الاثنين، 28 مارس 2011

أصحح خطئي الذي ارتكبه كيري

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"المال لا يشتري أصدقاء، لكنه يوفر أعداء على مستوى رفيع"
سبيك ميليجان كاتب وشاعر وكوميدي ايرلندي

 
 
 
محمد كركوتــي
 
تسبب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي جون كيري، في تأجيل كتابة مقال جديد لي، كنت نويت أن أتناول فيه الأموال التي نهبها سفاح ليبيا معمر القذافي، والوصول إلى أفضل التقديرات حول حجمها، وإلى أقرب الملاذات الآمنة التي يخزنها فيها، وإلى محاولة معرفة كيفية تبديد أموال ومقدرات الشعب الليبي. فقد نقلت عن السيناتور الأميركي في مقالي السابق، حول الأموال المنهوبة على أيدي الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وعائلتيه الصغيرة والكبيرة، الذي نُشر بعنوان "هل تكون 70 مليار دولار مجرد فكة؟" أن الولايات المتحدة الأميركية جمدت أموالاً وأصولاً لمبارك تبلغ 31,5 مليار دولار أميركي، وأن هذه الثروة موزعة في عدد من المدن الأمريكية، وتشمل عقارات في نيويورك وكاليفورنيا وأرصدة في عدة مصارف. وفيما كان المقال في طريقه إلى النشر، صرح كيري بأنه أخطأ في هوية السارق. فالثروة التي أعلن عنها صحيحة، ولكنها تعود للقذافي وليس لمبارك، الأمر الذي دفع هذا الأخير للتهديد برفع دعوى قضائية ضد السيناتور الأميركي. ولعل هذه الدعوى هي الوحيدة التي يمكن لمبارك رفعها الآن، وسط مئات القضايا المرفوعة ضده وضد عائلتيه من الشعب المصري. ولو كنت مكان مبارك (ولن أقبل أن أكون مكانه)، لشكرت الله على الخطأ الذي وقع فيه كيري. فقد وفَر له مساحة سنتيمترات في طريق يُحسب بعشرات الأميال، يقود إلى محاكمته حول كل شيء. نهب الأموال في مقدمتها، بالإضافة طبعاً إلى قتل مواطنين عزل، أرادوا فقط أن يستعيدوا حقوقاً مسلوبة، وكرامة مغتصبة، وآمالاً مقتولة.

ولكي أصحح خطأ وقعت به ولم أرتكبه، أرى بأنه ليس مستبعداً أن يمتلك مبارك وعائلتيه أموالاً منهوبة تزيد عن الـ 31,5 مليار دولار العائدة للقذافي في الولايات المتحدة، وليس مستغرباً أن تكون التقديرات التي تتداولها جهات رصينة –لا اتهامية- حول ثروة مبارك وعائلته الصغيرة ما بين 40 و70 مليار دولار صحيحة، يضاف إليها 140 مليار دولار، هي مجموع ثروات أفراد عائلته الكبيرة، الذين يعدون بالعشرات لا بالملايين. هم عبارة عن مجموعة من الأشخاص، مُنحوا "مناصب" رجال أعمال، في بلد شارف على الانهيار الاقتصادي في العام الماضي. في بلد يعمل فيه 17 مليون إنسان بنظام "المياومة". في بلد يعيش فيه 40 في المائة من سكانه تحت خط الفقر. في بلد يعج بـ 9 ملايين إنساناً مصاباً بالكبد الوبائي. في بلد شهد فيه "مهرجان" الخصخصة، بيع الزبالة نفسها! في بلد تحول إلى سوق مفتوحة لبيع الأعضاء البشرية. في بلد فُرضت فيه الضرائب على من لا يملك شيئاً، ورفُعت عن الذي يملك كل شيء. في بلد بيعت فيه الأراضي بـ "الملاليم" لمن يملك الملايين بل والمليارات. في بلد بيعت فيه ديون البلاد لنجل الرئيس بتخفيضات فلكية، ليمتلكها بقيمتها الحقيقية. في بلد قُدست فيه السوق المالية، واحتُقرت فيه سوق الغذاء، إلى درجة تحولت فيه الطماطم من فاكهة يستطيع الجميع الوصول إليها، إلى أطباق "السَلطة" على موائد الأثرياء فقط!

هكذا كان حال مصر. فالفساد (ومعه النهب) الذي شُكلت له مؤسسات ليصبح من أقوى القطاعات في البلاد، لم يبدأ في الواقع في العام 1981 عندما وصل الرئيس المخلوع إلى السلطة، بل قام هذا الأخير بالنهب عندما كان نائباً للرئيس الراحل أنور السادات. وبعد مقتل الأخير، حرص مبارك على "مأسسة" السرقات، وفي السنوات اللاحقة، أصبغ مؤسسات الفساد، بصبغة اعتقد أنها أبدية، لا يمكن أن تحل. ولكن مع أول صرخة في ميدان التحرير بالقاهرة، ظهر اللون الحقيقي الأسود المر لها.

في كتاب "كبار زعماء العالم" الصادر عن دار النشر "تشيسي هاوس"، الذي منعه مبارك من التداول في مصر، أورد المؤلفان ميير سشلنجير وسوزان دراج، أن الرئيس المخلوع كاد أن يفقد منصبه كنائب للرئيس، عندما علم السادات، أن مبارك أطلق موجة من الصفقات الخاصة في الولايات المتحدة، مع رجل الأعمال حسين سالم دون علم الرئيس الراحل بها. وحسب الكتاب فإن السادات قرر فعلاً استبدال نائبه المهتم "بالبزنس" من وراء ظهره، بالوزير منصور حسن، لكن تدخل زوجة السادات جيهان في آخر لحظة، دفع زوجها إلى صرف النظر عن الموضوع. وبصرف النظر عن نية السادات، سواء حرصه على النظافة السياسية، أم غضبه من أن صفقات مبارك تجري من تحته، فإن الرئيس المخلوع باشر عمليات النهب، قبل أن يحتل كرسي الرئيس. وربما من المهم الإشارة هنا، إلى أن عوامل أخرى ساهمت في بقاء مبارك في منصبه كنائب للرئيس، في مقدمتها، قربه الشديد من السادات، ومعرفته بتفاصيل علاقات هذا الأخير بالولايات المتحدة آنذاك، ومعرفته أيضاً بحقيقة فساد الرئيس نفسه وعائلته، ولا سيما قضايا شقيقه عصمت السادات.

