الخميس، 6 فبراير 2014

أموال نظيفة لأنظمة فاسدة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







كتب: محمد كركوتـــي

يواجه رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون أزمة، لا علاقة لها بإمكانية استقلال إسكوتلندا عن التاج البريطاني، ولا بمستقبل بلاده في الاتحاد الأوروبي، ولا بمواقف حكومته من الإصلاح المصرفي الأوروبي.. إنها أزمة على شكل ورطة، كاميرون وحكومته الائتلافية في غنى عنها. وهذه الورطة ببساطة تتعلق بالأموال التي تقدمها بريطانيا كمساعدات ومعونات للدول الأخرى. لقد تأكد أن حكومة كاميرون تقدم الأموال لأبشع الأنظمة فساداً وديكتاتورية في العالم، في حين أنها لم تقم بأي خطوات عملية، لمنع وصول هذه الأموال، إلى هذه الأنظمة، أو على الأقل إيصالها بشروط واضحة، تحت طائلة المنع. والمشكلة أو الورطة، آتية هذه المرة، ليس من المعارضة، بل من منظمة الشفافية الدولية، التي أعلنت أن حكومة كاميرون تنفق الملايين من الجنيهات الاسترلينية، على المساعدات التي تدعم أكثر الأنظمة فساداً في العالم. لقد حددت المنظمة بالاسم (على الأقل) عشر دول، تتلقى هذه الأموال الآتية في الواقع من دافعي الضرائب.
وبصرف النظر عن حجم الأموال التي تتلقاها هذه الأنظمة الفاسدة، فإن بقية البلدان المانحة لا تتبع الأسلوب البريطاني نفسه، أو على الأقل لم تكتشف أي جهة محلية أو عالمية، أن حكومات مانحة أخرى تقدم الأموال للأنظمة الفاسدة، بما في ذلك الحكومة الفرنسية، التي تضع أطرا ومعايير، تحمي الأموال الفرنسية العامة من الوصول إلى الفاسدين والمجرمين والقاتلين والناهبين، علماً بأنه كان في السابق جزء كبير من أموال المساعدات الفرنسية يذهب لإفريقيا، إلى أنظمة وحكومات فاسدة. لكن الوضع تغير منذ سنوات، حيث بدأت (فرنسا وغيرها من البلدان المانحة)، وضع لوائح تحدد الأطر العامة للمساعدات، لكن بريطانيا بقيت خارج هذا النطاق، دون أي مبرر مقنع. وهذا لا يعني أن بريطانيا هي وحدها في هذا المجال، لكنها الوحيدة التي انفضح أمرها، في حين تستطيع حكومة كاميرون، أن تتخلص ببساطة من هذه السلوكيات، وترضي دافع الضرائب لديها، والشعوب التي خُصصت لها أموال المساعدات.
وإذا كانت دولة كبرى كبريطانيا، لا تستطيع إيصال المساعدات والمعونات إلى مستحقيها الحقيقيين، فمن يستطيع؟ فهل يعقل أن نظاماً بشعاً كالنظام الحاكم في كوريا الشمالية، يتلقى أموال المساعدات مباشرة من بريطانيا، أو تتلقى الأموال "حكومات" في أوزبكستان والسودان وسورية والصومال وغيرها؟! نظام سفاح سورية على سبيل المثال، يتلقى سنوياً من المملكة المتحدة أكثر من 38.5 مليون جنيه استرليني! ولا تزال هذه المساعدات (حتى اللحظة) تصل إلى نظام ينفذ سياسة التطهير الاجتماعي، ويهزأ من أي موقف يدعو إلى وقف المجازر والفظائع التي يرتكبها. مرة أخرى لا نعرف مدى تورط دول مانحة أخرى في هذا المجال. وربما حسبت هذه الدول ـــ وعلى رأسها بريطانيا ـــ أن تتبع الأموال نفسها، يستوجب تكاليف مالية، لا تريد أن تتحملها. دون أن تحسب، أن التكاليف الناجمة عن وصول أموال نظيفة إلى أنظمة فاسدة وملوثة وقذرة، أعلى بكثير من تلك التي تنفق على تأمين هذه الأموال على مستحقيها.
وإذا كانت هناك صعوبة في تتبع هذا المال، أليس من الطبيعي أن تتفق الدول المانحة كلها (دون استثناء)، على استراتيجية موحدة في هذا المجال، توفر الجهد والمال والوقت، في تتبع الأموال؟ هناك الكثير من الطرق لإرسال هذه الأموال ووصولها إلى الجهات التي تستحقها، والأمر لا يحتاج إلى دول كبرى لاستكشافها، لكن يبدو أن الحكومة البريطانية تستسهل عملية منح المساعدات، أو أنه لا علم لها بتفاصيلها. وفي كل الأحوال، على حكومة بريطانيا الإجابة عن مجموعة من الأسئلة في مرحلة لاحقة، خصوصاً بعد أن جاءت المعلومات من منظمة الشفافية الدولية، التي تحظى باحترام على الساحة الأوروبية، نظراً لمصداقيتها. بالتأكيد، لا يحب كاميرون ولا حكومته هذه الأنظمة المروعة، لكن المؤكد أيضاً، أنه لم يلق بالاً لإخضاع نظام المساعدات لمزيد من الإصلاح والشفافية.
يبرر النائب المحافظ بيتر بون، الفشل الحكومي البريطاني على صعيد إيصال المساعدات إلى مستحقيها، بالقول "أنا متأكد من أن الوزراء يأخذون ما بوسعهم من احتياطات، لكن الوضع في كثير من تلك الدول سيئ للغاية، لدرجة أنه لا توجد أي وسيلة يمكن من خلالها معرفة المصير الذي تؤول إليه الأموال في نهاية المطاف"! لكن المضحك، أن وزيرة التنمية الدولية في حكومة كاميرون تقول إنها لا تتسامح مطلقاً تجاه الفساد، وإن هناك عدة عمليات فحص صارمة تهدف الى حماية أموال دافعي الضرائب! ماذا تقول هذه الوزيرة؟ "عدة عمليات فحص"!! كيف ذلك، ويتمتع سفاح مثل الأسد ومجرم مثل رئيس كوريا الشمالية، وقطاع طرق في الصومال، بأموال دافعي الضرائب البريطانيين؟!
لا أحد يطالب دولة كبريطانيا، بحل هذه المشكلة بين يوم وليلة. إنها عملية معقدة، لكنها لن تكون كذلك، إذا ما تم التعاون المباشر بين الدول المانحة نفسها، ليس فقط لحماية الأموال التي يحتاج إليها الناس في البلدان الفقيرة، بل لحماية الأموال التي أُخذت مباشرة من دافعي الضرائب. فالذي يدفع الضرائب، لا يريد بأي حال من الأحوال، أن تصل أمواله إلى أيدي أنظمة لا تعيش إلا بالأموال القذرة.

