الثلاثاء، 21 سبتمبر 2010

إنها قضية أخلاق لا مسألة قضاء!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")










" الغد هو متعة اللصوص"
ريكس هاريسون ممثل بريطاني





محمد كركوتـي

يبدو أن القطاع المالي السويسري، لم يعد يستطيع الصمود أمام الضغوط الدولية، الهادفة إلى جعله أكثر وضوحاً شفافية ونزاهة.. بل وواقعية، فيما يرتبط بالحسابات السرية ( الملوثة والمشبوهة) التي تعم المصارف السويسرية منذ عشرات السنين. فضغوط الأزمة الاقتصادية العالمية، رفعت من زخم ضغوط الحكومات – لاسيما في الدول الكبرى- على هذه المصارف، بحثاً عن ضرائب مستحقة على مليونيرات ومليارديرات من كل الجنسيات، إلى جانب البحث عن أموال سرقها حكام سابقون (وآخرون لا يزالون في السلطة) في البلدان الفقيرة، علها تخفف من حدة الضغط على الموازنات التي تخصصها الدول المانحة للدول الفقيرة الممنوحة، علماً بأن هذه الموازنات تعرضت إلى تقليص خطير، في العامين الماضيين، بحجة أن الأزمة قضمت مداخيل المانحين، الذين وجهوا ما تبقى من أموال لديهم، لإنقاذ المؤسسات والمصارف التي غرقت في بركان الأزمة.
.
لقد حارب النظام المالي السويسري، في فترة "الهياج" الحكومي العالمي ضده، كل المحاولات للكشف عن الأرصدة المشبوهة، بما في ذلك تلك التي تعاظمت وأضحت كالجبال ( إلى درجة أنها لم تعد سرية)، من جراء عمليات غسيل الأموال، والتهرب من الضرائب، والصفقات التجارية المشينة، وعقود الأسلحة المريبة، والاتجار بالبشر، وسرقة الأموال العامة. ومن فرط ضخامة حجم هذه الأموال، صارت جزءاً لا يتجزأ من النظام المالي العالمي، بحيث دفعت العديد من المصرفيين "التائبين" إلى الإقرار، بأن أموال المخدرات، سندت مؤسسات ومصارف عالمية، في أعقاب اندلاع الأزمة العالمية!. وهذا يعني أن نظام الظل المالي أو Global shadow financial system تداخل في فترة من الفترات (وربما لا يزال يتداخل) مع النظام المالي الشرعي العالمي أوGlobal legitimate financial system . ولأن الحكومة السويسرية وقفت مع القائمين على القطاع المصرفي في البلاد، في وجه الضغوط الدولية عليهم، كان المسؤولون فيها من الوقاحة، بحيث هددوا قبل عام تقريباً، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المعروفة اختصاراً بـ OECD ، بالامتناع عن دفع الصحة السويسرية في ميزانية المنظمة، لماذا؟ لأن هذه الأخيرة، أعلنت في أحد تقاريرها بأن سويسرا لم تلتزم بالشفافية المصرفية، التي يسعى العالم إلى وضعها، تمهيداً لتكريسها. فقد أثبت المسؤولون السويسريون – دون أن يقصدوا – أن بلادهم النظيفة، تعيش على حصة من الأموال القذرة!. ولا أزال أتذكر، قرار محكمة الجنايات الفيدرالية السويسرية برفض تسليم 6 ملايين دولار أميركي من ودائع رئيس زائير (الكونغو الديمقراطية حاليا) الراحل موبوتو سيسي سيكو، لدى بنوك سويسرا إلى حكومة بلاده. فقد وجدت هذه المحكمة، أن شعب الكونغو، لا يستحق استعادة أمواله المسروقة!.
لكن الأوقات تتغير، وتفرض معاييرها ومعطياتها، بصرف النظر إذا ما كانت مُرْضية أو مبغضة. حلوة أو قبيحة. مقبولة أو مرفوضة. ومع "تدافع" دول العالم للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، تزداد الضغوط للكشف عن الأرصدة المشينة أو المشبوهة، بل وتشع ذاكرة حكومات هذه الدول، لتتذكر ما كان نسياً منسياً!. أمام هذا الواقع، أقدمت سويسرا على خطوة هامة وجيدة.. لكنها متواضعة. فقد صدَق نواب البرلمان فيها، على قانون يجعل من السهل على السلطات الفيدرالية، مصادرة الأموال التي سرقها وخبأها حكام دكتاتوريون في حسابات لهم ولأسرهم ولأعوانهم في مصارف سويسرية. وحسب القانون، رُفعت المدة التي يمكن خلالها تجميد الأرصدة المشبوهة من 5 إلى 10 سنوات. ولعل الفقرة الأهم من هذا القانون الذي صدر بعض مخاض عسير، هي تلك التي تشترط استخدام الأموال المُستعادة، لتحسين ظروف معيشة الشعوب التي سُرقت منها، ولتعزيز سلطة القانون ومكافحة عمليات ومخططات الإفلات من العقاب والمحاسبة.
