الثلاثاء، 27 يوليو 2010

العنصرية الاقتصادية!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")





" الاقتصادات يجب أن تخدم الإنسانية، وليس العكس. نحن ننسى مخاطر أن الأسواق تنتج موظف جيد، ومدير سيئ ، ومعتقدات قبيحة "
أموري لوفينس رئيس علماء معهد "روكي ماوتن" الأميركي

 
 
 

محمد كركوتــي
 
بعد " الوطنية" الاقتصادية أتت "القومية" الاقتصادية، وبعد هذه الأخيرة جاءت " العنصرية" الاقتصادية. وبعد التشدد الاقتصادي، أقبل التطرف الاقتصادي. وبعد "تسامح" اقتصادي لافت، حضرت "القسوة" الاقتصادية!. هُزم الانفتاح الاقتصادي – الاجتماعي، أمام وحش صنعته الأزمة الاقتصادية العالمية، لا يحب إلا نفسه، ولا يجد على الساحة إلا صورته. وحش خال من الاعتبارات إلا الذاتية منها. إنه ليس سوى أثر من آثار "عدوان" الأزمة المعززة بتبعاتها وآلامها ومصائبها وحتى "فجورها"!. كانت "العنصرية" الاقتصادية قبلها موجودة لكنها متوارية، وكانت حاضرة لكنها "خجولة". كانت عدوانيتها "مُلطفة"، وكانت آثارها محصورة، وكانت حممها فاترة. كانت تمثل جزءاً من الحراك الاقتصادي الغربي، لكنه ليس جزءاً متفاعلاً، يشكل أزمة حقيقية على الساحة. كان يسبب بعض الشغب، الذي يشبه شغب تلميذ في فصله الدراسي، لا يلبث أن يتأدب، عندما يعرف حدوده، ومساحته التي ربما تكفل له مشاغبة محدودة، لا تمثل ظاهرة.

مع انفجار الأزمة العالمية، تشكلت "وطنية اقتصادية"، سرعان ما تحولت إلى " قومية اقتصادية"، التي أصبحت بعد ذلك "عنصرية اقتصادية". وإذا كان من حق " المتأزمين"، توفير الحماية لأنفسهم في الأزمات والمحن المحدودة، فليس من حقهم ذلك، عندما تكون الأزمات مفتوحة، تشمل الأضداد، وتجمع تحت جناحيها، ما كان يستحيل جمعه قبلها، خصوصاً في البلدان التي ارتكبت الأزمة، وصدَرتها إلى كل الأسواق. في السنوات التي سبقت الأزمة، لم تكن قضية الأجانب العاملين في الدول الكبرى ( لاسيما الأوروبية منها)، تشكل مسألة معقدة أو كبيرة. بل أن بعض الدول – ومن بينها بريطانيا – شهدت مطالبات من المؤسسات والشركات فيها لحكومتها، بالتروي في سن قوانين تحد من تدفق العمال والموظفين الأجانب، وذلك لأن الحراك الاقتصادي، يستدعي بالفعل وجود الطاقات الأجنبية، حتى في المؤسسات الحكومية. فمخرجات التعليم كانت – ولا تزال – غير متناسبة بصورة مُحكمة مع احتياجات السوق، يضاف إلى ذلك أن المهارات الأجنبية تكمل تلك الوطنية. وقد شهد العقدان اللذان سبقا الأزمة، " توليفة" ناجحة بين المهارات المحلية والوافدة. وقد استفادت أوروبا إلى حد كبير، من قوانين الاتحاد التي تجمع دولها، والتي تُسِهل تبادل الخبرات والمهارات وتكرس الأداء النوعي في مجالات الأعمال المختلفة.

وبعد الفوران " القومي الاقتصادي" الذي شهدته بلدان الاتحاد الأوروبي في أعقاب الأزمة، عندما كان العامل البريطاني ينظر – على سبيل المثال - إلى زميله الإيطالي في بريطانيا كعدو، وكذلك الأمر بالعامل الفرنسي مع زميله البريطاني في فرنسا، والألماني مع زميله الأسباني في ألمانيا.. إلى آخره. بعد هذا الفوران دبت " العنصرية الاقتصادية". فقد بات البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي والأسباني واليوناني وغيرهم من النسيج الأوروبي، ينظرون إلى العمال غير الأوروبيين كأعداء. وقد ظهر هذا بوضوح في التقرير السنوي لـ " هيئة مكافحة العنصرية" التابعة لـ " وكالة مجلس أوروبا" ( الهيئة تُجري تحليلاً دورياً للأوضاع العنصرية والتعصب في البلدان الـ47 الأعضاء في مجلس أوروبا)، بأن الأزمة العالمية، رفعت من حدة الفروقات العرقية في القارة الأوروبية. وحسب التقرير الخطير الذي تناول الحراك الاقتصادي للعام 2009، فإن الأزمة "زادت من الأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز، القائمة على العرق واللون واللغة والدين والجنسية". والمصيبة أن هذه العنصرية، لا تتجلى في نطاق العمل فحسب، بل تشمل أيضاً قطاعات التعليم والسكن والاستفادة من الخدمات، وحتى الرياضة!.