ويتناغم مضمون الكتاب الأميركي، مع ما نشرته صحيفة "اللوموند" الفرنسية الرصينة، بأن حسني مبارك تورط بالفساد وبنهب أموال الخزينة المصرية، منذ العام 1975. أي أنه دخل عام الفساد والسرقات منذ 36 عاماً على الأقل. وقد يكون مفيداً الإشارة هنا، إلى أن وثيقة كشفت عن امتلاك مبارك لسندات خزينة صادرة عن مصرف "باركليز" البريطاني في اغسطس/آب من العام 1976، تصل قيمتها آنذاك إلى 600 مليون دولار أميركي! هذه الوثيقة استطاعت الوصول إليها "اللجنة الدولية لملاحقة ناهبي ثروات الشعب المصري"، التي تتخذ من باريس مقراً لها. وطبقاً لـ "اللوموند"، فإن الرئيس المخلوع استغل منصبه منذ العام 1975، كمفاوض على صفقات السلاح بين مصر وكل من الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة، للحصول على عملات ورشى تحسب بمئات الملايين الدولارات. وتقول: "وكانت هذه بداية عهده بالثروة".

وإذا كانت عمليات نهب الأموال العامة بصورة مباشرة، أو غير مباشرة عن طريق العمولات، أو حسب التعبير المصري العامي "السبوبة"، بدأت في الواقع في منتصف سبعينات القرن الماضي، علينا أن نحسب حجم الأموال، التي وصلت إلى ملاذاتها الآمنة في الدول الأجنبية والعربية، وعلى وجه الخصوص في أشباه الدول، التي لا تزال تقاوم التحولات الدولية، في مسألة الأموال المنهوبة من الشعوب. ففي غضون 30 عاماً، وصلت إلى مصر مساعدات ومعونات دولية وعربية بلغت أكثر من 210 مليار دولار أميركي.

في ثمانينات القرن الماضي، راجت نكتة تقول: إن رئيساً عربياً قدم سيارة فارهة لمبارك كهدية، ورفض هذا الأخير الهدية، وقال سوف أدفع ثمنها. واستحياء طلب منه دفع درهم واحد على سبيل الرمزية. فما كان من مبارك، أن دفع خمسة دراهم، وقال له: اعطني خمس سيارات.

قبل عشر سنوات تقريباً، كنت حاضراً في أحد الاجتماعات التي جمعت مبارك ورئيس إحدى الدول الخليجية. وقد قام المسؤولون بإخراج كل الموجودين، بما في ذلك الوزراء، لبدء اجتماع ثنائي بين الرئيسين فقط. في القاعة التي جمعتني مع الخارجين، لم يخف أحد كبار المسؤولين امتعاضه، من ماذا؟ من محاولات مبارك إقناع الرئيس الخليجي، بتحويل المشروعات التي تقوم بها دولته في مصر، إلى أموال سائلة! أي أن تقوم هذه الدولة بدفع المال بدلاً من إقامة مشروعات تشرف عليها مباشرة. لم تكن محاولات مبارك هذه تمثل صدمة لمن يعرفه.

السؤال يبقى كما هو في مقالي السابق "هل تكون 70 مليار دولار مجرد فكة؟".

الاثنين، 21 مارس 2011

هل يكون 70 مليار دولار مجرد "فكة"؟

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"إذا استطعت أن تعد أموالك، يعني هذا أنك لا تملك مليار دولار"
جين بول جيتي مستثمر وصناعي أميركي





محمد كركوتــي

استكمالاً لمقالي الذي نشرته الأسبوع الماضي بعنوان "مكافح ومحارب وثوري.. وثروات". أحاول في هذا المقال، أن أتناول الأموال التي سرقها الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، الذي يحب أن يُوصف بالمحارب، وكان يفخر مع آلته الإعلامية، بأنه وجه الضربة الجوية الأولى ضد إسرائيل في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. مرة أخرى لا أعرف أين وجه البطولة هنا، إذا ما كان يقوم بواجبه العسكري والوطني، مثله مثل أي جندي شارك في تلك الحرب؟! يحارب المُحارب الآن على جبهة مشينة له، لكنه ليس صاحب الضربة الأولى فيها. والحقيقة، أنه في هذه الحرب، يتلقى الضربة تلو الأخرى، والهجوم بعد الآخر، دفاعاً عن نفسه وعائلته، من الاتهامات والبلاغات القضائية (المحلية والدولية) الخاصة بنهبه لعشرات المليارات من الدولارات الأميركية، باشر في جمعها –حسب بعض الروايات- حتى قبل أن يتسلم في العام 1981 مقاليد السلطة كرئيس لمصر، بالإضافة إلى عشرات أخرى من المليارات سُلبت من الشعب المصري، على أيدي عائلته الأوسع نطاقاً، المتمثلة بعشرات من الأشخاص، الذين منحهم "مناصب" رجال أعمال، ولعلهم "الرجال" الوحيدين في هذا العالم، الذين حصلوا على هذا التوصيف عن طريق التعيين! فنحن نعلم، أن رجل الأعمال يكتسب مقامه هذا، إما بالوراثة، أو عن طريق نشاطات استثمارية تبدأ صغيرة، وتمضي في دربها نحو الكِبر.

