الخميس، 20 ديسمبر 2012

إيران تتنفس مالياً رغم العقوبات

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«إيران هي التي تعزل نفسها عن بقية العالم»
ليون بانيتا وزير الدفاع الأمريكي



كتب: محمد كركوتــــي


مع الموجات المتلاحقة من العقوبات الاقتصادية المختلفة التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران، يتصاعد سراً مستوى تعاملات مؤسسات ومصارف غربية من كل الأحجام، مع النظام الإيراني، ما يخفف عنه الأوجاع الناجمة عن العقوبات بشكل عام. ولا يبدو - حتى الآن - أن التهديدات الغربية الموجهة لهذه المؤسسات، لها تأثير عملي وواقعي، فيما لو استثنينا فضيحة لمؤسسة هنا، ومصرف هناك، تنتهي عادة بغرامة واعتذار. فهناك نسبة من العقوبات تمتصها إيران عن طريق سلسلة من عمليات الاحتيال والتحايل والالتفاف حولها، ما يحتم على الدول الفارضة لعقوباتها أن تلتفت بصورة أكبر إلى مؤسساتها التي تخرق العقوبات بكل الصيغ الممكنة، خصوصاً إذا كان الاحتيال جزءا أصيلا من سياسة النظام الإيراني. وفي كل الأحوال الفتاوى حاضرة حسب الطلب، بما في ذلك فتاوى الاتجار بالمخدرات، من تلك التي مُنحت لزعيم حزب الله الإيراني في لبنان حسن نصر الله.
واللافت أن الولايات المتحدة و(الغرب عموماً) توصلت من خلال تحقيقات عالية الجودة، إلى حقائق مريعة في هذا المجال، بما في ذلك الكشف عن مؤسسات أمريكية وأوروبية تقدم خدماتها الاحتيالية لنظام علي خامنئي. وقد تبينت هذه الدول أن تهديداتها بملاحقة المؤسسات المشار إليها، لم تحقق المطلوب منها، بل تم الكشف عن معلومات تفيد بأن المؤسسات التي ضُبطت (لا سيما المصارف) لها من الأذرع السرية غير المضبوطة، التي باشرت العمل فوراً، الأمر الذي يجعل المهمة صعبة، ما يتطلب ليس فقط توحيد الجهود ضدها، بل تطوير آليات مواجهتها. وحتى الآن ما زالت إيران تسبق الحكومات الغربية بكل مؤسساتها الاستخباراتية أكثر من خطوة في هذا المجال. فالعقوبات - كما نعلم - تعني تجفيف المنابع المالية للنظام الإيراني، وعلى هذا الأساس، فإن أي منبع مالي (مهما كان بسيطاً أو متواضع القيمة) يُحدث فجوة في هيكلية العقوبات، وكلما زادت الفجوات، تمتع النظام الإيراني بمساحة إضافية تمنح له ما يحتاجه للاستمرار في ''تنفسه المالي''.
هذا ''التنفس المالي'' يأتي بطرق مختلفة، بعضها يحتاج بالفعل جهودا مضاعفة للكشف عنها، لكن البعض الآخر يمكن الوصول إليه بسهولة، خصوصاً أن معظم المؤسسات (في الغرب) التي تخرق عقوبات الغرب، لها روابط إيرانية سابقة على العقوبات، بالإضافة إلى أفراد من أصول إيرانية يحملون جنسيات الدول نفسها الفارضة للعقوبات. وإذا أضفنا ''الخدمات'' التي يقدمها رجال أعمال ينتمون إلى دول متعاطفة ومتعاونة مع إيران، فإن علي خامنئي يستطيع - في بعض الأحيان - أن يتطلع إلى الغرب ويبتسم باستهزاء. وعندما نتحدث عن خروقات للعقوبات المفروضة على إيران، فإن ذلك يشمل دولاً محورية في هذه العقوبات كبريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا، طبعاً بالإضافة إلى الولايات المتحدة. والقضية في النهاية ليست معقدة. ما يحدث في أغلب الأحيان، أن مؤسسات أوروبية أو (أفراد) تقوم بتصدير مواد محظورة لإيران عن طريق دول ليست خاضعة للعقوبات. وهذا في الواقع أسلوب قديم في خرق العقوبات يعرفه الجميع. أي التصدير وإعادة التصدير، وأحياناً إعادة التصدير.
صحيح أن التهديدات التي أطلقها الغرب ضد الأطراف التي تساعد نظام خامنئي في ''تنفسه'' الاقتصادي والمالي، مهمة وكانت في الواقع ضرورية منذ أول جولة لهذه العقوبات، غير أن أدوات عقاب هذه الأطراف ليست مفهومة، بل ينظر إليها البعض ببعض من السخرية، على اعتبار أنه إذا لم يستطع الغرب التجفيف الكامل للمنابع المالية الإيرانية في الدول الغربية، فكيف يمكنه أن يلاحق ويعاقب الذين يقفون وراء هذه المنابع خارج النطاق الجغرافي الغربي؟! فحسبما رشح من معلومات في الدول الغربية نفسها، أن عمليات تبييض الأموال الإيرانية، ما زالت تجري بصور مختلفة على الساحة الغربية، بما في ذلك طبعاً، الاستخدام اللا محدود لشركات الصرافة، والمكاتب المرتبطة بها. وعلى سبيل المثال تمكنت السلطات في لندن، في الأسابيع الماضية، من تحديد شركات سياحية فيها، تقوم بعمليات غسل أموال حقيقية للنظام الإيراني. وعلينا أن نتخيل دور الشركات الأخرى المماثلة في بقية الدول الغربية.
أمام الدول الغربية مهام بالفعل صعبة لكي تفعل عملياً عقوباتها المفروضة على إيران. وعليها أن تبدأ أولاً من أراضيها قبل أن تستهدف الجهات خارجها. فحتى عندما يتم تفعيل العقوبات الخاصة بمنع إيران من تحويل الإيرادات التي تحققها من صادرات النفط إلى داخل البلاد، اعتباراً من شباط (فبراير) المقبل، فإن ذلك لا يعني ألا يجد خامنئي وأعوانه والعصابات التابعة له، طرقاً جديدة أخرى تلتف على هذه الخطوة المحورية في العقوبات. وعلى هذا الأساس، فإذا كانت العقوبات بكل أنواعها مهمة جداً لوقف حماقات النظام الإيراني وعدوانيته، فإن حماية هذه العقوبات جزء لا يتجزأ منها نفسها. ودون هذه الحماية، فإن الأنظمة المارقة كلها يمكنها أن تبتسم وتسخر مع كل جولة عقوبات يطلقها الغرب.

السبت، 8 ديسمبر 2012

فشل «الحجاب» في صد الحسد عن الليرة السورية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«المال لا ينتج النجاح، الحرية تصنعه بحرفية»
نيلسون مانديلا، رئيس جنوب إفريقيا الأسبق

كتب: محمد كركوتـــي


ورث بشار الأسد عن أبيه كل شيء، وليس فقط سلطة لم تكن له شرعية فيها، تماما مثل أبيه. ورث عنه حتى والدته (أنيسة) التي تستمتع بقتل الأطفال، وتدمير البلاد، من أجل البقاء يوما إضافيا في قصر لا تملكه. بل إن زوجته (أسماء)، ورثت عن والدته بشاعتها وأخلاقياتها، لتتكرس حقيقة، أن هذه العائلة تتوارث كل الخبائث، ضمن قوانين الحمض النووي وخارجها. فيكفي الاقتراب من (العائلة)، لضمان تلوث لا مُنظف مضاد له. تلوث لا يزول إلا بزوال المتلوث نفسه. ورث السفاح الراهن، الوحشية والهمجية، وإنتاج الظلم والقهر والتعذيب، وصناعة القتل والنهب والخراب. ورث طائفية ''أسرية''، توازي في بشاعتها قومية هتلر وموسوليني وميلوسوفيتش وكاراديتش. كانت تكفي بعض البراعة لدى أي شخص، للتحدث بلهجة الأسرة، ليس إعجابا ببلاغتها، ولكن لـ ''شرعنة'' المُحرم! كان إرثا يستحيل حصره. ولأنه كذلك في استحال إصدار شهادة ''حصر إرث''.
في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي نشرت مقالا بعنوان ''الأسد الابن يطبع الليرة بلا غطاء''. وقتها انبرى أعوان الأسد، لنفي أي شيء يرتبط بطباعة الليرة، بل شددوا على أنه ليس في نية النظام أن يقدم على هذه الخطوة، لماذا؟ لأن الاقتصاد السوري قوي، إلى درجة أن أصبحت الليرة نفسها محسودة! وأبديت ''تعاطفا'' مع هؤلاء، واقترحت عليهم أولا، تعليق ''حجاب إلكتروني'' على كل ورقة نقدية لحماية الليرة من الحسد، وتعيين العرافة ماجي فرح، إما مستشارة اقتصادية لـ ''الدولة''، أو حاكمة للبنك المركزي السوري، أو بالأحرى حاكمة لما تبقى من مركزية وسورية البنك، إن توفرتا أصلا. ففي قناعة هؤلاء، أن العالم أجمع يحسد سورية والسوريين على بشار الأسد. فلا غرابة في أن يحسد الاقتصاد كله، ومعه الليرة وكل القطاعات في البلاد. ولمن نسي، فقد أعلن أحد نواب ما يسمى بمجلس الشعب، بأن ''سورية أصغر من أن تحكمها يا سيادة الرئيس. يجب أن تحكم العالم''!.
لم تتمكن روسيا من إخفاء أمر طباعة الأوراق النقدية من الليرة السورية، لحساب بشار الأسد. مثل هذا الأمر لا يمكن إخفاؤه مهما كانت قوة وصلابة خبرات فلاديمير بوتين الاستخباراتية الموروثة من رئاسته لجهاز الـ ''كي جي بي'' لسنوات طويلة. ولو ظهر راسبوتين مجددا، لفشل في إزالة رائحة الطباعة عن الأوراق الجديدة. فالأوراق النقدية اختُرعت أصلا للتداول لا للتخزين، والأوراق التي يطبعها بوتين للأسد تحديدا، لا يقبل حتى هذا الأخير بتخزينها، لأنها بلا سند، وتكاليف تخزينها أعلى من قيمتها، وبالتالي لا نفع لها في المستقبل. لقد اختصرت المؤسسات الأجنبية الطريق منذ البداية، وأعلنت رفضها التعامل بالأوراق النقدية السورية الجديدة التي تظهر في نطاق التداول. والحقيقة، شكلت هذه الخطوة الضربة الأولى للأسد وعصاباته بعد أسابيع من اندلاع الثورة الشعبية العارمة في البلاد. بلغ وزن أوراق الليرة السورية المطبوعة في روسيا أكثر من 240 طنا، نُقلت على مراحل في فترة قصيرة إلى سورية. وكما أن تكاليف تخزينها أعلى من قيمتها، كذلك تكاليف نقلها. ومع ذلك، فإن هذه الكميات الهائلة، تجد في سورية سوقا وإن كانت وهمية.
لقد جرب الأسد طباعة الليرة في دمشق، لكنها أتت رديئة مثل نظامه، ومكشوفة مثل تاريخه. وبعد أن رفض الأوروبيون (وتحديدا النمسا) تنفيذ عقود الطباعة له، كان بوتين يوقع عقدا جديدا آخر معه، حتى بعد معارضة خافتة ومتواضعة (وفي حالة الحكومة الروسية.. وضيعة) من المسؤولين وخبراء المال في موسكو. فكلنا يعرف، أن النقاش والجدل من الممنوعات عند الرئيس الروسي، فكيف الحال بالمعارضة؟ لم يتبق لدى الأسد (بالفعل)، من الأوراق النقدية التي تغطي رواتب حوالي مليوني موظف حكومي في سورية. وحتى الأوراق المغطاة ماليا، انكشفت على مدى 20 شهرا، بحيث قفز الدولار الأمريكي من 57 ليرة إلى ما بين 85 و100 ليرة. فالغطاء المالي لهذه العملة، تبخر نتيجة لعاملين اثنين. الأول: النهب التاريخي الذي يتعرض له احتياطي البلاد من القطع الأجنبي، بما في ذلك احتياطي الذهب الذي صب في كل من روسيا وإيران، وتقدر قيمته بـ 2,5 مليار دولار. والثاني: تخصيص جزء كبير منه لتمويل حرب الإبادة التي تشن بلا هوادة على الشعب السوري.
الأطنان من الأوراق المالية التي يطبعها بوتين ويصدرها إلى سفاح سورية، هل بمنزلة حبل آخر حول رقبة الاقتصاد السوري ما بعد سقوط بشار الأسد. فهذا الأخير، يثبت مرة أخرى، حجم كراهيته للسوريين كلهم. يسعى إلى تكبيلهم اقتصاديا حتى بعد زواله الحتمي. فقد باع السندات قبل الطباعة المشؤومة، وهو مستعد في أيامه الأخيرة، لأن يبيع البلاد كلها، في سبيل أن يبقى يوما إضافيا في سلطة، وفرت كل الأجواء التي تقوده إلى حبل المشنقة، بعد أن حولها (وقبله والده)، إلى ''فرامة'' لشعب بأكمله. لن تنفع (الأسد) ''ليرات'' بوتين السورية، كما لم تنفع أسلحته الروسية. ليس فقط بسبب الثورة السورية الاستثنائية في التاريخ الحديث، بل لأنه لا عهود دائمة بين قادة العصابات.

