الاثنين، 25 يوليو 2011

التكاليف السورية للمليارات الإيرانية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


"عندما لا يفهم الناس، لماذا لا تضع حكوماتهم مصالحهم في حساباتها، فهم سيكونون عرضة للدخول في حرب"
هاورد زين، مؤرخ وناقد سياسي واجتماعي أميركي

 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
هبت إيران مالياً.. لنجدة سلطة بشار الأسد في سورية، بعد أن فقد توصيف النظام، بتوجيهه آلته العسكرية، ضد الشعب السوري الأعزل. هبت إيران لسند السلطة، لا الاقتصاد المتهاوي الماضي في طريقه إلى مجهول معلوم –إن جاز التعبير-. هبت إيران لحماية مصالح النظام القائم فيها، لا مصالح شعبها هي. هبت من أجل الإبقاء على السلطة الوحيدة المتحالفة (أو المندمجة) معها في المنطقة. هبت ساندة سلطة الأسد، لمساعدتها في سند نظامها القائم في بلادها. فقد عرفت مدى ضعف نظامها داخلياً، من خلال انتخابات رئاسية مزورة، فاز بها أحمدي نجاد، الذي ينتظر "عودة" المهدي ليحل مشاكل العالم أجمع! وعبر مظاهرات عارمة سادت إيران، وقُمعت بكل الوسائل التي يتقنها الحرس الثوري، ومن خلال عزل المجتمع الدولي لها، وعن طريق نتائج أفعالها الإقليمية، المريبة تارة والمريعة تارة أخرى. فقد عرف النظام القائم في إيران، أن الحفاظ على ما تبقى من قوته، يستدعي –على الأقل- الحفاظ على ما تبقى من سلطة الأسد، إذا ما فشل هذا الأخير في استعادة سلطته المطلقة.

قدمت إيران إلى الأسد، كل ما تستطيع تقديمه في قمع الثورة الشعبية السلمية العارمة للشعب السوري. ورغم التحفظ التاريخي للسياسة الخارجية البريطانية، لم تستطع لندن أن تُخفي معلوماتها الموثوقة مع اندلاع الثورة السورية، بأن إيران تقدم معدات مكافحة الشغب، وتدريبات شبه عسكرية لقوات "الأمن" السورية، وأن أعضاء من الحرس الثوري الإيراني يقومون بتقديم المشورة الفنية والمعدات للقوات الموالية لبشار الأسد، بما في ذلك معدات إلكترونية متطورة لإعاقة الوصول إلى شبكة الانترنت، ومنع انتشار الأخبار عن قتل المدنيين العزل. ومع استفحال الأزمة في سورية، وجدت السلطة هناك ضرورة لإشراك مجموعات من الحرس الثوري الإيراني إلى جانب عناصر من مليشيات حزب الله اللبناني –الخائف على مصيره- في أعمال القتل اليومية التي يتعرض لها السوريون. فالمرتزقة الأغراب، أكثر جودة في القتل من المرتزقة المحليين. وبذلك أُضيف إلى المشهد العام، استيراد مرتزقة لقتل وحشي بلا رحمة، وتصدير نازحين لم يعرفوا النزوح في تاريخهم وتاريخ أجدادهم!! ولا بأس من عمليات استيراد جانبية لمرتزقة من الإعلاميين، لاسيما من اللبنانيين.

لكن الثورة مضت إلى الأمام وسط وحشية تاريخية في قمعها، تُنافس وحشية الأسد الاب في ثمانينات القرن الماضي. ولأن الثورات تصنع المستقبل في خضم حراكها، وتصنع المجتمع والاقتصاد بعد انتصارها، دخل الاقتصاد السوري الذي لا يقوم على أسس معلومة، في نفق مظلم يقوده بالضرورة إلى المجهول. هنا.. كان على إيران أن تهب مرة أخرى لنجدة السلطة في سورية، من خلال عرضها تقديم 5,8 مليار دولار أميركي كمساعدات لها. فلم ينفع استجداء الأسد الابن السوريين، لإيداع الفرد منهم حتى ألف ليرة (ما يوازي 20 دولاراً) في المصارف لإسناد الليرة، ولم تجد تطمينات المريب دائماً رامي مخلوف (ابن خال بشار، وهو "مصرفي" العائلة الحاكمة المالكة)، بأن الدولار سيتراجع أمام الليرة حتماً، آذاناً صاغية، حتى بعد أن وضع على وجهه المكروه سورياً قناع "ماما تيريزا"، ولم تحقق مداهمة محلات الصرافة (تم إغلاق 30 محلاً في شهر واحد فقط) إلى أي شيء، ولم تسفر مشاركة إيران مباشرة في مراقبة الحدود ومنع فرار السوريين إلى لبنان بحوزتهم أموال إلى أي نتيجة، وبالتأكيد، لم يهتم أحد بتصريحات حاكم المصرف المركزي، بأن الاحتياطي من العملات الأجنبية، لم يتأثر كثيراً، ولم تنفع "التبرعات" القسرية البالغة 500 ليرة، التي اقتنصتها السلطة من راتب كل موظف حكومي، بما في ذلك الراتب الذي لا يزيد عن 5000 ليرة فقط!

وحسب الأرقام الرسمية - المشكوك بها دائماً- فإن 10 في المائة من الودائع في البنوك السورية، تم سحبها حتى الآن، أي ما يوازي 20 مليون دولار يومياً، في حين تشير الأرقام شبه الرسمية -المشكوك بها في كثير من الأحيان- إلى سحب 20 في المائة، أو ما يوازي 40 مليون دولار يومياً، بينما تتحدث الجهات المستقلة، لا المندسة ولا المتآمرة، بما في ذلك تحقيق موسع لمجلة "الإيكونوميست" البريطانية العريقة، عن هروب وتهريب أكثر من 150 مليون دولار يومياً من سورية، ليصل المجموع الكلي، حتى نهاية الشهر الرابع من الثورة إلى 20 مليار دولار. ولأن الوضع بهذه الصورة المخيفة، تقدمت إيران بـ 5,8 مليار دولار، تبتغي استمراراً –بصرف النظر عن تكاليفه البشرية والمالية- لسلطة بشار الأسد. وإيران لا تقدم عطاءات لوجه الله، ولم يحدث في تاريخها أن قامت بذلك على هذا الأساس، فكل دولار تقدمه، تحسب عوائده. ودائماً ما تكون العوائد سياسية، ومن الأفضل أن تكون طائفية، تصب في استراتيجية النظام القائم في طهران. ووفق هذا المنظور تقدم دعمها بكل الأشكال، لحزب الله وميليشياته في لبنان. فعلت ذلك في أعقاب الحرب التي افتعلها هذا الحزب مع إسرائيل في العام 2006، وقبلها على مدى سنوات خلال الحرب الأهلية اللبنانية. كان دعمها –ولايزال- مبني على مستوى الولاء لها والاندماج بها، لا على ولاء المدعوم لبلاده والاندماج بوطنه.