«مغاسل» حزب الله الأسترالية للأموال .. وغيرها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"المال قد ينهي المشاكل المالية، لكنه لا ينهي المشاكل الأخلاقية".
سونيا باركر - مؤلفة أمريكية

كتب: محمد كركوتــــي

قبل عام ونصف العام تقريباً، نشرت هنا مقالاً بعنوان "مصبغة حزب الله لغسل الأموال". وقتها انطلقت موجة غربية ضد المصارف الغربية الكبرى، التي ثبت تورطها المباشر في تبييض الأموال لحساب هذا الحزب الإيراني في لبنان. من بينها "إتش إس بي سي" و"باركليز"، وحتى "بنك أوف أمريكا". إلى جانب طبعاً عشرات المصارف والمؤسسات المالية الأصغر، إضافة إلى وكالات الصرافة المتناهية الصغر. بعض هذه المصارف، قطعت الطريق فوراً، واعترفت بتورطها، ودفعت الغرامات اللازمة، و"تعهدت" بالانضباط. وبعضها الآخر فضل الإنكار إلى أن ثبتت التهم. لا غرابة في ذلك، لقد تأكد بصورة موثقة أن المصارف الكبرى جداً ذات الأسماء الرنانة جداً، سندت نفسها بالأموال القذرة في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. فليس مهماً (بالنسبة لها) تبييض أموال لحزب إرهابي قاتل كحزب الله، طالما أن الأمور لم تنكشف، و"الغسيل" يتم بدون روائح المبيضات.
انكشاف أمر المصارف والمؤسسات المختلفة المتورطة في تبييض أموال العصابات والمجرمين والناهبين وحزب الله، دفع هذا الأخير للبحث عن "مغاسل" أخرى، أو تفعيل ما كان هامداً منها. فهو لا يستطيع الاستمرار في الأموال النظيفة، تماماً مثل إيران التي عاشت أكثر من عقد من الزمن على الأموال القذرة. فمال المتمول من جنس مال الممول. وملاحقة أموال حزب الله، ليس فقط لأنه مليشيا إرهابية مجرمة؛ بل لأنه يقود واحدا من أكبر شبكات المخدرات في المنطقة والعالم، بالتعاون مع العصابات المختصة عالمياً، إلى جانب الاندماج الكلي مع نظام سفاح سورية بشار الأسد. قبل الثورة الشعبية العارمة ضد هذا الأخير، كانت سورية بمنزلة "المصبغة" الأهم لأموال حزب الله التي تُبَيَّض فيها وتمر عبرها. في حين كانت مصارف ومؤسسات مالية لبنانية "محترمة"، ممراً لتهريب الأموال المنهوبة من سورية لحساب الأسد وعصاباته.
قبل أيام، أعلنت السلطات الأمنية الأسترالية، تفكيك شبكة واسعة لتبييض الأموال، لها امتدادات في نحو 20 بلداً. الأهم، أنه تم الكشف عن أن جزءاً من أموال هذه الشبكة يعود لحزب الله، وأنها عبارة عن 18 عصابة مجتمعة، وتم التوصل إلى تورط أكثر من 128 شخصاً في الساعات الأولى لعملية التفكيك هذه. ولعل من المعلومات اللافتة أيضاً، أن نسبة لا بأس بها من الأموال التي قامت الشبكة بتبييضها، هي في الواقع من العوائد المباشرة للاتجار