الاثنين، 26 سبتمبر 2011

الأسد بائع القمع والنفط

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"الطغاة يصنعون الحرية لأنفسهم، باستعبادهم للناس"
تشارلي تشابلن ممثل كوميدي بريطاني

 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
لم تمض أيام على التصريحات "العنترية" لأعوان سفاح سورية بشار الأسد، وتحديهم للعقوبات الغربية (لاسيما الأوروبية)، واستعراض "عضلاتهم" اللغوية البائسة، و"تشبيحهم" اللفظي، حتى بدأت آثار العقوبات بمجملها تظهر على الساحة، وتحديداً على سلطة الأسد نفسها. فالأكاذيب التي يطلقونها، تجعلهم في مقدمة مُطلِقي الأكاذيب ذات الحبال القصيرة جداً.. جداً، وهم الوحيدون الذين تنكشف أكاذيبهم، حتى قبل أن ينتهوا من إطلاقها. وللإنصاف لم ينجحوا في مد حبل طويل، إلا لكذبة واحدة في تاريخ الأسد الأب والابن، هي تلك التي أوهموا فيها من يحبون وهْمَ النفس، بأن السُلطة التي حكمت البلاد لأكثر من أربعة عقود، هي سُلطة ممانعة، ولا بأس من سُلطة مقاومة، أو صمود، أو تصدي، أو كلها مع بعضها البعض على شكل "سَلَطة". الذي حدث في الحقيقة، أن إسرائيل أدمنت هذه الممانعة، لدرجة اعتبرها المسؤولون في تل أبيب، خياراً استراتيجياً إسرائيلياً، ينبغي الحفاظ عليه إلى آخر مدى!

قبل أسبوعين تقريباً، أطلق وزير المالية محمد الجليلاتي تصريحاً مجلجلاً متحدياً، بأن "العقوبات لن تضر سورية. ستظل سورية واقفة على قدميها. لا مشكلة ما دامت احتياجاتنا المحلية مكفولة". وقال أيضًا "إننا نبحث عن مشترين للنفط المخصص للبيع". لكن أين هم المشترون الآن؟ كان الأسد يسعى إلى الالتفاف على العقوبات النفطية المفروضة عليه، ليبيع النفط المنهوب من مقدرات الشعب السوري، إلى روسيا أو الصين أو الهند. وهذه الدول لا تزال تعتقد بأن هناك فرصة لبقاء الأسد في السلطة، ليس من جهة استقراء عميق للأحداث، بل من ناحية مصالحها المعروفة. الذي حدث أن أياً من هذه البلدان، لم ترد على عروض البائع الأسد، وأخذت تتهرب من ذاك البائع. والحقيقة أنه لا توجد جدوى اقتصادية من شراء هذا النفط، لأن الكميات صغيرة، ولا تبرر المخاطر التي ستنجم عنها. ولأن الدول (ومعها الشركات) تتحرك بالمصالح، فإن قلة المعروض، لا يستقطب في العادة المشترين، حتى لو كان هؤلاء يسعون إلى بقاء الأسد في سلطة لا يستحقها، يضاف إلى ذلك أن هناك فائضاً نفطياً عالمياً، لا يشكل فيه النفط السوري سوى 0.5 في المائة.

والذي يقلق بشار الأسد وأعوانه، حالة غريبة أزعم أن أحداً منهم يمكنه تناولها، وهي أن الصادرات النفطية السورية توقفت نهائياً، على الرغم من أن العقوبات الأوروبية باستيراد هذا النفط لا تبدأ قبل منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بموجب العقود الموقعة قبل الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري. فقد توقفت المصارف عن تمويل عمليات التصدير، في حين عبرت شركات روسية عن عدم رغبتها في المجازفة. لو أضفنا إلى توقف الصادرات، العقوبات الأوروبية الجديدة القاضية بحظر الاستثمارات في قطاع النفط السوري، يعني ذلك أن المال آخذ في الشح بأيدي السلطة، الذي تستخدمه عملياً في تمويل حملة الإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري. فالنفط السوري لم يكن على مدى أكثر من أربعين عاماً للسوريين. كان سلعة خاصة بالسلطة فقط.

وعلى الرغم من التأثيرات المباشرة للعقوبات الأوروبية والأميركية على سلطة الأسد، إلا أنها لا تضمن انهياره على المدى القصير، بل وحتى المتوسط. فلا تزال السلطة تمتلك قوة عسكرية رهيبة تستخدمها ضد المدنيين العزل، كما أنها لا تزال تتمتع بإمدادات اقتصادية وعسكرية و"إجرامية" من إيران، تستدعي بالفعل تحركاً تركياً عن طريق فرض عقوبات واضحة على الأسد، ومنع الإمدادات الإيرانية له من خلال المراقبة البحرية. لكن يبقى في النهاية العزل السياسي الكامل، وقرار واضح من مجلس الأمن الدولي، هما الخياران الأكثر نجاعة في تقصير عمر الأسد وإنهاء سلطته غير الشرعية. فلم يحدث في السابق أن انهار نظام مباشرة من جراء العقوبات الاقتصادية التي تفرض عليه. الذي يحدث عادة، أنه كلما طالت العقوبات (بصرف النظر عما إذا كانت ذكية أو "غبية")، كلما اقتربت آثارها من الناس. وقد استخدم الأسد الأب على مدى أكثر من عقدين من الزمن، العقوبات المفروضة عليه، ضد شعبه. فقد كانت حجة حظيت بمن صدقها، للتغطية على عمليات السرقة التاريخية التي كان يقوم بها، والتي أدت إلى اقتصاد سوري متهالك بصورة مزمنة، لا تزال سائدة على الساحة حتى الآن.

الآن عاد "مسلسل" الأسد الأب الاقتصادي نفسه، مع تغيير في التاريخ فقط. فقد شرع الابن في تعليق استيراد السيارات وبعض الكماليات (حسب وزير الاقتصاد)، وذلك للحفاظ على الاحتياطي من العملات الصعبة. هل يعود ذلك إلى العقوبات المفروضة على الابن؟ لا يحتاج الأمر لمتخصص في الاقتصاد لكي يعرف بأنه لا دخل للعقوبات في هذا القرار، وأن تعليق استيراد الكماليات (ولا أحد يعرف ماهيتها)، سينسحب بعد فترة على مناديل "الكلينكس". ولمن نسي، كانت هناك ضروريات مُنع استيرادها في عهد الأسد الأب، بحجة العقوبات، وكانت القصة المختلقة، أن الغرب لا يريد للسوريين العيش الكريم، بل يسعى إلى تجويعهم. لم تكن هذه القصة سوى كتلة هائلة من الأكاذيب. فلم يكن لا للغرب ولا الشرق دخل في هذا الأمر، لأن العقوبات لم تكن تشمل آنذاك سوى الصادرات المرتبطة بالسلاح. فقد منع الأب استيراد كل شيء تقريباً وعاش الشعب السوري محروماً منها، لأن خزائن المصرف المركزي السوري باتت خاوية، نتيجة السرقات الكبرى، وسيطرة شقيقه رفعت على مقدرات البلاد، بما في ذلك سرقته للاحتياطي المالي كله، وضخ مكانه أوراقاً نقدية سورية طُبعت محلياً بدون سند أو تغطية.

قبل شهرين اتبع الأسد الابن الشيء نفسه، بعد أن تم تهريب أكثر من 23 مليار دولار أميركي من البلاد، وهروب كل المستثمرين الأجانب، وتوقف المشروعات، في حين "تناضل" الليرة السورية للبقاء كعملة يمكن الاعتراف بها ولو بنطاق ضيق. أخذ يسير على نفس درب الأب والعم، ولكن هذه المرة وسط ثورة شعبية سلمية عارمة، لم تشهد سورية مثيلاً لها في تاريخها.

ستُحضِر السلطة في سورية المزيد من الحجج، في محاولات بائسة لإقناع السوريين بأن التضييق الاقتصادي عليهم لا دخل لها به. لكن ما كان ينفع في عهد الأب، يبدو (في ظل هذه الثورة) مضحكاً في عهد الابن. فالذي كان يسرق وينهب ويقتل آنذاك، كان مطمئناً لوجود ملاذات آمنة له في النهاية، ولمجتمع دولي خفيض الصوت والإرادة. لم يعد المسرح بمُخرِجه كما كان في عهد الأب. المُخرِجون الآن هم الجمهور.

الأحد، 18 سبتمبر 2011

الأسد الابن كما الأب يطبع الليرة بلا غطاء

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"طريق الخراب يكون دائماً جيد في تشييده، والعابرون يدفعون تكاليف التشييد"
جوش بيلينج كاتب فكاهي أميركي

 
 
كتب: محمد كركوتــــي
 
حسناً، يقول من تبقى من أعوان سفاح سورية بشار الأسد، إن العقوبات الأميركية والأوروبية لن تؤثر على تماسك سلطة هذا الأخير، وإن الموجة الأوروبية الجديدة من هذه العقوبات، لن تضر الأسد، حتى ولو طُبق القرار القاضي بمنع الشركات الأوروبية من القيام باستثمارات جديدة في مجالات التنقيب عن النفط وإنتاجه وتكريره، الذي يتضمن أيضاً، منع إنشاء مشروعات مشتركة جديدة مع مؤسسات في قطاع الطاقة السوري، ومنحها قروضاً، وكذلك شراء حصص في الشركات السورية أو زيادة هذه الحصص. الأمر لا يحتاج إلى خبراء في الاقتصاد، لمعرفة أن هذه العقوبات ستضرب قدرة الأسد في الحصول على أموال في الأجل الطويل. بوضوح شديد، يسعى الأوروبيون لاستكمال خنق بشار الأسد مالياً، بالتعاون مع الأميركيين، لأن "الخنق المالي"، هو المعول الوحيد المتاح حالياً، لمواجهة الأعمال الوحشية المتصاعدة، التي تقوم بها السلطة غير الشرعية في سورية، ضد السوريين العزل، بما في ذلك استئجار قُطاع الطرق من الخارج والداخل، ناهيك عن استخدامها لكل أنواع الأسلحة، من بينها الطائرات والمروحيات المقاتلة والبوارج الحربية، بالإضافة طبعاً إلى الدبابات والمدرعات وغيرها من آلة القتل.

لا يعترف الأسد ومن تبقى من أعوانه، بأنهم يتعرضون لـ "الخنق المالي"، رغم أن آثار هذا الخنق بدأت تظهر على الساحة، والتي كان آخرها، تهديدات قُطاع الطرق بإلغاء "عقود الهلاك" التي أبرموها مع السلطة، لأن "مستحقاتهم" بدأت تتأخر. وسواء اعترف رئيس السلطة أم لم يعترف بأن حبل الاقتصاد يضيق حول رقبته، في خضم تجفيف موارده المالية، فإن الآتي من الأوروبيين أعظم. فقد وضع الاتحاد الأوروبي خطة متسلسلة ومتدرجة من العقوبات، بحيث يخنق السلطة وأعوانها، مع الحد الأدنى من الأضرار التي قد تصيب الشعب السوري. ولذلك يسعى الأوروبيون إلى عقوبات ذكية، لا تشبه العقوبات التي فُرضت في السابق على عدد من البلدان (من بينها العراق)، والتي نالت من الشعوب أكثر من نيلها من الحكام المستبدين. ولعل هذا يعطي الاتحاد الأوروبي تبريراً يراه البعض واقعياً لتأخره في فرض عقوبات قوية وحاسمة وسريعة، علماً بأن العزل السياسي الكامل، يبقى هو العامل الأهم والأكثر نجاعة وسرعة لزوال الأسد إلى الأبد، وأن ترويض روسيا ومعها الصين (إن أمكن)، سيكون أثره أكبر بكثير من كل العقوبات سواء كانت ذكية أم غير ذلك.

الخطوة الأوروبية التالية، والتي تمثل تحولاً جديداً على صعيد العقوبات، هي حظر طباعة وتصدير أوراق النقد السورية والعملات المعدنية، التي تطبع وتصك في بلدان أوروبية، إلى جانب فرض عقوبات على مصارف سورية جديدة، وحظر على شركة "سيرياتيل"، الممول الرئيس للأسد وجماعته، والتي يملكها ابن خاله رامي مخلوف، الذي يسيطر (بالمناسبة) على 60 في المائة من الاقتصاد الوطني السوري. المثير هنا، أن قرار حظر طباعة الأوراق النقدية، سيعجل وتيرة طباعة الأوراق النقدية السورية داخل سورية، والتي بدأت بالفعل منذ أكثر من شهرين، في أعقاب تآكل الاحتياطي من العملات الصعبة في البلاد. ففي شهر أغسطس/آب الماضي، أقدم المصرف المركزي السوري، من تلقاء نفسه (وليس بفعل أية عقوبات)، على الاستعاضة عن خدمات المصرف النمساوي المتخصص بطبع الأوراق النقدية، وقام بطباعة هذه الأوراق في دمشق. وبالغ في الطباعة، ليتجاوز التغطية الذهبية، أو حجم الاقتصاد السوري ، الذي يجب أن يكون موازياً، لحجم الكتلة النقدية التي يتم تداولها. سيظهر أحد ممن تبقوا من أعوان الأسد ليقول ما هو الدليل؟ والحقيقة أن الدليل المطلوب، لا يأتي من ضبط آلات الطباعة والطابعين معها، لأن ذلك هو المستحيل نفسه، لكنه أتى من الهيئات الاقتصادية الأجنبية المختلفة، والمؤسسات الحكومية خارج سورية، عندما رفضت التعامل والتعاطي وقبول الأوراق النقدية من فئة الألف ليرة سورية المطبوعة في دمشق. ولمن لا يعرف أشكال الأوراق النقدية السورية، تتصدر ورقة الألف ليرة صورة الأسد الأب، التي ربما جلب لها النحس، كما جلب للبلاد على مدى أكثر من ثلاثة عقود الخراب.

