الاثنين، 25 أكتوبر 2010

هل من عِبر لعلم في الكَبر؟

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")









" عندما تفشل في التحضير.. أنت تحضر للفشل"
بنجامين فرانكلين مؤلف ورجل دولة أميركي

 
 
محمد كركوتـي
 
 
على مدى عقود طويلة من الزمن، كان الغرب يفخر بدوره كمُعلم لهذا العالم وموجه له. كان الغربيون يعيشون متعة "الأستذة"، بكل وسائلها وطقوسها التعليمية. كانوا يرفعون "عصا الأستاذ" في وجه تلاميذه، لاسيما أولئك المشاغبين، أو الذين أرادوا أن يُثبتوا أن البديهيات المعمول بها في العالم، ليست من تلك الطبيعية، لكي تُقبل دون حوار، وليست بديهيات مقدسة غير قابلة للنقاش. كان هؤلاء (الخارجون عن التقليد) يريدون دوراً ليس في "الأستذة"، بل في المشاركة الحوارية المنطقية، بين الأستاذ والطالب، أو بين المعلم والتلميذ. نجح الغربيون في مناح كثيرة، وأضافوا بالفعل لهذا العالم ما كان يحتاجه، واستطاعوا أن يؤسسوا ( ويتسيدوا) علوماً، ما كان لغيرهم القدرة عليها. كانوا يعملون بكل قدراتهم، ليس فقط للابتكار، بل أيضاً ليواصلوا إحساسهم (المستحق) بمتعة التميز، والمتعة الأخرى التي يجرها، وهي “الأستذة". استحق الغربيون هذه الصفة، عن جدارة – بلاشك – لأنهم صنعوا للعمل قداسة، ومعها "الفراسة"، وأنفقوا كثيراً من أجل ابتكارات تخصهم وتخص العالم معهم. ومهما كانت "عنجهية" مشاعر "الأستذة"، فهي لا تُلغي فوائد هذه الأخيرة، خصوصاً إذا ماكانت عامة وقبل ذلك إنسانية.

لكن "الأستذة" الغربية، وإن سادت العالم وقدمت له الكثير من الإنجازات التاريخية، إلا أنها لم تكن على قدر سمعتها وهيبتها ومكانتها ومقامها، في المجال الاقتصادي المستدام. فقد أسست – بعد الحرب العالمية الثانية - لنظام اقتصادي مضطرب أحياناً، وهش في أحيان أخرى، وفوضوي في بعض الأحيان. وقبل هذا وذاك، كان نظاماً اقتصادياً يعاني من فقدان المناعة. فلا ازدهار مضمون دائماً، ولا نمو متوازن مستمر، ولا استقرار له صفة الديمومة. وعلى الرغم من ذلك، تشبث "الأستاذ" بمعايير نظريته الاقتصادية، وحوَلها إلى بديهيات مقدسة، رغم أنها مصطنعة، وكان يقاوم النيل منها بكل أشكاله ( انتقاداً أو دحضاً أو رفضاً)، مُدعياً أنه يعرف المصلحة العالمية، وأنه يعرف الحقيقة كـ "أخ أكبر". وكأن الغرب أراد من خلال هذا السلوك، أن يُصادق على نبوءة الأديب البريطاني الشهير جورج أورويل، الذي أوردها في روايته "1984"، والتي كتبها في العام 1948، بأن "الأخ الأكبر – يقصد الأنظمة الكبرى- يراقبك، وهو يعرف مصلحتك أكثر منك"!.

بعد الأزمة الاقتصادية العالمية انقلب المشهد، بعدما قلبت كل شيء في هذا العالم، وأوجدت معايير، كانت ( قبل ثلاث سنوات) تدخل في خانة المستحيلات. فالمُعلم انسحب من أمام "السبورة"، ليجلس في مقاعد التلاميذ!. وسلَم عصا "الأستاذية" لهم ومعها "الطباشير". لم يعد لديه ما "يتأستذ " به، بعد سبعة عقود فاصلة بين الحرب الثانية والأزمة العالمية، شهد خلال العالم سبعة انهيارات اقتصادية، أي انهيار واحد في كل عقد من الزمن!. وعندما يتحول المُعلم إلى تلميذ، ينبغي مراجعة كل ما قدمه هذا المُعلم لتلاميذه، ويجب مراجعة كل المُسلمات التي أدخلها عنوة في عقولهم. وهذه الحالة لا ينطبق عليها مقولة "أن التلميذ تفوق على مُعلمه"، بل " أن التلميذ حدد أخطاء مُعلمه وكشفها"، ولو بعد سنوات طويلة، من علوم اقتصادية، هي في الواقع، سلوك اقتصادي غير راشد. سلوك كان الوهم في صلبه.. لكي لا نقول غير ذلك!. فقد أثبت الغرب صحة مقولة لـ ألان لاكين المؤلف الأميركي المتخصص بشؤون الإدارة، مشابهة لمقولة بنجامين فرانكلين " أن الفشل في وضع خطة، هو خطة للفشل".