بالمخدرات على اختلاف أنواعها. لا غرابة إذن مرة أخرى. حزب الله يدير حقيقة شبكة مخدرات واسعة، تقول الأجهزة الأمنية الغربية، إن "صادراتها" تصل إلى قلب الاتحاد الأوروبي بل الولايات المتحدة. دون أن ننسى أن هذا الحزب الإجرامي يشترك في حكومة لبنان "الشرعية"، أو لنقل الحكومة التي يتعامل معها العالم أجمع. ومن اللافت أيضاً أن نسبة من الأموال التي ضبطتها السلطات الأسترالية، تأتي عن طريق تحويلات تصل لأفراد أجانب يعيشون في البلاد، على أنها معونات من أسرهم! هذه الشريحة من الأموال تحول مجدداً لحسابات خاصة بحزب الله.
تقول سيبيل إدموندز الموظفة السابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي "سنصل إلى نقطة تكون فيها عمليات غسل الأموال، وتهريب المخدرات، وتمويل الإرهاب، عبارة عن وحدة متكاملة". والأمر بالفعل هو كذلك. صحيح أن الحرب ضد تبييض الأموال ليست سهلة، وتأخذ وقتاً طويلاً لتحقيق الانتصارات المرجوة منها، لكن الصحيح أيضاً أن الجهات المعنية تراخت كثيرا سابقاً في هذا المجال. وقد عاشت تخبطاً كبيراً يعود أساساً إلى التأخر في اعتبار عصابة كحزب الله، تنظيماً إرهابياً. ففي الصيف الماضي فقط، أعلن الاتحاد الأوروبي، أن الجناح العسكري لحزب الله تنظيماً إرهابياً بالمعايير الأوروبية! وسرعان ما قالت مفوضة السياسة الخارجية الأوروبية كاثرين أشتون، إن القرار لا يعني الكثير!! الموقف الأوروبي قوض من حراك الولايات المتحدة التي وضعت حزب الله في قائمة المنظمات الإرهابية ضد هذا الحزب على الصعيد المالي. لقد جاء التحرك ضد هذا الحزب الإرهابي متأخراً حتى من جانب دول مجلس التعاون الخليجي، وإن قامت في الآونة الأخير، بتجفيف منابعه المالية على الأرض الخليجية العربية.
سيجد حزب الله (ومعه إيران ونظام سفاح سورية) الكثير من "المصابغ" الجديدة لتبييض الأموال القذرة. لقد وصل حتى إلى تحويلات الطلبة في أستراليا! ولا يمكن تحقيق نتائج مقبولة في تجفيف مصادره، إلا بتعاون دولي كامل. ولا شك في أن موقف الاتحاد الأوروبي بهذا الصدد، يشكل فجوة واسعة في هيكلية تضييق الخناق على هذا الحزب. فالأوروبيون يعتقدون أن اعتبار حزب الله تنظيماً إرهابياً، سيؤثر سلباً في علاقاتهم السياسية والدبلوماسية مع لبنان، غير أنهم في الواقع يمنحون الشرعية له من خلال هذا المفهوم الضيق، أو الصيغة المشوشة. الأمر برمته لا يتعلق بجرائمه التي يرتكبها حالياً في سورية، ولا بعصاباته المنتشرة في الأرجاء، بما فيها خلاياه النائمة في قلب لندن وباريس وبرلين وروما وغيرها، بل بمشروعه التخريبي الجاهز. إنه تنظيم لا يستمر إلا باستراتيجية الخراب.