لم تكن سورية في عهد الأسد الأب بعيدة عن طباعة الأوراق النقدية دون سند، بل قام هذا الأخير في مراحل عدة بطباعة هذه الأوراق التي لم تكن ذات قيمة فعلية. ففي بلد لا تطبع فيه المطابع بطاقات الدعوة إلى الأعراس (بالمناسبة أي حفلة عرس في سورية تحتاج إلى موافقة أمنية)، إلا بموافقة خمس جهات حكومية، وعدد مماثل من الأجهزة "الأمنية"، طبعت في السابق (وتطبع الآن)، كميات هائلة ومرعبة من الأوراق المالية غير المغطاة، مما جعل الليرة لا تحمل قيمة، إلا ثمن الورقة التي طبعت عليها. ولمن نسي.. في منتصف ثمانينات القرن الماضي اتفق الأسد الأب مع الأسد الأخ (رفعت)، أن يكون هذا الأخير حراً في التصرف بمصير الاقتصاد السوري، ضمن تفاهم بينهما على أن يوقف هذا الأخ خطته للانقضاض على حكم أخيه. ماذا فعل سفاح مدينتي حماة وحلب؟ قام بسحب عدة مليارات من الدولارات الأميركية من المصرف المركزي، بعد أن ضخ قيمتها عن طريق طباعة الليرات السورية غير المغطاة. ولم يكتف الأسد الأخ بذلك، فقد طلب من شقيقه الخائف، مزيداً من المليارات التي سددها وقتها سفاح ليبيا معمر القذافي، بعد أن وجد حافظ الأسد، أن خزائن المصرف المركزي باتت خاوية تماماً. السرقة التاريخية الكبرى هذه، أدت إلى شل الاقتصاد الوطني، وتركت آثاراً لا تزال باقية على الساحة المحلية حتى اليوم. ففي العام 1986 كان الدولار الأميركي يساوي 12 ليرة، وبعدها بأربع سنوات بلغ 48 ليرة، ليصبح في العام 1995 أكثر من 52 ليرة! في حين كان الدولار في العام 1970 (عندما وصل الأسد الأب إلى السلطة) يساوي 3,90 ليرة سورية.

بدأت إذن.. المطابع المشينة في سورية بطباعة الأوراق النقدية، وبدأ معها عهدا جديد مظلم للاقتصاد السوري، الذي مر بمجموعة من العهود المريعة بفضل الأسد الأب والأخ والابن، من اقتصاد التفقير، إلى اقتصاد الفقر وما دونه، إلى اقتصاد "التشبيح". وبينما لا تزال سرقات الأسد الأخ (رفعت) تضرب الاقتصاد السوري حتى الآن، ظهرت سرقات أخرى منذ الأيام الأول للأسد الابن في الحكم. سرقات من نوع "ذكي" لكنه سافر. غير أن هذه السرقات لم تعد "ذكية" في ظل الثورة الشعبية السلمية العارمة التي تجتاح البلاد، لأن ناتجها مع الناتج المخيف عن طباعة الأوراق النقدية بلا رصيد أو سند أو تغطية، سيسرع من اقتراب المرحلة الأخرى من هذه الثورة، وهي العصيان المدني، لاسيما عندما يجد السوريون، أن ما يحملونه من أوراق مالية في جيوبهم (رغم قلتها)، ليست سوى أوراق فقط، لا مالية ولا نقدية. وهذا آخر ما يريده الأسد الذي أقسم على أنه لن ينتهي، قبل أن يُنهي سورية.