في ظل هذا التحول التاريخي الجديد، تحولت الدول الناشئة إلى "مُدرس" للاقتصاد، لمن؟ للدول الغنية الراسخة، وتحديداً الدول الغربية!. وتحت ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية، أدركت الدول الغربية الثرية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، أن لدى دول كالصين والبرازيل والهند، ودول أخرى ذات اقتصادات سريعة النمو، ما يمكن أن تتعلمه في مجال اجتياز الأزمة بمصائبها وتبعاتها التي لا تنتهي. فقد عرف الغرب الذي انطلقت منه الأزمة الكبرى، أنه عاجز عن حلها، بالمعايير التي كانت سائدة قبلها، في الوقت الذي يرى فيه ( وبصورة يومية)، كيف يتحول الاقتصاد العالمي من جهة الغرب إلى جهة الشرق، وكيف استطاعت دول ( فتية وفق المفهوم القديم)، أن تقفز بخطوات واسعة، باتجاه الخروج من الأزمة. واعترف بعض الغربيين العادلين، أن من حق دول الأسواق الناشئة – إن جاز التعبير – أن تحظى بمكانة توازي، ليس فقط قوتها المتعاظمة، بل أيضاً خبرتها في التعاطي مع الأزمات. وهذه لوحدها ينبغي أن تكون بمثابة ميزة أساسية، لكي تكون لهذه الدول كلمتها المسموعة في المنظمات والتجمعات الدولية المختلفة، وفي مقدمتها "مجموعة العشرين" و "صندوق النقد الدولي"، بالإضافة طبعاً إلى أهمية أن يكون لها منبر، تقدم من فوقه خبراتها لتلك الدول التي لا تزال "ألعوبة" للأزمة وتداعياتها.

لا مجال للكبرياء الغربي هنا، ولا ومكان لـ "اجترار" ماض اقتصادي أليم، ولا وقت لمراجعة معايير اقتصادية عالمية قديمة، لم تعد صالحة للمستقبل، كما لم تكن صالحة في الماضي أيضاً. الأمر الجيد هنا، أن الحكومات الغربية من الضعف بحيث لا يمكنها أن تتعالى، ولا تستطيع أن تُكابر. يكفي عليها أن تستعرض استفحال ديونها، وانعكاساتها على مصداقيتها، لكن تنضم إلى "الصفوف الدراسية" الاقتصادية الجديدة، ولكي تتعلم من تجارب الدول الناشئة، بعد أن كانت تصنعها. والشيء الجيد الآخر، أن نسبة المعترفين الغربيين بـ " خطايا" الغرب الاقتصادية، تزداد حتى في معاقل اليمين، الذي كان يتعالى في السابق، بنظام اقتصادي، ترك الأسواق تهيم على وجهها بممارسات مشينة. ماذا حدث؟.. أكل النظام أسواقه"!!. فقد ظهر ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا، ومعه رئيس فرنسا نيكولا ساركوزي، ومستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، (جميعهم من اليمين المحافظ)، كـ "ثوريين" اقتصاديين!. جنحوا إلى المجتمع، الذين وجدوا فيه الملاذ الطبيعي الآمن لهم.

للمؤسسات الدولية كبرى دور أساسي في توفير "المدارس" الاقتصادية للغرب. ويمكنها أن تقوم فعلاً بخطوات عملية في هذا الاتجاه، ليس لفائدة الدول الناشئة، بل لمصلحة الدول الغربية الهائمة على وجهها. وبوسع صندوق النقد الدولي ( يضم 187 دولة)، أن يكون "المدرسة" المثالية، شرط أن يتخلى الغربيون عن تمسكهم بقوتهم التقليدية، التي لم تعد تنفع فيه. يضاف إلى ذلك، أن متطلبات مواجهة الأزمة، لا ترتكز فقط على إعطاء الدروس المفيدة للغربيين، بل تقوم أيضاً على العمل الجماعي، لا المحلي ولا الوطني، وعلى ضرورة مراجعة صارمة للاقتصادات العالمية – لاسيما الغربية منها– لكي لا تفلت من التدقيق. فقد اكتسب صندوق النقد على مدى ستة عقود، سمعة لا تليق به، وهي أنه يتحدث بصوت عال، لكنه لا يملك السلطة لإجبار الدول على الأخذ بنصائحه أو دروسه. الصورة تغيرت الآن، وأصبح هناك مدرسون عمليون لا نظريين. ما يحتاجونه فقط هو "صف دراسي"، لا يقدمون نظريات "مفذلكة" فيه، بل يعرضون تجارب واقعية للنجاح، على الأستاذة السابقين. وأفضل طريقة لتحقيق الأهداف، هي أن يكون صندوق النقد الدولي، هو " ولي أمر" التلاميذ الجدد، فقد كان هؤلاء بلا " أولياء أمور" على عقود من الزمن، ولم يكن هناك من يُعاقِب!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق