير الحالية لهذه الوكالات.
يتمثل العامل الأهم الذي يُبقي الشكوك حول الوكالات المذكورة، أن هذه الأخيرة تقوم بتصنيف المؤسسات ولا سيما تلك المعنية بالسندات، ليس تبرعاً، ولكن بمقابل مالي كـ "أتعاب". أي أن المؤسسات تدفع كي تُصَنَف. وهنا يطرح السؤال التلقائي: هل هناك ضمانات لتصنيف حيادي نزيه، طالما أن الجهة المصنَفة تدفع للجهة المصنفِة أتعابها؟! بعض الذين يكرهون وكالات التصنيف تاريخياً، يشبهون هذه العلاقة، بتلك التي تجمع محام وموكله. فهذا الأخير يدفع في النهاية أتعاب المحامي، الذي سيواصل الدفاع عن موكله بكل قواه، حتى لو كانت كل الأدلة ضده. فلا يمكن الاطمئنان لطبيعة العلاقة بين المؤسسات ووكالات التصنيف. والوكالات لن تعمل أساساً إلا بالحصول على الأجور من المؤسسات. ولذلك، ترى جهات عدة، أنه لا بد من صيغة أخرى، توفر أعلى جودة للتصنيف الائتماني.
تطرح مؤسسة "بيرتلسمان" الألمانية حلاً يبدو واقعياً للغاية، يتمثل في تأسيس وكالة تصنيف ائتماني عالمية غير ربحية، يتم تمويلها كوقف مستدام. واقترحت ضخ رأسمال أولي قوامه 400 مليون دولار، يتم تحصيله من مجموعة واسعة من المانحين، بما فيها الحكومات وهيئات عالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمجتمع المدني بمؤسساته ومنظماته غير الحكومية وصناعة الخدمات المالية. وهذا الاقتراح (في الواقع) ليس صعباً في تحويله إلى مشروع حقيقي، سيحل كل المشكلات العالقة. فوكالة كهذه تتمتع بالاستقلالية التامة، كما أنها (وهذا النقطة المهمة)، لا تحصل على أجورها من المؤسسات التي يجب أن تخضع للتصنيف، الأمر الذي يمنحها الحرية الكاملة لطرح تصنيفات واقعية بعيدة عن أي التباسات أو شكوك. وستكون أكثر قبولاً (بنتائجها) من جانب المستثمرين والجهات المعنية بالاستثمار في المؤسسات والشركات المصنَفة.
وباستعراض المشهد العام، نجد هناك طلباً بالفعل على وكالات التصنيف. وهذه الأخيرة شهدت في الآونة الأخيرة ازدهاراً قوياً. وهذا يعني أن هناك بيئة حاضنة إيجابية لاقتراح إنشاء وكالة تصنيف مستقلة تماماً. وقد استعرضت وثيقة وضعتها مؤسسة "بيرتلسمان" الخطوط العريضة لهيكلية الحوكمة المعقدة الخاصة بوكالة التصنيف العالمية غير الربحية، بغرض بث الثقة في استقلالية الوكالة من خلال وضع حد بين وظيفة التحليل والممولين. وهذا هو المحور الأهم "فصل التحليل عن الجهات الممولة له". وبالطبع، أطلقت وكالات التصنيف المعروفة مثل "ستاندرد آند بورز" و"فيتش" و"موديز" وغيرها حملة شعواء ضد اقتراح إنشاء وكالة مستقلة، إلى درجة أن وصفها موريتز كريمر، الرئيس التنفيذي للتصنيفات السيادية في ستاندراد آند بورز بأنها "أشبه بوحدة استخبارات اقتصادية".
ستحارب وكالات التصنيف التقليدية أي تحول في قطاعها، بصرف النظر عن أهميته. فهي بذلك تدافع عن "رزقها"، ولذلك فإنها تقوم بحملتها هذه، من منطلق أن أي تصنيف سيصدر عن الوكالة المقترحة لن يكون مفيداً بالنسبة للمستثمرين. وهذا بالطبع ليس صحيحاً. لو وجدت وكالات التصنيف مصدر رزق آخر، ستكون الشكوك حول عملها أقل حدة. غير أن تركيبتها منذ نشأتها، تقوم على المبدأ الثابت "ادفع كي أصنفك".