الاثنين، 12 سبتمبر 2011

عندما يُسوِق الأسد النفط

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"السارق والقاتل يتبعان طبيعتيهما، تماماً كما يتبع المحسن طبيعته"
توماس هنري هاكسلي عالم بيولوجي بريطاني

 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
لا توجد حكومة في العالم، تقوم بحملات لـ "تسويق" عدم أهمية صادراتها النفطية بالنسبة للاقتصاد الوطني، ودورها في الحراك الاقتصادي المحلي، سوى حكومة سفاح سورية بشار الأسد! ولا يعود ذلك (بالتأكيد) إلى أن الأسد يؤمن بالحسد، ويهرب من "عيون" الحاسدين، بل لأنه (كما والده) يسعى للحفاظ على العوائد النفطية في طريقها الذي لا ينتهي عند الخزينة العامة للدولة! بمعنى آخر، أن تبقى خارج إطار الدخل المحلي، بلا سجلات أو دفاتر. ويطيب لمن تبقى من مؤيدي الأسد القول، بأنه لا توجد وثائق أو إثباتات أو قرائن، تؤكد أن العوائد النفطية لا تدخل في الخزينة العامة، وأنها تذهب إلى جيوب "القائد" وأعوانه. وهذا صحيح، لأن العصابات لا تعتمد المستندات في مسروقاتها، ولا تجدولها، ولا تستأجر المحاسبين للجرد السنوي. الشيء الوحيد الذي تقوم به بعد اكتمال عمليات السرقة، هو العثور على ملاذات آمنة لهذه المسروقات، وتحصينها من الملاحقات والضبط. وكان لزعيم المافيا الشهير آل كابون قولاً شهيراً في هذا المجال، عندما حاولت السلطات الأميركية إدانته لامتناعه عن دفع الضرائب. ماذا قال؟ "كيف يمكن دفع الضرائب المشروعة على أموال غير مسجلة وغير مشروعة". ومع ذلك، فقد حاولت المنظمات الحقوقية الغربية في تسعينات القرن الماضي، إثارة قضية سرقة الأسد الأب لعوائد بلاده النفطية، إلا أنها واجهت صداً منيعاً من حكوماتها آنذاك (ومعها الشركات النفطية الأجنبية العاملة في سورية، لأسباب ربحية صرفة)، وذلك لاعتبارات سياسية يعرفها الجميع، من بينها "التخويف الوهمي" من الفراغ السياسي والأمني إذا ما سقط الأسد، والرابطان اللبناني والإيراني، وضمان استقرار إسرائيل أمنياً وعسكرياً، والخوف من قيام الأسد بإعادة تصدير الإرهابيين إلى دول الغرب. والحقيقة أن الاعتبارين الأخيرين هما الأكثر واقعية من كل الاعتبارات، التي اعتاد الغرب تسويقها طوال أكثر من أربعة عقود.

يقول أعوان الأسد، في أعقاب فرض الاتحاد الأوروبي الحظر النفطي على "سورية"، إن الصادرات النفطية ليست ذات قيمة عالية، لأن الغالبية العظمى من الإنتاج يذهب للاستهلاك المحلي. ومع ذلك فقد فشلوا (كما العادة) في إخفاء الحقيقة التي جاءت من الشركات العالمية التي تقوم باستخراج وتسويق النفط السوري المنهوب، إلى جانب ما تعلنه مراراً، منظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط المعروفة اختصاراً باسم "أوابيك". وحسب هذه الأخيرة، فقد جاءت سورية في العام 2008 ضمن قائمة الدول العربية المصدرة للنفط في المركز الثامن، بعد قطر وقبل البحرين ومصر، وبلغت العوائد النفطية في ذلك العام، الذي شهد انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، التي أثرت سلباً على أسعار النفط 7989 مليون دولار أميركي. وتشكل هذه العوائد الضخمة بالنسبة لسورية (إذا ما حُسبت ضمن نطاق الإيرادات العامة، ومرة أخرى أقول: إنها لا تُحسب)، قرابة 17 في المائة من إجمالي الدخل المحلي(وإذا ما أُدخلت في الموازنة العامة، فهي تساهم في 24 في المائة منها)، وهي نسبة تدفع أية سلطة شرعية في العالم، إلى أن تشكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، على هذا الخير وتلك النعمة، وتعمل لتطويرها والحفاظ عليها. وقد استفادت السلطة في سورية، طوال الأعوام التي سبقت الأزمة الاقتصادية العالمية، بارتفاع هائل لأسعار النفط، حيث وصل سعر البرميل في العام 2008 (الأزمة اندلعت في سبتمبر/أيلول من العام نفسه)، إلى 140 دولار أميركي، ولم ينخفض في العام 2007 دون 90 دولاراً. وفي العامين الماضي والجاري، ظل سعر البرميل متراوحاً في حدود 100 دولار أميركي.