مرة أخرى، إنها خطوة جيدة لكنها لا تزال دون المستوى المطلوب. وتبدو في الواقع أنها جاءت، لتخفيف " الهياج" العالمي على سويسرا، أكثر من كونها وجدت من أجل تصحيح ما كان يجب أن يُصحح منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما انتشرت في هذا العالم، حكومات فاسدة ومارقة، هي أقرب إلى العصابات منها إلى نظم حكم، في دول حديثة الاستقلال، تحولت في الواقع من دول حرة من الاستعمار الأجنبي، إلى دول أسيرة استعمار محلي!. ومن قصور القانون السويسري الجديد، أنه وضع حداً زمنياً لتجميد الأرصدة المشبوهة. فإذا كان المشرعون يريدون حقاً تحقيق أهداف إنسانية وسامية من جراء قانونهم هذا، ويسعون إلى إعادة الأموال إلى أصحابها الحقيقيين، عليهم أن يفتحوا هذه المدة، أو ربطها بزوال الاشتباه في هذه الأرصدة. ومع ذلك، فإن الخطوة، يمكن التأسيس عليها، خصوصاً في أعقاب اعتزام دولة كبريطانيا، وقف مساعداتها لدول تحكمها أنظمة فاسدة، وفي ظل تعالي الأصوات المنادية بضرورة ربط المساعدات للدول الفقيرة بالتنمية فيها، واستثمار أفضل لثرواتها الطبيعية. فما كان مباح قبل الأزمة العالمية، لم يعد كذلك بعدها، و"شرفاء" الأنظمة الفاسدة قبلها، أصبحوا بمعايير الدول المناحة مجرد لصوص بعدها!.
سيحصل شعب هاييتي بعد القانون السويسري (على سبيل المثال)، على 7 ملايين دولار أميركي فقط، من أموال سرقها الحاكم السابق للبلاد جان كلود دوفالييه المعروف بـ"بيبي دوك". ولكن هل هذا حقاً ما سرقه هذا الديكتاتور الرهيب؟. وماذا عن ما سرقه روبرت موغابي رئيس زيمبابوي الحالي، وما نهبه تشارلز تيلور رئيس ليبيريا السابق، وغيرهما من الطغاة في الدول الفقيرة؟!. هل يتمتع هؤلاء بأرصدة غير مشبوهة؟. وهل يحتاج الكشف عنها، إلى قدرات خارقة من البحث والتقصي؟. أسئلة كثيرة، تحتاج لإجابات واضحة عليها، هذه المرة ليس من قبل المسؤولين السويسريين، بل من جانب القائمين على القطاع المالي في البلاد، ومن مسؤولي خزائن المصارف المليئة بالأموال المشينة.
إن الطريقة المثلى لإعادة ما نهب من الشعوب الفقيرة، ليس اللجوء إلى المحاكم، بل إلى التحقيقات النزيهة، وهذا أمر في غالية السهولة. فعلى مدى أربعة عقود من الزمن، قضت المحاكم السويسرية بإعادة ما يقرب من ملياري دولار أميركي إلى حكومات أفريقية وآسيوية وأميركية لاتينية، ولكن بعد صراع طويل مع القضاء، لإثبات أن هذه الأموال من مصادر غير مشروعة. وفي المقابل، وفي الفترة نفسها، خرج من القارة الأفريقية لوحدها أكثر من 1,8 تريليون دولار بصورة غير مشروعة، صبت أغلبية هذه الأموال في المصارف السويسرية، أو تلك التي ترتبط بها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا يعني أن المحاكم، لم تحقق الحد الأدنى من العدالة، فيما يرتبط بالأموال المسروقة من الشعوب الفقيرة!. وعلى هذا الأساس، لا ينفع القضاء في مثل هذه الحالات. الذي ينفع حقاً، قرارات سياسية واضحة وحاسمة، وهذه لا تعيد فقط الحق المسلوب إلى أصحابه، بل تُسرع عملية إعادة الأموال، في الوقت الذي تحتاج فيه الدول الفقيرة، كل دولار "ممكن"، قبل الأزمة العالمية وبعدها، وقبل الخطوة السويسرية المتواضعة وبعدها. فالطغاة اللصوص لم يسرقوا أفراداً، بل نهبوا أمماً. والقضاء الذي ينفع في قضايا فردية، ليس سوى مضيعة للوقت في الحالات العامة.
إنها قضية أخلاق، لا مسألة قضاء. وهي مسؤولية أكبر بكثير من أن تُترك لحكومة سويسرية، لا تفرق بين لص سرق من متجر، وآخر سرقة أُمة بأكملها!.