«المغسلة» التركية للأموال الإيرانية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



(أعتقد، علينا أن نجمع إيران والعراق في بلد واحد، نطلق عليه اسم "إيراق")
دينس ليري كاتب وممثل كوميدي أمريكي

كتب: محمد كركوتـــي

.. ومع مسلسل فضائح غسيل الأموال الإيرانية في تركيا، وارتفاع حدتها وتعدد سراديبها، وتشعب مداخلها ومخارجها، وتزايد المتورطين فيها على الجانبين، ربما أقترح على دينس ليري ضم تركيا إلى "إيراق" ونطلق على هذه الأخيرة "إيراقيا"، أو "إيراقتيا". فما قدمته تركيا بزعامة رجب أردوغان لإيران في هذا المجال الحيوي والاستراتيجي والمحوري بالنسبة لنظام الملالي، يحتوي كل الخلافات المعلنة بين الجانبين حول العديد من القضايا المطروحة، وفي مقدمتها (الآن) سورية. هذا البلد الذي يعيش تحت رحمة وأهواء وأجندات نظام علي خامنئي. كانت حكومة أردوغان لا توفر فرصة، إلا وهاجمت فيها إيران على موقفها التخريبي في سورية، دون أن تتأثر عمليات غسيل الأموال الإيرانية، عبر المؤسسات المالية والتجارية والنفطية التركية. في وقت، كان العالم يخشى مجرد الاقتراب الاقتصادي من طهران، خوفاً من الغضب الغربي. بما في ذلك دول كبرى، مثل اليابان والصين وغيرهما.
وإذا كانت ملفات الفساد الخاصة بحكومة أردوغان، تتجدد بفضائحها المختلفة، سواء تلك المتعلقة بالرشا التي طالت أقرب المقربين لرئيس الحكومة، أو تلك المرتبطة بمؤسسات قريبة من حزبه، فإن ملفات الفساد الخاصة بإيران لا تقل عنها تجدداً، خصوصاً والساحة التركية تنتظر نتائج التحريات والتحقيقات، وربما المحاكمات في وقت لاحق. صحيح أنه في السياسة تقل النزاهة، وفي كثير من الأحيان تختفي تماماً، لكن ادعاء النزاهة في السياسة أمر له تكاليفه، والأكاذيب في هذا النطاق، تتحول مباشرة إلى أدلة تدين، ولا سيما في دولة كتركيا، باتت سمعتها منذ عقدين من الزمن، تمثل جزءاً أصيلاً من"ثروتها" التي ستكفل لها المضي غرباً، ليس فقط من ناحية حرصها على عضوية مستقبلية في الاتحاد الأوروبي، بل أيضاً من جانب بناء علاقات تسهل الفوز بهذه العضوية. دون أن ننسى، أنها لم تغب عن "المجهر" الأوروبي.
أكثر من 100 مليار دولار حصيلة الأموال الإيرانية التي تم تبييضها في تركيا. وهذه الأموال الهائلة ما كانت لـ "تُغسل"، من دون أموال كبيرة مقابلة تمت بها رشوة المسؤولين الأتراك. يحاول المقربون من أردوغان الترويج بأنه لا يعلم! وهم بذلك لم يختلفوا عن أولئك النازيين المخلصين لزعيمهم هتلر، عندما روجوا بأنه لم يكن يعلم بالفظائع التي ارتكبتها قواته! والرد على هذا النوع من المدافعين بسيط