في مقالي السابق الذي نُشر بعنوان "النفط السوري يقتل السوريين أيضاً"، أشرت إلى أنه كلما علت أصوات الأنظمة الوحشية التي تخضع للعقوبات الدولية، كلما كانت هذه العقوبات مؤثرة عليها. وقد تدافع أعوان السلطة لإطلاق تحدياتهم لهذه العقوبات، بما في ذلك وزير المالية محمد الجليلاتي، الذي قال: "إن العقوبات لن تضر سورية. ستظل سورية واقفة على قدميها. لا مشكلة ما دامت احتياجاتنا المحلية مكفولة". ماذا قال أيضاً؟ "إننا نبحث عن مشترين للنفط المخصص للبيع". والحقيقة أن العقوبات النفطية لن تضر سورية الشعب، بل بدأت أضرارها تظهر على السلطة التي تواجه شحاً متعاظماً في التمويل، الذي يستحق بجدارة توصيف "تمويل الهلاك". وقد كان الاتحاد الأوروبي رحيماً بالشعب السوري، عندما أحجم عن حظر كل أشكال التجارة بين شركات الطاقة الأوروبية وسورية، لأن مسؤوليه لا يرغبون في زيادة معاناة هذا الشعب عن طريق قطع إمدادات الوقود اللازمة لتوليد الكهرباء، حيث يعاني السوريون أصلاً شحاً تاريخياً فيها. وباستثناء بلدان ارتضت على نفسها ممارسة سياسة وأخلاق الشركات، لا سياسة وأخلاقيات الدول، فإن المجتمع الدولي يحاول بشتى الوسائل، فرض عقوبات ذكية على الأسد وأعوانه، بحيث لا تطال الشعب السوري، الذي يرزح منذ أربعة عقود تحت عقوبات محلية مريعة، سادت عهدي الأسد الأب والابن.

يبحث الأسد الآن، عمن يشتري النفط السوري المنهوب، وسوف يعثر بالنهاية على مشترين بشروطهم، وسوف يقبل بأية شروط أو أسعار كانت، لأن صنابير الأموال التي كانت مفتوحة عليه وعلى أعوانه، بدأت تتحول من حالة الدلف إلى حالة الشح، بينما تزداد العزلة الاقتصادية عليه مصحوبة بالعزلة السياسية الدولية، وشيئاً من العزلة العربية. وبعد فشل المساعدات المالية الإيرانية المباشرة (5.9 مليار دولار)، ومعها المساعدات الحكومية العراقية غير المباشرة (6 مليارات دولار)، في توفير الحماية لسلطة الأسد، وبعد هروب (وتهريب) ما يربو على 23 مليار دولار أميركي، إلى خارج سورية في غضون خمسة أشهر فقط، وفي ظل تراجع مفزع للاحتياطي النقدي، سيكون من الصعب عليه، أن يتأخر في العثور على مشتر للنفط السوري. فهذا النفط يوفر للسلطة ما يقرب من 15 مليون دولار في اليوم الواحد، أو 45 مليون في الشهر الواحد، وهي مبالغ مضمونة، بعد توقف الاستثمارات، واضمحلال العوائد السياحية بصورة كاملة حقاً، بينما يتجه الاقتصاد السوري "بثبات" نحو المجهول. لم يعد أمام الأسد مصادر تمويل أخرى، وفي ظل الثورة الشعبية السلمية العارمة، لا توجد بارقة أمل أمام هذه السلطة، للعثور على الإمدادات المالية، إلا إذا قرر جلب الأموال السورية المنهوبة على مدى سنوات طويلة، المخزنة في ملاذات آمنة، لاسيما في لبنان وإيران وفنزويلا، وبعض الدول الأفريقية التي تحكمها أنظمة مارقة وفاسدة. ولم يحدث في التاريخ، أن أقدم طاغية على استخدام الأموال التي سرقتها لحماية سلطته. فالطغاة يسرقون.. يسرقون، إلى أن يفروا من غضب شعوبهم، أو أن يقعوا انتظاراً لعدالة هذه الشعوب.