هذا الوباء الجديد، عجَل من سن القوانين الجديدة حول الهجرة إلى البلدان الأوروبية، وحوَل حتى السياسيين الذين كانوا يتعاطون مع هذه القضية بشيء من الرحمة، إلى مُشرعين مهمتهم الرئيسية هي سد كل الثغرات التي قد تصيب قوانين الهجرة. ففي السابق كان المتعاطفون مع المهاجرين، يرون في هذه الثغرات نوعاً من الأدوات والأساليب الإنسانية المبررة. ومع تزايد عدد المُسرحين من وظائفهم في الدول الكبرى ( بلغ عدد العاطلين الجدد بفعل الأزمة 47 مليون في 30 دولة كبرى)، بدأت الاتهامات المُعلَنة تدور في نطاق "أن المهاجرين ( لا اللاجئين) يسرقون الوظائف، ويحصلون على الخدمات الاجتماعية"!. ولأن هذا الأمر بالتحديد، يمثل مقاسياً لارتفاع شعبية الحكومات وانخفاضها، فقد تسارعت هذه الحكومات لسن القوانين، وبدأ السياسيون "يُسوِقون" أحزابهم، بأعلى درجات الحزم والشدة في الإجراءات والقوانين حيال المهاجرين، إلى درجة دفعت حزب الديمقراطيين الأحرار البريطاني ( وهو الحزب الأكثر لطفاً مع المهاجرين)، إلى التخلي عن سياساته الإنسانية الخاصة بالمهاجرين، لكي يُشكل حكومة ائتلافية مع حزب المحافظين، الذي يُعد من أشد الأحزاب البريطانية حزماً حيال الهجرة بشكل عام!.

"العنصرية الاقتصادية" التي أتت من جراء أزمة، استفحلت نتيجة الفشل في تخفيف حدة بشاعة وتعاظم " القومية الاقتصادية". فلم يعد التنوع هدفاً للتحقيق، بل هدفاً للتدمير!. وإذا كانت شعوب الدول الأوروبية التي تساعد اليونان لتجنيبها الانهيار، توجه الاتهامات المتنوعة لهذا البلد، إلى جانب "الردح" ( ولاسيما "نشيد الردح" الألماني المتواصل) والإذلال والإهانة، لا عجب إذن.. من الاتهامات التي يتعرض لها المهاجرون في الدول الأوروبية على مدار الساعة. ولعل الجانب المخيف هنا، هو أن بريطانيا ( الدولة الأكثر تسامحاً مع المهاجرين إليها – لا اللاجئين – مقارنة بغيرها من الدول الكبرى في أوروبا)، بدأت خطوات عملية باتجاه "العنصرية الاقتصادية". والحقيقة أن الضحية الأولى للسياسات الجديدة، ليس المهاجر أو الوافد العامل، بل هي "هامات" الدول الكبرى، ومواقعها على الساحة العالمية. فالكبير لا يستحق هامته إذا ما فشل في احتواء كل الأطياف في مجتمعه، بصرف النظر عن ماهيتها، ولن يستطيع الاحتفاظ بهالته، إذا ما انحنى أمام الأمواج، مهما كانت عالية وعاتية!. والعدالة (مع التسامح)، هي جزء أصيل من مؤهلات الكبير. لكن يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل، كان على حق عندما قال: " إن الدول القوية لا تكون عادلة، وعندما ترغب في أن تكون عادلة، تكون قد فقدت قوتها".

لا أعرف إن كانت الأيام المقبلة ( ولا أقول السنوات) ستشهد مرحلة " الإرهاب الاقتصادي"، كتطور تراتبي للـ " الوطنية والقومية والعنصرية" الاقتصادية؟. ولكن إذا ما تُركت الأمور نهباً للمصالح السياسية ( الحزبية في مقدمتها)، فلا عجب في أن يتسيَد هذا النوع من الإرهاب المشهد العالمي العام، وخصوصاً في الدول الأوروبية النابذة لليد العاملة الأجنبية الموجودة فيها، لا القادمة إليها. حينئذ سيعرف العالم، أن إرهاب تنظيم القاعدة، وغيره من تنظيمات ضالة، ليس سوى مجرد نزهة، ولا بأس في أن تكون كـ "رحلة صيد". إن الإرهاب ضد لقمة العيش والكرامة، سيولد تنظيماً عالمياً، أساسه قاعدة شعبية، لا مجرد قطاع طرق كأولئك الذين يعيشون في جحور تورا بورا.