الاثنين، 13 سبتمبر 2010

غذاء عالمي شحيح كماً ودسماً!

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



" الأوقات الصحيحة لتناول الطعام: للأغنياء عندما يجوعون، وللفقراء عندما يجدون شيئاً يُؤكل"
من الأمثال المكسيكية




محمد كركوتــي

تدور في أرجاء هذا العالم، رحى مصيبة غذائية عالمية جديدة، بعد أقل من ثلاثة أعوام فقط من أزمة الغذاء، التي صاحبت مقدمات وانفجار الأزمة الاقتصادية العالمية. والمصيبة الجديدة، هي في الواقع ليست جديدة، إنها من تلك المصائب الموجودة بصورة مستمرة على الساحة العالمية، تبرز في أوقات الازدهار (والفقاعات الاقتصادية)، وأزمنة المحن والانكماش أيضاً. فالقضية ليست مرتبطة بمصرف مُنهار أو قيد الانهيار، بل بأفواه من حقها على العالم، أن تجد ما تُملئ به لتعيش، لا لتخزن الدهون. وإذا كانت قضايا المصارف المؤسسات المتعثرة والمنهارة، تخص العالم المتقدم ( وخصت غصباً العالم غير المتقدم)، فإن مصيبة الغذاء لا تخص عملياً، إلا الدول الفقيرة، التي تعيش في عالم مجهول المستقبل، ومتلاطم المصير.