الثلاثاء، 6 سبتمبر 2011

النفط السوري يقتل السوريين أيضاً

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"العقوبات الأمثل على الطاغية، هي تلك التي يفرضها عليه ضحاياه"
إين راد كاتبة ومؤلفة أميركية

 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
عندما فرضت أوروبا عقوبات مختلفة على طاغية زيمبابوي روبرت موغابي، تشمل حظر السفر إليها، قال هذا الأخير، الذي بلغ به الفساد، أنه ربح اليانصيب الوطني في بلاده!: "لا نحفل بمنعنا من السفر إلى أوروبا، نحن لسنا أوروبيون"! ومع ذلك فهو يتحرك حتى داخل منزله وسط حراسة مشددة. وكان سفاح ليبيا الساكن في الجحور معمر القذافي، لا يترك مناسبة – قبل أن ينصاع إلى أوامر الغرب- إلا وردد فيها عبارته المقززة: "ظز في أوروبا ومعها أميركا"! لكنه ينتقل من جحر إلى آخر هروباً من عدالة شعبه. وعندما وقفت أوروبا ضد سفاح سورية بشار الأسد، وفرضت عليه عقوبات ومنعته وأعوانه من السفر إليها، ظهر وزير خارجيته وليد المعلم، الذي يعيش في غيبوبة دبلوماسية منذ زمن بعيد، ليقول: "لقد مسحنا أوروبا من الخارطة"! ماذا حدث؟ خشي الأسد حتى من تأدية صلاة عيد الفطر في المسجد الأموي الكبير، ليؤديها في أحد المساجد الصغيرة المجهولة، التي لا يزال بإمكانه السيطرة عليها، حفاظاً على أمنه الشخصي. لم يحدث في التاريخ أن صمت طاغية على العقوبات التي تُفرض عليه، بل يتحداها –بصرف النظر عن آثارها السلبية على شعبه- حتى يصل إلى نهايته الحتمية، والأمثلة كثيرة، صدام حسين عربياً، وسلوبودان ميلوسوفيتش أوروبياً، وتشارلز تيلور أفريقياً، وغيرهم.

بعد خمس موجات أوروبية وموجتين أميركيتين من العقوبات على الأسد، في غضون ستة أشهر تقريباً، خرج أعوان هذا الأخير، ليتحدوا العقوبات، وارتفعت أصواتهم بعد أن دخلت العقوبات الخاصة بحظر تصدير النفط السوري إلى أوروبا حيز التنفيذ. وقد عودتنا هذه الأنواع من الأنظمة، أنه كلما علا صوتها ضد عقاب ما يفرض عليها، كلما كان هذا العقاب مؤثراً وفاعلاً عليها، ومرعباً لها. والحقيقة أن القطاع النفطي في سورية، هو في الواقع قطاع حساس ليس للاقتصاد الوطني، بل للأسرة الحاكمة وأعوانها، فعوائد هذا القطاع لا تدخل (منذ عهد الأسد الأب) في الخزينة العامة، وتصب كلها في خزائن السلطة و"جيوبها"، وقد حافَظَ الأسد (الأب والابن)، على هذه الإمدادات باتجاه أوروبا حتى في عز الاضطرابات الدبلوماسية بين الأوروبيين والسلطة الحاكمة في دمشق، مستفيداً من دعم الشركات النفطية الأوروبية له. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن شركة (شل) الهولندية- البريطانية، قاومت القرار الأوروبي الأخير، على أمل الاستمرار في أعمالها داخل الأراضي السورية، رغم الحقائق والأدلة والبراهين العارمة، التي أثبتت أن الأسد يرتكب الفظائع ضد شعبه.

ولكن لماذا علا صوت أعوان الأسد، ضد الموجة العقابية الأوروبية الأخيرة؟ الجواب ببساطة هو أن أوروبا تستورد قرابة 90 في المائة من النفط السوري، تستخدم إيراداتها بالتحديد في الأعمال الوحشية التي يقوم الأسد بها ضد شعبه، وقبلها في تثبيت سلطته. وهذا يعني أن السلطة السورية ستبحث عن مشترين آخرين بأسرع وقت ممكن، للحيلولة دون توقف الإمدادات المالية، خصوصاً في ظل العقوبات الأوروبية والأميركية التي شملت شخصيات سورية ولبنانية وإيرانية هي في الواقع، ممولة تقليدية للأسد، فضلاً عن مؤسسات سورية كانت تدر أموالاً هائلة له، بما في ذلك تلك التي يمتلكها ابن خاله رامي مخلوف. وبات من الواضح، أن المساعدات المالية الإيرانية (إلى جانب الأمنية، إضافة إلى تصدير المرتزقة)، والاتفاقات الجمركية السريعة التي أبرمتها حكومة نوري المالكي "العراقية" مع السلطة في سورية، والتي تبلغ في مجموعها 12 مليار دولار أميركي، لم تحقق الأمن المالي المطلوب للأسد، لأنه يتوجب عليه (في سياق احتفاظه في السلطة أطول فترة ممكنة)، الإيفاء بالالتزامات الداخلية، ليس من منطلق تأمين الحد الأدنى من مستوى المعيشة للشعب السوري، بل لتأخير الانطلاق الحتمي للعصيان المدني الشامل، الذي بدأت بوادره تظهر بصور متقطعة على الساحة الداخلية. فمع توجه الاقتصاد السوري نحو حافة الهاوية، لا شيء سيقف أمام الشعب الذي يقوم بثورته السلمية العارمة، في التحول إلى العصيان المدني.

وعلى الرغم من أن العقوبات الأوروبية على الأسد، لم تشمل الاستثمارات (على عكس العقوبات الأميركية)، إلا أنها لا شك سوف تؤثر بصورة كبيرة على الوضعية المالية له، إلا إذا استنجد بالأموال المنهوبة (وهذا أمر مستبعد) الموزعة بصورة كبيرة بين لبنان وإيران وفنزويلا. وحتى هذه الأموال لن تكفل له بقاء طويلاً في السلطة، في ظل تعاظم الثورة ضده. غير أن الأوروبيين لم يغلقوا الباب أمام مزيد من العقوبات، فقد اتبعوا منذ بداية الثورة فرضها تدريجياً بما يتناسب –من وجهة نظرهم- مع حجم الفظائع والجرائم التي يرتكبها الأسد، علماً بأن حجم الفظائع التي يتحدثون عنها، لا تتناسب والبطء التدريجي للعقوبات التي فرضوها، بل لا تتناسب أيضاً مع حجم الإجراءات الدبلوماسية والسياسية التي اتخذوها ضد الأسد. وهذا يقودنا إلى السؤال الأهم. هل ستنحصر أضرار العقوبات المفروضة في الأسد وأعوانه فقط، أم أنها ستنال من الشعب السوري؟

في الحقيقة، أن هذه العقوبات التي حاول فارضوها أن تكون "عقوبات ذكية"، مختلفة عن تلك التي فُرضت على العراق منذ احتلاله الكويت، وحتى انتهاء حكم صدام حسين، ستنال من الشعب السوري، مهما بلغت درجة "ذكائها". وهذا يضع الأوروبيين والغرب عموماً أمام مسؤولية تاريخية بكل معنى الكلمة. لن يكون هناك تأثير على المدى القصير للعقوبات على الشعب السوري، ولكن تأثيرها سيظهر بوضوح على المدى المتوسط والطويل. وإذا ما كان الأوروبيون (والمجتمع الدولي عموماً)، جادون في مساندة الشعب السوري الذي يتعرض لحرب إبادة، عليهم أن يتحركوا بصورة أكبر وأقوى للوقوف إلى جانب هذا الشعب في إزالة سلطة تحكم البلاد بلا شرعية منذ عهد الأسد الأب. ولا يتم ذلك، إلا باستكمال عملية عزل الأسد وأعوانه، عزلاً تاماً، والعمل المثابر على تذليل العقبات الدبلوماسية أمام إدانته في مجلس الأمن الدولي، على شكل قرار لا بصيغة بيان رئاسي من المجلس المذكور.

إن بشار الأسد سيستخدم هذه العقوبات في مرحلة لاحقة ضد شعبه (إذا ما استمر في الحكم)، لتمثل سلاحاً جديداً يضاف إلى أسلحته الخفيفة والثقيلة، التي لم يوفر شيئاً ضد المدنيين العزل. فقد بدأ حاكم المصرف المركزي السوري، بإطلاق الإشارات بهذا الخصوص، حينما دعا السوريين إلى شد الأحزمة، في خطوة أولى ضمن حرب تخويفية. وفي كل الأحوال، يراهن الأسد على الوقت، على أمل أن ينجو من مصيره المحتوم، وعلى المجتمع الدولي العمل الآن لاختصار هذا الوقت بل ولقطعه إلى الأبد.