كان حال العلاقة بين سورية وإيران في عهد الأسد الأب، أن هذا الأخير عمل مع طهران في ظل شعاراته القومية العربية الجوفاء المثيرة للضحك، بينما يعمل الأسد الابن عند إيران، مع استمرار الشعارات الجوفاء ذاتها، وارتفاع معدلات الضحك. وعندما يقدم النظام الإيراني مليارات الدولارات لبشار الأسد، يعني أن طهران ستمتلك ما تبقى من إرادة السلطة السورية –إن وجدت أصلاً- ولن تمتلك شيئاً من إرادة الشعب السوري. لن يذهب دولار واحد لبناء اقتصاد وطني طبيعي، ولن يستفيد مواطن سوري واحد من المليارات الإيرانية. هذه المليارات مخصصة لإطالة أمد بقاء سلطة الأسد، خصوصاً وأنه لا يبدو في الأفق أي مؤشر على تراجع الثورة الشعبية السلمية العارمة في البلاد. والأثر الوحيد الذي سيظهر لهذه المليارات، هو أن السلطة ستتمكن لأجل ليس طويلاً، من دفع رواتب الموظفين الحكوميين، بالإضافة طبعاً، لتخصيص جانب كبير منها، لشراء الأسلحة والمعدات، ليس لشن الحرب على إسرائيل، أو لدعم الجبهة الوهمية معها، بل لمواصلة الحرب على الشعب نفسه، بما في ذلك دفع مكافآت المرتزقة المحليين والأجانب.

ستعزز الأموال الإيرانية الجديدة، "اللاصق" التاريخي بين سلطة الأسد ونظام طهران، مع تكريس تبعية الأول للثاني. وإذا ما طال أمد وجود الأسد، ستنعم إيران بمزيد من الحضور والنفوذ ليس فقط على الساحة السورية فحسب، بل في النطاق الإقليمي أيضاً. سيكون عنوان المرحلة المقبلة هو "التخريب السياسي"، ولا بأس – بالطبع- بالتخريب الأمني، إذا ما كانت هناك ضرورة له. والمعادلة ستكون على الشكل التالي: "المال الإيراني+ المشروع الإيرانيX سلطة سورية هشة= خطر داهم على المنطقة العربية كلها".

إنها المعادلة التي تسعى إيران إلى استكمال أطرافها، منذ أكثر من ثلاثة عقود.

الأحد، 24 يوليو 2011

هل يمكن إستمالة الأكراد في سوريا لدولة"عروبية"بسمات ديمقراطية؟

(المقال خاص بموقع "صوت كردستان")









أول  محاولة لفهم الأسباب البعيدة لمقاطعة الأكراد لـ"مؤتمر الإنقاذ الوطني" للمعارضة السورية



كتب: د. رضوان باديني
عضو المكتب التنفيذي للمؤتمر السوري للتغيير (أنطاليا)
 
ما هي الأسباب الحقيقية التي دعت الكرد لمقاطعة "مؤتمر الإنقاذ الوطني" للمعارضة السورية في إستانبول؟ هل للمسألة علاقة باجندات لأطراف معينة في المعارضة أم كان ذلك تذمر من وضع عام؟ و ما الذي يدفع الأكراد بالتسارع في المطالبة بالإعتراف بمظالمهم التاريخية بآليات المعارضة الآنية ولماذا إصرارهم في رفض بعض رموز الدولة الجامعة؟ هل هناك خشية من الوضع القانوني المرتقب لملايين الأكراد في سوريا إذا تحول بلدهم لبلد ديمقراطي، حسب رؤى منشدي هذه الديمقراطية من المعارضة (الدينية والعلمانية) ؟ هل تقترب اطروحات المعارضة التي "تنظر لهم بعين ديمقراطية" من تصورات الأكراد انفسهم عن الحلول المستقبلية؟ بماذا يوعد الأكراد من قبل الأطياف المختلفة للمعارضة "العربية" السورية ولماذا تثير بعض النزعات العربية توجسهم بمستقبل هذه العلاقات؟

لقد خلقت مقاطعة الأكراد لـ"مؤتمر الإنقاذ الوطني" في إستانبول وخروجهم بشكلٍ جماعي من قاعة المؤتمر سابقة خطيرة في إحداثيات التململ السياسي للمعارضة السورية ككل. وفتحت الباب على مصراعيه لنقاش من نوعٍ جديد بين أطرافها. نقاش "فج" وسمج بطعمه ومدبب بمفرداته "القديمة"..يبدو كـ" لكنة" غير مستساغة في اللهجة السورية على لسان الديمقراطيين الجدد، بغالبية "مغتربة" . لكنه نقاش يسمح للجميع بتلمس خطورة المسائل المستعصية على الحل "المؤجلة في عرف البعض، والغير ناضجة برأي آخرين و"المقبورة" أصلاً في تصورات البعث". إذاً كانت هناك هواجس حقيقية حركت الإستحضار العفوي الآلي للسلوك الجمعي الكردي ليتوخي الحذر ويوحي بعدم الإطمئنان بالمؤتمر ؟

جوهر الخلاف أن الكورد لم يقبلوا بأية زركشة للوعود القديمة التي عهدوها في الأزمنة السابقة كتبرير لتأجيل الحديث عن قضيتهم. وشعروا بالغبن المطبق بحقهم من جراء الإلتفاف على مطالبهم بعكس ما تم الإتفاق عليها مسبقاً؛ وجاء حرمان ممثلهم من القاء كلمة للتعبير عن قضيتهم في الجزأ الرئيسي من المؤتمر،( بينما أتيحت الفرصة في ذلك الوقت لممثلي أطياف أخرى، لا يمثلون قضية أكثر أهمية من قضيتهم)، كضربة قاضية لكل آمالهم، وعزيمتهم في الإستمرار بالبقاء لنهاية المؤتمر. ولم تفد بشيئ "المفاوضات" الهامشية لأبقائهم في القاعة، ولا الوعود بافساح المجال امامهم ضمن مداخلات المؤتمرين.

هذه الحادثة القت الضوء على عدة محاور جوهرية بالنسبة للقضية الكردية في سوريا التي توعد إحداثياتها بان تكون مفصلية لجهة تحديد مصير المعارضة السورية برمتها وما تخلقه من شد وجذب للقوى الإقليمية والخارجية في التدخل بمساراتها و إرهاصاتها المستقبلية. والمسألة التي قوامها ثلاثة او أربعة ملايين نسمة، يشغلون مساحة من الأرض بين 30 و45 الف كم2 بالإضافة إلى محاذاتها جغرافياً لتركيا والعراق الدولتان اللتان تملكان قضايا مشابهة لن تكون الحلول المستشفة موضع إجماع سهل داخلياً وخارجياً. وما يساعد على تبني هكذا "تفسير" للقضية هي تقاطعاتها مع حيثيات الوضع الداخلي الكردي نفسه والمرشح للتأزم والتفاقم وتتجاذبه كل الألوان السياسية المتضاربة.