المال المنهوب + المال الوطني = اقتصاد جديد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«علينا أن نستثمر في البني التحتية للتنمية، وإعادة بناء المجتمع لخلق فرص العمل»
كارول برون عضو مجلس الشيوخ الأمريكي

كتب: محمد كركوتــــي


ينشط أصدقاء الشعب السوري في حراك لافت ومتفاعل ومُركز، على صعيد مرحلة ما بعد سقوط سفاح سورية بشار الأسد، أكثر مما ينشطون ويتفاعلون ويركزون، على المرحلة التي تسبق سقوطه الحتمي. والأمر مفهوم تماماً، لأن حسابات ومحاذير بل ومخاوف ما قبل السقوط، أكثر حضوراً (لديهم) الآن من تلك التي تخص ما بعده، بصرف النظر عن الخسائر المتنوعة الناجمة عن سلوكيات تعاطي "الأصدقاء" مع المرحلتين، بما في ذلك الخوف الكامن والمعلن لدى هؤلاء، من إمكانية أن يسرق الإسلاميون السوريون (ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين) منتجات الثورة الشعبية الكبرى التي تجري في البلاد منذ أكثر من 20 شهراً. هذا الخوف، أفرز تقاعساً فظيعاً من جانب "الأصدقاء"، خوف يُعزز (بصورة باتت تدعو إلى السخرية) "الإمكانية" التي يخشون منها! الأمر الذي أدى إلى تعاظمه، بدلاً من تآكله. لقد ظهر هؤلاء في كثير من الأحيان، بمظهر العاجز عن مواجهته. الخوف المشار إليه، موجود ومبرّر، لكن آليات مواجهته أضعف منه.
هذا الوضع النادر (بالفعل)، لا يلغي أهمية ومحورية الحراك الناشط لـ "الأصدقاء" على ساحة ما بعد سقوط الأسد ونظامه، فهو في النهاية يرتبط بمستقبل يربط الشعب السوري ومحبيه، الذين قرروا بصدق المساهمة في إعادة بناء سورية، كما أنه يؤسس لعلاقة أكثر من ضرورية بين الطرفين. علاقة لا يستغني عنها الطرف الأول، ويصعب على الطرف الثاني تجاهلها. خصوصاً أن المساهمة في إعادة البناء، لا دخل لها بأي نوع من الإمدادات الخيرية. إنها مجبولة بالمصالح السياسية والاقتصادية، بل وبمستقبل ومصير منطقة، يبدو الهدوء والاستقرار فيها، شكل من أشكال الترف و"الكماليات". إنهما "سلعتان فاخرتان" للمنطقة بأكملها. ولذلك، فإن الحراك الذي يستهدف الاقتصاد السوري ما بعد الأسد، المتمثل باجتماعات مجموعة عمل أصدقاء الشعب السوري، المعنية بإعادة بناء الاقتصاد والتنمية، يكتسب أهمية كبيرة، ليس فقط من جهة نوعية وقوة المنخرطين فيه، بل من ناحية ما يُطرح من خلاله، وما ينتج عنه من أفكار وتصورات ودراسات. وإن برزت بين الحين والآخر في سياقه، شذرات قليلة (ليست غريبة بالطبع) عن مثل هذا الحراك.
العرب ومعهم الدول الغربية المحبة للشعب السوري خلال كارثته التي يعيشها، وما بعدها، يشكلون عاملاً مهماً جداً في مرحلة إعادة بناء الاقتصاد السوري، وبالأصح بناء اقتصاد وطني جديد. فما سيتبقى (بعد زوال الأسد) من "أطلال" اقتصادية، يستحيل البناء عليها. والجميع يعرف، أنه لم يكن في سورية على مدى أكثر من أربعة عقود شيء يستحق توصيفاً قريباً من الاقتصاد، بل كانت هناك مؤسسة عائلية (وطائفية) الدولة نفسها كانت إحدى شركاتها، يديرها "خريجون" من "المعهد الاقتصادي" لأي عصابة. ورغم أهمية الدور العربي والغربي في بناء الاقتصاد الجديد المأمول، الذي يستند (مرة أخرى) إلى الاستثمار لا الأعمال الخيرية، إلا أن هناك عنصرين يشكلان أساساً لهذا الاقتصاد، وهما: المال الذي يملكه رجال الأعمال السوريون الوطنيون، والمال الذي نهبه الأسدان (الأب والابن) وعصاباتهما على مدى السنوات الأربعين الماضية. وإذا كانت جلسة واحدة من جلسات مؤتمر "شركاء في بناء سورية" الذي عُقد أخيراً في دبي، سجلت تعهدات من مستثمرين سوريين مشاركين بلغت 5 مليارات دولار أمريكي، فهذا شيء مطمئن خصوصاً مع صدق النوايا وثبات الكلمة. ومن خلال معرفتي بغالبية هؤلاء "المتعهدين"، فإنني أستطيع القول: إن وطنيتهم تؤازر كلمتهم.
هناك العنصر الثاني، الخاص بالمال المنهوب. وهو محور لا ينبغي أن يكون مطلوباً فقط من السوريين المسروقين، بل من الدول التي تجمع لديها بصورة أو بأخرى، بخزانة أو بأخرى، بحفرة أو بأخرى، بشركة أو بأخرى.. وهكذا. صحيح أنه لا يوجد حكيم، يمكنه أن يحدد برقم معين حجم هذا المال، ولكنه يستطيع ألا يخشى من تقديره ما بين 30 و40 مليار دولار أمريكي، كحد أدنى. وهذه الأموال وحدها، يمكنها أن توفر انطلاقة كبيرة لبناء الاقتصاد السوري، خصوصاً أن التقديرات الأولية تحوم حول احتياجات سورية ما بعد الأسد إلى أموال فورية تترواح ما بين 50 و60 مليار دولار. على الدول المحبة للشعب السوري، أن "تنبش" بسرعة هذا المال. وهي بذلك لن تعيد المال لأصحابه، بل ستخفف عنها بعض الالتزامات الاستثمارية (أو الإنقاذية المستثمرة) التي ارتضتها لنفسها، في سياق بناء الاقتصاد السوري. وبما أن غالبية هذه الدول تواجه أزمات اقتصادية موروثة من الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن العمل الجاد والسريع والديناميكي، بما في ذلك استصدار قوانين وتشريعات، تلغي تلك التي تُطيل أمد الرحلة نحو استعادة أموال الشعوب المنهوبة بشكل عام، سوف يعطي ثماره بنفس وتيرة السرعة المشار إليها.
عنصران أساسيان حاضران فعلاً، يمكن ببساطة تطويعهما في المشروع التاريخي المنتظر، لبناء اقتصاد سوري، يستحقه السوريون أولاً، ويكرس تلك المحبة التي أظهرها أصدقاؤهم، بصرف النظر عن أولويات هذه المحبة، التي قد لا تتفق بنودها الزمنية.

الأربعاء، 21 نوفمبر 2012

في سورية.. إفقار الفقير أيضاً

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


«لكل شيء حدود. لا يمكن تحويل الحديد إلى ذهب»
مارك توين - أديب أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

بعد أن فرض بشار الأسد ''اقتصاد المقايضة'' على الشعب السوري، لا سيما في المناطق التي لديها شيء ما تقايض به. وبعد أن أفرغ البلاد من كل مقدراتها (أباً عن ابن)، ويواصل إفراغها من سكانها قتلاً وتهجيراً. وبعد أن سحب ما في جيوب السوريين من ليرات متبخرة القيمة أصلاً، لا يسندها إلا الوهم؛ لم يبق للسوريين شيء يساعدهم على متطلبات الحياة اليومية، بصرف النظر عن طبيعة هذه الحياة، التي تراوح بين القصف المتواصل بالطائرات الحربية، وإسقاط القنابل ''البرميلية'' عليهم مع القنابل الفوسفورية، واستهدافهم حتى على المخابز، وتحويل المدارس إلى ثكنات، والجامعات إلى مواقع عسكرية، وقنص ما أمكن منهم. فهي حياة لا بد أن تُعاش. وهي بحد ذاتها تحد لنظام لا يستمر إلا بالقضاء عليها. ألم تكن قبل الثورة ميتة؟
''اقتصاد المقايضة'' تلا مرحلة ''اقتصاد الفقر وما دونه''، في سياق أنواع لا حصر لها من ''اقتصادات الخراب''. هذا إذا كانت تستحق أساساً التوصيف الأول. فإذا كان سكان المناطق الزراعية التي لم تصل إليها آلة الأسد الماحقة (وهي قليلة جداً)، يجدون ما يقايضون به، من خلال ما ينتجونه لاستهلاك أسرهم، والحصول على منتجات أخرى ضرورية، فإن سكان المدن ليس لديهم هذا ''الثراء''. مع ضرورة الإشارة إلى أن ''حراك'' المقايضة يتم بعيداً عن المناطق التي توالي الأسد وعصاباته. دون أن ننسى أن النزوح الهائل الذي يتم على مدار الساعة في سورية، أضاف أعباء كبيرة على كاهل سكان المناطق الريفية بشكل عام. ولكي يكرس مصائبهم، يمنع الأسد عن هؤلاء كل الاحتياجات الخاصة بالإنتاج الزراعي، بما في ذلك الوقود والبذور والسماد وغيرها. فاستراتيجيته تتخلص بإما أن يُقَتلوا أو يموتوا جوعاً.
ومع ذلك، فإن هؤلاء يعيشون بنعمة (بصرف النظر عن مدتها وجودتها)، مقارنة بسكان المدن، الذين يحصلون على رواتب أقل 60 في المائة من قيمتها قبل سنة، ويعيشون جنباً إلى جنب، مع غول البطالة المتعاظمة. الآن في سورية أكثر من 55 في المائة من اليد العاملة لا تعمل، من فرط الإغلاق اليومي للشركات والمؤسسات على مختلف أحجامها. بل حتى المؤسسات ''الحكومية''، لم تعد تشكل ضمانة لنسبة من القوى العاملة. فهذه الضمانة لا تأتي إلا من خلال حكومة شرعية. وفي سورية لا توجد مثل هذه الحكومة، ولم تقم الثورة الشعبية العارمة إلا من أجل شرعنة الحكم ومؤسسات الدولة.
في ظل هذا المشهد الفظيع، ابتكر الأسد اقتصاداً تخريبياً آخر، وهو ''إفقار الفقير''! وهذا لوحده يشكل جريمة أخرى ضد الإنسانية، لأنه متعمد، ولأنه جزء أصيل من استراتيجية الأسد الشاملة. فطبقاً للإحصاءات الميدانية، بلغت نسبة المواطنين الذي باعوا ما يملكون من الذهب أكثر من 40 في المائة. وهؤلاء لم يبيعوا الألماس أو البلاتين أو اللؤلؤ المكنون، وغيرها من أنواع المجوهرات، لأنهم ببساطة لا يملكونها. ما باعوه ليس سوى خواتم الزواج والهدايا الرمزية التي تقدم عادة للمواليد. وحتى عمليات البيع هذه لا تتم بعد مراجعة ذاتية. يدخل ببساطة ''الزبون'' إلى محل المجوهرات، وينزع الخاتم من أصبعه، ويعرضه للبيع. ولنا أن نتخيل فداحة مشاعره وهو يقوم بهذه العملية التجارية الفظيعة. الجملة الوحيدة التي ينطق بها خجلاً، هي تلك التي يوجهها لصاحب المحل ''ألا يمكن أن تقدم لي سعراً أفضل''؟ وفي أغلب الأحيان الجواب: لا.
''إفقار الفقير'' ولد نوعاً جديداً من المرابين. فالبائعون هنا ليسوا تجار ذهب ومجوهرات، بل باحثون عن ثمن للقمة العيش. وهنا فقط يتوالد المرابون، وتنتعش أسواقهم. أليسوا دائماً تجار المحن، ومستثمري المصائب؟ أليس هذا ما يهدف إلى إنجازه النظام المتهاوي في سورية؟ منذ عام، بدأ الأغنياء في تحويل أموالهم إلى الذهب بكل أشكاله. والغالبية العظمى من الأغنياء في البلاد لا يمكن فصلهم عن النظام نفسه. فهم لا يكتسبون هذا التوصيف إلا إذا كان راضياً عليهم، وفي الأغلب الأحيان مشاركاً معهم. وهذا هو الذهب ''العاطفي'' لا التجاري، يصب في خزائنهم، وفي حقائبهم المهربة إلى الخارج. وإذا كانت نسبة أصحاب هذا الذهب بلغت 40 في المائة من السوريين، فإنها ستصل بلا شك إلى 100 في المائة، فيما لو طال أمد هذا النظام الوحشي.
سيزول الأسد بالتأكيد، وسيترك في سورية ''خراباً عاطفياً'' يضاف إلى الخراب الكلي الذي أوقع به البلاد لأكثر من أربعة عقود، بعد أن فرض كل أنواع الاقتصادات التي لم تترك شيئاً للسوريين ليبنوا عليه. إنهم مطالبون ببناء اقتصاد جديد في واحدة من أقدم دول العالم، وعليهم أن يتمسكوا بـ ''الذهب'' الحقيقي الذي تملكه ثورة اتُفق على أنها استثنائية بكل معايير الثورات. فهي الوحيدة الآن التي ستوفر الأساس لبناء دولة يستحقها كل سوري ضحى بكل شيء من أجل الخلاص من نظام ما كان ينبغي أن يكون.