لنكن صرحاء لبعض الوقت. لم تنفع قمم الغذاء والمؤتمرات المنبثقة عنها واللجان المُشَكلة منها، طوال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، في الوصول إلى صيغة مُرضية، لعلاج أزمة الغذاء العالمي، مع التقدير – بالطبع – لحسن النوايا في هذا المجال ( وهي موجودة، بصرف النظر عن زخمها). وأقصى ما وفرته هذه المحافل الموسمية وأدواتها، أرضية هشة، لا تصمد أمام " أرق" الأزمات!. أرضية تتلاشى مع أول مشكلة، سواء أكانت بيئية أو بشرية أو اقتصادية أو سياسية. أرضية يغرق فيها المنقذون، فما بالنا بالمُنقَذين!. وسواء عُقدت هذه المؤتمرات أو لم تُعقد، فالأمر سيان. ففي الحالتين، الغذاء لن يتوفر، وإن توفر فإن لا يبلغ المستوى الآمن. وعندما انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية، لم يُصب الغذاء بمقتل فحسب، بل أصيبت كل المخططات الهادفة إلى إيجاد احتياطي غذائي معقول، وضربت احتياطياً غذائياً متواضعاً جداً كان موجوداً على الساحة. ولو أضفنا، الآثار الخطيرة للتغير المناخي، والكوارث الطبيعية التي تضرب مواقع الإنتاج الغذائي في العالم، فإننا أمام كارثة، ناتجة عن مسببات بشرية وبيئية واقتصادية.. بل وحتى سياسية. إنها كارثة كاملة، مثل الجريمة الكاملة. وعلى الرغم من التراجع المواضع لبعض أسعار المواد الغذائية – على المستوى العالمي – في العامين الماضيين، إلا أن هذا لم ينفع الفقراء، لأن الأزمة الاقتصادية العالمية قضمت مداخيلهم. فالذي كان يعيش على دولارين أميركيين في اليوم الواحد، أصبح يحيا على دولار واحد فقط!. أي أن الأسعار مهما تراجعت، لا تمثل فرصة مواتية وجيدة لهذا الفقير، لسد رمقه.

الذي يحدث بعد عامين تقريباً من اندلاع الأزمة الاقتصادية، أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بصورة كبيرة، دون ارتفاع دخل الفرد معها، وخصوصاً في البلدان الفقيرة. والحقيقة أن أحداً لا يستطيع أن يتنبأ بارتفاع المداخيل، في الوقت الذي لا يزال فيه العالم، يلمم جراح الأزمة، ولا يزال يسعى إلى وضع تصور معقول وواقعي للنظام الاقتصادي العالمي، تجنباً لأزمة جديدة ربما تكون أكثر "فجوراً" من تلك التي نحياها. وعلى هذا الأساس أطلقت الأمم المتحدة تحذيراً خطيراً، عن طريق مقررها أوليفييه دو شوتر المعني بقضايا الغذاء، الذي قال : "إن غالبية الدول الفقيرة معرضة لخطر أزمات غذاء بسبب أسعار المواد الغذائية الأساسية في السوق العالمية، حيث سجلت ارتفاعات كبيرة في سعر القمح، على أثر الجفاف الذي أدى إلى الحرائق في روسيا". وحسب شوتر، فإن ارتفاع الأسعار أدى – على سبيل المثال – إلى زيادة أسعار الخبر في بلد معدم كموزمبيق بنسبة 33 في المائة!.

لن أتحدث هنا عن تبعات ارتفاع الأسعار على الاستقرار الأمني والسياسي في أكثر من خمسين بلداً. فهذه لوحدها كارثة، تُراكم طاقتها للانفجار في أي لحظة، مع العلم بأنها انفجرت بالفعل في بعض الدول الفقيرة. وربما كانت الحكومة الموزمبيقية تحلت ببعض الحكمة، عندما تراجعت عن زيادة أسعار الخبز، ولكن بعد ماذا؟ بعد اندلاع احتجاجات أدت إلى مقتل 13 شخصاً و400 جريح و300 معقل!. وفي العالم العربي، حدث الأمر نفسه – ولو بصورة أقل عنفاً – في مصر. فيكفي مقتل شخص واحد فقط بسبب رغيف خبز، لتقترب الكارثة من الأبواب. وبالفعل أشارت تقارير صدرت في أعقاب قمة الأمن الغذائي العالمي، التي عقدت في روما قبل عامين تقريباً، برعاية منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو).. أشارت إلى أن ارتفاع أسعار الطعام بات يهدد بسقوط نظم الحكم في 50 دولة، وتوقع روبرت زوليك رئيس مجموعة الغذاء في البنك الدولي، "حدوث مزيد من أعمال الشغب المرتبطة بالطعام، وتفاقم الاضطرابات والمظاهرات، خاصة في النظم التي غابت فيها العدالة الاجتماعية، واتسعت فيها الفوارق الطبقية". ففي أعقاب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، سقطت حكومتا هاييتي ومدغشقر، وبالتأكيد فإن تداعي الحكومات لن يتوقف عند هاتين الحكومتين.
نحن نعلم أنه في غضون عام واحد فقط من اندلاع الأزمة، ارتفع عدد الجياع في هذا العالم من 800 مليون نسمة إلى مليار و200 مليون . فهؤلاء لا يعانون من الفقر بل من الجوع، أي أنهم دون الفقراء!. وهناك 25 ألف شخص و10 آلاف طفل يموتون يومياً – وليس كل قرن من الزمن – من الجوع. والمصيبة أن ظاهرة الموت جوعاً – لا حباً – وصلت إلى دول لم تكن تعرفها من قبل. وتكفي الإشارة إلى أن الأسعار المرتفعة للمواد الغذائية التي تُرهق الأميركيين الأكثر غنى نسبياً مقارنة بغالبية دول العالم، هي مدمرة بالنسبة للبلدان الفقيرة، حيث تنفق العائلات أكثر من نصف دخلها على الغذاء.