وإذا ما أخذنا رواية جريدة "الديلي تلجراف" البريطانية الرصينة بجدية، فإن مبارك بدأ معركته الذاتية بهذا الشأن، بعد ساعات من اندلاع ثورة 25 يناير، واستمرت ذاتياً، إلى أن أعلن نائبه (الأبطأ تعييناً إلى درجة الغيظ، والأسرع خروجاً إلى درجة الدهشة من موقعه) عمر سليمان، عن تخلي مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية. الجريدة تنقل عن مسؤول في المخابرات البريطانية، أن الرئيس المخلوع، لم يتشبث بالسلطة خلال الأيام الثمانية عشرة التي سبقت تنحيه، إلا من أجل تهريب ثروته وإخفاء ودائعه في حسابات يصعب رصدها. هذه الأيام، وفرت مساحة زمنية لمبارك وعائلته، لإجراء اتصالات ومشاورات مكثفة لإبعاد "ثرواتهم" عن عيون المحققين. وتتفق جميع المصادر الغربية التي تحظى بمصداقية، على أن مبارك قام قبل أن يُخلع، بتحويل كميات هائلة من الأموال، إلى جهات أخرى متعددة. فالأماكن التي خُزنت فيها قبل الثورة، باتت بعدها ملاذات خطرة على الأموال والأصول، خصوصاً بعد أن تغيرت سلوكيات الدول الغربية (لاسيما سويسرا) نحو الأفضل، حيال الأموال التي ينهبها الطغاة من شعوبهم.

كنت من أولئك الذين يشككون في الأرقام المتداولة عن ثروة مبارك وعائلته الصغيرة، والتي تراوحت ما بين 40 و70 مليار دولار أميركي (لا زيمبابوي)، على اعتبار أنه مُبالغٌ فيها. وإذا ما جمعنا ثروة مبارك مع ثروة عائلته الكبيرة بعض الشيء، فإن الأموال تصل إلى 210 مليار دولار أميركي. وكنت أشكك في هذه الأرقام، على الرغم من أن العديد من الجهات الإعلامية وغير الإعلامية الرصينة تبنتها. والحقيقة، أن الذي بدد عندي هذه الشكوك، هو ما أعلنه جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، بأن السلطات الأميركية جمدت ثروة للمخلوع المصري في الولايات المتحدة تبلغ 31,5 مليار دولار، وأن هذه الثروة موزعة في عدد من المدن الأميركية، وتشمل عقارات في نيويورك وكاليفورنيا وأرصدة في عدة مصارف. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن السلطات الأميركية، نجحت في تجميد هذه الأموال والاصول، بعد أن نجح مبارك في التمويه على أموال أخرى في الأراضي الأميركية نفسها. السؤال التلقائي الذي يتبادر إلى ذهن أي متابع أو مراقب هو، إذا بلغت ثروة مبارك في الولايات المتحدة هذا الحد من الأموال الهائلة، فما هو حجمها في بقية البلدان؟ وهذا السؤال يسبق آخر هو، كيف استطاع الرئيس "المُحارب" جمع هذه الثروة؟

من الصعب –بل من المستحيل- الوصول إلى أرقام دقيقة للأموال المنهوبة من مصر، ولكن يمكن التأسيس دائماً على ما هو مُكتشفٌ أو مُجمد منها. ونحن نعلم أن الأموال المسروقة من الشعوب، لا يتم الحصول عليها عن طريق شيكات سياحية أو تحويلات مصرفية أو بواسطة بطاقات الائتمان. إنها تُنقل إلى الخزائن السرية بالحقائب والصناديق، على متن طائرات خاصة جداً، وفي أوقات ملائمة جداً جداً. وفي خضم الثورة المصرية، تم الكشف عن طائرات خاصة غادرت مصر إلى لندن، مُحملة بالحقائب المملوءة بالأموال المسروقة، وعلى متنها عائلات السارقين الهاربين من غضب الشعب الثائر. وإذا عرفنا، أن بريطانيا تمثل المكان الأمثل والمفضل لمبارك وعائلتيه الصغيرة والكبيرة، لتمرير الأموال (والأمر ليس كذلك في الولايات المتحدة)، علينا أن نتخيل حجم الأموال المكدسة في الخزائن البريطانية، بالإضافة إلى الأموال القابعة في خزائن سويسرية وفرنسية وألمانية وعربية، ومخازن الأموال في أشباه الدول. ربما سيكون الـ 70 مليار دولار المتهم مبارك بسرقتها، رقماً متواضعاً، والـ 140 مليار دولار التي سرقها رجال أعماله، مجرد "فكة" أو مصاريف نثرية أو لشراء "بلاي ستيشن" للأولاد!