الاثنين، 19 نوفمبر 2012

في إيران.. جهاد الاكتفاء الذاتي أيضاً!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«ثمن العظمة.. المسؤولية»
ونستون تشرتشل، رئيس وزراء بريطانيا الراحل


كتب: محمد كركوتـــي


في إيران، لا يمكن تجاهل تشكيلة من ''الجهادات'' - إن جاز التعبير - المتنوعة و''المتميزة''، بل والفريدة، كما لا يمكن إلا الانتباه لتتطابقها مع ''الصرعات''، مع اختلاف واحد بينهما، وهو أن لـ''الصرعة'' أجل لا يكون طويلاً عادة. لنتذكر فقط ''البوهيمية'' و''الهيبز'' و''البانكس'' و''الروك'' و''الراي'' وغيرها، التي انفجرت كصرعات في مدد زمنية محددة ومختلفة. والحق، لم يفكر مفجروها في استدامتها أصلاً. بينما ''الجهادات'' الإيرانية، ليست متنوعة فحسب في الزمن الواحد والمكان الواحد، بل تحتضنها بيئة سياسية طائفية ''مهدية'' و''خمينية''، توفر لها كل أشكال الاستدامة، بل وتكرسها كمنهج للدولة نفسها. فالجهاد بأنواعه وألوانه، جزء لا يتجزأ من ''جودة'' الوطنية! في الدولة الوحيدة في هذا العالم التي ''دسترت'' - من دستور - الطائفية! ووضعتها جنباً إلى جنب، النشيد والعَلَم وشكل الحكم.
بعد ''الجهاد'' الطائفي، والسياسي، والاقتصادي، والشعبي، و''جهاد'' تصدير الثورة، و''جهاد'' حماية سفاح سورية بشار الأسد، و''جهاد'' الاستحواذ على العراق، وغيرها من ''الجهادات''، انطلق في إيران ''جهاد'' ماذا؟ الاكتفاء الذاتي! وهو ''جهاد'' ليس جديداً تماماً، متفرع من ''اقتصاد الحرب'' الذي أطلقه علي خامنئي ''مرشد'' الثورة، ولكن سرعان ما حوله إلى ''جهاد'' اقتصادي. فالخراب المعيشي الذي تشهده البلاد حالياً، فرض على ''المرشد'' هذا التحول. ولن أستغرب لو قام بتحويله مجدداً، إلى ''النفير'' الاقتصادي، وبذلك ينتقل الاكتفاء الذاتي من حالة ''الجهاد'' إلى ''النفير''. وفي الوقت الذي تتناقص فيه المواد الاستهلاكية بكل أنواعها في إيران، ما زال خامنئي يعتقد أن ''الجهاد'' المتجدد قابل للاستهلاك. وكأن الاضطرابات والمنازعات التي تحدث في البلاد، بحكم الأزمة الاقتصادية الداخلية المخيفة، تحدث في بلد آخر، دون أن ينتبه إلى أن بضاعته هذه لم تعد صالحة للاستهلاك الآدمي حقاً، وبالتالي يستحيل العثور على من يشتريها.
على خطى بشار الأسد، قرر النظام في إيران حظر استيراد عدد كبير من السلع الأجنبية، التي تدخل ضمن قوائم الكماليات في معيار الأسد، والفاخرة في تقدير خامنئي. وحسب اللوائح الجديدة، فقد شمل الحظر 70 سلعة على الأقل، تراوح بين السيارات الفارهة والكومبيوترات المحمولة والهواتف النقالة والأجهزة الكهربائية المنزلية ومستحضرات التجميل وغيرها. باختصار، شُطبت السلع التي يستحيل إنتاجها محلياً، وفُرض حظر استيراد السلع، التي يمكن إنتاجها داخل إيران. والسبب معروف، وهو حماية ما تمتلكه البلاد من العملات الأجنبية الصعبة. ولأن تناغم الخراب بين الأسد وخامنئي وصل إلى أوجه، لم يلتفت النظام الإيراني إلى أن خطوة سفاح سورية بهذا الخصوص لم توفر له حصانة تذكر للعملات الأجنبية المتبخرة، بل إن هذا الأخير، عاد عن قرار الحظر بعد أيام قليلة من فرضه، بصورة جسدت التخبط الذي يعيشه. فقد تحول القرار نفسه إلى مادة للسخرية لفترة طويلة، على اعتبار أنه لا يمكن أن تسند ناطحة سحاب آيلة للسقوط بعود ثقاب.
فالقرار الإيراني الجديد الذي صاحبه إطلاق ''جهاد'' الاكتفاء الذاتي، سيوفر للخزينة العامة 4 مليارات دولار أمريكي سنوياً. ويبلغ حجم إنفاقها السنوي على السلع الترفيهية ما يقرب من 12 مليار دولار. وفي زحمة ابتكار ''الجهادات''، لم ينتبه خامنئي إلى أن بوادر فشل ''جهاد الاكتفاء''، بدأت مع إطلاقه. فإذا كانت السلع الترفيهية غير الضرورية تمتص هذا القدر من العملات الصعبة، فلماذا لم يحم الـ12 مليار دولار مرة واحدة؟! أليس الأمر ''جهاداً'' أم أنه كغيره من ''الجهادات'' ليس سوى ''فقاعات'' تشبه تلك التي تتعلق بالمهدي التائه؟! وفي كل الأحوال، لن يقدم القرار الإيراني الجديد شيئاً في مجال ''الجهاد'' ضد العقوبات الغربية المتنوعة على البلاد. فإذا كانت هذه الخطوة ستوفر 4 مليارات دولار سنوياً، فإن خسائر إيران من العقوبات تصل إلى 5 مليارات دولار شهرياً.. وليس سنوياً.
والحقيقة، أن خامنئي لم يكن له الفضل في ابتكار ''جهاد الاكتفاء الذاتي''. فالفضل كله يعود إلى الخميني الذي أطلقه خلال الحرب العراقية-الإيرانية بين عامي 1980 و1988. الذي فعله ''مرشد'' الثورة، أنه أحياه رغم أنه لم يحقق شيئاً عملياً في التجربة الأولى له. وكل ما أنتجه هذا ''الجهاد'' في مرحلته الأولى (وسينتجه في مرحلته الجديدة)، أنه دفع بعمليات التهريب إلى مستويات عالية، بات حتى ''الجهاد'' ضدها مستحيل. فمن الآن، يمكن أن أنصح خامنئي بعدم إطلاق ''جهاد'' جديد يستهدف التهريب، في خضم إغراقه بلاده بكل أنواع ''الجهادات''.
لن تنفع كل الترقيعات الاقتصادية في إيران، مهما كان هول مسمياتها. فاقتصاد البلاد يسير بخطوات متسارعة ومرعبة نحو الانهيار. وما يملكه البنك المركزي اليوم، سيكون أقل غداً. وغداً يعني بالفعل اليوم التالي. والبلاد التي يتعاطى سكانها مع عملتها الوطنية كهم يومي، لا مكان لأي شكل من أشكال التهدئة الاقتصادية فيها. وفي ظل هذا المشهد البائس، تنمو بقوة إرادة شعبية ستوفر كل المعاول لجهاد شعبي وطني حقيقي، ستكون أولى ضحاياه، تلك ''الجهادات'' التي ستتطابق تماماً (في النهاية) مع الصرعات، بفقاعاتها وأزمنتها المحدودة.


الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

الغرب ضد الأسد اقتصادياً بالنقاط لا بالضربة القاضية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«نحن لا نأخذ الصورة الأشمل للعقوبات. ينبغي لنا النظر إلى كل شركة لمعرفة إذا ما كانت العقوبات، مساعدة أم مؤذية».
روبرت بوزين اقتصادي أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

مع كل جولة من العقوبات الاقتصادية التي يرفضها الغرب (وخاصة الاتحاد الأوروبي) على نظام سفاح سورية بشار الأسد، يظهر السؤال التقليدي. إلى أي مدى تؤثر هذه العقوبات على الأسد؟ يستتبعه سؤال آخر، ما مدى الأضرار التي يتعرض لها السوريون من جراء هذه العقوبات؟ وعلى الرغم من أن التجارب السابقة المشابهة، تحمل معها أجوبة مناسبة، وفي كثير من الأحيان متطابقة، إلا أن الحالة السورية (كما الثورة السورية) تمثل استثناء، من جراء روابطها، وتداخلاتها، وسلوكيات (ونيات) تجسد أحد مبادئ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الذي يرى ألا تنتصر أو تنهزم أمم بعينها. الأمر الذي يترك مجالاً منطقياً، لمن يرغب بالتأكيد على أنه لا يُراد للثورة السورية الشعبية العارمة أن تحقق نصرها أو تنهزم. وهو ما يسهم في تكريس الاعتقاد السائد في الشارع السوري (والعربي أيضاً)، بـ ''الرابط الإسرائيلي''.
وبعيداً عن هذا الجانب، بمراراته وظنونه وحقائقه. فالسؤال الذي يُطرح مع كل جولة جديدة من العقوبات، يستحق الاهتمام والإجابة، بصرف النظر عن تكراره بصيغته الواحدة. لم تقض العقوبات على نظام في التاريخ. فكيف الحال بعصابة اغتصبت سورية أكثر من أربعة عقود، وتسعى الآن إلى أن يتحول ''جسد'' البلاد إلى أشلاء، في سياق اعتمادها القتل المؤدي إلى نشر أكبر عدد من أعضاء الضحية الواحدة. إنها حرب إبادة، بعنوان فرعي ''حرب لإنتاج الأشلاء''. التجارب السابقة، أثبتت أن الناتج المأمول من العقوبات التي تُفرض على نظام، أكبر بكثير من ناتجها على عصابة. فهذه الأخيرة تتمتع دائماً بـ''أفضلية'' امتلاكها لأهداف مجهولة يصعب استهدافها. وهذه حقيقة، تفرض على فارض العقوبات أن ينفذها بسلوكيات وآليات العصابات، لا الأنظمة، وتحتم عليه (لكي يحقق هدفه)، أن يبحث في المجهول لا المعلوم فقط، وأن يمر على قنوات تبدو بريئة. خصوصاً أن العقوبات، مهما كانت ''ذكية'' ومُحكمة ومتطورة، تتحول إلى ''غبية'' وفوضوية ومتخلفة، إذا ما طال أمدها. وعندما نقول: طال أمدها، يعني أن أمد النظام-العصابة طال أيضاً. وهذا يجيب على السؤال الثاني، المرتبط بأضرار العقوبات على الشعب السوري، التي يفترض أنها أُطلقت من أجله، لا ضده!
صارت جولات العقوبات الاقتصادية الأوروبية و(الأمريكية) على الأسد، مثل مباريات الملاكمة التي تنتهي بالنقاط لا بالضربة القاضية. ورغم تنوعها وتعدد جولاتها، لم يُخضِعها المعاقِبون لمعايير الجودة، وإن أخضعوها لشيء من معايير ''الذكاء''. والحق، أن هذه الجولات بدأت تُظهِر الغرب، على أنه ''يعتذر'' من خلالها بطريقة غير مباشرة، عن تقاعسه في التحرك غير الاقتصادي، والمساهمة في تعجيل زوال نظام وحشي، ليس لمصلحة الشعب السوري فقط، ولكن لفائدة الإنسانية نفسها، بصرف النظر عن المبررات الإجرائية، التي لم تعد تقنع أحداً، خصوصاً إذا ما استعرضنا سوابق مشابهة لم تخضع لمثل هذه المبررات أبداً. ومن الجوانب السلبية في فرض هذه العقوبات، أنها تأتي تدريجياً، مما يوفر لبشار الأسد (وأعوانه وبعض الدول المارقة الحالمة ببقائه) مساحة زمنية ليس فقط للالتفاف حول العقوبات، بل لتأمين المؤسسات والشركات والكيانات التي يمكن أن تُستهدف لاحقاً، فضلاً عن أفراد سوريين وأجانب.
فعلى سبيل المثال، ضمت الجولة العشرون من العقوبات الأوروبية التي أُطلقت في الشهر الماضي، 28 فرداً جديداً من السوريين الذين يمدون الأسد بالتمويل المالي المطلوب لاستكمال حرب الإبادة على الشعب السوري. وأسماء هؤلاء ليست مجهولة تماماً، وكان من الأجدى أن تكون ضمن الجولات الأولى التي فرضها الأوروبيون، وكذلك الأمر بالنسبة لرحلات شركة الطيران ''السورية'' التي مُنعت من الهبوط في المطارات الأوروبية. وهي شركة كبقية الشركات والمؤسسات في سورية، ليست سورية، بل ملكية خاصة للأسد وأعوانه. وهذا الأمر لا يحتاج إلى تحقيقات ومعلومات استخباراتية للتأكد من ذلك. ولا يزال هناك ما لا يقل عن 100 اسم، يمكن فرض العقوبات المباشرة على أصحابها فوراً، ودون الحاجة إلى انتظار جولات جديدة، إلى جانب عدد آخر من الكيانات الاقتصادية داخل سورية. هذا طبعاً، إضافة إلى بعض المؤسسات والشركات غير السورية (إيرانية وعراقية ولبنانية وفنزويلية، وروسية.. وحتى زيمبابوية)، التي توفر للأسد وأعوانه، تسهيلات وأدوات مبتكرة للاحتيال على العقوبات.
إن العقوبات ''الذكية'' التي يسعى الغرب (عموماً) إلى فرضها على جولاته، لن تحقق الأهداف المرجوة منها. ولن ينفع مع نظام-عصابة كهذا، إلا حصار اقتصادي شامل، يحرمه من النفاذ إلى هيكلية العقوبات والاحتيال عليها والالتفاف حولها، خصوصاً في ظل وجود أعوان له، ليس فقط على حدود سورية، بل وعلى مسافات أبعد منها. هذا الحصار، سيزيل بصورة أكبر اللوم الواقع على الغرب من جراء تقاعسه، واختبائه وراء حجج لا يقتنع بها من يطلقها، ويتعاطى معها كـ ''حبل إنقاذ'' من نقمة التاريخ والإنسانية. إن حسم نهاية الأسد، لن ينجز على مراحل، ولا عبر عقوبات تدريجية.. بل ولا حتى من خلال حصار اقتصادي شامل. المهم أن يبتعد الراغبون بالمساهمة في نصرة الإنسانية، عن متاهات السياسة وأروقتها.