تقول الأديبة الأميركية بيرل باكس : "إن الجوع يحول أي رجل إلى لص". ولكي يُبقي العالم على "الرجال" شرفاء، عليه الوصول بأسرع وقت ممكن، إلى حلول ناجعة لهذه الكارثة. وإحدى المشاكل التي تعمق هذه الكارثة، أن الدول المانحة تركز على العون الغذائي ( رغم قلته)، أكثر من اهتمامها في توفير المساعدات الخاصة بالتنمية. فالولايات المتحدة الأميركية أنفقت لوحدها – حسب الإحصائيات الرسمية - أكثر من 20 ضعفاً على العون الغذائي لإفريقيا، بدلاً من مساعدات التنمية!. وإذا كان العون الغذائي يؤدي إلى تهدئة الأوضاع السياسية ( ولا أقول الاقتصادية والمعيشية)، فإن التنمية تؤدي حتماً إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي والمعيشي أيضاً. ومن المصائب أيضاً، أن الأزمة الاقتصادية العالمية، ضغطت بصورة تاريخية على الموازنات المخصصة للعون الغذائي نفسه. وهذا يكرس القضية كـ " كارثة كاملة"!. فالرغيف الكامل، "كش" حجمه إلى النصف، وفي كثير من الأحيان إلى الثلث. وليس مستبعداً في هذه العالم، وفي ظل الفشل في تأمين الغذاء، أن تُوزع الحبوب عداً .. لا كميةً!.

الأزمة العالمية، كانت بلاشك سبباً مباشراً لاستفحال أزمة الغذاء، ولكن السبب الرئيسي الأول، يعود إلى السياسات التي أبطأت النمو الزراعي في الدول الفقيرة، في العقدين الماضيين، وإلى تراجع الاستثمارات الأجنبية في الزراعة.

يقول مايكل بولان مؤلف كتاب "دفاعا عن الغذاء": " لقد خلقنا حالة سباق بين السيارات الأميركية السريعة، وهياكل الأطفال العظمية في إفريقيا.. ويمكننا أن نرى من الفائز". والحقيقة أنه لا فائز هنا. فـ " قنبلة الفقر والجوع"، لن تُحدث أضراراً في محيطها، بل ستنشر حممها وبراكينها في كل الأرجاء.

الثلاثاء، 7 سبتمبر 2010

"المستثمر الذكي" في عالم فقد الذكاء

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")








" نحن نعيش قلق ماذا سيكون طفلنا في المستقبل، لكننا ننسى وجوده الآن "
ستيسيا تاوشر كاتبة ومربية أميركية

 
 
 
محمد كركوتــي
 
في زحمة التعاطي مع القضايا العالمية الصعبة، ومراقبة ومتابعة تفاصيلها وشجونها. وفي خضم الاهتمام بأحداث اقتصادية وسياسية عالمية، تركت (وتترك الكثير) من التبعات ورائها، ما لا يطيق العالم تحمله، بل وما لا يقدر عليه. لم أستطع تجاهل الخطوة التي أقدمت عليها هيئة السوق المالية السعودية، بإصدارها مجلة " المستثمر الذكي"، الموجهة إلى الأطفال، لا الكبار. ولو استرجعنا الأحداث التي سبقت الأزمة الاقتصادية العالمية، لوجدنا أن غالبية المستثمرين الكبار، لم يكونوا أذكياء بما يكفي، لكي يحصنوا أنفسهم وأموالهم، بل وحتى أسرهم، من فوضى الاقتصاد العالمي، ومن وهم الأرباح، ومن هشاشة الفقاعة الاستثمارية. كان الجشع سيد الحراك الاقتصادي، وكان التسيب جزءاً أصيلاً من هذا الحراك. ولا أزال أتذكر رسماً كاريكاتيرياً (نشرته في كتابي الأخير عن الأزمة الاقتصادية، الذي صدر هذا العام بعنوان " زوبعة خارج الفنجان") للفنان اللبناني – السويسري باتريك تشاباتي، صَور فيه مسؤول في جائزة نوبل، يعلن عن فوز امرأة بالجائزة في مجال الاقتصاد، لأنها احتفظت بأموالها في منزلها!. فقد أراد أن يؤكد (في أعقاب الأزمة) بسخرية، على أن "الاقتصادي الذكي" هو ذاك الذي لم يتورط في اقتصاد عالمي ورقي ووهمي، بل ومريب.

وعلى الرغم من أن الحراك الاقتصادي العالمي، لم يكن بمعزل عن الانتقادات الحكيمة، والتنبيهات الواقعية، بل والتحذيرات الصادقة، إلا أن الغالبية العظمى من الذين استثمروا أموالهم وأموال غيرهم، وأولئك الذين استثمروا ما لا يملكون، لم يسمعوا تلك الانتقادات والتنبيهات والتحذيرات، بل كان بعضهم يسخر منها من مُطلقيها، ويصفهم بأنهم ليسوا سوى مجموعة من الهدامين المتشائمين، الذين لا يريدون للحراك الاستمرار والازدهار والنمو!. وهذا يعني، أنه لو صدرت مئات المطبوعات للتوعية الاستثمارية، بُغية تكوين "مستثمر ذكي كبير"، لما انتفع بها الذين وقعوا في براثن الأزمة. فالجهل (مع الجشع والوهم)، لم ينتج إلا مستثمرين غافلين، غارقين، إلى درجة أن أقر 22 في المائة من الأهالي البريطانيين، أواخر العام الماضي في استطلاع أجرته شركة التأمين "إنغيج مويتشوال"، وشمل ثلاثة آلاف والد ووالدة، أنهم اقترضوا من مَن؟ من حصالات أبنائهم، لدفع فواتير أو تسديد نفقات غير متوقعة، أو دفع مصاريف رحلة عائلية. وأقر هؤلاء أيضاً، بأنهم أحسوا بالذنب من جراء لجوئهم إلى الأموال التي وفرها الأبناء.

الأوقات تتغير.. وما كان لا ينفع قبل دخول الدول العربية ( وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية)، عصر الأسواق والتحرر الاقتصادي، وارتباط الاقتصادات ( لاسيما الكبيرة منها) بالحراك الاقتصادي العالمي.. ينفع الآن. وحصالات الأطفال التي كانت تُفتح في أي لحظة، يمكن أن تخضع لمعايير "الاستثمار الذكي". لا أحد يطالب الأهالي، بعدم اللجوء إلى حصالات أبنائهم في أوقات المحن، ولكن استخدام موارد هذه الحصالات، ينبغي أن يخضع لآليات الاستثمار البسيطة، ليس من أجل ضمان إعادة هذه الأموال، بل من أجل تثقيف الأطفال أصحاب الحصالات، في مجال الاستثمار والإنفاق والتدبر المالي. وهذا من أهم المعايير التي تسعى مجلة " المستثمر الذكي" إلى تكريسها، إلى جانب العديد من القضايا الأخرى، التي تضع غير البالغين، في دائرة التدبير المعيشي – الاستثماري. وعندما تقف هيئة الأوراق المالية وراء هذه المطبوعة التعليمية – الإرشادية- التثقيفية، تكتسب مادتها، كثيراً من المصداقية والعمق والفائدة. فهذه الهيئة ليست داراً للنشر، بل مؤسسة تسعى لتوعية الأجيال التي ستتسيد الساحة الاقتصادية – الاستثمارية في المستقبل، من خلال التجارب الذاتية – المحلية الجيدة وغير الجيدة، ومن خلال التجارب الخارجية التي فُرضت عليها، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية العالمية، التي تسود معاييرها العالم على نطاق واسع، لم يسبق له مثيل.