نمو تخريبي للجريمة المنظمة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"المجرمون لا يموتون على أيدي القانون، بل على أيدي غيرهم من المجرمين"
جورج برنارد شو - أديب إيرلندي



كتب: محمد كركوتـــي

الأموال القذرة المشينة متعددة المصادر. وإذا كانت تتوالد كما السرطان الخبيث، فإنها تولِد مصادر جديدة، ليس فقط من ناحية زخم الأموال، بل أيضاً من جهة تأمين أكبر وسائل الهروب الممكنة من السلطات المخولة بملاحقتها. هناك "قمم" تُعقد لهذا الغرض على مستوى المنظمات الإجرامية المختلفة، إلى جانب تبادل المعلومات الكفيلة بتأمين الأعمال المشينة التي تقوم بها، طالما أن ذلك لا يدخل ضمن "تضارب المصالح". ولهذا السبب أُطلق عليها "المنظمات الإجرامية المنظمة". وهي مطمئنة تماماً. فكل الجهود التي تبذلها الحكومات في الدول الراشدة، لم تحقق غاياتها في الحد حراك الجريمة المنظمة. تنجح مرة وتفشل عشرات المرات. وهذا ما أدى إلى تطوير هذا الحراك التخريبي، والوصول به إلى أفضل مستوى ممكن، بمعيار الإجرام. دون أن ننسى، ما توفره بعض الحكومات المارقة لهذه المنظمات من تسهيلات وحتى الحماية، وفي بعضها تتمتع بحصانة تفوق الحصانة الدبلوماسية قوة ومكانة.
التقارير المختلفة تتحدث عن أن حجم تجارة الجرائم المنظمة يبلغ سنوياً أكثر من 133 مليار دولار. وكان منها تقرير لمجلة "الإيكونومست" البريطانية الرصينة، الذي تحدثت فيه عن بعض المصادر المتجددة لهذه التجارة، من بينها الاتجار بقرون حيوان الكركدن والكافيار، وهي تجارة أكثر أمناً وربحاً. كيف؟ يصل سعر قرن الكركدن إلى 50 ألف دولار لكل كيلوجرام، أي أعلى من قيمة الذهب أو الكوكايين. وفي حال تم إلقاء القبض على من يحاول تهريب كيلو جرام من الكوكايين في الولايات المتحدة، قد يواجه حكماً بالسجن يصل إلى 40 سنة، وغرامة بقيمة خمسة ملايين دولار. على العكس من ذلك، قضت محكمة نيويورك على أحد مهربي قرن كركدن بالسجن 14 شهراً فقط. ويرى المختصون، أن الجريمة المنظمة باتت عالمية ومتنوعة منذ سنوات طويلة. وبحسب هؤلاء، فبعد أن كانت المافيات تتكون من عرق واحد، أصبحت الآن عبارة عن شبكة مكونة من أعراق عدة، تعمل ما بين الحدود.
غير أن هذا النوع من الجريمة والمنظمات التي تخصصت بها، لا يشكل المصيبة الكبرى. وحتى المصادر الجديدة للجريمة، ليست بوحشية ودناءة المصادر التقليدية لها. فهذه الأخيرة تمتد من الاتجار بالبشر والسلاح إلى سرقة المال العام، إلى الفساد والرشا، منتقلة لنهب المساعدات، فضلاً عن السمسرة غير المشروعة، والمخدرات، والمقامرة، والعوائد القذرة الناجمة عن غسيل عوائد أشد قذارة. أمام هذا النوع من الجرائم، لا تبدو عمليات تهريب السجائر وقرون الكركدن وأنياب الأفيال وجلود الفهود والكافيار، والأموال الناتجة عنها أشد فتكاً. إنها جرائم بلا شك، ولكن تأثيراتها المباشرة على الشعوب (ولا سيما المحتاجة منها)، تكون أقل من تأثيرات الأشكال الأولى للجريمة المنظمة. فعلى سبيل المثال، تؤكد منظمة النزاهة المالية العالمية، على أن الدول النامية خسرت نحو تريليون دولار بسبب الاحتيال والفساد والصفقات التجارية المشبوهة في 2011 وهو ما يتجاوز حجم المساعدات الأجنبية التي تلقتها.
المشكلة الكبرى، أن العصابات المنظمة دخلت في حراك الإنتاج الشرعي، بل وحتى في قطاعات الزراعة والإنتاج الحيواني والدواء، أي أنها صارت جزءاً من نسيج الاقتصادات المحلية. وهي مستعدة للدخول في أي قطاع يوفر لها العوائد التي تسعى إليها. صحيح أنها لا تستطيع الدخول في غمار القطاعات الشرعية في البلدان الراشدة، إلا أن الأمر ليس كذلك في البلدان الأخرى وغالبيتها العظمى تنتمي إلى العالم النامي. وحتى في الدول التي تمتلك أنظمة قضائية وشرطية قوية، فإنها تقف عاجزة أمام المجرمين الأذكياء الذين يعملون عبر الحدود. فهؤلاء غالباً ما تصعب محاكمتهم. والسبب أنهم يستفيدون في الفجوات الموجودة في التشريعات نفسها، إضافة إلى الثغرات الكامنة في آليات التنفيذ. إن هؤلاء المجرمين، يخفون أعمالهم المشينة في سلسلة من الأساليب المعقّدة.
هذا في الواقع، ما وفر للجريمة المنظمة ديمومة بل ومساحات لتطوير أعمالها التخريبية. فإذا كانت الدول القادرة لا تستطيع أن تجلب قادة هذه المنظمات إلى العدالة، علينا أن نتخيل الوضيعة في بلدان محكومة بسلطات مشتركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع هذه المنظمات. ولو كان القاضي معرضا للقتل إذا ما تولى قضية من قضايا المنظمات المذكورة في المجتمعات الراشدة، فإنه معرض لمكافأة مالية كبيرة في البلدان المارقة. هذا إذا وصلت قضايا العصابات إلى المحاكم أصلاً! إن الجريمة المنظمة ليست جديدة، ولكنها تتجدد، عن طريق "اختراع" مصادر أخرى وتنمية ما هو متوافر لديها، إضافة إلى ابتكار وسائل معقدة للنجاة الدائمة. ويظهر بوضوح أن المجرمين القائمين عليها، ما زالوا يسبقون السلطات التي تتعقبهم منذ عقود بخطوات طويلة! ولا تبدو في الأفق أي مؤشرات على ضرب هذه المنظمات بما يكفي للحد من أعمالها التخريبية. وفي الوقت الذي ينمو فيه الاقتصاد العالمي بصورة متواضعة، وأحياناً مضطربة، تحقق الجريمة المنظمة نمواً هائلاً.. وهي تنمو حتى في عز الكساد.