الاثنين، 19 يوليو 2010

أوباما يفوز بـ "النهائي" بلا كأس البطولة؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")





" أكره المصارف. لا تقوم بشيء إيجابي لأي شخص، ما عدا حرصها على نفسها. إنها أول من يفرض الرسوم، وأول من يفر عندما تبدأ المتاعب"
قاضي قضاة الولايات المتحدة الأميركية الأسبق إيرل وورين

 


محمد كركوتــي
 

يستطيع الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يتباهى قليلاً (لا كثيراً)، بقدرته – بعد جهد جهيد - على تمرير مشروع قانون إصلاح النظام المالي على مجلس الشيوخ الأميركي. ويستطيع أن يستمتع قليلاً أيضاً، بوقوفه "التاريخي" جنباً إلى جنب مع الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، الذي فاز بخطة إصلاح مالي، في ثلاثينات القرن الماضي. يستطيع أوباما أن يحتفل بفوزه في "المباراة النهائية"، وإن كان فوزه لم يضمن له بعد الحصول على "كأس البطولة"، ورفعِه أمام العالم. إنه (أي أوباما) "إسبانيا" التي فازت مؤخراَ في نهائي مونديال 2010 لكرة القدم، لكنه ليس هي التي حملت الكأس. يستطيع هذا الرئيس أن يفخر – ولو متأخراً – بأنه تمكن من تمرير هذا القانون التاريخي، وله أن تستريح بعض الشيء، من آثار الحرب التي أعلنها الجمهوريون عليه، في الكونجرس بشكل عام (أيد القانون ثلاثة أعضاء جمهوريين فقط في مجلس الشيوخ من أصل 41 عضواً)، الذين لو أمكن لهم استخدام السلاح ضده في هذا الشأن.. لاستخدموه، ولو استطاعوا تدبير فضيحة له.. لدبروها. ولا أعرف إذا ما كانت من ضمن أمنياتهم، نهاية لأوباما لا تشبه إلا نهاية الرئيس الأسبق جون كينيدي. لقد وجدوا في القانون الجديد، "بذور" التدمير لـ "الثقافة" المالية الأميركية بشكل خاص، والغربية بصفة عامة، التي لم تُقدم على مدى سبعة عقود سوى الأزمات المتتابعة. لم توفر استدامة ومعها الاستقرار. كانت ارتجالية وظرفية دنيئة، ولم تكن في يوم من الأيام، مؤسسية وواقعية نظيفة. وقبل هذا وذاك، ظل النظام المالي محكومٌ، إما بمقامرين، أو محتالين، أو أفاقين، أو متسترين، أو لصوص!. وعمد الجمهوريون الأميركيون طوال العقود الماضية، على إزالة أو تبديد المَثَل الأميركي الشهير من الذاكرة، الذي يقول: "لا يمكن توظيف اللصوص في المصارف".


وإذا كان إصلاح النظام المالي الأميركي ( والعالمي) ضرورة حتمية، لإزالة آثار "عدوان" الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن إصلاح الفكر والسلوك لدى الجمهوريين، لا يقل ضرورة. لكن المشكلة أن الإصلاحات الحزبية لا تأتي عادة إلا من الداخل، في حين لم يظهر بعد في هذا الحزب، يميني معتدل كرئيس الوزراء البريطاني المحافظ ديفيد كاميرون، أو يساري أكثر اعتدالاً من سلف هذا الأخير العمالي توني بلير. وعلى هذا الأساس، سيواجه أوباما فيما ما تبقى له من فترة انتخابية، مزيداً من العراقيل، وكثيراً من الاتهامات، وكماً هائلاً من محاولات الإحباط الجمهورية. وهذا يعني أن مقاومة تنفيذ القانون الجديد، لن تهدأ، ولن يستكين المتضررون الذين ارتكبوا الأزمة الاقتصادية، ولا المشبوهون الذين وقفوا وراءهم، حتى يفرغوا القانون من محتواه، ليس عن طريق تشريع مضاد، بل بواسطة الوسائل المشينة، التي سادت الأسواق ومعها المصارف على مدى عقود طويلة من الزمن.

تكفي الإشارة إلى أن الجمهوريين يعارضون – من ضمن معارضتهم – نصاً في القانون، يهدف إلى تعزيز مراقبة سلطات ضبط قطاعات كاملة من سوق المال، لم تكن تخضع للإشراف، يقضي خصوصاً بإقامة هيئة للمستهلك المالي في المصرف المركزي، ويَحول دون إنقاذ مؤسسات مالية كبرى على حساب دافعي الضرائب. ويعارضون أيضاً، نصاً يدعو إلى مراقبة أفضل وأشمل لسوق المشتقات المالية الهائلة، التي تعتمد على المقايضة. ويعارضون أيضاً وأيضاً بنداً يقضي بإنشاء مجلس لمراقبة الاستقرار المالي. وماذا يعارضون أيضاً؟ فقرات للحد من الصفقات المشبوهة. ولمن نسي، فقد كانت أدوات المضاربة ووسائلها المختلفة، سبباً رئيسياً مباشراً في اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، التي بدأت شرارتها – كما يعرف الجميع – من الولايات المتحدة الأميركية، التي شهدت منذ سبتمبر/ أيلول 2008 وحتى منتصف العام 2010 إغلاق 228 مصرفاً، وهو رقم مرشح للارتفاع، إلى أجل غير مسمى!.