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

الأسد وخامنئي .. من الحب ما سيقتل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''الوقوع في الخراب يشبه إلى حد ما الوقوع في الحب. الاثنان يتركانك عاريًا، ويوصلانك إلى الحضيض، والنهاية مؤلمة على حد سواء''
جيسيكا رولي وورد، أديبة أمريكية

كتب: محمد كركوتـــي
أصوات الإيرانيين ترتفع في وجه علي خامنئي مرشد ''ثورتهم''، لا.. بل آخذة بجمع أدواتها التمردية، مستعيدة شيئًا فشيئًا تلك التي فقدوها في عام 2009. هذه الأصوات لا دخل لها بالثورة، وبالتالي لا ارتباط لها في تصديرها أو تخزينها أو بيعها في سوق التجزئة أو الجملة.. أو حتى احتكارها. ولا علاقة (أيضًا) لها بما ستكون، بعد أن فقد الإيرانيون الاهتمام بما كانت. إنها أصوات واضحة ليست في حاجة إلى الخَيَّام أو حتى المتنبي (شخصيًّا)، لصياغة مفرداتها. هذه الأصوات، تختصرها جملة واحدة ''توقف- يا خامنئي- عن مد سفاح سورية بشار الأسد اقتصاديًّا وماليًّا، لكي نخفف من مآسينا الاقتصادية''. فكلما ازدادت المصاعب والمصائب المعيشية على الإيرانيين، مع تنوع وتجدد العقوبات الغربية المفروضة على بلادهم، زاد حنقهم وغضبهم على قيادتهم، التي أقسمت على نجدة الأسد، بصرف النظر عن أي اعتبارات. إنه الحب القاتل بين التابع والمتبوع، مشمول ''باستثمارات'' طائفية مشينة، يبدو أن خامنئي وعد المهدي التائه، وفي طريقه، أرسل وعدًا لروح الخميني، بأنه لن يتخلى عن ذلك السفاح، الذي ارتبط مصيره بمصير النظام القائم في إيران نفسها.
يقول رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرتشل: ''هناك رجال يستمدون تمجيدًا صارمًا من الكوارث والخراب. على عكس أولئك الذين يستمدون المجد من النجاح''. علي خامنئي، كان من أولئك أصحاب ''المجد'' بدافع تخريبي. ولكن حتى هذه الحالة المريعة، بدأت بالأفول. فقد عرف الإيرانيون أن المجد يصنعه الناجحون، بعد أن واجهوا الحقيقة، أو بعد أن اعترفوا لأنفسهم، بحتمية مواجهة الواقع. نقول الواقع؟ نعم. لقد أظهرت الأرقام والبيانات الواقعية الرسمية الخاصة بحالة الاقتصاد الإيراني، أنه على وشك الانهيار. بل إن الوثائق الحكومية التي تم تسريبها، تؤكد أن نظام خامنئي لن يتمكن حتى من تسديد فواتير الواردات الحيوية في غضون الأشهر القليلة المقبلة. والواردات الحيوية، هي كل ما يحتاج إليه الفرد الإيراني في معيشته اليومية. وطبقًا للوثائق نفسها، فإن ما يعلنه المسؤولون الإيرانيون، من أن احتياطي النقد الأجنبي للبلاد يصل إلى 110 مليارات دولار أمريكي، هو في الواقع 85 مليار دولار، منها 25 مليار دولار مجمدة في حسابات مصرفية خارجية. وهذا يعني أن السيولة المتوافرة لن تغطي أكثر من ستة أشهر.
ومع أكثر من 10 مليارات دولار وصلت للأسد في أعقاب الثورة الشعبية العارمة الماضية إلى القضاء عليه، وإلى جانب أكثر من 20 طنًا من الذهب الإيراني تم تخزينها في البنك المركزي ''السوري'' لإنقاذ الليرة السورية. ومع الإمدادات النفطية المختلفة، وغيرها من الإمدادات العسكرية، فإن الثروة الإيرانية تتآكل، مع ماذا؟ مع التآكل المطرد للثورة في إيران. ورغم ذلك، لا يزال خامنئي وفيًّا لواحد من أسوأ من حكموا في التاريخ الحديث. وهو في الواقع، وفيٌّ لأوهام ''ثورة'' إيرانية، أرادوها متعددة الجنسيات، وعابرة للقارات إن أمكن. الذي يحدث أن هذه ''الثورة'' باتت غير ثابتة في بلد المنشأ نفسه، وأصبحت الاحتياجات المعيشية للشعب الإيراني على رأس الألويات، بل لِنَقُلِ الأولوية الوحيدة.
وباستثناء النقاش الذي يجري حاليًّا على مستوى صناع القرار في إيران، حول استعادة الذهب من عند الأسد، أو على الأقل إرجاع بعضه (ربما قبل أن يسرقه ويفر)، لا يزال خامنئي ملتزمًا بما أعلنه رسميًّا هو وأعوانه، بأن الحرب ضد سفاح سورية، هي حرب ضد إيران نفسها، بصرف النظر عن فشله في استكمال حملة تسويقه لهذه ''المتلازمة'' على الصعيد الداخلي. لم ينتبه مرشد ''الثورة'' بَعْدُ إلى أن المواد الأساسية للبيت الإيراني البسيط باتت تُشترى بالدولار الأمريكي، وأن التجار يرفعون الأسعار على مبدأ الاقتصادي آدم سميث، الذي يمكن أن يُلَّخص بالعامية ''كل واحد يشتغل في السوق على كيفه''. وهذا المبدأ بالتحديد دمر أنظمة سياسية أكثر شعبية وشرعية ورصانة وحكمة ورقابة من نظام خامنئي. المخارج تُقفل الواحد تلو الآخر في وجه ''حبيب الأسد''، والعقوبات المتجددة على إيران بدأت تنال حتى من الأطراف الدولية والإقليمية المتخصصة في الاحتيال السياسي والاقتصادي، وفي مقدمتها حكومة المالكي ''الإيرانية'' في العراق. وليس هناك بارقة أمل لتخفيف الحصار المفروض على إيران؛ لأن خامنئي لا يزال يؤمن بأن الانتصار على المنطق آتٍ لا محالة، بل إن بشار الأسد سينجو من الثورة الشعبية التي لن تتوقف حتى تنهيه.
وإذا لم يُعِد خامنئي النظر في ''مسلماته الوهمية''، سترتفع الأصوات وستتبدل الكلمات. لن تكون ''أوقف مد الأسد بالمال وحول الأموال لشعبك''، بل ''لن نتوقف حتى ننتهي من نظامك''.. إنه ''المسؤول الوحيد عن المصائب التي نعيشها، والأوهام التي تعتقدها حقائق''. وكأنهم يقولون: كيف يمكن تصدير ثورة لا يضمن مصدروها قوت غدهم؟! بل كيف بالإمكان توفير الحماية لنظام (أيًّا كان)، من حامٍ لا يجد ما يدافع به عن نفسه؟!

السبت، 27 أكتوبر 2012

«اقتصاد» الجريمة المنظمة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




''الجريمة المنظمة، تجارة حرة في أوج حريتها''
هانك ميسيك كاتب ومؤلف

كتب: محمد كركوتـــي
الناتج المالي المخيف للجريمة المنظمة ليس صادماً. الذي يصدم أن الحرب على الجريمة المنظمة ليست منظمة بما يوازيها. ورغم تحقيق بعض الانتصارات في هذه الحرب (بسبب التشدد المالي الذي فرضه خراب الأزمة الاقتصادية العالمية)، إلا أن عوائد هذه الجريمة التي تُرتكب (بحق) ضد الإنسانية، لم تتراجع إلى ما هو مطلوب اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً وحضارياً. فلا يزال حجم ''اقتصادها'' يتساوى مع ما بين حجم اقتصادي كل من إندونيسيا وأستراليا. فقد تفوق في حده الأدنى على اقتصادات كل من هولندا وتركيا وسويسرا، في حين زاد في حده الأقصى على اقتصادات كل من إسبانيا والمكسيك وكوريا الجنوبية! ببساطة يتأرجح حجم هذا الاقتصاد المشين ما بين 870 إلى 1500 مليار دولار سنوياً! وهذه القيمة الهائلة، هي في الواقع حجم ''تجارة'' تبييض الأموال أيضاً، التي قدرها صندوق النقد الدولي، ما بين 950 و1500 مليار دولار. ولأنها ''تجارة'' سرية مفضوحة! من حق أي مراقب أن يعتقد أن حجمها أعلى من ذلك. لأن بعض الدول والجهات المعنية، تسعى إلى خفض ما أمكن من تقديراتها للجريمة المنظمة، هرباً من الضغوط المتعاظمة عليها في مسألة الحرب ضدها.
وفي كل الأحوال لو اعتمدنا الحد الأدنى الذي قدره مكتب مكافحة المخدرات والجريمة التابع للأمم المتحدة، وهو 870 مليار دولار، فإن الكارثة لا تخف، والمصيبة لا ''تتلطف''، والهموم والأضرار الناجمة عنها لا تتراجع. لا نتحدث هنا عن الأموال المنهوبة من الشعوب، في بلدان قرر حكامها امتلاكها. فلو أُضيفت، لدخل ''اقتصاد الجريمة المنظمة الشامل'' في قائمة الدول السبع الكبرى، ولتفوق على اقتصادات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا. ضمن التقدير الدولي الأخير، هناك ما لا يقل عن 320 مليار دولار عوائد مضمونة من تجارة المخدرات. وهذه وحدها تحمل مصائبها الاجتماعية معها، بصورة كارثية. ولكن لا توجد مصيبة واحدة يتعرض لها المجرمون، لماذا؟ لأن هناك دائماً ''مصابغ'' لا تنتهي لتبييض أموال الجريمة، والأهم من هذا أنها ''مصابغ'' تشغلها مصارف ''قيادية'' ضخمة في عالم المال. مصارف تتردد أسماؤها حول العالم باحترام وتقدير و''وجل''، من قوتها وتاريخها ومكانتها التمويلية، حتى بعد أن ضربتها الأزمة الاقتصادية العالمية، في سياق ما ضربته حول العالم. مهلاً، ألم يثبت بعد انفجار الأزمة أن عدداً كبيراً من المصارف الكبرى، نجت (أو سندت نفسها) في الواقع بأموال الجريمة المنظمة؟! وأنقل هنا حرفياً ما كشفه رئيس مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة قبل عامين تقريباً:'' إن أموال المخدرات حافظت على بقاء النظام المالي قائماً إبان ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية''! وقال أيضاً: ''إن عائدات الجريمة المُنظمَة شكلت السيولة الاستثمارية الوحيدة المتاحة لبعض المصارف، التي كانت على حافة الانهيار في عام 2008 والعام الذي تلاه''! بمعنى آخر، أن الأموال القذرة يتم استيعابها في النظام الاقتصادي العالمي!
ولعل من المفيد، استعراض ''القطاعات'' التي تندرج ضمن ''اقتصاد الجريمة المنظمة''، التي اتفق عليها الخبراء المقاومون لها: المخدرات، الإتجار بالبشر، الدعارة، التهرب من الرسوم والضرائب، الرشوة، العمولات الخفية، التربح من الوظيفة، السرقة، الاختلاس والابتزاز، الغش التجاري، الإتجار بالسلع الفاسدة والمحرمة، التزوير في الأوراق النقدية والمستندات والوثائق والعلامات التجارية، المقامرة في أسواق المال والسلع، المعاملات الوهمية. وإذا أضفنا إليها، عمليات نهب مقدرات الشعوب، بما في ذلك بيع السندات المكبِلة، وإقامة مشروعات وهمية، وفي أحسن الأحوال غير إنتاجية، فإننا أمام ''اقتصاد عابر للقارات''، يتكرس متى؟ مع حلول السنة العاشرة (أول العام المقبل) لدخول اتفاقية الأمم المتحدة حول الجريمة المنظمة حيز التنفيذ. وهذا يعني، أن الاتفاقية المذكورة لم تقدم شيئاً يذكر على صعيد الحد من مآسي هذه الجريمة العالمية، رغم النوايا الحسنة التي تُطلق هنا وهناك، في المناسبات وغيرها.
تعترف النائبة العامة الأمريكية السابقة جانيت رينو بأن الجريمة المنظمة (ومعها تبييض الأموال)، هي في الواقع جريمة معقدة، يحتاج العالم إلى آليات معقدة في الحرب عليها. لكن الدول الكبرى التي يفترض أنها تقود هذه الحرب، لم تتوصل بعد إلى هذه الآليات. ومهما بلغت قوة هذه الدول، لا يمكنها أن تحقق الانتصارات المطلوبة من دون تعاون دولي شامل ومُحكم. فقد وصف يوري فيدوتوف المدير التنفيذي لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، بأن المسؤولين عن هذه الجريمة ''أذكياء ومطلعون بشكل جيد وانتهازيون''. وفي الواقع إنهم مجرمون، لا يمكن مقاومتهم، إلا باتباع مفاتيح ذهنيتهم الإجرامية. ومن دون ذلك، ومن غير آليات متطورة، لن يكون غريباً أن يصل ''اقتصاد الجريمة المنظمة''، في مرحلة لاحقة إلى محرك أساسي للاقتصاد العالمي.
إن هذه الجريمة تعبر القارات وحدود الأوطان بسرعات عالية. والأضرار التي تتركها وراءها، تكلف كثيراً. وكلما استحكمت، وقف المجرمون يضحكون على أولئك الذين يحاربونهم بأدوات صدئة. هذه الجريمة تحتاج إلى ''نووي اقتصادي'' للقضاء عليها. إنها الجريمة الوحيدة التي لا تنفع مع مرتكبيها المحاكم التقليدية.

الجمعة، 19 أكتوبر 2012

"اقتصاد مالكي إيراني" لسفاح متأصل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«كل أنواع الخداع في الحياة ليست سوى أكاذيب تحولت إلى ممارسة. ومنها ينتقل الباطل من الكلمات إلى الأشياء»
 روبرت ساوزي - شاعر إنجليزي 



كتب: محمد كركوتـــي

وقود، عملات صعبة، اتفاقات تجارية سريعة بمليارات عدة من الدولارات، تبييض أموال سورية منهوبة، قطع غيار للآليات العسكرية، مرتزقة من العصابات الشيعية، ممرات جوية وأرضية، تنكيل بالنازحين المدنيين السوريين، وإغلاق الممرات في وجوههم.. كل ذلك (وأكثر) يوفره نوري المالكي رئيس وزراء العراق لسفاح سورية بشار الأسد. المهم أن يبقى هذا الأخير، وأن يستمر في سلطة لا شرعية له فيها، وأن يقتل ويقتل، حتى لو حَوَّل الأغلبية إلى أقلية، بل إن ذلك مطلوب لو استطاع. لا تهم التكاليف، فكل شيء يَرخص أمام الحفاظ على ''الاستثمارات الشيطانية'' الإيرانية في الأسد، وهي ''استثمارات'' انطلقت مع الأب، ولن يُضحي بها علي خامنئي مع الابن. وهو (أي مرشد ''الثورة'' الإيرانية) مستعد للحرب على كل الجبهات من أجلها، حتى لو أدى الأمر إلى خوض حروب متقطعة أو متواصلة، مع الشعب الإيراني نفسه. ولأن الأمر كذلك، فمن واجب ''المعممين'' العراقيين بسترات عصرية، المشاركة المباشرة في الحرب. ولا يحتاج خامنئي وأحمدي نجاد، إلى أي صيغة لإقناعهم.. فهم جزء لا يتجزأ من هذه الحرب أصلًا، يضاف إلى ذلك، أنهم مقتنعون طبيعيًّا. فالبحر (في قناعاتهم) نهر، والجبل.. وادٍ، وسورية.. البحرين، والمهدي المفقود.. عائد لا محالة!

الوثائق التي يُفتضح أمرها بين الحين والآخر عن تورط حكومة المالكي في دعم اقتصادي للأسد، تشبه ''الوثائق'' عن اشتراك ميليشيا حزب الله الإيراني في لبنان (بقيادة حسن نصر الله) في حرب سفاح سورية على شعبه. مع اختلاف وحيد، هو أن وثائق المالكي ورقية السند، ووثائق نصر الله ''جسدية السند''. الأولى تتجلى في الأختام الرسمية، والثانية تتجسد في قتلى ميليشيا نصر الله على أيدي الثوار السوريين. وفي النهاية.. الأمر ليس في حاجة إلى أي وثائق من أي نوع، لإثبات تحالف الطرفين مع الأسد لقتل الشعب السوري. تصريحات إيران وأتباعها العلنية في لبنان والعراق، تكفي لإثبات تحالفهم مع واحد من أسوأ الأنظمة في التاريخ الحديث. وما تكشفه وثائق حلف المالكي مع الأسد لا قيمة له، مقارنة بواقع التحالف على الأرض. فإمدادات العراق لهذا الأخير من الوقود ليست سوى جزء ضئيل من حجم الإمدادات الشيطانية (الكلية والمتنوعة) له. وهناك شكل من أشكال التنافس بين نصر الله والمالكي، في سياق إثبات الولاء لعلي خامنئي. فقد سمح وسهل (ويسمح ويسهل) رئيس وزراء العراق لعصابات شيعية ''عراقية'' بالاشتراك في حرب إبادة السوريين، وبذلك يصبح المالكي متعدد الإمدادات للأسد، وفي مقدمتها الاقتصادية والإرهابية والتشبيحية.

شكلت إيران ما يمكن تسميته ''خلية اقتصادية خاصة بسورية''، تتخذ من العراق مقرًّا رئيسًا لها. الهدف الوحيد لها، الحفاظ على الدعم الاقتصادي والمالي للأسد، بل محاولة مأسسته في ظل الثورة الشعبية العارمة ضده. وخلال هذه الثورة، وفر المالكي لنظام الأسد (طبقًا لأكثر التقديرات انخفاضًا)، أكثر من ملياري دولار من القطع الأجنبي، خصوصًا مع تصاعد العقوبات الغربية وتنوعها ضده. واعترفت حكومة العراق، بأنها وقعت في صيف العام الماضي سلسلة من الاتفاقات التجارية مع الأسد، تصل قيمتها إلى ستة مليارات دولار. وقبل المالكي بروح عالية تحمل تبعات توقف إمدادات السلع السورية لبلاده، التي تستورد ما يقرب من 45 في المائة من احتياجاتها من سورية. ليس مهمًّا الأمر، المهم أن يبقى الأسد، وإن احترق البلد!

ولأن الاحتيال ضروري في الدعم الاقتصادي العراقي للأسد، فقد استحدث المالكي عشرات الوسائل للالتفاف حول العقوبات الغربية، من بينها إتمام ما أمكن من المعاملات المصرفية عبر المصارف العراقية، وتهريب شحنات من النفط السوري الخام المنهوب، ومواصلة التعامل مع أفراد سوريين ناهبين، وضعهم الغرب على قوائم العقوبات. لم ينته الأمر بعد. يستخدم الأسد مؤسسات عراقية تجارية لتصريف أعماله قدر المستطاع، في حين سُمح لأعوانه بتأسيس شركات ومؤسسات تجارية وهمية في العراق. وفي هذا السياق، استطاع عدد كبير من هؤلاء تبييض عشرات الملايين من الدولارات المنهوبة أيضًا، ضمن أعمال الاحتيال. ماذا فعل المالكي أيضًا؟، لقد تخلى عن مطالبته للأسد برد الأموال التي نهبها صدام حسين وأبناؤه وأعوانه من الشعب العراقي، وهربوا بها إلى سورية. فهذه الأموال تساعد على إنجاز المهمة الأكبر. وأموال العراقيين فداء الأسد.

ومن هنا، فإن الكشف عن إمدادات من الوقود العراقي لسفاح سورية ليس صادمًا، بل لا يكاد يكون خبرًا أصلًا، فالمالكي الذي يتجاهل الإشارة إلى التدخل الأمريكي في العراق، الذي أدى إلى خلع طاغيته الوحشي صدام حسين، ويحذر في الوقت نفسه من ''إسقاط نظام الأسد بالقوة''، وأن هذا الأخير ''ليس صدامًا''، لن يُوقف دعمه التخريبي الإيراني الطائفي، لوحش دفع البعض لخفض سقف همجية رئيس العراق المخلوع. إن رئيس وزراء العراق يسعى على مدار الساعة إلى تقديم ولاء الطاعة طائفيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وتشبيحيًّا، لعلي خامنئي المنتظِر الدائم للمهدي المفقود.


الأحد، 14 أكتوبر 2012

الأودات+ البدائل= عالم لا متناهي من المادة الإعلامية

(المقال خاص بمجلة جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج)