المتعة الاقتصادية الإيرانية المنقوصة


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





 
 
"هناك قدر كبير من الاضطراب، ينبغي الاعتراف بوجوده"
وليام بالي - فيلسوف إنجليزي

كتب: محمد كركوتـــي

وفر الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ما كان يريده رئيس إيران حسن روحاني. منح طهران فرصة تتمناها، وتعمل على إيجادها بكل السبل. حصل روحاني على الفرصة الألف (ربما)، مستغلاً اضطراب السياسة الخارجية الأمريكية، أو ضعفها، أو مفهومها الملتبس لحل القضايا المحورية. أوباما دفع بنفوذ بلاده إلى أدنى مستوى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وروحاني يدفع باتجاه المزيد من المكاسب. وهذا الأخير يعرف أن أي خطوة مهما كانت متواضعة ستحقق شيئاً في الداخل الإيراني، ليس فقط من فرط مزايا الاتفاق النووي المؤقت بين طهران والقوى الدولية، بل لأنه أتى إلى السلطة بعد أن أضاف سلفه أحمدي نجاد مزيداً من الخراب للاقتصاد والمجتمع الإيراني. فأي إنجاز هو في الواقع قفزة هائلة في البلاد. وأي قرار هو بالتأكيد أفضل من كل القرارات التي اتخذت سابقاً.
غير أن المتعة التي حصلت عليها إيران من القوى الدولية (وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة) ليست كاملة. هي أساسية بل محورية في المشهد الداخلي الحالي، إلا أنها تبقى ناقصة على الرغم من مزاياها. صحيح أن واشنطن أفرجت عن دفعات من الأموال الإيرانية المجمدة، وكذلك فعلت بعض الجهات الأخرى، لكن الصحيح أيضاً أن الوضع الاقتصادي المتردي في إيران، يحتاج إلى المزيد من "الهدايا" خصوصاً الغربية. بل إنه بحاجة إلى حالة اقتصادية طبيعية مستدامة (وليس مؤقتة)، للتخلص من الآثار التي تركتها العقوبات الدولية على البلاد، إضافة طبعاً إلى التخريب الاقتصادي الذي أحدثته فترة أحمدي نجاد. وجود هذا الأخيرة في السلطة لفترتين انتخابيتين، كان بحد ذاته عقوبة أخرى تطرح آثارها على الساحة مع العقوبات الخارجية.
وجدت حكومة حسن روحاني في الفترة الماضية، أن الوضع الاقتصادي لا يسير كما تشتهي. ولم تنفع كثيراً الأموال التي صبت في خزانتها، كما لم ينفع الارتفاع المؤقت في إنتاج النفط. فالعملة عادت لتهبط من جديد، إلى درجة دفعت القادرين الإيرانيين مالياً على العودة لتخزين العملة الصعبة والتخلص من عملتهم الوطنية. فقد هبط الريال الإيراني مقابل الدولار الأمريكي في السوق الحر الأسبوع الماضي إلى 33 ألف ريال بانخفاض 9 في المائة من نحو 30 ألفا أوائل أبريل الماضي. الفارق بين هذا الهبوط، والتراجع الهائل الذي حصل للعملة في عام 2012 يضيق. في ذلك العام خسر الريال الإيراني أكثر من ثلث قيمته أمام الدولار. وما يحدث على الساحة الاقتصادية الإيرانية الآن، يدفع حكومة روحاني إلى إعادة النظر ليس في سياسته الاقتصادية، بل في تقييمه لوزن الإيرادات الجديدة - القديمة.
في غضون تسعة أشهر تقريباً انخفض معدل التضخم الرسمي (التضخم الحقيقي أعلى دائماً) إلى32.5 في المائة، من قرابة 40 في المائة. ورغم أن هذا الانخفاض كان جيداً بالمعيار الاقتصادي الإيراني، إلا أنه بات مهدداً من التراجع الجديد المخيف للعملة، الذي يهدد أيضاً مستويات النمو المتوقعة. وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن الاقتصاد الإيراني شهد نمواً في العام الماضي بلغ 1.7 في المائة، وسيشهد نمواً في العام الجاري بنسبة 1.5 في المائة. ويؤكد صندوق النقد، أن الاقتصاد انكمش في عام 2012بحدود 5.6 في المائة. إنها نقلة مهمة بالفعل فيما لو صحت هذه التقديرات، لكنها لا يبدو أنها ستسير إلى الأمام لأمد طويل. فحتى لو افترضنا أن العملة ستعود إلى التماسك بعض الشيء، فإن التراجع في تقديرات النمو بين العامين الماضي والجاري، هو بمنزلة جرس إنذار خطير.
رئيس إيران لا يتحرك دون منغصات داخلية، مما يضيف عليه الضغوط التي لا يتمناها أحد في وضعيته. الجناح المحافظ (الحاكم الفعلي في البلاد)، يرفع من حدة هذه الضغوط لأسباب عديدة، في مقدمتها عدم قناعته أصلاً بالسياسة العامة التي يتبعها روحاني، الذي لا يزال يتمتع ليس بدعم علي خامنئي، بل بعدم تعطيل هذا الأخير لسياسة الرئيس. وهو أسلوب غير إيجابي، لكنه في الوقت نفسه أقل سلبية. وتنقل وسائل الإعلام الموالية لروحاني، أن رجال الأعمال الإيرانيين الأثرياء المعارضين لإصلاحاته، دفعوا عمداً الريال للهبوط لتحذيره من التمادي في اتجاهه. غير أن الأهم من هذه الاتهامات أن العدد الأكبر من الإيرانيين، قاموا في الأسابيع الماضية بعمليات شراء هائلة للعملة الأجنبية، ليس احتجاجاً على سياسة روحاني، بل خوفاً على مدخراتهم من أن "يأكلها" التضخم.
إن الوضع الاقتصادي الإيراني الذي دخل –كما يقول المتابعون- مرحلة التشاؤم، يتجه نحو مزيد من التأزم. فالمرحلة التي مر بها في أعقاب الاتفاق النووي المؤقت، لا يمكن أن تكتسب صفة الاستدامة، كما أن هناك الكثير من الأمور لا تزال عالقة بين طهران وعواصم صنع القرار العالمي. هناك حقائق مريرة على الأرض، لا يمكن لـ "هدايا" أوباما أن تغير من طبيعتها. إنها استحقاقات لا بد من مواجهتها، تضاف إلى الاستحقاقات الداخلية السياسية والاقتصادية.