إن الطفل يستطيع توجيه أسئلة، يصعب على الرجل الحكيم الإجابة عليها. ويقول الكاتب الأميركي نيل بوستمان : " إن الأطفال هم رسائل حية نرسلها إلى زمن، لن نكون موجودين فيه". وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون رسائل ذات معنى وأهمية، وقدرة على التعاطي مع أزمنة المحن وأوقات الازدهار، بصورة مستدامة لا فقاعية، وبشكل مرتب لا فوضوي، وبهيئة مُدركة لا جاهلة. والطفل الذي يفهم الاستثمار تدريجياً، بإمكانه تفادي الثغرات المتوقعة دائماً في الحراك الاقتصادي المحلي والعالمي، عندما يصبح القرار في يده، وبإمكانه أيضاً، أن يَصيغ "حياته الاستثمارية"، وفق ما هو موجود لا ما هو وهمي. ومجلة " المستثمر الذكي"، توفر له آلية فريدة من نوعها، ليس فقط في المملكة بل في العالم العربي ككل. وخلال عملي الصحافي الطويل في لندن، وبحثي عن مطبوعات أجنبية مخصصة للمستثمر الصغير، لم أعثر إلا على مجموعة من الكتب الموجهة إلى "المستثمر المراهق" أو Teenage Investor ، ومجموعة من المدونات الجديدة في هذا المجال، وبعض الموضوعات الموسمية في عدد من الصحف والمجلات. أي لم تقع في يدي أو عبر الإنترنت، دوريات متخصصة تتوجه إلى الأطفال أو المراهقين في مجال الاستثمار. وهذا يعطي "المستثمر الذكي" مزيداً من التميز، خصوصاً عندما تكون الجودة عنصراً أساسياً في هذه المطبوعة. وإذا كانت عجائب الدنيا سبع عندما نحن الكبار، فهي سبع ملايين في عيون الصغار!. وعلى هذا الأساس، فإن مهمة أي مطبوعة أو وسيلة إعلامية (موجهة لـ "المستثمر الصغير الذكي")، لا تنحصر فقط التوجيه والتوعية والتثقيف، بل في تقليل هذه العجائب عنده، ووضعه ضمن نطاق الواقع المجرد.

ولا شك في أن مجلة " المستثمر الذكي" تعي هذه الحقيقة، وقد بدا هذا واضحاً، من أعدادها الأولى التي صدرت. فقد قدمت نموذجاً في الوصول إلى الأطفال، يكفل لها مواصلة مهمتها، بل لنقل رسالتها، في عالم لم يفهم فيه الكبار، الرسائل الحكيمة التي وُجهت إليهم على مدى سنوات سبقت أزمة اقتصادية، بدت أمامها الأزمات السابقة، كرحلات استجمام.

إن بناء ذهنية بشرية بعيدة عن الأوبئة الاقتصادية التي أصابت العالم، لا يوفر تحصيناً مطلوباً لدى الصغار فقط، بل يمنح المستقبل الاقتصادي حكمة مكتسبة، خصوصاً عندما ينضم هؤلاء الصغار إلى الكبار، وينخرطوا حراك اقتصادي، لم يعد محصوراً في نطاقهم المحلي، بل هو حراك عالمي مفتوح على بعضه البعض.