كيف استطاع الرئيس المخلوع أن يجمع هذا الكم الهائل من الأموال، في بلد نامٍ؟ ولعل هذا السؤال الأكثر أحقية في الطرح من غيره. الجواب ليس صعباً، ولا يحتاج إلى محللين اقتصاديين يُعقِدون المسألة. لو تم "زواج" بين السلطة والمال في صحراء قاحلة، لأنتج مالاً مشيناً في مصادره، ومريعاً في كمياته. فكيف الحال، وهذا الزواج غير الشرعي، تم في مصر منذ ثلاثة عقود، ولم يتعرض لأي هزة تؤدي إلى الانفصال أو الطلاق؟ ورغم عدم شرعيته، فهو زواج كاثوليكي الالتحام والمصير، بل في الكثير من الأحيان، يتجاوز هذه الصفة إلى ما بعد الموت. ماذا فعل مبارك لتجميع "مكافأة" نهاية الخدمة؟ قام في ثمانينات القرن الماضي، بشراء ديون مصر بأقل من 35 في المائة من قيمتها الأصلية، وكان ابنه جمال المشتري الحقيقي لها، لأنه كان متأكداً – وهذا ما حدث بالفعل- من الحصول على 100 في المائة من قيمتها. وحسب محللين في لندن، فإن هذه الصفقة التاريخية لوحدها، يمكن أن تكوم جبال من الثروات. وماذا فعل أيضاً؟ باع أراضٍ عامة لنفسه وعائلتيه بـ "الملاليم"، ليعيد بيعها بمئات الملايين، أو ليحولها إلى مناطق "استثمارية" خاصة، ونفذ برامج خصخصة المؤسسات العامة، بأحط الطرق الممكنة، ووجه كميات من أموال المساعدات إلى حساباته وخزائنه المنتشرة حول العالم، بما في ذلك، أموال أجنبية كانت مخصصة لدعم الثقافة، وتوسيع نطاق وتأثير المكتبات العامة في الحياة العامة، وصيانة وحماية الآثار. لم يكتف الرئيس المخلوع بذلك، بل انضم إلى نادي أشهر المتهربين من الضرائب. فقد اكتشف النائب العام في مصر، بأن مبارك لم يدفع فلساً واحداً للخزينة العامة، كضريبة على الدخل، بما في ذلك راتبه الشهري!

يقول السياسي الأميركي الراحل وليام براين :"لا أحد يستطيع أن يجمع مليون دولار بصورة نزيهة". علينا أن نتخيل المزيد من الصور، التي جمع بها مبارك وعائلتيه الأموال في بلد، يعمل 17 مليون نسمة فيه بنظام "المياومة"، ويقبع 40 في المائة من سكانه تحت خط الفقر، ويعيش فيه 30 في المائة من الأميين. إنها قصة صدمت التاريخ المُعاش، وستصدم التاريخ المقبل.


الجمعة، 18 مارس 2011

القنوات الإخبارية.. موسمية

(المقال خاص بمجلة "إذاعة وتلفزيون الخليج")

" اليوم.. مشاهدة التلفزيون تعني غالباً، القتال والعنف واللغة غير اللائقة. وهذا يتقرر عند من يمتلك السيطرة على جهاز التحكم"
دونا جيبهارت مؤلفة أميركية

 
 
 
 
محمد كركوتـــي
 
بعد عقدين من انطلاق "الانفجار" التلفزيوني الفضائي عالمياً، وأقل –من حيث الزمن- على الصعيد العربي، وبعد أن امتلأت سماء البشر بأعداد هائلة من القنوات التلفزيونية، التي بات من الصعب حصرها، وبعد أن حفلت المنطقة العربية بأعداد منها وصلت إلى 900 قناة (بعض التقديرات تشير إلى وجود إلى مابين 1000 و1100 قناة)، مازال السؤال في العالم العربي يتردد حول حصص هذه القنوات من المشاهدة، لا من حيث هوياتها، بل من جهة تخصصاتها، المرتبطة مباشرة بالناس. وإذا كان هذا الأمر أكثر وضوحاً في الغرب، إلا أنه ليس كذلك في الشرق، وخصوصاً عند العرب، لأسباب عديدة، في مقدمتها، عدم وجود إحصائيات مسحية دقيقة، وعدم اهتمام غالبية الفضائيات العربية –ولا أقول كلها– بهذا الأمر، على الرغم من الحرص الدائم للمؤسسات المعنية بشؤون الإعلان في المنطقة، على الوصول إلى الإحصائيات الحقيقة، ولو بأدنى جودة ممكنة. ولا شك في أن الغالبية العظمى من الفضائيات العربية، لا ترغب أصلاً بأن تكون ضمن نطاق هذه الإحصائيات، تجنباً لفضائح لا تريدها، والهروب من أرقام، ستكرسها بالتأكيد كـ "بقاليات" تلفزيونية فضائية، لا كفضائيات تتمتع، ولو حتى بالحد الأدنى من الجودة والمهنية المطلوبة.

لكن هذا لا يمنع – والحديث هنا دائماً عن العالم العربي- أن بعض الدراسات والأبحاث الرصينة، تتوصل بين الحين والآخر، إلى نتائج يمكن الاستناد عليها كمؤشرات، تدل إلى أين يتجه المشاهد العربي، وماهية "الأزرار" التي يضغط عليها في جهاز التحكم، وتدل أيضاً على مزاجية هذا المشاهد وسلوكه التلفزيوني. وهذا في الحقيقة، يخدم المُعلِن، ويوضح إلى حد ما "الثقافة التلفزيونية" للمشاهد، ومواقع التأثير فيه.

لقد كان الاعتقاد السائد عند المراقبين العرب، أن المشاهد العربي يميل أكثر إلى متابعة القنوات الإخبارية، لأنه متعطش للحصول على الخبر، من الجهة التي يعتقد بأنها توفره بأعلى درجة من الجودة، وأنه يشكل قناعاته وحتى أفكاره وفقاً لمتابعته هذه، خصوصاً إذا ما كانت تصعب عليه المتابعة الإخبارية من فضائيات تبث بلغات أخرى لا يعرفها. ولا أزال أذكر استطلاعاً أجرته الـ هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" قبل عدة سنوات في أوساط شرائح مختلفة من العرب، أظهر أن الغالبية العظمى من أولئك المشاركين في هذا الاستطلاع، أكدوا أنهم لن يتابعوا القنوات الإخبارية العربية، لو أنهم يجيدون فهم لغة أخرى غير العربية، وفي مقدمتها الإنجليزية. ولكن للإنصاف تغير الحال إلى حد بعيد، بوجود قنوات إخبارية عربية محترفة، أزالت كماً كبيراً من الشكوك عنها، عند المشاهد العربي، بالإضافة طبعاً، إلى انتشار قنوات أجنبية تبث باللغة العربية في أجواء المنطقة.