جداً. إذا لم يكن يعلم، فهو لا يستحق قيادة البلاد، وليس مؤهلاً لأي شكل من أشكال الزعامة، محلياً وخارجياً. وعمليات تبييض الأموال الإيرانية، لم تتم لمرة واحدة أو في فترة قصيرة، لقد انطلقت منذ ثماني سنوات تقريباً، ولا تزال ماضية بصيغ مختلفة، حتى بعد انفجار الفضائح حولها. هل يوجد عاقل يمكن أن يصدق أن رئيس الحكومة لا يدري؟! المعارضون للنظام الإيراني، يعتبرون أن جزءاً كبيراً من هذه الأموال نهب في الواقع من الشعب الإيراني نفسه.
لا شك في أن المليارات الإيرانية هذه شكلت رافداً للاقتصاد التركي، مثل بعض الاقتصادات الأخرى التي لا تمضي إلى الأمام إلا بالأموال المشينة. وهذا في حد ذاته يشكل ميزة مهمة للحكومة التركية، التي وضعت جانباً حقيقة أن تبييض الأموال وإن دام طويلاً، فإنه سيظهر على السطح، وستتكشف الفضائح. ربما استندت الحكومة التركية إلى"براعة" الحرس الثوري الإيراني، المسؤول المباشر عن عمليات تبييض الأموال والاحتيال على العقوبات الغربية المفروضة على إيران. لكنها نسيت أن الجهات الأكثر براعة في هذا العالم، تقع لأتفه الأسباب، وغالباً ما تفتضح على أيدي موظف بسيط. الإيرانيون الذين ألقي القبض عليهم من قبل السلطات التركية، لهم وكلاؤهم الأتراك. وهؤلاء الوكلاء، ليسوا من عامة الشعب، بل من النخبة الحاكمة، كل في موقعه، وكل في قربه من قيادة الحكومة والحزب الحاكم. لقد اعترف عدد من المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، بعمليات تبييض الأموال، ليس من أجل فضح بلادهم، بل لكشف فضائح المرحلة التي حكم فيها أحمدي نجاد البلاد.
لن تتوقف "كرة الثلج" عن التضخم. إنها تكبر مع استمرار إيران في عمليات الاحتيال الاقتصادي، حتى بعد أن أبرمت الاتفاق المبدئي مع الغرب حول برنامجها النووي. وهي لا تزال ـــ حسب الإدارة الأمريكية ــــ ماضية في إنشاء الشركات الوهمية. وأرصدتها المجمدة تبلغ 100 مليار دولار حول العالم. والأرجح أنها ماضية في تبييض الأموال على الساحة التركية، وإن بأدوات مختلفة عن تلك التي تم فضحها. فعلاقات اقتصادية مشينة قامت على مدى ثماني سنوات، من الصعب أن تنتهي بقرار أو بملاحقات سريعة، والسبب أن تشعبها لا يوفر لها مساحات للتخارج، أو نقل العمليات إلى ساحة أخرى. وسوط الفساد الإيراني ـــ التركي سيظل مسلطاً على أردوغان، ولن ينفع معه تغييرات حكومية مهما كانت كبيرة. إن الفساد موجود في كل مكان في هذا العالم، لكن تمت تغطيته في الحالة التركية، بالمواقف التي تبيع الوهم في السوق السياسية. وهذه البضاعة تحمل معها روائحها الكريهة، حتى قبل أن تفض أغلفتها.