إذاً الأمر الذي يحسم إتجاه تطور المعارضة الكردية السورية يتوقف بدرجة كبيرة على الموقف المبدئي الذي تتبناه الأطراف العربية نفسها للمعارضة السورية، وهي ستكون حاسمة في قطع الطريق على كنه إحتمالات تطوراتها المستقبلية.

والمسألة ليست على درجة كبيرة من التعقيد كما يتوهم البعض. فنظرة سريعة لركائز الخطاب السياسي الكردي بكل تكوراته والوانه يسعفنا في الإجابة الموضوعية، لتفادي الإحتمالات السوداوية. المسألة كامنة في الشعور الجمعي الكردي الجريح. والحل الأمثل برأينا، هو الإقرار المبدئي والعلني الصريح للمعارضة السورية بكل أطيافها بالتمسك بالحل الديمقراطي كعلاج وسبيل للخروج من هذا المأزق وتفادي مآزق ومطبات أخرى على الطريق. على أن يعلن على الملأ وكجزأ من خطاب المعارضة بانه سيكون حلاً دستورياً يعترف بالأكراد كقومية ثانية في البلاد ، بكل ما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات في المجالات الثقافية واللغوية والسياسية والإقتصادية والإدارية.. هذا الإجراء يمكن أن يشكل قاعدة إهتدائية لطيف واسع من المعارضة (الدينية والعلمانية) لحل المسألة الكردية مستقبلاً. ما دون ذلك سيعتبر موضوعياً مضيعة للوقت وهدراً للطاقات ومزيداً من التفاقم وعدم فهم...

هذا هو مفتاح الحل. يجب أن يقر الجميع بحقيقة ساطعة وواضحة وضوح الشمس، أن هذا الشعب الأصيل الذي يعيش على أرض آبائه وأجداده منذ فجر التاريخ، يتمتع بكل مقومات الشعوب الأصيلة المستحقة حق تقرير المصير والسيادة الكاملة. وبالمقابل ينبغي على ممثلي الكرد القبول بالحفاظ على سلامة البلاد ووحدة أراضيها. أن مثل هذا التوجه فقط يمكن له ان يجنب البلاد والعباد من ويلات كمونية جمة، شهدها غيرنا ممن لم يتعظوا بدروس التاريخ..

أن تبني هذا المبدأ والتوعية به يشد اللحمة الوطنية ويعزز قوامها ومكوناتها، ويصحح جزئياً مسار العلاقات بين الشعبين العربي والكردي ويشجيع الأحزاب الكردية للإنخراط في العمل المشترك دون تردد او تذمر ويزيد من دور المثقفين والأكاديميين المستقلين في إنشاء إنزيم إتحادي مصيري مع بقية الأقليات القومية التي تستحق هي الأخرى كل الإحترام لوضعها وإيجاد حلول منطقية وديمقراطية شفافة لواقعها.

مثل هذا التوجه يزيد من صلابة موقف المعارضة السورية التي تقع في مجابهة أعته دكتاتورية عرفها تاريخ منطقتنا، وستزيد من حيوية القوى والأحزاب الكردية نحو إنجاز واجباتها الوطنية بشكلٍ انصع وتزيل العقبات عن طريق مشاركتها في البناء في جميع الميادين بالفعاليات والنشاطات الممهدة لأسقاط النظام وإعادة بناء دولة القانون والمواطنة بالمعايير الحضارية الراقية وإنشاء ديمقراطية حقة يتسع فيها الوطن لكل ابنائه ومكوناته وتقطع الطريق على المتربصين بمقدراته ومصيره.

نقول ذلك ايماناً منا بانه ليس هناك شيئاً أكثر ضيراً وضرراً من أن تجابه طلبات الكرد بالصد بمختلف الحجج الوقتية والسياسية..أويتم إختزالها بالمواطنة او إدراجها تحت مقولة الإستجابة لـ"الخصوصيات الدينية والعرقية"

ومن هنا لا يمكن لأي عاقل أن يتصور بان بإستطاعة الدولة- التي طبقت عليهم أكثر المشاريع العنصرية بشاعة ومقتاً كالحزام العربي والإحصاء الإستثنائي، والعديد مما لا يتسع الوقت لذكره... وحرمتهم من التمتع بأبسط حقوقهم القومية بما فيها ممارسة اللغة...وفرضت عليهم عنوة "المواطنة العربية" او البقاء بدون اية مواطنة اوحقوق (بما فيها حق التنقل والنزول في فندق في اية مدينة سورية!)، خلال عقود- بانها تستطيع بجرة قلم إستمالتهم لخدمة رسالة الدولة القومية "العروبية" حتى وأن إتسمت بالديمقراطية.؟! لا يمكن لأي عاقل أن يصدق بأن دولة قمعية تسلب مواطنيها إرادتهم وحريتهم تستحق منهم الدفاع عنها والحفاظ على سلامتها ومصالحها العليا!! لا أحد يصدق بان تُعامل كعدوٍ كموني في دولتك على مدى عقود وأن تسهم في الدفاع عن رفع راية وعزة هذه الدولة!!

أن الولاء للوطن من شأن المواطنين الأحرار الأعزاء في حياتهم ومشيئتهم. والكرد ليسوا مطلوبين أن يذعنوا ويحترموا قوانين بلدٍ لا يقر بوجودهم ولا يحترم حقوقهم. أنهم فقدوا حتى مواطنتهم الشكلية فيها فمن اين لهم الشعور بإحترام رموز دولة ترفض الإعتراف بهم؟ وهنا بيت القصيد؛ ومن هنا حساسية رفض الكرد ، لإسم سوريا "كجمهورية عربية". ومن هنا مطالبتهم بإلغاء الأسماء الملغية لهويتهم وكيانهم.