وبعيداً عن الشك والريبة والنزاهة، وعن المستوى المرتفع لبعض القنوات الإخبارية العربية، وتدني مستوى غالبيتها. فقد بات واضحاً، أن ما كان يعتقده المراقبون سابقاً، لم يكن حقيقياً، في مسألة انحياز المشاهد العربية لـ " الإخباريات" – إن جاز التعبير- أكثر من انحيازه للقنوات الأخرى. والحقيقة أن القنوات الترفيهية المنوعة، وتلك المتخصصة بالأفلام والدراما والأسرة والمرأة. والقنوات الرياضية، والتعليمية، والغنائية، والدينية (رغم كل الملاحظات عليها)، تستقطب القاعدة الأوسع من المشاهدين. وهذا ما يبرر العدد القليل للقنوات الإخبارية ومعها الاقتصادية، مقارنة بعدد القنوات الأخرى. ففي الأجواء العربية، هناك 34 قناة إخبارية – حسب تقرير صدر في أواخر العام 2009 وتبناه اتحاد إذاعات الدول العربية – بينما هناك 115 قناة متخصصة بالموسيقى والمنوعات من قضايا التنمية إلى الفكر والتعليم وحتى البيئة. ويبلغ عدد قنوات الدراما والسينما والمسلسلات والثقافة العامة 75 قناة، ووصل عدد القنوات الرياضية -حسب الدراسة نفسها– إلى 56 قناة. والحقيقة أن هذه الأرقام، تدخل في نطاق الإحصاء الإجمالي الذي تبناه الاتحاد المشار إليه، لعدد القنوات الفضائية العربية البالغ 696 قناة.

وسواء كان العدد الإجمالي 696 أو 1000، فإن حصة القنوات الإخبارية من "سوق" المشاهدة هي الأقل. فحتى القنوات المتخصصة ببث برامج الألغاز أو "الحزازير" – وهي قنوات دون مستوى حتى "البقاليات" التلفزيونية- تجاوزت القنوات الإخبارية عدداً، وحتى استقطاباً، رغم أنه – مرة أخرى – لا توجد إحصائيات دقيقة بهذا الصدد. ولو سُمح لقنوات "قراءة الكف" على الهواء مباشرة الاستمرار في عملها، لتجاوزتها أيضاً من حيث عدد المشاهدين. مع ضرورة الإشارة إلى أن تكاليف تشغيل مثل هذه المحطات، لا تُذكر- بأي حال من الأحوال- أمام تكاليف تشغيل محطة إخبارية ذات نوعية.

تحقق القنوات الإخبارية – ومعها إلى حد ما القنوات الاقتصادية- نسبة مشاهدة عالية في أوقات الأزمات والمشاكل الكبرى والأحداث التي تترك بعداً تاريخياً لها. فكلما كانت هذه القناة أو تلك في قلب الحدث، كلما استحوذت على نسبة عالية من المشاهدين، الأمر الذي يحولها عند المشاهد العربي، إلى قنوات "موسمية". وقد بدا هذا واضحاً في الآونة الأخيرة، من خلال متابعة وتغطية ما جرى في تونس ومصر من انتفاضتين تاريخيتين. وحدث هذا أيضاً في السابق، في الحرب على العراق، والحرب بين حزب الله اللبناني وإسرائيل. ولكن هل تستطيع قنوات الأخبار أن تحافظ على نسبة عالية من المشاهدة في كل الأوقات. الحقيقة أنها لن تتمكن من ذلك، أمام اندفاع المشاهد العربي – وحتى الأجنبي- إلى المنابر التلفزيونية وغيرها، التي تقدم الخدمات الدائرة في فلك المجتمع.

الاثنين، 14 مارس 2011

مكافح ومحارب وثوري.. وثروات

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"أنت تعتقد أن الأموال هي جذور الشر. هل سألت يوماً ما هي جذور كل الأموال؟"
آين راند كاتبة ومؤلفة روسية-أميركية







محمد كركوتــي
 
إنها حقيقة، لا أحد يمكنه الادعاء بمعرفة حجم الأموال التي نُهبت على أيدي رؤساء خُلعوا، أو زعماء في طريقهم إلى الخلع، أو قادة يسعون بكل ما أمكن لهم، إطالة المدة الفاصلة لخلعهم. ولا أحد يستطيع أن يحدد قائمة حقيقية ودقيقة للأموال المنهوبة. فالذين ينهبون الأموال، يعرفون كيف يخفونها، وكيف يمررونها، وكيف يحولونها من أموال قذرة، إلى ملوثة إلى متسخة، إلى نظيفة. وللبعض منهم مهارات، يمكنهم عن طريقها تحويل هذه الأموال، من قذرة إلى نظيفة، دون المرور بالمراحل التقليدية المشينة. وإذا ما أَخفقوا في ذلك، هناك مئات المستشارين من أولئك الذين يرتدون البدلات الإيطالية والفرنسية الفاخرة جداً (لاسيما في الدول الغربية الكبرى، وأشباه الدول)، يقومون بالمهام على أكمل وجه، وبأفضل صيغة ممكنة كانت أم غير ممكنة، مع موجات متواصلة (أو متقطعة، حسب الحاجة) من العلاقات العامة، التي تُسوق هذا السارق (الطاغية) أو ذاك، كراعٍ كريم حنون مرهف القلب والوجدان، لجمعيات خيرية، ولهيئات إنسانية، ولمراكز أيتام، ولا بأس من مؤسسات تقدم إنتاجاً لتأصيل الحضارة البشرية، وتدعو إلى التسامح والحب. ولكل موجة من هذه الموجات سعرها. ولعل هذه الأنواع من الصفقات، هي الوحيدة في هذه الدنيا التي لا يختلف الطرفان حول تكاليفها. مليون دولار أميركي للتلميع، و20 مليوناً للتطبيل، و100 مليون للتنظيف، أين المشكلة؟ ليس مهماً ما قاله يوماً الأديب والشاعر الأميركي الشهير رالف إيمرسون "المال يُكلف الكثير". عذراً أيها الأديب، ليُكلف. فالمال يتكلم أحياناً، وإن كان يشتم غالباً.