لن يحمل أوباما "كأس مونديال الأزمة المستمر"، قبل أن يؤمن أدوات وكوادر وبيئة نقية (للأخلاق نصيب فيها)، لتطبيق قانون لو نجح بالفعل، إلى جانب نجاح الرئيس الأميركي نفسه في تمرير قانون التأمين الصحي سابقاً، لسوف يقف ( حقاً) جنباً إلى جنب الرئيس روزفلت، ويدخل التاريخ من نفس الباب الذي ولج منه هذا الأخير. في مطلع العام الجاري صعد أوباما '"عاقداً الحاجبين'" على منصة أحد المؤتمرات الصحافية، وقال موجهاً كلامه إلى رؤساء المصارف: "أريد أن تعيدوا لنا أموالنا". ولكن كيف؟.. يتابع أوباما: "يجب على المصارف أن تدفع ضرائب جديدة، من أجل استعادة الأموال العامة (الحكومية) التي أُنفقت عليها لإنقاذها". عليه أن يصعد الآن على المنصة مجدداً ليقول: "إن هذا القانون وُجد لينفذ بحذافيره. إننا نراقبكم، وقد عرفنا أدواتكم. لا مكان بعد الآن لطفرة قاصمة هنا وأخرى هناك، ولن نكون مراقبين فقط لممارساتكم. تكفي الخسائر التي تكبدتها الولايات المتحدة والعالم، والتي بلغت 15 تريليون دولار أميركي حتى الآن".

يقول نائب الرئيس الأميركي الأسبق دان كويل ( وهو جمهوري ) : "إن فشل المصارف يعود إلى المودعين، الذين لا يودعون ما يكفي من الأموال، لتغطية سوء إداراتها". ولعلي أضيف – بعد الأزمة العالمية – "سوء نياتها وأخلاقها". لو كان هذا القانون مطبقاً قبل الأزمة، لما شهد العالم الكارثة الاقتصادية الكبرى. ولو سمح السياسيون المشبوهون، ببعض الرقابة، لما وقع هذا العالم في أتون نار، فشلت كل "مطافي" العالم في إخمادها أو السيطرة عليها، ولما أصيب البنك المركزي الأوروبي بالرعب، من فشل 1121 مصرفاً أوروبياً في إعادة 442 مليار يورو. لو كان هذا القانون موجوداً، لما انضم 47 مليون عاطل إلى زملائهم العاطلين أصلاً في الدول الصناعية فقط، ولما ارتفع عدد الفقراء في الدول الثرية الكبرى ( ولن أتحدث عن عددهم المريع في الدول الفقيرة)، ولما فقد الآلاف منازلهم، في دول تعد التشرد تهمة مشينة!.

هل سيُجنب قانون الإصلاح المالي الأميركي الولايات المتحدة ( ومعها العالم)، أزمة مشابهة لتلك التي انفجرت في العام 2008؟ نعم.. لأنه سيوفر الحماية من "الموبقات المالية" التي صبغت الأسواق لسنوات طويلة. ولكن هل ستكون له فاعلية مستدامة، إذا ما فقد التناغم مع مخططات الإصلاح المالية العالمية الأخرى، لاسيما الأوروبية منها؟ أغلب الظن أن لا. ولعل السؤال الأهم هو، هل "ستعيش" قوانين الإصلاح المالية ( بصرف النظر عن مدى قوتها وجودة تطبيقها)، بمعزل عن وجود نظام عالمي اقتصادي جديد، يستبدل النظام القديم الذي جلب للبشرية المصيبة تلو الأخرى؟. الجواب ببساطة، أن أي قانون لن يصمد لفترة طويلة، إذا ما واصل صانعو القرار تلكؤهم باستبدال النظام القديم بآخر جديد خالٍ من الأدوات والسلوكيات التي أسست لـ "الفحش المصرفي"، الذي بدوره حول المصارف إلى مؤسسات مُقرضة لجهات عليها أن تثبت – إذا ما رغبت بالحصول على الأموال - بأنها ليست بحاجة للقروض!.

الاثنين، 12 يوليو 2010

أهلاً بمأساة صغيرة فقط!؟

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")










" الرأسمالية هي ما يقوم به الناس، شرط أن تتركهم وشأنهم"
المُنظِر السياسي الأسترالي كينيث مينوغ

 

محمد كركوتــي
 
نادراً ما تتفق آراء الأكاديميين مع أولئك العاملين في الساحة. وغالباً ما يتلقى الأكاديميون اتهامات من الذين يقودون الحراك – أي حراك- بأنهم ليسوا سوى منظرين، لا يفهمون ما يجري على أرض الواقع، وإن كان هناك منهم من يفهمه، فإنه يقدم النظرية على التطبيق أو الممارسة.. وهذا أمر مكانه الدراسات والبحوث فقط. وقادة الحراك ومن يواكبونهم، لا يرغبون عادة في سماع أصوات لا تتناغم مع "معزوفاتهم"، ويسعون بكل أدواتهم إلى "تسويق" -"منتجهم" الوهمي- بأنهم يملكون الحقيقة والقدرة على المواصلة. كيف لا؟ وهم في قلب الميدان، وفي خضم عَراكه. ويحاول "الحَراكون" – إن جاز التعبير- أن يُصبغوا ما يقوله الأكاديميون والباحثون، بصبغة "الرومانسية العلمية"، التي لا تنفع إلا في ندوة أو ملتقى أو محاضرة. فما هو موجود على الأرض، ليس له بالضرورة أن يتناغم مع ما هو مطروح نظرياً. وفي المقابل يرى أصحاب النظريات والرؤى، أن الحراك الذي لا يستند على رؤية مجردة، لا ينتج سوى الأزمات والانتكاسات، وفي أحسن الأحوال، لا يستمر إلا بعدد كبير من الثغرات، التي تشكل وصفة جاهزة للمصائب.

قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كان قادة الحراك الاقتصادي - الذين أحب أن أصفهم بـ "المُلهمين الاقتصاديين" - ومعهم عدد هائل من "المُلهمين السياسيين"، يعملون، وفي الوقت نفسه، يقومون بتكميم أفواه كل من يحاول أن يحذر من الفوضى على الساحة الاقتصادية، ومن الانفلات الذي كان يعم الأسواق، ومن السياسات التي كانت تَمنح هذه الأسواق حصانة من الأخطاء، بل وتلفها بقدسية، كفَروا كل من يشكك فيها. ولم يكتف "المُلهمون" بذلك، بل سخِروا من أولئك الذين يطالبون بوقفة لتقييم الأداء الاقتصادي العام، وحراك الأسواق، وتصحيح الخلل الذي استفحل إلى درجة التفكك. وما زلت أذكر، عندما وَصف "أبطال الأزمة" في العام 2006 البروفيسور نوريل روبيني الأستاذ في جامعة نيويورك في العام 2006 بـ "بروفيسور شؤم" ، بعد أن أطلق تحذيره في العام نفسه بأن أزمة مالية تتشكل، وذلك عندما أخبر الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي بأن الولايات المتحدة الأميركية ستواجه إفلاساً كبيراً في مجال العقارات، هو الأسوأ في تاريخها بالإضافة، إلى أزمة نفطية وركود عميق. "أبطال" الأزمة.. لم يكونوا مستعدين لسماع أي "نغمة" خارج نص المقامرة "الموسيقي". ولم يقبلوا أي رؤية لا تتوافق مع مخططاتهم، وتوقعاتهم لأداء الاقتصاد العالمي. لم يختلفوا كثيرا في "عمق" فكرهم، عن الزعيم السوفييتي الأسبق جوزيف ستالين، عندما أبلغه مساعدوه: إن بابا الفاتيكان يزداد قوة على الساحة العالمية. ماذا رد عليهم؟. قال: "كم يملك البابا من الدبابات"؟!. والذي كان لافتاً في الحملة التي قام بها "الأبطال"، ضد "المتشائمين"، انضمام بعض وسائل الإعلام الأميركية الرصينة إلى الجوقة، وفي مقدمتهم صحيفة " نيويورك تايمز". لكن مع هبوب العاصفة، ووصولها ككارثة، سرعان ما تصالحت بعض هذه الجهات الإعلامية مع نفسها، واعترفت بخطئها.

بعد مرور عام ونصف العام تقريباً على اندلاع الأزمة، تخرج مجموعة من الأكاديميين والمفكرين والمراقبين، بجملة تحذيرات من مغبة وقوع أزمة جديدة، وليدة من أزمة الأمس. يحذرون من انكماش جديد، سيزيد من حجم الإعصار العالمي، ويجعل الآمال بنهاية للأزمة، مجرد أحلام تشبه "أحلام إبليس في الجنة". هذه المرة التزمت وسائل الإعلام الرصينة الصمت، وامتنعت عن نشر النعوت بحق هؤلاء، بل قامت بإبراز تحذيراتهم. فهي تعلم، أنها لو كررت خطأ الأمس، سوف تفقد توصيفها الرصين. وبول كروجمان ومعه جوزيف ستيغلتز الحائزان على جائزتي نوبل في الاقتصاد، من أبرز هؤلاء الذي كانوا يُوصفون بـ " المتشائمين" سابقاً. ماذا يقول كروجمان؟: "نحن نعيش ثالث أزمة مالية لها تداعيات عالمية بعد عامي 1873 و1929، وإذا استمرت الأمور كما هي على مستوى القرارات السياسية دون أن نشهد حصول انعطافة كاملة، فسنكون قد وضعنا أسس التعرض لأزمة جديدة". وفي السياق نفسه يقول ستيغلتز: "من المبكر جداً أن نقوم بوقف برامج الدعم – أو التحفيز - الاقتصادي، أو حتى خطط دعم المصارف. لم ننجح بعد في جعل الاقتصاد يقف على أسس صلبة، وإذا استمرت السياسات التي تهدد النظام المالي، فإننا أمام خطر حقيقي للوقوع في هوة موجة ثانية من الركود". ويتفق معها رئيس بنك التنمية الأوروبي السابق جاك أتالي، بأن العالم على شفير انكماش لم يشهده منذ قرن ونصف القرن!.