صحيح، ليس من صلاحيات المؤتمر إقرار هذه التغييرات ولا البت في هذه الأمور القانونية. المحضة. لكن إتفاقنا إتفاق مبادئ وأسس يرسى عليها ثوابتنا الجديدة. أن هذه التسمية توحي بشكلٍ لا يقبل الشك بان المضمون القومي لسكان سوريا هم العرب أما غيرهم من سكانها ليسوا إلا هامشيون وغرباء أو دونييون! فهذا بمثابة إنكار للوجود وصعر لخدود الأخوة والمساواة وأبسط قوانين العدالة الوضعية والسماوية؛ وهو كذلك إذكاء للكراهية والإبعاد وتكريس لسياسة العبودية والصهر العنصري الذي عهده الكرد منذ خمسين عاماً. وعليه ألا يستحق ذلك كله موقفاً مبدئياَ نتخذه منذ الآن ونترك التفاصيل لمكانها وزمانها المناسب؟

هكذا إذاً، برأينا ... إيقظت لجة اصطدام الكلمات والعبارات والمصطلحات في قاموس "مؤتمر الإنقاذ الوطني" المناشدات المسحوقة في الوجدان الجمعي الكردي فتهاوى الصفاء والوجوم في جرح عميق للوطن النقال في مهج الشباب الهائج، خوفاً من المجهول تحت العباءة العربية! وإلا ما معناه وبدون الدخول في التفاصيل، أن ترفع يافطة "الجمهورية السورية" من القاعة وتوضع أخرى " الجمهورية العربية السورية"؟!؟! من المسؤل عن هذه الإثارة المغرضة؟ وكل ذلك بدون أن يؤخذ برأي الحضور أو يتم الحديث عنه!!

صحيح لم يتحدث أحداً بلهجة الحكام ويأمر بإسم السلطة. لكننا جميعاً هنا للبحث عن سبل الخلاص من نظام معتوه. نحن بصدد المصارحة وتحديد مبادئ العيش المشترك ونزع فتيل الخلافات التي انشأها نظام البعث العربي الإشتراكي. و لسنا بصدد إكتشاف المجهول! بل تحديد المستغَلين والمستغِلين؛ بصدد تسمية الضحايا وجلاديهم؛ بصدد التحقق من هوية الممثلين الأصلاء والمزورين... بصدد حقوق مغتصبة وأخرى متوارثة.

اننا بهذه الحالة نكاد ان نلمس شواطئ أحلام بعضنا البعض. و المواطن الكردي السوري الذي تكوى بنار ظلم أخيه العربي (البعثي) يتسائل اليوم كيف لي أن أطل معك أخي العربي الديمقراطي على مشارف يوم جديد و لا توجد لأفكارك أي ذكرٍ لما جرى ويجري لي؟؟ كيف لي أن أتفيئ معك ظل هذه الأفكار التي لاحضور لي بها، ويطلب مني أن اكون ظلك ؟ ..أني مثلك أعتز بإنتمائي القومي، لي أسمي وتاريخي وكرامتي وقيمي ومقدساتي.. وهي برمتها تحظى بإعتزازي بدرجة ليست أقل بما يؤرج في جواياكم عبق حبك وإعتزازك بقوميتك العربية. أنا أطل بأهدافي على مشارف أهدافك وتطل باهدافك على مشارف أهدافي... تربطنا الكثير من صفحات التاريخ والقيم المشتركة التي رسخت بعضها وجودك وأزالت وجودي.. فمن يستعجل ومن يتأخر؟ ومتى يحين الوقت لنا لنستعيد الكرامة والحرية النظيرة لكرامتكم الإنسانية وعزتكم القومية؟؟!.

نحن الآن أمام إمتحانٍ تمهيدي للآراء والمبادئ. و نقاشنا في الوقت الضيق والحرج، الوقت الذي يسبق التحول نحو الديمقراطية. في الوقت الذي يتم تداول الأمور بعناوينها وبخطوطها العريضة وليس بتفاصيلها. ولكنه الوقت الذي نستشف فيه زهو المبادئ وسموها وقيافة الأفكار ونجاعتها لترفرف رموزها وعلائمها على الإتجاهات، وتتلون التعاريف الأولى برؤية "العنوان السبيل".

نعم إننا نقر ايضاً بان جميع أطياف المعارضة تنقصها الخبرة ولم تعرف نعمة الحوار أو التفاوض او إدارة الأزمات.. وبالأخص في التعاطي مع المسائل الحياتية المؤجلة نقاشها حتى في المفهوم النخبوي.

والجميع يفهم الآن ايضاً صعوبة التغلب على الشلل الموروث في الثقافة السياسية.

والجميع يقدر صعوبة كسر القوالب القاسية والجاهزة الموروثة من ذهنية المحاور السياسي المعارض على الأرضية الضحلة من الخبرة والممارسة.

والجميع يعرف ان الشروع صعب. ولكن مقاييس هامات الرجال على قدر أفعالها ورؤيتها البعيدة. "درجات" التعمق والإبتعاد عن الحقائق تقربنا أو تبعدنا عن مسارنا المشترك. مسائل لها مؤشراتها في سلم الأولويات الوطنية وتظهر ثقل المسؤولية وتمتحن جدية وجدوى الأطروحات من عبثها في مداواة هذا الجرح الكبير في قلب المسألة الوطنية السورية.

بعيداً عن الهرج والمرج والضجيج الذي رافق النقاش داخل وخارج المؤتمر وبعيداً عن كل التأويلات والتفسيرات من هذا الطرف أو ذاك، يجب ملاحظة أن:

- تأجيل الإعتراف بالمظالم وتغافل التحديد الصريح للإعتراف الصريح بمثابة طيش سياسي يمشق بوجه الجرح المنفتح على كل التقيئات التي تيقظ الآلام المتراكمة في وجدان الشعب الكردي منذ خمسين عام.
- الممعنون من خرم مشاعرهم العربية كقومية سائدة لا يجدون من الإنفتاح على الكرد سوى أسماء لمؤدى من تعامل لا يعرفون من قساوته اللاإنسانية إلا مفردات تتلمس بحبل تراخيها ثقل إرساء العبارات في إفتعال التفاقم.

بإختصار، لقد أزاحت حالة مقاطعة الأكراد لمؤتمر إستانبول الستار عن قضية من القضايا الهامة ومسألة من المسائل الخلافية الحادة بين أطراف المعارضة السورية لتتكشف بشكلٍ عام خطورة وعمق الهوة بين مكوناتها في التصورات المستقبلية والإطروحات السياسية وفي شكل التصدي للمهام المستقبلية المنتصبة بكل قيافتها في طريق المعارضة بكل مكوناتها وأطيافها.

الأربعاء، 20 يوليو 2011

تبرعات «عفوية» للاقتصاد السوري

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")








''دمر بذور الشر والظلم، وإلا ستترعرع وسط الخراب''
إيسوب - أديب وكاتب من العصر الإغريقي




  كتب: محمد كركوتــي
 
حسنا .. يقول المدافعون عن نظام بشار الأسد في سورية إن الاقتصاد ليس متدهوراً بالصورة التي يطرحها المراقبون المحايدون والتي يتفق معها المعارضون لهذا النظام. صحيح أنه يعاني حالياً آثار الثورة الشعبية السلمية العارمة (المدافعون عن النظام لا يعترفون بسلمية الثورة، بل لا يعترفون بوجودها أصلاً)، إلا أنه - أي الاقتصاد - ليس متجهاً نحو المجهول أو الانهيار. هكذا يقولون، وقد تعرضت شخصياً لهجوم عبر الإنترنت من هؤلاء، الذين تابعوا مقالاتي السابقة عن الاقتصاد السوري، ولا سيما المقال الأخير الذي نُشر تحت عنوان ''دراما اقتصادية في سورية''، وكان أقل اتهام وجه إلي منهم هو أنني لست محايداً، على الرغم من أنني استندت في طرحي إلى استنتاجات من أطراف محايدة، كان النظام يُعلن عن ثقته بها قبل الثورة الشعبية ضده، وتناولت مجموعة من الأرقام المعلنة في سورية - وهي قليلة بل نادرة - وتوصلت إلى تصور بأن الاقتصاد السوري يتجه بالفعل إلى المجهول، وأنه في غضون الأشهر المتبقية من العام الجاري سيصل إلى حافة الهاوية، وأن النظام سيعجز عن دفع مرتبات العاملين في القطاع الحكومي إذا لم تتبدل الأمور السياسية في البلاد، فالنفي لا يخفي الحقيقة فحسب، بل يزيد من حجم العقبات وأهوالها في الطريق نحو الخروج من المأزق.

في خطابه الثالث بعد الثورة استجدى بشار الأسد حتى ألف ليرة سورية (أي ما يوازي 20 دولاراً أمريكياً)، من كل مواطن سوري، من أجل إيداعها في المصارف التي تعصف بها الأموال الهاربة منها إلى الخارج، وتحديداً إلى لبنان. فقد بلغ مجموع الأموال الهاربة (الفاسدة والشرعية) من البلاد أكثر من 20 مليار دولار، حسب مجلة ''الإيكونوميست'' البريطانية العريقة، ولا يبدو في الأفق أي مؤشر على توقف عمليات الهروب والتهريب. والحقيقة أن أموال الناهبين وأموال المستثمرين الطبيعيين ''تحالفت'' من دون قصد في عمليات الهروب المتواصلة. ولأن المواطن السوري لم يلب تمنيات الأسد، بإيداع الـ ''ألف ليرة'' في المصارف، لأسباب باتت معروفة للجميع، من بينها شعور هذا المواطن بأنه سيغذي الآلة العسكرية والاستخباراتية التي تقتله وتقمعه، ولأن الـ ''ألف ليرة'' عند هذا المواطن، تساوي في هذه المرحلة بالذات مليون ليرة. ماذا فعل الأسد؟ قام باقتطاع قسري يبلغ 500 ليرة سورية من راتب كل موظف حكومي سوري، بحجة دعم العملة الوطنية، التي تهاوت بصورة درامية حقيقية، لتخسر - حتى الآن - أكثر من 22 في المائة من قيمتها! لم يحدث في التاريخ أن أقدم نظام على مثل هذه الخطوة، فهي بكل المقاييس عملية سرقة منظمة، وإن جنحت السلطات السورية إلى تسميتها ''التبرع العفوي''! وهذه هي الحالة ''العفوية'' الوحيدة التي يقوم بها شخص (أو جهة) بالنيابة عن الشخص المعني!

الليرة تتهاوى، والاستثمارات بعضها يفر من الساحة وبعضها الآخر يتوقف، والسياحة في عز الموسم بلغت صفراً. المواطنون السوريون لم يصدقوا ما أعلنه ''مصرفي'' النظام والعائلة المالكة الحاكمة في سورية رامي مخلوف، عندما قال قبل أكثر من شهر إن العملة الوطنية لن تخسر، وإن من ''مصلحة'' السوريين تحويل ما يملكونه من عملات صعبة - إن وجدت أصلاً - إلى الليرة، لأن هذه الأخيرة ستشهد ارتفاعاً كبيراً، لأن قيمة الدولار ستنهار قريباً مقابلها. ماذا فعل السوريون؟ قاموا بتحويل ما يملكونه من ليرات إلى عملات صعبة. وعندما يُقدِم - على سبيل المثال - بنك الكويت الوطني على وقف طرح أسهمه للاكتتاب العام في سورية، يعطي هذا مؤشراً جديداً لتردي الوضع الاقتصادي في البلاد، ولمزيد من علامات الانهيار الاقتصادي، سيضطر النظام السوري في موعد أقصاه نهاية العام الجاري إلى أن يبحث عن مساعدات خارجية، وإذا لم يستطع الحصول عليها - وهذا مرجح - لن يستطيع الادعاء بوجود اقتصاد ما في سورية. ربما يضمن الوعد الإيراني للنظام بتقديم أكثر من خمسة مليارات دولار له، وجود سند ما، لكن هذه الأموال لن تدفع لسند الاقتصاد الوطني، بل ستخصص لسند النظام نفسه. وكلنا يعلم العلاقة المصيرية التي ربط بها نظام الأسد نفسه مع إيران. وهذه الأخيرة، لا تقدم شيئاً لوجه الله، بل كل ما قدمته - خصوصاً لبعض الجهات العربية - مربوط بثمن سياسي باهظ التكاليف والخطورة أيضاً.

لا توجد خيارات أمام بشار الأسد على الصعيد الاقتصادي، تماماً كما لا توجد أمامه خيارات على الصعيد السياسي الداخلي والخارجي. والكل يعرف أن اقتصاد سورية لا يقوم على أسس معروفة كي يستطيع الصمود أمام المحن والأزمات، كان - ولا يزال - اقتصاداً أُسرياً خاصاً جداً، لا دخل للأسرة السورية المكونة للمجتمع ككل به. فلا غرابة إذن من سيطرة رامي مخلوف على 60 في المائة من حجم هذا الاقتصاد البائس، المملوء بالبطالة وسرقة المال العام والفساد بكل أنواعه. وكنت قد أشرت في أكثر من مناسبة إلى أن هذا النوع من الاقتصادات لا يصمد أمام أرق الأزمات، فما بالنا بثورة شعبية عارمة لم تشهدها سورية حتى في ثمانينيات القرن الماضي. لا توجد في سورية أرقام حقيقية لأي شيء، حتى الأرقام الرسمية الشحيحة تصل إلى أعلى مستوى من التضارب والتناقض. ولا يعتمد أي مركز عالمي محايد على أي من هذه الأرقام، لأنها أكثر من مضللة، بل مضحكة في بعض الأحيان. لكن المعروف أن الاقتصاد لم يكتسب الصفة الوطنية، لأنه لم يكن مستنداً إلى المعايير الوطنية منذ أكثر من أربعة عقود. وكما هو الحال في منع المراقبين الدوليين ووسائل الإعلام المستقلة، من متابعة الأحداث في سورية لإخفاء حقيقة ما يجري على الأرض، كذلك الأمر في منع صدور أرقام حقيقية عن اقتصاد البلاد. إنهم يريدون إخفاء ما أمكن لهم من واقع الخراب الاقتصادي الشامل.

في كل الأحوال تتجه الأمور في سورية نحو عصيان مدني، وبدأت بوادر هذا العصيان في امتناع المواطنين عن تسديد فواتير المياه والكهرباء والهاتف، وهناك أعداد متعاظمة من أولئك الذين يمتنعون عن دفع الضرائب. وهذا الأمر سيعجل من مسيرة الاقتصاد السوري نحو الانهيار، أو في أحسن الأحوال نحو حافة الهاوية. والنظام يعرف أنه لن يستطيع الاستمرار على هذا الشكل إلى ما لا نهاية. ويعرف أيضاً أن عصياناً مدنياً مهما كان ''لطيفاً''، سيدفع الأمور في اتجاه معاكس لمصالحه. وهو - أي النظام - يخشى حالياً من عجزه عن دفع رواتب موظفي الحكومة. وقتها سيتحول العصيان ''اللطيف'' إلى عصيان لا توجد قوة في العالم تستطيع الوقوف أمام ضرباته. سيكون بمنزلة المكون الأكبر لتحول الأمة بأكملها. وما على المعارضين والمؤيدين سوى استرجاع التجارب التاريخية المشابهة، وهي كثيرة وعميقة في مغزاها.

دراما اقتصادية في سورية

(امقال خاص بجريدة " الاقتصادية")








''السارق يأسف عندما يُجَر إلى حبل المشنقة. لا يأسف لأنه سارق''
مَثَل إيرلندي



 
 
محمد كركوتــي
 
في مقال سابق لي نشرته تحت عنوان ''في سورية.. رهين الاقتصاد والقوة''، تناولت كيف يمكن للاقتصاد المتهاوي في سورية أن ''يقوم'' بدور المتظاهرين السلميين في البلاد، ويطيح بنظام بشار الأسد إذا لم يتمكن المتظاهرون من الإطاحة به. ورغم استنادي إلى الكثير من المعطيات والتجارب التاريخية السابقة، التي كان فيها الاقتصاد ''الثائر'' الأقوى ضد أنظمة استبدادية مشابهة لنظامي الأسد الأب والابن، إلا أني استقبلت مجموعة من الرسائل الإلكترونية، التي هاجمتني، معتبرة أن الاقتصاد في سورية ليس سيئًا ولا يسير في اتجاه الهاوية، وبعضها أشار إلى أني متحامل. وقد افترضت أن الذين عارضوني في هذا الطرح، ربما كانوا وطنيين عاطفيين جداً، لكي لا أقول عنهم شيئًا آخر. لكن العاطفة الوطنية التي لا تستند إلى الحقائق أو تحاول تغييبها، تكون بالتأكيد مدمرة لصاحبها، وللجهة التي تُرسَل إليها. فعندما أقول: إن كميات هائلة من الأموال تم تهريبها من سورية في غضون شهرين، ولا تزال عمليات التهريب مستمرة، لا دخل للأمر بالوطنية أو الخيانة أو التخريب أو الاندساس أو التآمر، خصوصاً عندما استجدى بشار الأسد في خطابه الثالث بعد اندلاع الثورة في سورية المودعين الذين يودعون مبالغ مالية لا تزيد على الألف ليرة سورية، أو ما يوازي 20 دولارًا أمريكيًا، لكي يُبقوا على هذه ''المبالغ'' في المصارف، لوقف تسلسل انهيار الليرة. هذا وحده اعتراف من أعلى سلطة في البلاد بالحقيقة التي وصل إليها الاقتصاد. وتتفق الجهات المحايدة (لا المندسة ولا المتآمرة)، على أن أمر الاقتصاد السوري بات مجهولاً، تحت ضغط الثورة الشعبية العارمة، وهروب الأموال من البلاد (لا سيما الفاسدة منها)، وإمكانية بدء سلسلة من الإضرابات العامة، تقود بالضرورة إلى مرحلة عصيان مدني، لا أحد يستطيع أن يحدد أفقًا زمنيًا له، وإن كانت نتيجتها معروفة.

والحقيقة أن الاقتصاد السوري، لم يكن قائمًا على أسس اقتصادية تقليدية أو متبعة أو حتى معروفة، ليتمكن من المقاومة وتحمل الصدمات وما ينتج عنها. كان ولا يزال اقتصادًا أُسريًا بالمعنى الضيق لمفهوم الأسرة، ولا بأس من توسيع النطاق قليلاً، ليشمل الأسر القريبة والمقربة. وهذا النوع من الاقتصادات، لا يصمد أمام أرق الأزمات، فما بالنا بثورة شعبية عارمة لم تشهدها سورية حتى في ثمانينيات القرن الماضي. ويسجل التاريخ أن الاقتصادات الأسرية، تنهار سريعًا، وقبل أن تنهار تكون أموال الأسر قد وصلت إلى ملاذات آمنة بكل الطرق. وتثبت التجارب أيضًا أنه حتى في ظل الإجراءات والقوانين العالمية الصارمة لمكافحة الأموال المنهوبة (لا سيما من الشعوب)، فإن الناهبين يمكنهم العثور على ملاذات ما. وعلى هذا الأساس، رغم الأهمية الرمزية أو المعنوية للعقوبات الأمريكية والأوروبية على أركان النظام السوري وفي مقدمتهم بشار الأسد، إلا أنها لن تحول دون هروب الأموال من سورية، ولن ينفع التعميم الجديد للإدارة الأمريكية على المؤسسات المالية الأمريكية أو تلك المرتبطة بها، بضرورة أخذ الحذر والحيطة الآن أكثر من أي وقت مضى، فيما يرتبط بتحويلات مالية سورية، بل طالبت الإدارة هذه المؤسسات بحتمية التمحيص في هذا المجال، بعد أن تلقت معلومات مؤكدة بأن الأموال المهربة من سورية تتعاظم على مدار الساعة.