وضعت الثورات التي شهدتها تونس ومصر، وتشهدها ليبيا، قضايا الأموال المنهوبة في عين الأضواء. وهذا أمر طبيعي. فالطغاة يحسبون أنهم يمتلكون شعوبهم، فما الذي يمنعهم من امتلاك أموالها ومقدراتها أيضاً؟ وإذا كان هناك من رجال أعمال ومستثمرين يمتلكون مصارف، فالطغاة يمتلكون مصارف المصارف، أي البنوك المركزية نفسها. هكذا فعل العراقي صدام حسين. فعندما فر هارباً من مصيره أرسل ابنه إلى البنك المركزي، ليُفرغ أموال شعب العراق، في حقائب وصناديق، هرَب ما أمكن له منها خارج البلاد، واحتفظ بأموال هائلة، لينفقها على عصاباته، وليشتري حباً شعبياً لم يحصل عليه. لم يكن يعرف (مثل بقية طغاة الدنيا)، أن الحب يُمنح.. لا يشترى، وإذا أتى على شكل سلعة، فتاريخ انتهائه يبدأ مع تاريخ صناعتها.

المخلوعان التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، وزميلهما المقبل الليبي معمر القذافي، فعلوا الشيء نفسه. حولوا مصارف شعوبهم المركزية، إلى خزائن منزلية، تحت غطاء بائس من حديث لم ينقطع عن أنهم "ضحوا" من أجل هذه الشعوب، وأنهم "أفنوا" أعمارهم كفاحاً، لهناء شعوبهم، وأنهم زاهدون في السلطة، بل أنهم سئموا منها. لا أعرف إن كانوا يدركون، أن أحداً لم يصدقهم، وأغلب الظن أنهم لا يدركون ذلك. وبعيداً عن الخراب الذي نشروه في بلدانهم (وخسائره لا تقدر بثمن)، فقد حصلوا على مكافآت "تضحياتهم وكفاحهم" من دون فواتير. إنهم أكثر الناس كرهاً للفواتير والمحاسبة. فالتقديرات المتفق عليها، أن بن علي وأسرته نهبوا 40 مليار دولار أميركي، كمكافأة نهاية الخدمة، ومبارك وعائلته "كوشوا" على 70 مليار دولار كـ "أتعاب" رئاسة، وسفاح ليبيا نفح نفسه وأولاده وزوجته المفضلة بـ 120 مليار دولار، كـ "إجرة" على قيادة الثورة! وحسب التقديرات الرصينة، فقد انتفع أشخاص حول رئيس تونس المخلوع ممن منحهم "مناصب" رجال أعمال بأكثر من 50 مليار دولار، وانتفعت نفس الفصيلة حول رئيس مصر المخلوع بأكثر من 140 مليار دولار. أما الفصيلة الليبية حول ملك ملوك أفريقيا، فقد استحوذت على ما يقرب من 80 مليار دولار، بما في ذلك الأموال التي أنفقها رئيس الـ "لا نظام" الليبي على معارك خارجية مدمرة، وعلى قبائل لا تعرف الفرق بين الإنسان والحيوان، فهي تأكل لحوم الاثنين معاً. وطبعاً لا أحد يعرف بعد، حجم الأموال التي ينفقها سفاح ليبيا على المرتزقة الذين يستوردهم من صربيا وأوكرانيا وأفريقيا لقتل شعبه. وحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية الرصينة، فإن هذا الأخير يمتلك عشرات المليارات من الدولارات نقداً في طرابلس، الأمر الذي يتيح له مواجهة الثورة، رغم تجميد الأرصدة الليبية دولياً. لا تقلق إذاً يا قائد الثورة.. من الثورة.

على كل حال.. بحساب بسيط، يبلغ حجم الأموال المنهوبة من ثلاث دول عربية 400 مليار دولار أميركي. وإذا أضفنا الخراب الذي خلفه الناهبون في بلدانهم، لا شيء يمكن أن يُعبر عن هذا المشهد الذي يدعو إلى الغثيان، سوى الذهول. وتكفي الإشارة هنا، لتعميق هذا الذهول، أن ثلاث دول غربية هي فرنسا والولايات المتحدة الأميركية والنمسا، استطاعت في ثلاثة أيام فقط، تحديد أرصدة وأصول لـ "قائد الثورة" بلغت 42 مليار دولار أميركي! الأمر الذي يحفز أي مراقب، على مراجعة حقيقة التقديرات الرصينة نفسها، الخاصة بالأموال الليبية المنهوبة. وفي قصر قرطاج حيث كان المقر الرسمي للمخلوع بن علي، وجد المحققون رزم مالية مدموغة بخاتم البنك المركزي، في الخزائن الخشبية (لا الحديدية)، فاقت قيمتها 27 مليون دولار أميركي، وهذه "الفكة" لم يستطع حملها قبل أن يهرب على عجل، بالإضافة إلى مجوهرات أذهل حجمها وقيمتها جميع من كانوا يحصون المسروقات. هذا إلى جانب الآثار المنهوبة التي لا تقدر بثمن.