إذن.. علينا أن نترقب ونقول: أهلاً بمأساة اقتصادية جديدة، على أن تكون صغيرة. فالمآسي الكبيرة لا تزال تلف العالم، وتلف معها ساكنيه. وإذا كان هذا العالم شهد في السابق كساداً طويلاً وآخر عظيماً، فكساد الأزمة الراهنة ليس أقل من رهيب. وعلى الرغم من أن هذه الحقائق تتراكم شيئاً فشيئاً على الساحة، إلا أن المسألة برمتها ليست محصورة فقط، بوقف عمليات التحفيز، ومخططات الإنقاذ، ولا تكمن في فداحة الديون الحكومية، التي أصبحت جزءاً أصيلاً من الحراك الاقتصادي لغالبية دول العالم، لاسيما الكبرى منها، ولا بعدد العاطلين عن العمل، ولا حتى بخفض الإنفاق على التسلح، كما يدعو ستيغلتز. إنها تتعلق أولاً وأخيراً، بمدى سرعة صانعي القرار العالمي، بالتخلص من النظام الاقتصادي الرأسمالي القديم. وهذا لا يعني اعتماد نظام اشتراكي مغاير لهذا النظام. فقد أثبت النظامان فشلهما في الاستدامة، وحتى في استمرارية الانتعاش والاستقرار الاقتصادي - الاجتماعي بحدوده الدنيا. والمريب أن الدول الكبرى لا تزال تعاند الواقع، بـ "القتال" من أجل الإبقاء على النظام الاقتصادي الرأسمالي. ويعزز التلكؤ في وعودها بإصلاح هذا النظام، تلك الحقيقة. فلا هي أَصلحت، ولا استبدلت! ولم تقدم سوى مُسكِنات، لا ترقى إلى مستوى اسمها.

لن تتوقف التهديدات بانتكاسة جديدة للاقتصاد العالمي، إذا ما ظلت الدول الكبرى تهرب إلى الأمام، تجنباً للوصول إلى المصير الحتمي للنظام الرأسمالي، الذي أفقدته الأزمة العالمية كل أدواته، وبدلت الكثير من المعايير التي كانت في السابق لا تُمس. ويقول البروفيسور الأميركي ريتشارد وولف : "إن هذه الأزمة لم تبدأ في الأسواق المالية ولن تنتهي هناك. وهي ليست كما قيل إنها بسبب هذا العامل أو ذاك، بل هي أزمة النظام نفسه، ما يعني أن الحل الوحيد هو إجراء تغيير كلي على بنية الاقتصاد". لا أحد من الكبار التقليديين، يريد الحديث عن هذا الموضوع، ولهذا السبب فإن قمم الدول الكبرى، بما في ذلك قمم مجموعة العشرين، ظلت تدور في نطاق حلول آنية، ولا بأس من خلافات آنية هنا وأخرى هناك، تضيف مزيداً من العقبات في طريق الوصول إلى مشاريع حلول، لكي لا نقول : حلول.

لا وقت الآن للتشاؤم أو التفاؤل أو توزيع النعوت والاتهامات، أو التضارب بين الأكاديميين ومُحركي السوق. بل لا وقت حتى للإصلاح. لقد كان أمام العالم في الأزمات السابقة العديد من الطرق للخلاص منها، إلا أن طرق الخلاص من الأزمة الراهنة، لا وجود لها. وما يحتاجه العالم في أزمته، نظاماً اقتصادياً جديداً، يستبدل النظام القائم، وينهي إلى الأبد عنجهية أولئك الذين انتصروا في الحرب العالمية الثانية، وفشلوا في إيقاف مصرف واحد، كان يعمل "البحر طحينة"!.

الجمعة، 9 يوليو 2010

الإعلام الاقتصادي العربي.. البحث عن كيان

(هذا المقال خاص بمجلة إذاعة وتلفزيون الخليج)






" الأخبار الحقيقية.. هي الأخبار السيئة "
المعلم والمُنظر الإعلامي الكندي مارشال ماكلوهان




محمد كركوتــي

أعترف مسبقا، بأني لم أكن أتوقع حضوراً كبيراً للندوة التي أقامها "مهرجان إذاعة وتلفزيون الخليج في دورته الـ 11 التي عقدت في البحرين تحت عنوان "الإعلام الاقتصادي العربي.. ماله وما عليه". وأعترف بأني كنت قلقا - كمدير لهذه الندوة – من "شح" الحضور، على اعتبار أن هذا النوع من الإعلام، لا يزال "إعلام النخبة"، بل لا أبالغ إن كنت: "إنه إعلام مجهول"!. ولأن الأمر كذلك، فقد حسبت – قبل الندوة- بأن المشاركة في حراكها، ستوازي تواضع زخم حضورها، خصوصا في ظل فعاليات ونشاطات ومناسبات مثيرة، ازدحمت بها أيام المهرجان، أضفت عليه سحرا يستقطب الباحثين عنه. وفي ظل هذه الأجواء، كيف يمكن للإعلام الاقتصادي العربي، أن يعثر على موطئ قدم؟. وكيف يمكن أن "ينافس" أمسية فنية هنا، وحفل توزيع جوائز هناك، ومعرضاً يضم أحدث المنتجات الإذاعية والتلفزيونية؟. بل كيف يمكن أن "يتنافس" في زحمة وجود نجوم فنية خليجية وعربية متألقة؟!.