كتب: محمد كركوتي


دخلت القنوات التلفزيونية في العالم مرحلة الخطر منذ أكثر من عقد من الزمن. الخطر الذي يهدد نسبة مشاهديها، بل ومصيرها. وهو خطر يجبر القائمين على هذه القنوات، ليس فقط على إعادة صياغة الاستراتيجية الإعلانية لمؤسساتهم، وتلك المرتبطة بحجم الإنفاق، بل أيضاً، على وضع خطط جديدة، تخص المحتوى والشكل، بصورة تتناغم من المزاج المتجدد (بل والمتغير) للمشاهد، من فرط تعدد الخيارات الإعلامية أمامه، وتوافرها بسهولة وبتكاليف مالية، لا تتوقف عن التراجع. هذه المزايا، تجعله قادراً شيئاً فشيئاً على الخروج من نمطية تلقيه للمادة الإعلامية والترفيهية، بل وتدفع به إلى مستويات أعلى في اختيار نوعية، ما تعج به الساحة الإعلامية بشكل عام. فثقافة الاختيار باتت أرقى بكثير، مما كانت عليه قبل عشر سنوات على الأقل. وحرص المشاهد على برنامج تلفزيوني ما، أصبح اليوم أقل تماسكاً، خصوصاً في ظل تعدد تشابه البرامج المواد التلفزيونية الأخرى التي تعرض. يضاف إلى ذلك، تعدد البدائل أمام المشاهد في الموضوع نفسه، وفي القضية ذاتها، وفي الإنتاج عينه.
غالبية المتابعين للبرامج التلفزيونية اليوم، لم يعودوا يعتمدون عليها كوسيلة أساسية للحصول على المادة المطلوبة. ومن كان نجماً تلفزيونياً في يوم من الأيام، يتعاطى معه المشاهد كمقدم برامج (أو برنامج). وقد لعبت المواقع الالكترونية على مدى السنوات الماضية، دوراً أساسياً في "تغيير العلاقة" بين المشاهد والنجم التلفزيوني، ليس فقط لأنها تقدم الكثير من التفاصيل في سياق خدماتها، بل أيضاً لأنها تصنع النجوم هي نفسها، وتقدمهم بصورة أكثر عصرية ورشاقة وجاذبية، الأمر الذي انعكس بصورة سلبية (بل ومخيفة) على الشكل التقليدي لمقدم البرامج الذي يرابط على الشاشة، مع غياب التفاعل بينه وبين مشاهده. هذه النمطية، أحدثت عند عدد كبير من المشرفين على القنوات التلفزيونية في العالم (ولاسيما الغربي)، مخاوف كبيرة، تزداد حدة مع التراجع الإحصائي لعدد المشاهدين، الذي يصاحبه تراجعاً إعلانياً، يضع أي مؤسسة تلفزيونية (غير حكومية بالطبع) في دائرة الرعب. ناهيك عن أن هذه النمطية المخيفة، تستحوذ على القسم الأكبر من الإنفاق، ولاسيما لدى القنوات التي لا تزال تعتمد على المقدم (النجم) الأوحد، أو "النادر"، وتخصص له وقت الذروة. فمنذ سنوات، تحول "وقت الذروة" عند المشاهد والمتلقي، إلى أوقات ذروة، ليس فقط لتوفر الأدوات الموصلة للمادة الإعلامية، ولكن أيضاً لتعدد البدائل (النوعية)، بشكل يصعب حتى على أولئك الذين يملكون كامل وقتهم، المتابعة الكاملة. لقد أصبحت المعادلة على الشكل التالي: "الأودات+ البدائل= عالم لا متناهي من المادة الإعلامية". والذي لا يتعاطى مع هذه المعادلة، سيواجه مصاعب جمة في توفير مادة إعلامية مطلوبة، ستؤدي حتماً إلى مشاكل في الاستمرار.
بعض القنوات العريقة في الولايات المتحدة الأميركية، فهمت المعادلة المذكورة، وبدأت بالعمل على أساسها، بينما لا يزال بعضها الآخر هناك، وفي عدد من الدول الأوروبية (باستثناء هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي")، يعاند الحقائق الإعلامية المتواترة والمندفعة إلى الساحة. فعلى سبيل المثال، أقدمت شبكة "إن بي سي" الأميركية الشهيرة، على "مجزرة وظائف"، في سياق العمل على تخفيض الإنفاق. وهذا يحدث في المؤسسات الكبرى والصغرى بين الحين والآخر، خصوصاً في ظل المصاعب المالية، التي أوجدتها الأزمة الاقتصادية العالمية منذ العام 2008. فآثام هذه الأزمة لم تترك جهة إلا وما نالت منها حول العالم. غير أن اللافت في تحرك الشبكة، أنها خفضت أجور مقدمي برامج شهيرة، تعتبر محورية للشبكة. وكان المسؤولون واضحين، عندما تحدثوا صراحة، بأن ذلك يهدف إلى توفير الأموال، لماذا؟ لتقديم محتوى متميز في سياق التنافس الهائل والمتصاعد، مع من؟ مع الإنترنت.
والحق، أن "بي بي سي" البريطانية، استدركت المشكلة أيضاً، وفهمت المعادلة، وقامت قبل عام تقريباً بالاستغناء عن عدد من أشهر مدرائها، وبعض نجومها الذين يتقاضون رواتب عالية للغاية. والهدف هو نفسه، توفير المال لإنتاج برامج وأفلام مثيرة وجاذبة وتنافسية. هذه الخطوة ستوفر للهيئة البريطانية المذكورة، ما يقرب من 600 مليون دولار أميركي، ستصب كلها في قطاع الإنتاج بكل مجالاته. لقد أسرع أشهر مقدمي البرامج في الولايات المتحدة جاي لينو، بقطع الطريق على إدارته، وعرض تخفيض راتبه السنوي، خوفاً من إقدامها في مرحلة لاحقة على إلغاء برنامجه "تونايت شو"، كما حدث مع المقدم الشهير أيضاً لاري كينج في شبكة "سي إن إن"، الذي "تقاعد" قبل عامين تقريباً. والذي زاد من خوف لينو، أن الشبكة خفضت ميزانية إنتاج برنامجه "الشعبي" من 2,3 إلى 1,7 مليون دولار أميركي.
وإذا كان الهدف الأساس من تقليص الوظائف وتخفيض رواتب المقدمين (النجوم)، هو توفير المال لإنتاج برامج أكثر جاذبية، فإن تخفيض كلفة إنتاج برنامج لينو، ليست سوى إشارة واضحة، على أن أيام برنامجه باتت معدودة. لماذ؟ لأن قواعد الاستراتيجية الإعلامية في العام تغيرت، بل تواصل التغير. وهذا ما توصل إليه جيم والتون الرئيس السابق لـ "سي إن إن"، الذي كان شجاعاً، عندما أعلن أن الوقت قد حان لإدارة جديدة للشبكة، تأخذ بعين الاعتبار الهجوم الهائل للإنترنت على قطاع الشبكات التلفزيونية. والحقيقة أن الأمر برمته يحتاج إلى فكر جديد، يطرح منظوراً إعلامياً مختلفاً تماماً، يمكنه أن يواجه الهجوم الكبير لما تقدمه الإنترنت. وأمام هذا "الفكر الجديد" مهمة كبيرة وصعبة. لأن الأمر لا يتعلق بالمواجهة، بقدر ارتباطه بالتماهي الإعلامي –إن جاز التعبير- مع الشبكة الدولية، التي تقدم حالياً خيارات وبدائل، تضع نمطية القنوات التلفزيونية كلها شيئاً فشيئاً على الهامش. فالنجومية الآن لم تعد لمقدم البرنامج، بل للمحتوى الذي يحاكي المتغيرات والأمزجة التي وصلت إلى مستويات عالية من النضوج، أو في أسوأ الأحوال، الأمزجة التي تكتسب بصور متلاحقة القدرة على التمييز بين "موضة" قديمة، وأخرى تصبح قديمة، حتى في يوم إطلاقها.

الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

المحرك الاقتصادي للربيع الإيراني

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«لا يمكن الهروب من المسؤولية عن الغد، بالتهرب منها اليوم»
إبراهام لينكولن، الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة




كتب: محمد كركوتــــي


على طريقة تابعه سفاح سورية بشار الأسد، أمر مرشد ''الثورة'' الإيرانية علي خامنئي القائمين على إعلام بلاده، بعدم تناول الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الإيرانيون، ولا ينقص هذا الإعلام إلّا أن يعلن عن ''حرب كونية'' أُطلقت على إيران، كمرحلة لاحقة لـ ''الحرب الاقتصادية'' التي يجهد خامنئي ومعه أحمدي نجاد، لإقناع نفسيهما أولاً بأن لا دور لهما فيها، قبل إقناع الشعب الإيراني. ولكن خامنئي، أخفق (في سياق إخفاقاته المتدحرجة) ليس فقط لأنه طبق ''استراتيجية'' الأسد الإعلامية التي تحمل فشلها معها، بل لأنه نسي، أن المظاهرات والاحتجاجات الشعبية الصادقة والمحقة، تُشغِل معها وسيلتها الإعلامية الخاصة. ووجود وسائل إعلامية أخرى، هو في الواقع تحصيل حاصل. والاحتجاجات الأخيرة في طهران ونيسابور وغيرهما من المناطق الإيرانية، بلغ صوتها كل الأرجاء، خصوصاً المحلية منها.
في الأفق بوادر ربيع إيراني. ليس مهماً إذا ما نقلته وسائل الإعلام المحلية أم لم تنقله. ولهذا ''الربيع'' محرك اقتصادي هذه المرة، بدلاً من ذاك ''المحرك'' السياسي الذي كاد يستكمل ربيعاً كاملاً في عام 2009، لولا فظاعة الرد الهمجي لنظام الملالي عليه. تآكل العملة الوطنية، طفى على السطح حالياً، لكن الصورة العامة هي على الشكل التالي: ارتفاع رهيب لمعدلات البطالة، ونقص مخيف في المواد الغذائية، وارتفاع كبير لمستويات الفقر، ومعه ارتفاع أكبر لعدد الجوعى، وارتفاع متجدد للتضخم، وتأخر متكرر في صرف رواتب الموظفين، بمن فيهم أولئك الذين يعملون في الوكالة الذرية الوطنية! وهناك أيضاً.. الواردات تنخفض ومعها الصادرات. ولأن العملة الوطنية (أي عملة) لها روابطها المباشرة والرمزية بالسيادة، فإنها تبقى ''بطلة'' الخراب الاقتصادي، وفي أحسن الأحوال ''أيقونة'' الأزمة الاقتصادية في البلاد.
لا يشبه الريال الإيراني بانهياره المتجدد حالياً، سوى الليرة السورية. وهذا التشابه ينبع من تشابه النظامين الحاكمين في كل من إيران وسورية، واندماجهما في تحالف شيطاني مصيري، ضد الواقع وحتمية التغيير. تحالف لا يستمر إلا بصناعة الأعداء على مدار الساعة، لا لشيء، سوى لتبرير وجوده، وتأمين أدوات تسويقية له. ومن أهم الآثار التي يتركها ترنح العملة الإيرانية، الانهيار النفسي لدى ''قادة'' البلاد وشعبها. ولأن الأمر يخرج حالياً من أيدي خامنئي ونجاد ونظامهما، وقد صبا جام غضبهما على من؟ على الصرافيين، على الرغم من أنهم يعملون وفق الحقائق الاقتصادية الموجودة على الأرض، لا استناداً إلى التمنيات و''العنتريات'' الصوتية والدعوات، بما في ذلك تلك التي تستعجل عودة المهدي المفقود. فلم يتبق أمام خامنئي سوى الإعلان عن مكافأة كبيرة لمن يعثر عليه! وأخرى أقل لمن يتقدم بمعلومات تساعد بالوصول إليه! ولا بأس من ثالثة، لمن يعرف رقمه الهاتفي ويرسل له ''مسج'' يطلب فيها تدخله لرفع قيمة الريال الإيراني، خصوصاً بعدما ثبت عدم صحة المعلومات التي أفادت بأن خامنئي نفسه يتصل بالمهدي عبر المحمول!
تكلف العقوبات الغربية المفروضة على إيران اقتصاد البلاد، قرابة الـ 5 مليارات دولار أمريكي شهرياً. وهي تشكل العامل الأول لتردي هذا الاقتصاد، بما في ذلك التراجع المخيف للعملة الوطنية. ولولا ''استراتيجية'' التهريب والاحتيال الاقتصادية التي يمارسها النظام الإيراني، لتفكك الاقتصاد منذ عدة أشهر. لكن هذا النوع من ''الاستراتيجيات'' لا استدامة له، بصرف النظر عن مدى النتائج المساعدة التي يحققها. يضاف إلى ذلك، أن ما نتج عن هذا الحراك ''السري'' المفضوح، استهلكته عمليات الإنقاذ الإيرانية لبشار الأسد، الذي نفحه خامنئي بأكثر من 10 مليارات دولار أمريكي على مدى أقل من عام واحد. وكان بإمكان طهران أن تحافظ على الهدوء الشعبي في إيران (مدة أطول)، فيما لو وجهت هذه المليارات إلى قطاعات محلية حيوية. لكن خامنئي، وجد أنه ينبغي حماية ''الاستثمارات'' الشيطانية التي خصصتها ''الثورة'' الإيرانية لنظامي الأسد (أباً وابناً)، عن طريق الضخ المستمر فيها، خصوصاً عندما تكون هناك ثورة شعبية عارمة في سورية، لن تتراجع عن هدفها في سحق الأسد ونظامه إلى الأبد. ولأنه لا توجد عوائد لـ ''الاستثمارات الشيطانية''، فينبغي مواصلة الإنفاق عليها لإبقائها حية.
كان طبيعياً أن تُسرع هذه ''الاستراتيجية'' وصول الآثار المدمرة إلى الشعب الإيراني، حتى في ظل الجهود البائسة للحكومة، الهادفة إلى طمأنة شعبها بأن احتياطيها من القطع الأجنبي يبلغ 75 مليار دولار. فلم يوقف هذا الاحتياطي، التراجع المهين للعملة، ولم يصد المحتجين الذين احتشدوا في أسواق طهران، عن الخروج مطالبين بعملة تضمن ما يملكونه، وتوفر القيم المالية لما يشترونه، وتكفل لهم الحصول على ما يحتاجون إليه من أساسيات لا كماليات. الذي حدث، أن الإيرانيين الذين يملكون المال (وهم الأقلية)، سحبوا أموالهم من المصارف، وحولوها لعملات ثابتة وضامنة، بينما وجد أولئك الذين يعيشون على الكفاف (وهم الأغلبية)، أن بإمكانهم أن يصنعوا بسرعة ''محركاً'' اقتصادياً لـ ''ربيع'' محلي حتى في عز الخريف.


الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

«رومانسية اقتصادية» لإعادة الأموال المنهوبة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أفضل السياسات هي النزاهة، خصوصًا عندما تكون هناك أموال في الأجواء»
مارك توين أديب وكاتب أمريكي

كتب: محمد كركوتـــي
امتثل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، إلى الضغوط السياسية والإعلامية التي تعرضت لها حكومته في الأسابيع الماضية (وتصاعدت بصورة كبيرة قبيل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة)، بسبب تقاعسها عن التعاطي مع الأموال المنهوبة من الشعوب في البلدان التي أُطيح بأنظمتها الفاسدة الناهبة، وفي مقدمتها مصر. وهذا لا يعني أن كاميرون، كان يريد الاحتفاظ بهذه الأموال المحورية بالنسبة للشعوب المنهوبة. فالرجل صادق في ردها، لكنه تمسك– كغيره من قادة الدول الغربية- بتلك القوانين التي تفرض قيودًا جامدة قاتلة لاسترداد الأموال، على الرغم من أن هذه القوانين هي في طبيعتها إجرائية أكثر من كونها تشريعية، وبالتالي يمكن إخضاعها لمعايير المرونة، التي تتطلبها حال شعوب منهوبة منكوبة محرومة مظلومة. ورغم المصاعب الاقتصادية التي تواجهها الدول الغربية الكبرى، بفعل أزمة فجرتها هي (لا غيرها)، إلا أنه يمكن لحكوماتها أن تتقدم بمساعدات مالية للشعوب المنهوبة، وتربطها (بصورة تقريبية) بما سيُعاد لها من أموالها. وهذا لن يكون هدرًا، ولا أمرًا محفوفًا بالمخاطر، بل تلبية لمتطلبات مالية ملحة ومصيرية. والحكومات الغربية، كانت ستسجل (بذلك) نقطة إيجابية أخرى لصالحها، إلى جانب النقاط التي سجلتها في سياق وقوفها مع ثورات الشعوب، ولا سيما العربية منها.
هناك من سيصف هذا المطلب بـ ''الرومانسية'' التي لا تتفق مع القواعد الاقتصادية والمالية. وهذا صحيح. لكن عندما ''يكتشف'' نواب بريطانيون أن حكومتهم لا تزال تقدم مساعدات مالية سنوية، منذ عشرات السنين إلى الصين، دون أن تنتبه إلى فقدانها للمبرر، وأنها ماضية في تقديم هذه المساعدات لدول أخرى، مثل البرازيل وروسيا (بل ومؤسسات غير بريطانية) لا تحتاج إليها.. عندما ''يكتشفون'' ذلك، فإن شيئًا من ''رومانسية'' المطلب يزول حتمًا. وعندما يُصدَم الرأي العام البريطاني –مثلًا- من أن بلاده (ومعها الاتحاد الأوروبي)، تقدم 10 ملايين جنيه استرليني سنويًّا، كمساعدات للتكامل الاجتماعي للنساء في البرازيل، بينما تنفق هذه الأخيرة أكثر من تسعة مليارات دولار أمريكي على تهيئة البلاد للألعاب الأولمبية في (ريو) عام 2016.. فشيء آخر من ''الرومانسية'' يزول أيضًا. فكيف يمكن تقديم الأموال لاقتصادات صاعدة، باتت تنافس الدول نفسها المانحة للأموال؟!
وفي كل الأحوال، فعل كاميرون خيرًا، عندما تعهد بتشكيل مجموعة عمل للتعاون مع الحكومة المصرية، لجمع الأدلة وتعقب الحسابات المصرفية، وإطلاق القضايا القانونية الكفيلة بإعادة الأموال المنهوبة. وهو أراد أيضًا أن يزيل اتهام القاهرة لبريطانيا بأنها لم تبذل جهدًا كافيًا لإعادة هذه الأموال، ولأنها لم تقم بحركة سريعة لتجميد أرصدة أركان نظام حسني مبارك البائد، وذلك على عكس ما فعلته دول أوروبية أخرى. والأمر هنا ينبغي أن يُطبق أيضًا على أموال الشعوب العربية الأخرى.. التونسيون والليبيون واليمنيون والسوريون، وأن يدخل ضمن سياسة شاملة، على أن تكون السرعة من أولويات التنفيذ. اليوم في أوروبا، يستغرق البت في دعاوى قضائية تخص أموالًا منهوبة من الشعوب قرابة العشرين عامًا! وفي أحسن الأحوال تدوم عشر سنوات. لننظر إلى تلك القضايا المشابهة المرفوعة- على سبيل المثال- في سويسرا ضد حكام ومسؤولين أفارقة، أطاحت بهم شعوبهم.
في مقال سابق لي بعنوان ''لص قوي+ فرص مباحة=أموال منهوبة''، تناولت مشكلة القوانين الصارمة في بريطانيا والاتحاد الأوروبي، الخاصة باستعادة الأموال المنهوبة. فإذا لم تُخفَّف هذه القوانين، فإن كل حراك– مهما كانت نوايا أصحابه صادقة- لن يوفر الحد الأدنى المطلوب، للوصول إلى نهايات سريعة وفعالة وحاسمة لهذه القضية الملحة. فالقوانين– أيًّا كانت- ليست شرائع مقدسة، ويجب ربط النوايا بحجم ونوعية وجودة تخفيفها. ولمزيد من التأكيد على حسن نوايا رئيس الوزراء البريطاني، فقد قرر الإفراج عن 100 مليون دولار أمريكي من الأموال التي نهبها مبارك وأعوانه، وأودعوها في المملكة المتحدة. مما يؤكد أنه لا توجد مصاعب إجرائية أو قانونية أو سياسية أو تشريعية أو قضائية، بهذا الخصوص. تمامًا، مثلما لا توجد مصاعب أو مشاكل تذكر في تحديد وحصر غالبية الأموال المنهوبة وأماكن ''تخزينها''. ولأن الأمر كذلك، يمكن استعارة ''رومانسية اقتصادية'' ما، بربط مساعدات مالية غربية للشعوب التي أطاحت بأنظمتها الوحشية، بما سيُعاد لها من أموالها المنهوبة.
الثورات لا تستكمل أدواتها، إلا بحراك ثوري متوازن ومتعقل، يكون متواترًا مع سرعة أدائها. وقضية الأموال المنهوبة، تتطلب ''ثورية غربية'' في التعاطي معها. وليس صعبًا أن تُسن قوانين جديدة فاعلة و''سريعة المفعول''، تُسهل عملية إعادة الأموال المنهوبة، إذا ما رفضت بعض الحكومات الغربية، القفز على القوانين المعمول بها منذ عقود، أو وجدت صعوبة قانونية في تخفيفها. وبذلك تدخل هذه الحكومات التاريخ، كجهات وقفت مع حقوق الشعوب نظريًّا وعمليًّا. كما أن إعادة الأموال لمستحقيها، يخفف في حد ذاته، الأعباء عن كاهل الحكومات التي ترغب في تقديم المساعدات الاقتصادية لدول ''الربيع العربي''، التي جردها حكامها المُطاح بهم، حتى من مستقبلها.

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

اقتصاد المحتل المختل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''الكلب الذي يتضور جوعا على بوابة صاحبه، يعني أن الخراب يعم خلف البوابة''
وليام بليك شاعر وفنان إنجليزي

كتب: محمد كركوتـــي
وجدت مصاعب في تقليل الاهتمام بالوضع الاقتصادي والمعيشي في سورية، في ظل حرب إبادة تدور فيها منذ أكثر من 18 شهرا، يشنها نظام لا شرعي محتل ومختل. نظام قَبِل أن يكون عدو أمة بأكملها، دون أن يتنبه، إلى أن الانتصارات لا تصنعها الأنظمة (حتى الشرعية منها)، بل الأمم التي تمنحها شرعيتها. فكيف الحال بنظام لم يحظ بشرعية وطنية يوما؟ ورغم أني تناولت سلسلة من الموضوعات التي تخص الاقتصاد ''السوري''، قبل الثورة الشعبية العارمة وبعدها. إلا أن ما يصدر عن أعوان نظام سفاح سورية بشار الأسد، لا يترك مجالا للتردد في التعاطي معه، حتى لو كان عبارة عن مجموعة من الأكاذيب والأوهام (بل والأحلام). فالكل يعلم، أن استراتيجية الأكاذيب هي في حد ذاتها سلاح آخر للأسد، في حرب الإبادة التي يشنها دون توقف. سلاح استورده من أنظمة وحشية مماثلة لوثت التاريخ الإنساني. انتهى معظمها، ودخل من تبقى منها في طور الانتهاء. ولأنه محتل مختل، فقد تصور أنه سينجو.
وإذا كانت الحقيقة تظهر في النهاية دون تنسيق أو تآمر. فمهما بلغت جودة التنسيق في الأكاذيب.. ستظهر حقيقتها، وستنال من أبطالها، وستُعَري مُطلقيها. هذا وائل الحلقي رئيس وزراء الأسد، ''يحسم'' الأمر، ويعلن من خلال تلفزيون الأسد (منبر الأكاذيب قاطبة) أن ''الاقتصاد السوري متوازن، رغم ما يعانيه من ضغوطات نتيجة العقوبات الاقتصادية الجائرة. وأنه يستطيع أن يبقى مكتفيا مهما طال أمد الأزمة، وأن متطلبات المواطنين متوافرة، بشكل كامل، بما في ذلك احتياطات العملة والحاجات الأساسية، وأهمها المحروقات''. مهلا.. مهلا لم ينته بعد، فهو يقول: ''إن لدى سورية مخزونا من القطع السوري يتجاوز الـ 600 مليار ليرة''. هذا التلفزيون نفسه، كان قد ''أكد'' قبل ذلك أن سورية حققت فائضا تجاريا خلال العام الجاري بقيمة ثمانية مليارات دولار أميركي! وعلى هذا الحال، ينبغي على الأسد الحفاظ على الأزمة كما هي والاستمرار في حرب الإبادة، لأن هذا الفائض من القطع السوري وفي القطاع التجاري، لم يتحقق أصلا خارج الثورة! وبهذا المعيار، على الأسد أيضا أن يستكمل إبادة كل الشعب السوري، إذا ما أراد أن تحتل سورية مركزا متقدما في قائمة الدول الصناعية الكبرى! فقد طرح رئيس وزرائه ''نظرية'' اقتصادية جديدة خارقة: الإبادة+ الخراب= اقتصادا مزدهرا فائضا! وربما جاءت في ''وقتها''، في ظل تخبط النظريات الاقتصادية التقليدية المعروفة (حاليا) على الساحة الدولية.
كُذِب الكاذب من قِبَل من هو أقل كِذبا منه. ممن؟ من نائبه للشؤون الاقتصادية قدري جميل. فهذا الأخير (الذي لم يقتله الأسد بعد، عقابا على إعلان له بأن رحيل هذا الأخير يمكن أن يُناقش على طاولة المفاوضات) يرى بأنه ''لو استمرت الأزمة في سورية ثلاثة أشهر أخرى، فإن الاقتصاد سيتوقف. ولذلك يجب أن تتوقف الأزمة فورا''. وفي تصريحات ''تمردية'' ربما يدفع ثمنها لاحقا، قال جميل: ''إن الاقتصاد يتراجع والإنتاج يتراجع، ولا يوجد تصريف، وهذا يظهر بتراجع سعر صرف الليرة مقابل الدولار واليورو، حيث إن استمرار الأزمة سيصيب الاقتصاد السوري بالسكتة القلبية''. نحن أمام رئيس وزراء ونائبه. كل ينقل مستقبل الاقتصاد في اتجاه متضارب تماما. الأول، يبشر باقتصاد متماسك مهما طالت الأزمة، والثاني يضع زمنا لموت الاقتصاد لا يتجاوز الثلاثة أشهر. والكل يعلم أن هذه الثورة التي انطلقت، لن تتوقف حتى لو طال أمدها ثلاثة عقود، إلى أن تحقق الهدف الأول لها، وهو إسقاط الأسد ونظامه الوحشي، والبدء ببناء دولة طبيعية، تندرج في سياق الواقع، لا الأكاذيب ولا الأوهام ولا الفساد ولا النهب ولا القتل ولا الإبادة. دولة تبني اقتصادا من جديد. فما خلّفه الأسد الأب والابن، خراب اقتصادي (ضمن الخراب الكلي) لا يُبنى عليه.
وإذا كانت حرب الإبادة انطلقت عمليا في أعقاب الثورة على هذا النظام الهمجي، فإن ''الإبادة الاقتصادية''، منطلقة منذ عقود في سورية، ومعها روابطها الاجتماعية والمعيشية. فقد كان الاقتصاد السوري يمكله الأب (بالمعيار الشمولي) على مدى ثلاثة عقود، وملَك من أراد ضمن هذا المضمون. وكل من ملك شيئا كان إما من الأسرة المالكة - الحاكمة، أو من سانديها، أو من مجمّلي صورتها القبيحة. والأمر اختلف عند الابن. فقد قلص قائمة ''الساندين'' و''المجمّلين''، لحساب الأسرة. ففتح الأبواب ليغلقها عليها هي فقط، ووزع المفاتيح على أفرادها. قام بأكبر سرقة اقتصادية في التاريخ، دون أن يلاحقه أحد.
وعندما يتناقض رئيس الوزراء ونائبه في أكاذيب اقتصادية علنية، فهما ينسقان الأدوار بصورة بائسة وفاضحة. الأول يريد أن يُطَمئن، والثاني يسعى إلى التخويف، على أمل أن يصيب أحدهما الهدف. ولكن كيف يمكنهما تحقيق أي هدف، عندما لا تملك سورية إلا أوراقا نقدية بلا رصيد أو سند، وقطعا أجنبيا متبخرا، بينما أصابت ''السكتة القلبية'' الاقتصاد السوري، منذ عقود؟ إنه ''جثة'' وضعها بشار الأسد في ثلاجته، معتقدا أنه سيحفظها إلى الأبد، هو وحافظ الأسد.