ليس مهمًا التحذير الأمريكي الجديد، ولا الأوروبي إن وجد. المهم أن أكثر من 20 مليار دولار أمريكي هُربت من المصارف السورية إلى اللبنانية، أو إلى خزائن سرية في لبنان. هل للإدارة الأمريكية سلطة ما على هذه المصارف؟! الجواب هو: لا. الحق أن هذا الرقم ليس من عندي، ولا أجرؤ أن أقدم رقمًا دون مصدر أو مرجع رصين. إنه رقم جمعته مجلة ''الإيكونوميست'' البريطانية العريقة، التي أظهرت تحقيقاتها أن شخصيات سورية على لائحة اتهام المحكمة الدولية هي التي هربت هذه المبالغ الهائلة. وإذا كان ليس مهمًا تحذير واشنطن الجديد للمؤسسات المالية الأمريكية من إمكانية تسرب أموال سورية فاسدة، مسروقة، منهوبة، مختلسة (لنسمها ما شئنا) إليها، فليس مهمًا أيضًا النفي اللبناني، بأن المصارف اللبنانية لا تستقبل أموالاً مشكوكًا في أمرها. فلا تزال لأيادي السلطة السورية أمكنة في لبنان. ولنا أن نعرف أن المصارف اللبنانية تمتلك 40 فرعًا في سورية، وتستقطب أكثر من 51 في المائة من إجمالي الودائع في المصارف الخاصة، التي تمثل ثلث النشاط المصرفي هناك. وإذا كان هذا ليس مهمًا، فإنه من المضحك والمثير للسخرية أن يعلن مدير هيئة الاستثمار السورية أحمد دياب أن الحكومة السورية تعمل على إعادة الأموال المهاجرة التي تقدر بنحو 100 مليار دولار أمريكي للاستثمار داخل البلاد!! وربما لمزيد من ''الدراما'' الاقتصادية، أنقل حسب ترجمتي الشخصية لمقال ''الإيكونوميست'': ''إن الأموال المهربة من الأراضي السورية إلى اللبنانية، تُنقل عن طريق سائقي سيارات خاصة، وأن نسبة كبيرة منها تعود لكل من ـــ السيئ الصيت والسمعة ـــ ماهر الأسد شقيق بشار، وآصف شوكت صهره، ورستم غزالة ـــ أحد أكثر الموالين للنظام في سورية''. وحسب المجلة الرصينة، فإن هؤلاء السائقين يعرفون مسبقًا أنهم ينقلون هذه الكميات الهائلة من الأموال. والمضحك المبكي في هذا الأمر، أن بشار الأسد، الذي يستجدي ألف ليرة من أي مواطن سوري لإيداعها في المصارف السورية لم يمنع، أو على الأقل لم يقنن خروج الأموال الهائلة من البلاد (لا سيما الشرعية منها)، رغم محاولات بائسة ويائسة من قبل بعض المسؤولين في البنك المركزي السوري، لتحديد سقف للسحوبات.

ما تم جمعه من الأموال الهاربة من سورية ـــ حتى الآن ـــ يصل إلى 20 مليار دولار أمريكي، وهذه الأموال منها الفاسد الناتج عن عمليات استحواذ تجارية قسرية من الأفراد المقربين من أسرة الأسد، في مقدمتهم ابن خاله رامي مخلوف، الذي يسيطر على 60 في المائة من اقتصاد البلاد، ومنها ما هو شرعي، لكنه في حدوده الدنيا. فالمصارف التي وسعت نشاطاتها بصورة كبيرة في سورية منذ خمس سنوات تقريبًا، يمكلك المقربون من أسرة الأسد إما غالبية أسهمها، أو أنهم يملكونها كاملة بشكل غير مباشر. وقد دخلت فيها كميات كبيرة من الأموال في إطار تحويلها إلى سيولة شرعية (غسلها بأكبر كمية ممكنة من مواد الغسيل)، غير أن هذا لم يضمن لها النظافة لدى غالبية دول العالم، ولا سيما الدول الغربية.

لقد هربت الأموال غير الشرعية من سورية منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة الشعبية العارمة، وتحولت إلى أماكن يصعب على المراقب الدولي ـــ أيًا كان ـــ الوصول إليها. وفي الواقع، لم تدخل هذه الأموال خزانة الدولة على الإطلاق، رغم أنها منهوبة من مقدرات الشعب السوري كله. ولذلك فهي لا تؤثر سلبًا ـــ من الناحية العملية لا الأخلاقية ـــ في الاقتصاد الوطني مباشرة؛ لأنها ليست محسوبة ضمن نطاقه أصلاً. الذي يؤثر حقيقة هو هروب الأموال الشرعية من البلاد، ومع ذلك فإن تكاليف الفساد السائد في سورية، أكبر بكثير من تكاليف المشاكل الكبرى التي يواجهها الاقتصاد حاليًا. وفي كل الأحوال هي تكاليف ينبغي أن تُدفع، إذا ما أُريد للتغيير في سورية أن يتحقق.

في التاريخ، نهضت دول من بين الركام. لم ينهر الاقتصاد فيها فحسب بل لم يبقَ حجرٌ على حجر.

كي يكون صندوق النقد بلا انتقاد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

''نحتاج إلى تجديد المعنى الكامل للكلمة القديمة: واجب. إنها الجانب الآخر للحقوق''
بيرل باك كاتبة أمريكية




 
محمد كركوتــي
 
حسناً.. انتخبت كريستين لاغارد وزيرة الاقتصاد الفرنسي، مديرة عامة لصندوق النقد الدولي (بالتوافق). وقد دخلت التاريخ، كأول امرأة تتسلم هذا المنصب. ويبدو أن العالم، لا يزال قابلاً لاحتكار أوروبا هذا المنصب 11 من أصل 12 مرة، فازت الولايات المتحدة الأمريكية بالمرة ''اليتيمة'' فيها. وبلاغارد تكون فرنسا قد احتلت هذا المنصب الحيوي العالمي المهم خمس مرات. التوافق في كل شيء هو أمر جيد، وإن كان في حالة اختيار الوزيرة الفرنسية خجولاً. أما لماذا ذلك؟ فلأن العديد من الدول الناشئة التي باتت مؤثرة في الساحة الدولية، كانت تريد أن تغير ''القوانين'' غير المكتوبة في اختيار مدير صندوق النقد، وكانت ترى أن المتغيرات التي أحدثتها الأزمة الاقتصادية العالمية، كفيلة في المساهمة بتبديل هذه ''القوانين''، وأن معايير اتفاق ''بريتون وودز'' (وليد ما بعد الحرب العالمية الثانية)، ستنال من ''القوانين'' نفسها، وأن المؤهلات المطلوبة في مدير صندوق النقد، يمكن أن تتوافر عند غير الفرنسيين أو الأوروبيين أيضاً، وأن اختيار شخصية مؤهلة من غير الأوروبيين، سيسهم في تكريس أدبيات المنهج الذي اتبعته إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وأيدته الدول الغربية الأخرى، والذي عرف بمنهج ''الإشراك''.

وتمنيات الدول الناشئة وتوقعاتها بهذا الصدد، لا تنال بالضرورة من إمكانيات لاغارد، ولا من سمعتها الجيدة على المستوى العالمي، ولا من جديتها الاحترافية في العمل. فهي تتمتع بمزايا عديدة، لعل في مقدمتها معرفتها للثقافة الأنجلوسكسونية التي تمكنها من معالجة الاختلافات في ''الجسم'' الاقتصادي الغربي نفسه، في وقت لا يزال الاقتصاد العالمي يعاني فيه الهشاشة والضبابية. وعلى الرغم من أهمية تجربتها كوزيرة سابقة للزراعة والصيد البحري، ووزيرة منتدبة للتجارة الخارجية، وبعد ذلك وزيرة للاقتصاد، إلا أنها تستطيع أن تتباهى، بكونها وزيرة الاقتصاد الغربية، الأكثر فاعلية وجدية في مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية. فهذه الأزمة ـ كما نعلم ـ باتت تشكل مؤشراً أساسياً لجودة المسؤول وخبرته وعدم اضطرابه، واختباراً لإمكاناته. وقد نجحت لاغارد بالفعل في وضع مخططات ناجعة، لإنقاذ العديد من اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، التي واجهت وتواجه مشاكل عميقة بسبب الأزمة، بما في ذلك إمكانية إفلاس دول بأكملها. وتكفي الإشارة هنا، إلى معالجتها المتأنية ـ لا العنيفة ولا المتهورة ـ مشاكل دول مثل البرتغال وإيرلندا واليونان. ولهذا السبب صنفت جريدة ''فاينانشيال تايمز'' البريطانية الرصينة لاغارد كأفضل وزيرة اقتصاد في منطقة اليورو لعام 2009. كما صنفتها مجلة ''فوربس'' الأمريكية الشهيرة، في المرتبة السابعة عشرة، ضمن الشخصيات الأكثر قوة ونفوذاً في العالم. ولعل من أفضل مزايا المديرة الجديدة لصندوق النقد الدولي، أنها تمتلك علاقات جيدة مع العديد من الشخصيات السياسية والاقتصادية المؤثرة في العالم، مما يوفر لها أرضية صلبة للعمل بعيداً عن المنغصات والمناوشات.

وفي مقال سابق لي نشرته تحت عنوان ''إلى مدير صندوق للنقد يمارس سياسة الاقتصاد لا اقتصاد السياسة'' (وهذا ـ بالمناسبة ـ أطول عنوان لمقال كتبته في حياتي)، وذلك في سياق إبراز مخاوف غالبية دول العالم، من استمرار ما تبقى من ممارسات سياسية داخل صندوق النقد الدولي. وكنت من الذين يعتقدون أنه من الضروري أن يأتي إلى هذا المنصب، ''مهني اقتصادي''، بمعنى أن يكون مدير أهم مؤسسة اقتصادية دولية، اقتصادي فقط. يشتغل في هذا المجال فقط. لا يعرف إلا المعايير الاقتصادية الخالصة فقط.. أن يكون مُعلِماً حراً في مهنته فقط. فزمن ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، يتطلب وجود تكنوقراط، لا سياسيين ساهموا بشكل مباشر، وبصورة بائسة، في تفجر الأزمة. فقد كانت السياسات الاقتصادية تُرسم وفق المعايير السياسية وحتى الحزبية في العديد من الدول التي تملك صنع القرار الاقتصادي العالمي.

يقول آفرين بول الكاتب والشاعر الأمريكي: ''الغالبية العظمى منا تستطيع قراءة المكتوب على الحائط. لكننا نعتبر أنه مكتوب لغيرنا''. في أغلب الأحيان كانت ممارسات صندوق النقد الدولي، تتماشى مع ما قاله بول. والسبب الرئيس أن القائمين على هذا الصندوق، كانوا يمارسون السياسة في القطاع الاقتصادي! وقد أفرز هذا السلوك الكثير من المشاكل، بدأت في غالبيتها صغيرة، وانتهت إلى الفشل في مواجهتها. نحن نظلم كريستين لاغارد، إذا ما حاسبناها فقط على انتماءاتها السياسية، لأنها ـ كما أشرنا ـ اقتصادية حرفية حقيقية. وأمام هذه الثنائية، على المديرة الجديدة للصندوق، أن تثبت لمن تبقى من المتشككين فيها، أنها ستمارس الاقتصاد لا السياسة، وأنها ستعمل على تكريس حراك إصلاح هذه المؤسسة الدولية الكبرى، وأنها ستأخذ في الاعتبار مخلفات وتداعيات الأزمة الاقتصادية، وأنها ستعمل على منح الاقتصادات الناشئة المزيد من الصلاحيات، وأنها ستتحرك لكي تحصل بعض الدول على تمثيل وظيفي، يوازي حجم مساهماتها المالية في الصندوق (المملكة العربية السعودية مثلاً) وأنها ستمضي قدماً في تنفيذ سياسة سلفها جوزيف ستراوس- كان، والتي تتمثل في تقديم الدعم المالي والتقني اللازمين للدول الفقيرة (ولا سيما الإفريقية منها) للنهوض باقتصاداتها.

لا أبالغ إن قلت: إن مهمة لاغارد هي أصعب مهمة لمدير لهذا الصندوق منذ تأسيسه، وذلك لأسباب عديدة، في مقدمتها، أن العالم تغير اقتصادياً من جراء الانفجار، لا بمعايير التغير الطبيعي، وأن الدول التي كانت هامشية سابقاً، لم تعد كذلك الآن، وأن سلوك الإقصاء الذي كان سائداً طوال أكثر من ستة عقود، بات مضحكاً في هذا الزمن، وأن الكبير التقليدي فقد الكثير من خصائص الكبر. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن الصين استطاعت في غضون عقد من الزمن، أن تتدرج في قائمة الدول ذات الاقتصادات الكبرى، لتصل إلى المركز الثاني. وهناك من يقول، إن هذه الدولة، ستتجاوز إلى المركز الأول في غضون عقد آخر من الزمن.

وأحسب أن كريستين لاغارد، تفهم هذه التحولات التاريخية الكبرى، وتفهم أيضاً، أن ما كان ينفع قبل الأزمة الاقتصادية الكبرى، لم يعد له مكان بعدها، وأن ''منهج الإشراك'' الذي أطلقه أوباما سياسياً وقَبِله الغرب، لن تكتمل عناصره إذا لم ينسحب على الاقتصاد أيضاً. وأحسب، أن لاغارد تفهم أهمية ''التوافق'' حولها في اختيارها لهذا المنصب. فالتوافق يضيف أعباء كبرى على الشخص المتوافق عليه، لأن المطلوب منه إرضاء المتوافقين، لا الأغلبية. وأحسب أيضاً، أن إرضاء الشرق الذي اكتوى بنار الغرب من جراء أزمة لا دخل له فيها، ستضع لاغارد على رأس قائمة أفضل مدير لصندوق النقد الدولي. وقتها سينسى من طالب بفك احتكار أوروبا والغرب لهذا المنصب، هذه المسألة، لأن النتائج الجيدة المبنية على قواعد مهنية، ستغلي أي انتقاد، خصوصاً إذا ما شمل منهج الإشراك كل شيء. وهذا المنهج يبني ثقافة إنسانية، لا وطنية ولا إقليمية .. وبالتأكيد لا نخبوية.