اعترافي المسبق هذا، بأن ندوة "الإعلام الاقتصادي العربي"، لن تلقى إقبالاً مؤثراً، يفرض عليَ اعتراف آخر بعدها، وهو أنني كنت مخطئاً، وضعت التشاؤم في حده الأقصى، بعد أن بالغت في تقديراتي المُحبِطة!. على العكس تماما، استقطبت هذه الندوة أعداداً غير متجانسة من الحضور، وهو أمر يصب في صالحها. وأعني بغير متجانسة، أنها جمعت حضورا من كل الشرائح، بما في ذلك رؤساء ومدراء مؤسسات إعلامية عربية كبرى ودارسين وفنانين ومنتجين وصحافيين وإعلاميين من كل الأعمار. هذا المشهد منح هذا الإعلام، شيئاً من الدعم الذي يفتقده، وأساساً يحتاجه للانطلاق نحو قراءة مستقبله، ووضعه في دائرة الضوء، التي لم يدخل إليها منذ انطلاقه في الأجواء العربية، بصرياً وسمعياً وورقياً. لقد أثبتت ندوة " الإعلام الاقتصادي العربي.. ماله وما عليه"، أن هناك من يسمع، وهناك من يشاهد، وهناك من يرغب في دفع هذا الإعلام إلى المكانة التي يستحقها، وسط الاهتمام الكبير في بقية القطاعات الإعلامية.

لقد كانت الندوة حية بكل معنى الكلمة. وأشركتْ مادتها الغالبية العظمى من الحضور، الأمر الذي أحدث تضارباً مع الوقت الذي خصص لها. ولأننا احترمنا المدة الممنوحة، فقد خسرنا مجموعة من المداخلات أحسب أنها كانت ستصب في قلب الموضوع المطروح. يمكن أن نعتبر هذه الندوة، بمثابة خطوة أولى على طريق الوصول إلى معالجة حقيقية للإعلام الاقتصادي العربي بشكل عام، والإعلام الاقتصادي العربي الإذاعي والتلفزيوني بشكل خاص. أما لماذا الاهتمام بهذا الأخير؟ فلأنه بات – ومنذ سنوات – أكثر تأثيراً على الملتقي، وأكثر وصولاً إليه. ولذلك فإن المسؤولية تقع عليه بصورة أعمق من الإعلام الورقي، الذي يفقد تدريجياً وجوده على الساحة العربية، بنفس الوتيرة التي يفقد بها تأثيره عالمياً.

الصدى الذي أحدثته الندوة الأولى من نوعها في تاريخ "مهرجان إذاعة وتلفزيون الخليج"، يطرح ضرورة "التأسيس" لعلاج الخلل في الإعلام الاقتصادي العربي، على الرغم من أنه حديث عهد، فيما لو قورن بالقطاعات الإعلامية الأخرى. فهناك الكثير من الأسئلة ينبغي الإجابة عليها، في أكثر من ملتقى أو تجمع أو ندوة أو مهرجان. أسئلة لا ترتبط بمستقبل هذا النوع من الإعلام فقط، بل تتعلق بالرابطة بينه وبين المتلقي. فلا تزال هناك شرائح واسعة تعتبر الإعلام الاقتصادي نوعا من أنواع "إعلام النخبة". هل هو كذلك بالفعل؟. هل وصل هذا الإعلام إلى مرحلة من النضوج، تكفل الحق لمن يريد أن يحاسبه؟. هل يمكن أن نصفه "بالإعلام الشامل" لهذه المادة الحيوية؟. هل قدم هذا الإعلام الاقتصاد من مفهوم المجتمع، أم العكس؟. ولمزيد من الأسئلة، هل كان هذا الإعلام على مستوى الأزمات، لاسيما الأزمة الاقتصادية العالمية التي لا يزال العالم يعيشها اليوم؟. هل استطاع – مثلاً – أن يقدم الخدمة المطلوبة للمستهلك والمستثمر في آن معاً؟. هل يمكن المقارنة بين الإعلام الاقتصادي العربي والأجنبي؟. هل نقص المعلومة الاقتصادية، هو السبب في تردي أوضاعه؟. وقبل هذا وذاك، هل "ينعم" هذا الإعلام بكوادر مؤهلة لخوض غماره؟.