هناك مثل لا تيني يقول: "إذا أحببت أن تشعر بالثراء، قم باستعراض الأشياء التي تملكها، ولا يمكن أن تُشترى بالمال". ليس لدى هؤلاء شيئاً لا يُشترى. لكل رجل منهم سعره وتسعيراته. قائد الثورة لم يكن سوى رئيس عصابة، تدرج نحو مكانته هذه من قاطع طريق، والرئيس الذي وجه الضربة الجوية الأولى في الحرب ضد إسرائيل (لم أفهم أين البطولة في ذلك إذا ما كان يقوم بواجبه)، لم يكن إلا رئيس ناد عائلي بأعضاء محدودين جداً، للسرقات المُحكمة جداً جداً، والرئيس الآخر الهارب، لم يكن رئيس دولة، كانت رئيساً لتجمع سماسرة، لديهم الكفاءة المرعبة في سرقة الكحل من العين.

سرقة، نهب، اختلاس، فساد، استبداد، قمع، ظلم، إهانة، ازدراء للإنسانية، استغلال نفوذ، تخريب المؤسسات، تمكين عائلة الزعيم وأصهاره والهائمين بحبه.. هكذا كانت الأحوال في تونس ومصر وليبيا. الأولى كانت يديرها "مكافح"، والثانية كانت يتسيدها "محارب"، والثالثة كانت يملكها "ثوري". ومثل كل الكاذبين بالسليقة، صدق هؤلاء توصيفاتهم، وحولوا أنفسهم إلى رموز أرادوا لها أن تكون تاريخية. أحبوا أن تكون محفورة في ذاكرة الشعوب. سعوا ليدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه. إنهم بلا شك، سيدخلون التاريخ الذي يحتضن الخير والشر. سيدخلونه من الباب الخلفي له، وهو نفس الباب الذي دخله طغاة سابقون، تعاملوا مع الإنسانية، كعدو بغيض لا قيمة له، وتعاطوا مع الشعوب، كقطيع لا يستحق إلا الذبح، خصوصاً في المناسبات.

الاثنين، 7 مارس 2011

توني القذافي ومعمر بلير

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


"نحن نتحدث وفق المبادىء، ونعمل وفق المصالح"
وولتر لاندور كاتب إنجليزي




محمد كركوتــي

اتصل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير، مرتين في يوم واحد بحاكم ليبيا غصباً وقهراً معمر القذافي، لاقناعه بالتنحي (وربما نصحه بالفرار بجلده). لم يجد رئيس وزراء بريطانيا الحالي ديفيد كاميرون، ومعه الرئيس الأميركي باراك أوباما، شخصية أفضل من بلير للقيام بهذه المهمة، التي فشلت، فور تبادل كلمة "ألو" بين بلير والقذافي. فهذا الأخير فَقَدَ اتصاله مع الواقع، منذ عقود من الزمن. هذا إن كان هناك اتصال أصلاً. وإذا تبقت عنده مساحة من التفكير، فقد خصصها لتمتعه بأمجاد وهمية، وانتصارات كاذبة، وادعاءات بائسة- مضحكة، وبطولات ورقية، إلا إذا اعتبر هو، أن قصف الأبرياء براً وجواً، وقتل الجرحى في أسِرتهم، وحظر الطعام والدواء على شعبه، وتشغيل المرتزقة ضد شبان يسعون إلى كرامة سُلبت منهم، وآمال واجبة التحقيق.. نوعاً من أنواع بطولاته.

أغلق بلير سماعة الهاتف، ليقول لرئيس وزرائه: إن هذا المقيم في باب العزيزية بطرابلس، لن يتنحى، وسيقاتل حتى آخر رجل وامرأة. بالطبع لم يقل القذافي لوكيله، أن الرجال والنساء الذين سيقاتل بهم إلى آخرهم، ليسوا من عائلته. إنهم الشعب الليبي كله.

لم يظهر في بريطانيا، منذ 110 عاماً رئيس وزراء يعاني من اضطراب أخلاقي، مثل توني بلير. وهذه المدة هي الفاصلة بينه وبين آرثر بلفور، صاحب أحط قرار في التاريخ البشري، وهو إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وحتى أنتوني إيدن الذي نظم وشن العدوان الثلاثي على مصر في خمسينات القرن الماضي، لم يكن أكثر اضطراباً أخلاقياً من بلير. فقد أظهرت الوثائق أن إيدن، ونتيجة فشل مفزع لعملية عادية أُجريت له لاستئصال المرارة، كان يتناول حبوباً وعقاقير أشبه ما تكون الآن إلى حبوب الهلوسة (ليست كتلك التي يتناولها الليبيون بالطبع كما يدعي القذافي!)، وقد أثرت في قراراته التي كان يتخذها، إلى جانب "السرطان" السياسي والعدواني الإسرائيلي، ومعه "الطاعون" السياسي الفرنسي.

أتى توني بلير إلى الحكم في العام 1997 نظيفاً، وخرج منها ملوثاً عصياً على التنظيف. علقت به كل الأدران، بما في ذلك إعادة سفاح ليبيا إلى المجتمع الدولي، رغم معرفته، بأن القذافي، بطل من أبطال إزدراء الإنسانية، لا يختلف عن الثائر "المخملي" روبرت موغابي في زيمبابوي، أو الراحل "الامبراطور" بوكاسا في أفريقيا الوسطى، ولا عن الراحل الآخر أنستازيو سوموزا في نيكاراجوا. وبدلاً من أن يفخر، بأنه تم القبض على طاغية تشيلي السابق أوغاستو بينوشيه، في لندن في عهد حكومته لمحاكمته على الفظاعات التي قام بها ضد شعبه، عمل بلير على توفير أفضل الوسائل والآليات، لدمج الطغاة في مجتمع عالمي يكرههم، بل ويسعى إلى الاقتصاص منهم. استغل حب جورج بوش الابن (غير العذري) له، ليساهم هذا الأخير في تلميع صورة القذافي، في الوقت الذي تناسى فيه، أن الصورة عفنة لا تُلمَع، وأنها مهشمة لا تُرمم، وأنها قبيحة لا تُجمل.