الاثنين، 24 سبتمبر 2012

لص قوي+ فرص مباحة = أموال منهوبة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«أخشى، أنه يجب علينا أن نجعل من العالم أمينا، قبل أن نعلم أطفالنا، أن الأمانة هي أفضل السياسات قاطبة»
جورج برنارد شو أديب إيرلندي


كتب: محمد كركوتــي


حسنا.. غالبية أصحاب القرار في دول العالم، تتمتع بنوايا حسنة وطيبة في العمل على رد الأموال التي نهبها طغاة لصوص من شعوبهم. والعرب بالطبع من هذه الشعوب. ما إن يسقط طاغية منهم، أو يدخل في طور السقوط، حتى تتكشف الأرقام الهائلة للأموال والممتلكات السرية. بعضها لا يترك مجالا حتى للخيال، من هول حجمها، وأساليب سرقتها، وأماكن تخزينها، ومنهجية حمايتها، وطرق تدويرها. والمعادلة مفهومة. ''لص قوي+ فرص متاحة = أموال منهوبة بلا حدود''. وهو ينهب بشرعية منحها لنفسه، ولا يعترف بها إلا اللصوص. هذه ''الشرعية''، هي في النهاية الحصانة الحتمية له، لكي يحمي نفسه، ممن؟ من المنهوبين، ولإسكات المراقبين ''الطيبين''، الذين يختبئون وراء قوانين وضعوها هم أنفسهم، ويتعاطون معها، كنصوص مقدسة لا تُمس في غالب الأحيان. وعلى هذا الأساس، تراهم يتحدثون عن حقوق المنهوبين بأموالهم المسروقة، ولكن بعد أن ''يغنوا النشيد القانوني'': ''ما باليد حيلة فورية''. وهذا يعني أن هناك ''حيلة غير فورية''.
قبل عام تقريبا، قدر صندوق النقد الدولي الأموال ''المغسولة'' سنويا، بحدود 3500 مليار دولار أمريكي (ما يعادل حجم الإنفاق السنوي للحكومة الفيدرالية الأميركية تقريبا). ويصل حجم الأموال المنهوبة من الشعوب (من هذه المصيبة السنوية) إلى النصف أو ما يقرب من 1700 مليار دولار. مرة أخرى للشعوب العربية نصيب كبير فيها، وتحديدا في الدول التي قررت فيها الأنظمة أن تمتلكها، وتمتلك شعوبها معها. فحسب التقديرات الأولية (على سبيل المثال)، فقد نهب زين العابدين بن علي ومعه أسرته ما يزيد عن 40 مليار دولار، كـ ''مكافأة نهاية الخدمة''، وحسني مبارك وعائلته ''كوشوا'' على 70 مليار دولار كـ ''أتعاب رئاسة''. ونفح معمر القذافي نفسه وأولاده وزوجته المفضلة بـ 120 مليار دولار كـ ''أجرة على قيادة الثورة''. وقائد الممانعة والمقاومة والعروبة بشار الأسد، حصل على ما بين 30 و40 مليار دولار كـ ''إكرامية لقيادته سفينة القومية''.
وبشكل عام.. ورغم أن ''بركات'' الأزمة الاقتصادية العالمية المنفجرة في عام 2008، أفرزت تشددا كان مطلوبا منذ عشرات السنين، حيال الأموال المنهوبة، إلا أن هذا التشدد لا يزال يحبو، لأسباب كثيرة، في مقدمتها، وجود ما يمكن أن نطلق عليه ''أشباه الدول''، التي توفر ملاذات آمنة ومزدهرة لهذه الأموال المشينة. وقد نجحت (ولا تزال) في ابتكار أساليب جديدة ومتجددة للتحايل على أي جهود تستهدف هذه الأموال. هي في الواقع تعيش عليها، وتمثل لها الدخل القومي السنوي الأكثر سهولة والأشد قباحة ودناءة في العالم أجمع. ومهما كانت نوايا الدول الكبرى حسنة وصادقة، فلا تزال تفتقر إلى الآليات الفاعلة لإعادة أموال الشعوب المنهوبة إلى مستحقيها، مع غياب تعاون دولي حقيقي ومستدام بهذا الخصوص. بل هي نفسها، تواجه مصاعب كبيرة في ملاحقة هذه الأموال على أراضيها، إلى جانب تقاعس بعض الحكومات في هذا المجال، بمن فيها الحكومة البريطانية، التي تعرضت أخيرا لحملة انتقادات داخلية شديدة، لتأخرها في التعامل مع ملف الأموال المنهوبة.
فقد كشفت بعض التحقيقات الميدانية، أن لندن، لم تستجب بما يكفي لمطالب دول الربيع العربي، بشأن تحديد وتجميد وتسهيل عملية استرجاع الأموال المنهوبة منها. وقد دفع هذا الأمر البعض إلى السخرية من حكومة ديفيد كاميرون، بعد تمكن عدد من الصحافيين (بجهود متواضعة)، من تحديد مواقع عقارات وأصول أخرى وحسابات مصرفية، تعود إلى رموز سابقين في الأنظمة العربية التي أطاحت بها شعوبها. ومع ذلك، فإن القضية تتطلب جهودا مشتركة ومترابطة ليس فقط بين الحكومات الحريصة على أموال الشعوب المنهوبة، بل أيضا بين مؤسسات دولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، والأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والإنتربول، ومنظمات مكافحة غسل الأموال بكل أنواعها.
غير أن هذا كله، لا يضع المسألة في المسار الصحيح، حتى لو حسنت النوايا، وصدقت الرغبة في إحقاق الحق المغيب منذ عقود. فالمطلوب أولا (وببساطة)، تخفيف القوانين المالية (الخاصة بهذا النوع من القضايا) المعمول بها في الدول الراشدة، قبل استهداف ''أشباه الدول'' وملاذاتها المشينة. أي أن تكون هناك مرونة قانونية في تحديد الأموال المنهوبة، والإجراءات الكفيلة بردها بأسرع وقت ممكن، بدلا من التمسك بقوانين وُضعت قبل عدة عقود، وتحكمها في الواقع الحجج الإجرائية، وصعوبة المتابعة، وتعدد الأسماء المتورطة، ووجود أسماء لا ترتبط مباشرة بالناهبين أنفسهم. فالأصحاب الحقيقيون لهذه الأموال، يحتاجونها اليوم أكثر من أي وقت مضى. إنهم يعيدون بناء اقتصادات من نقطة الصفر، تم اختصارها على مدى عقود طويلة، في مجموعات من قطاع الطرق، اعتقدوا أنهم مستمرون إلى الأبد، ويسعون الآن إلى طمر ما نهبوه من شعوبهم. إن المسألة برمتها ليست اقتصادية ولا إجرائية ولا قانونية ولا قضائية، وبالتأكيد ليست سياسية.. إنها مسألة ضمير، تخص مستقبل أمم بأسرها.

الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

هل ينفجر «نووي إيران» بقنابل الاقتصاد؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



''عقاب الكاذب ليس فقط في أن أحداً لا يصدقه، بل في أنه لا يصدق أحداً''
جورج برنارد شو - أديب إيرلندي

كتب: محمد كركوتـــي
يمكن أن نفهم ''اضطرابات الدجاج'' التي ضربت بعض المناطق الإيرانية مؤخراً بسبب ارتفاع أسعار الدواجن ونقص الإمدادات منها. كما يمكن فهم ارتفاع نسبة التضخم المتصاعدة في إيران، وأسعار المحروقات، وكذلك التراجع التاريخي في قيمة العملة الوطنية، والتصاعد المخيف لمعدلات البطالة التي بلغت قرابة 45 في المائة، ووصول ''جيوش'' الفقراء إلى أكثر من 14 مليون نسمة من أصل 30 مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر النسبي. يمكن فهم كل هذه الحقائق استناداً إلى ''التراجيديا الاقتصادية'' التي تؤطر المشهد العام في البلاد. ولكن أجد صعوبة في فهم حقيقة هي الأخطر قاطبة عندما تواجه منظمة الطاقة الذرية الإيرانية (التي تقف في وجه العالم) صعوبات في دفع رواتب موظفيها! لقد وصل الانهيار الاقتصادي، والهزات المتوالدة منه، إلى قلب المؤسسة التي يعاند علي خامنئي من قلبها للحقيقة، ويجد فيها قلعته المنيعة، ويرى من خلالها أحلاماً ''بديعة'' تُنتج له أوهاماً فظيعة!
قبل العقوبات الاقتصادية الغربية التي فُرضت على إيران، كان اقتصاد البلاد بمنزلة سفينة لا بحارة على متنها، وإنما مجموعة من الـ ''مُرقعين'' لبدنها. يسدون فجوة، ليباشروا بسد أخرى. وبعدها باتوا يجهدون في سد الرقعات نفسها. إنه عمل مستدام في اقتصاد هجرته الاستدامة منذ انتصار ثورة كان من المفترض أن تصون دولة لا أن تمسخها، وأن تقيم مؤسسات تبني على ما يمكن البناء عليه. ومصيبة الشعب الإيراني أن قيادته تريده أن يحارب بالأوهام، وأن ينتصر ''بعتاده'' هذا! بل أن تكون له القدرة على صناعة الأعداء. وفي أحسن الأحوال، أن يؤمن بأعداء صنعتهم قيادته، وليس مهماً أن يكونوا كذلك أم لا!
وسواء تلقت إيران ضربة عسكرية عقاباً على عنادها في برنامجها النووي، أم لم تتلق. تريثت إسرائيل حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ألم لم تتريث لتوجيه ضربة ما؟ انتظر علي خامنئي عودة ''المهدي'' المنتظر (للمساعدة والدعم) أم لم ينتظر؟ فجانب مهم من مصير ومستقبل هذا البرنامج المريب، يكمن في الاقتصاد الإيراني نفسه. والمتطلبات المالية (إلى جانب اللوجستية) للبرنامج كبيرة، وتردي الأوضاع الاقتصادية في السابق، مع ضربات العقوبات الغربية في الوقت الراهن، التي وضعت حلم خامنئي النووي في دائرة التهديد الكبرى. ويبدو من خلال ما تم الكشف عنه حيال مصاعب التمويل، أن سرقة مخصصات دعم الحبوب والخبز والمحروقات والمواد المعيشية الرئيسة، بل حتى مخصصات الدواجن، وتحويلها إلى البرنامج النووي، لم تحقق الكفاية المالية له. فعندما تنضب المخصصات، لا يوجد ما يمكن سرقته. إلى جانب ذلك، هناك الدعم الاقتصادي الإيراني المصيري (فضلاً عن الدعم السياسي والعسكري والتشبيحي)، لسفاح سورية بشار الأسد الذي يشكل عمقاً استراتيجياً بلا حدود للنظام الحاكم في طهران.
لقد دفع الواقع الاقتصادي في إيران قادة هذا البلد إلى تطوير صناعة الكذب، خصوصاً فيما يرتبط بآثار العقوبات الغربية. وإذا كان نصف الحقيقة كذبة كبيرة، فكيف الحال بالكذبة نفسها؟ ولم ينجح خامنئي في تسويق الكذب، حتى بعد أن انضم مروجون لبنانيون وسوريون (على وجه التحديد)، إلى حملة التسويق، وهم من أولئك الذين ''أعلنوا'' أن الميزان التجاري السوري حقق فائضاً في العام الجاري بلغ قرابة 8 مليارات دولار أمريكي!! مهلاً.. يقول هؤلاء أيضاً: إن سقوط الأنظمة العربية الخليجية بات قريباً، من ماذا؟ من الأزمات الاقتصادية!! لم ينته هؤلاء بعد، فهم ''يؤكدون'' أن إيران قادرة على المضي بقوة وثبات في نجدة الأسد اقتصادياً، وبالتالي لا أهمية للمساعدات العربية التي أوقفها العرب لسورية في ظل الأسد. وفي سياق هذه الأكاذيب، أضاف الأسد (وعصاباته) توصيف ''الشقيقة'' إلى إيران في خطابه الرسمي. وهذه هي المرة الأولى التي يصدق فيها! فإيران ''شقيقة'' له، وليس للشعب السوري.
لو كان نظام الملالي يتمتع بالحد الأدنى من الواقعية، لانتبه إلى نتائج تحقيق أجرته جريدة ''الفانانشيال تايمز'' البريطانية في مدينة أصفهان الحاضنة للمنشآت النووية. فسكان المدينة والمناطق المجاورة لها أكدوا أنهم لا يعبأون بوجود هذه المنشآت، ولا حتى بالمخاطر الناجمة عنها، بما في ذلك إمكانية ضربها. الذي يشغل هؤلاء الناس مشكلاتهم الاقتصادية الرهيبة وبؤس أوضاعهم المعيشية. تحدثوا عن فداحة العقوبات الغربية لا عن إمكانية تعرضهم لجحيم نووي، بصرف النظر عن طريقة انفجاره. وكيف لا؟ وقد وصلت آثار العقوبات حتى إلى رواتب أولئك الذين يعملون في المنشآت النووية نفسها.
ألم يتأكد الملالي أنه لا يمكن إخفاء ''التراجيديا الاقتصادية'' في بلادهم إلى الأبد؟ ليستمعوا إلى تصريحات وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، الذي اعترف فيها بأن العقوبات المفروضة على إيران وسورية بات لها تأثير متزايد حتى خارج الأراضي الإيرانية والسورية، وأصبحت تضر بمصالح الشركات الروسية نفسها. حتى الحكومات المارقة بدأت تصرخ من هول هذه العقوبات عليها. لكن ما جدوى ذلك؟ فخامنئي لم يسمع الصرخات الأقرب إليه!