ميزانية اللصوص

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"عليك أن تحارب المجرمين والفاسدين في آن معاً. دون ذلك لا أمل يرجى في الخلاص".
أندريه لوبيز أوبرادو سياسي مكسيكي

كتب: محمد كركوتــــي

للصوص والناهبين، أيضاً ميزانياتهم، ولا سيما أولئك الذين "هيكلوا" أنفسهم وفق قواعد العصابات المنظمة، ووضعوا أنظمتهم المروعة. وهؤلاء يتطورون أيضاً، من عصابات منظمة مارقة، إلى أنظمة أكثر بشاعة. وفي إطار هذا النوع من الأنظمة، تحافظ العلاقة على تطورها مع العصابات الأخرى، إلى درجة أن تتحول العصابات المحلية والخارجية إلى مؤسسات للنظام نفسه، وروافد محورية له. فهي تمثل في النهاية حجر الزاوية للاقتصاد "الوطني" في ظل النظام المارق. وعلى هذا الأساس، من الطبيعي أن تكون لسفاح سورية بشار الأسد ميزانيته "العامة" الثالثة، بعد الثورة الشعبية العارمة التي لم تتوقف للتخلص من أبشع نظام مر في المنطقة. فإعلان الميزانية (بحد ذاته) إشارة إلى أن هذا النظام الإجرامي ما زال موجوداً، حتى وإن غابت مؤسسات الدولة نفسها! بل حتى إن تقلصت الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها.
أرقام ميزانية الأسد للعام الجاري كبيرة جداً، لكنها في الواقع ضئيلة القيمة. صحيح أنه سجل فيها 9,8 مليار دولار (1,39 تريليون ليرة)، غير أنها لا تشكل سوى ثلث الميزانية التي أُعلنت في عام 2010. وأقول: أُعلنت، لا صُرفت أو نُفذت، لأن الأموال الحقيقية للموازنات العامة في سورية، منذ بدء عهد الأب إلى الابن، هي خليط بين بندين. الأول: أموال منهوبة، والثاني: أموال مصروفة. والبند الأول هو الذي يستحوذ على الحجم الأكبر من الأموال. أما لماذا لا تشكل الأموال المعلنة في الميزانية الجديدة إلا ثلث تلك الخاصة بميزانية عام 2010، فلأن الليرة السورية فقدت ثلثي قيمتها في الأشهر الماضية، ولا تزال ماضية في التراجع. مع ضرورة الإشارة إلى أن قيمتها قبل الثورة، لم تكن حقيقية 100 في المائة. جزء من هذه القيمة كان وهمياً. وعندما تصل قيمة العملة إلى الحضيض، فإن المليار يتحول على الفور إلى رقم عابر، لا رقم فاعل. فلا عجب، أن يُطلق الأسد وعصاباته الميزانية بالتريليون من الليرات. والمشكلة هنا، لا ترتبط فقط بالانهيار التدريجي لما تبقى من الاقتصاد، بل تكمن أيضاً في سرقة الاقتصاد نفسه، قبل الثورة بأكثر من أربعة عقود.
لكن مهلاً، الميزانية (أي ميزانية) تعني الإنفاق. ولنضع قضية التنمية جانباً. لا تنمية في ظل نظام يتعاطى مع المصرف المركزي "الوطني"، كما يتعاطى أي شخص مع خزانة منزله. فهذا المصرف تجاوز حالته الوطنية منذ أكثر من 40 عاماً. ميزانية الأسد لعام 2014، هي في الواقع مخصصة في الدرجة الأولى، لتمويل حربه ضد الشعب السوري. وتتضمن أساساً التسليح والرواتب والأجور. وهذه الأخيرة مخصصة فقط للمناطق التي لا يزال يسيطر عليها. وبذلك تكون الميزانية لبعض سورية لا كلها، وللموالين، لا لأولئك الذين وجدوا أنه من العار، أن يستمر هذا النظام الوحشي إلى ما لا نهاية. إلى جانب (طبعاً) رواتب المرتزقة وقطاع الطرق الذين يشكلون أساس القوة العسكرية للأسد. دون أن ننسى المكافآت التي تُمنح لكل مرتزق على رأس كل مدني سوري يحصده. استناداً إلى المراقبين المحايدين الذين لا مواقف لهم فيما يجري في سورية، فإن ثلث السوريين سيكون لهم نصيب ما من هذه الميزانية. وهذا التصور واقعي، ليس فقط لأن الأسد لا يسيطر فعلياً إلا على ثلث البلاد، بل لأنه يحتاج إلى جعل المناطق التي يحتلها هادئة قدر المستطاع. وعلى هذا الأساس سينحصر قليلاً من بنود الميزانية في منطقة الساحل الخامدة بمدنها المشتعلة بأريافها، إلا تلك التي توالي الأسد طائفياً. فهذه الأخيرة، لا تزال تؤمن باستحالة زوال الأسد المنتمي لها. وبعيداً عن هذا الجانب المروع، فميزانية الأسد، ليست أقل من ميزانية حرب ضد شعب، وليست أكثر من خزانة مخصصة للإنفاق على الموالين المخلصين، الذين يعرفون أنهم منتهون، حتى قبل النهاية الكلية للأسد وما تبقى من نظامه. هذه الميزانية، بتريليونها، إضافة إلى مئات المليارات الأخرى من الليرات فيها، سواء كانت بالقيمة الحالية لها، أو بقيمتها السابقة، لا تصل إلى 10 في المائة مما نهبه الأسد وأسرته وأعوانه، وأولئك المستفيدون الذين يظهرون دائماً في أزمنة الخراب. وستدخل هذه الميزانية (كغيرها) تاريخ البلاد، كميزانية عامة شكلاً، ولكنها خاصة مضموناً. وكل ليرة ستصرف منها، هي ليرة مسروقة من سوري لا يلقى لقاحا لطفله، ولا حتى شعيراً لخبزه. ومهما كان الشكل الاقتصادي المعلن لها، فهي حاجة سلبها القادر القاتل من المحتاج. لن يكون التاريخ رحيماً بالأسد وعصاباته، فالرحمة مع قاتل الأطفال والأبرياء ومدمر البلاد ومهجر الشعب، جريمة في حد ذاتها يعاقب عليها الرحيم نفسه. أطلق الأسد ميزانيته، لكنه في الوقت نفسه يعرف، أنها قد تكون الميزانية الأخيرة التي يستطيع إطلاقها، وأن بعض سورية الذي يحلم به مع عصاباته والموالين له، يموت في عملية ولادته تلقائياً، من دون كل سورية.