تناسى بلير، على أنغام موسيقى الانتفاع المالي له شخصياً، وللشركات التي يعمل بها مستشاراً، أو تلك التي تنفحه بهداياها الثمينة جداً جداً، دم الشرطية البريطانية البريئة إيفون فليتشر، التي قُتلت برصاص "دبلوماسيي" القذافي في لندن وهي تحميهم، وتناسى دماء ضحايا طائرة الركاب الأميركية التي انفجرت فوق لوكربي، وتناسى أسلحة القذافي المُصدرة إلى الإيرلنديين وقتلت بريطانيين، وتناسى عمليات قتل المعارضين الليبيين فوق الأراضي البريطانية، وتناسى التهديدات الرسمية، من ليبيا "العظمى" لبريطانيا العظمى، من مغبة مواصلة استضافتها لمعارضيين ليبيين، وتناسى المخالفات التي تفوق الجنح لأولاد القذافي في المملكة المتحدة. تناسى كل القضايا المشينة التي لا تنتهي بالتقادم. لماذا؟ لأن توني بلير، لم يكن سوى شخصية بطولية في معارك المصالح الشخصية، التي استهجنت الأخلاق، واعتبرتها صرعة، من تلك التي تظهر مرة واحدة خاطفة، وتختفي إلى الأبد.

ترك بلير زعمامة حزبه ورئاسة الوزراء قسراً، على أمل أن يصبح أول رئيس للاتحاد الأوروبي، لكنه خرج من السباق لهذا المنصب قبل أن يدخل. فقد عرف الأوروبيون أنه لا مكان للملوثين هنا. وفشل أيضاً في أن يكون مبعوثاً للشرق الأوسط، له وزن وقيمة واحترام. لكنه نجح إلى آخر مدى، في أن يكون مستشاراً شخصياً لسفاح ليبيا، ولماذا أيضاً؟ لهيئة الاستثمار الليبية، المملوكة في الواقع لأسرة القذافي، وتبلغ أصولها ما يزيد عن 94 مليار دولار أميركي. هو يقول: لا.. لا أعمل مستشاراً له، ويقول سيف الإسلام القذافي علانية: إن بلير هو بالتأكيد مستشار لوالدي. البعض يقول: إنها مفارقة أن يعمل بلير مستشاراً للقذافي، بينما هذا الأخير يقف ضد الحرب على العراق التي قادها بلير نفسه مع "مُحبه" بوش الابن، وهو أيضاً منحاز إلى الجانب الإسرائيلي كمبعوث للشرق الأوسط. والحقيقة، أن القذافي لم يكن ضد الحرب على العراق، بقدر خوفه على نفسه من مصير صدام حسين، كما أنه من أكثر الزعماء العرب أذى للقضية الفلسطينية برمتها. قد يكون من المفيد الإشارة إلى ما قاله مندوب ليبيا الدائم في الأمم المتحدة عبد الرحمن شلقم، بأن سفاح ليبيا يستعين بخبراء إسرائيليين لقتل ما أمكن من الشعب الليبي.

لم ينتظر توني بلير الخروج من السلطة، ليشتغل مندوب تسويق لشركات بريطانية، بل وغير بريطانية أيضاً. فقد دخل التاريخ كأول رئيس وزراء بريطاني (وهو في منصبه)، يبعث برسائل رسمية، للتوسط لشركات نفطية وغير نفطية، للفوز بعقود هائلة الحجم. وبعد معانقته الحميمية للقذافي في إحدى خيمه في العام 2004، لم يتوقف هذا النوع من الرسائل (بلير هو أول رئيس وزراء بريطاني يزور ليبيا منذ استقلالها عام 1951). وقتها انطلقت صفقة بين الجانبين المشينين سميت بـ "صفقة في الصحراء"، والأفضل أن تسمى "صفقة الغاب"، لأنها تضمنت كل شيء ضد الشعب الليبي. تصدير أسلحة بريطانية مخصصة لضرب المدنيين العزل في مقدمتها، بما في ذلك الرصاص الحي الذي ينفجر في الجسم. صفقة كُللت بقُبل وابتسامات، وسط "مهرجان" من حرمان يعيشه الليبيون. وكأن توني بلير أراد أن يطبق بالحرف ما قاله الأديب الإيرلندي الشهير أوسكار وايلد. ماذا قال؟ "يمكن للإنسان أن يعطي رأياً غير متحيز على الإطلاق، حول أشياء لا مصلحة لأحد فيها". وهذا "الأحد" لم يكن سوى الشعب الليبي.

في السنوات التي بدأ فيها بلير يعمل مسوقاً للنظام الليبي (والأصح أن نقول لـ لا النظام)، وتحديداً لعائلة القذافي، امتزج اسمه بهذا الأخير بصورة مريعة، قبل طرد بلير من السلطة، وتوحد الإسمان بعد أن أصبح طليقاً وحراً من القيود (التي تجاوز جلها) وهو في السلطة. كان مستشاراً للسفاح، وبعدها أصبح مندوبه المتجول الدائم. كان بائعاً لمُنتَج انتهت صلاحيته، حتى قبل أن يُصنع. لمُنتَج انتهت إنسانيته قبل أن يُولد. لا أعرف إن كان توني بلير، يشعر بمدى الأضرار التي ألحقها بالشعب الليبي وبالإنسانية، من جراء دوره المشين، ولهفه للأموال المغمسة بالدماء، وأغلب الظن أنه لا يشعر بذلك على الإطلاق. لكن الذي أعرفه، أنه سيدخل التاريخ من الباب المجاور لذاك الذي سيدخله سفاح ليبيا.