الأسئلة – كما نرى – كثيرة ومتشعبة، تحتاج إلى طرح متواصل، ومعالجة متمكنة. لاسيما وأن الإعلام الاقتصادي في حقيقته، هو الأقرب للحالة المعيشية للمتلقي، وليس بعيداً -كما يظن البعض- عن القاعدة الشعبية. فهو مرتبط بالمستهلك الذي يشكل المجتمع، لا العكس. لقد طُرحت هذه الأسئلة وغيرها في ندوة " الإعلام الاقتصادي.. ما له وما عليه"، وأتت الطروحات والنقاشات بعدها بالكثير من الأفكار التي يمكن أن تكون محاور لورش عمل، بل ولملتقى مخصص لهذا الموضوع – القضية. الجميع رغب في دور أكثر فاعلية للإعلام الاقتصادي على الساحة العربية، وحاول الجميع تحديد أماكن الخلل التي ينبغي العمل على إصلاحها، من أجل إعلام اقتصادي مستدام ومؤثر. حرص المشاركون والحضور على التركيز على قضية مهمة جداً، وهي أنه لا يمكن أن تطرح قضية هذا الإعلام من جراء أزمة عالمية أو حتى عربية، وأن هناك نقص في الكوادر العاملة في هذا المجال، بل وقصور في كفاءة نسبة كبيرة من الإعلاميين الاقتصاديين. وهذا أيضاً يطرح مسألة غياب المؤسسات أو الجهات، التي توفر التأهيل اللازم لهذا النوع من الإعلاميين، خصوصا وأن وسائل الإعلام الاقتصادية العربية الموجودة على الساحة، لا تزال دون مستوى التحول إلى مؤسسات تدريبية أو تأهيلية في هذا المجال!.

هناك أيضاً القضية الأهم، وهي "الإعلام الاقتصادي والمستهلك". هذه القضية يمكن أن تشكل القاعدة الأساس لتطوير أداء هذا الإعلام، وجعله أكثر التصاقا بالمتلقي. والإذاعات ومحطات التلفزيون لا بد أن تكون في قلبها. لماذا؟ لأن الإعلام الاقتصادي هو أكثر قرباً من المادة الخدمية التي تشكل أساس الأداء اليومي للمجتمع. لقد وجدت هذه القضية اهتماماً كبيراً من المشاركين والحاضرين في الندوة، وأجمعوا على أن المستهلك يجب أن يشكل منطلقاً للمادة الاقتصادية المُقَدمة. يضاف إلى ذلك، أن إعطاء المستهلك "حقه الإعلامي"، سوف ينعكس إيجاباً على المؤسسات الإعلامية من خلال تدفق الإعلانات إليها. إن الإعلام الاقتصادي العربي، يمر بمرحلة صعبة للغاية، ولا أبالغ إن قلت: " إنه في مرحلة البحث عن كيان بعد حصوله على الهوية"، وتزداد مصاعبه كلما تعمق غيابه المؤثر على الساحة الإعلامية. ففي المؤسسات الإعلامية الغربية الناضجة، لا يتم التعاطي مع الخبر الاقتصادي كمادة من الدرجة الثانية، إذا ما كان يستحق بالفعل الدرجة الأولى. وقد أوجد هذا السلوك الإعلامي وعياً عميقاً لدى المتلقي في البلدان الغربية. فالمادة الاقتصادية ترتبط بلقمة العيش مباشرة، وهذا أمر من الأولويات.

مرة أخرى، يمكننا التأسيس على ما طُرح في ندوة " الإعلام الاقتصادي.. ماله وما عليه"، ويستطيع "مهرجان إذاعة وتلفزيون الخليج"، أن يأخذ زمام المبادرة ، خصوصاً وأنه لأول مرة في تاريخه قدم في دورته الـ 11 جوائز لبرامج اقتصادية. إنها خطوة مهمة على صعيد التشجيع، و على طريق فهم قطاع لا يقل أهمية عن أي قطاع إعلامي آخر.


الثلاثاء، 6 يوليو 2010

دموع صادقة لا وقت لها؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")








"عمالة الأطفال والفقر مصيبتان مترابطتان. إذا واصلت تشغيل الأطفال كعلاج للفقر، ستحصل على مصيبتين متكاملتين معاً في النهاية"
الخبيرة الاجتماعية الأميركية جريس آبوت

 
محمد كركوتــي
 
يعمل أحمد رمضان، البالغ من العمر 13 عاماً، 11 ساعة في اليوم في مخبز يقع في حي خربة خير الله الفقير في القاهرة. ويقول إنه يتعامل مع آلات خطرة، ويتعرض لحرارة الفرن الشديدة للغاية، ويعاني من معاملة سيئة من قبل رب العمل. ويشكو ظروف عمله قائلا: "أستيقظ كل صباح في الساعة السادسة وأسرع إلى المخبز، لأحصل على فرصة العمل هناك في اليوم ذاته. فبالرغم من كون المخبز يتعامل مع أربعة أطفال، إلا أنه لا يقبل سوى أول الواصلين كل يوم". وإذا تمكن أحمد من الوصول أولاً، فإنه يجني 15 جنيهاً (2.6 دولار) في اليوم، تذهب لمساعدة أسرته على دفع الإيجار وفواتير الماء والكهرباء. هذا إن غطت هذه "الأعباء" الأساسية!. إنها قصة نشرتها "شبكة الأنباء الإنسانية" المعروفة اختصاراً بـ ( إيرين)، وهي تابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أو ( أوتشا). إنها حالة واحدة من ملايين الحالات المشابهة في العالم العربي. طفل ( أو طفلة) يعيل أسرته. طفل بالغٌ في العمل، لكنه ليس كذلك في البدن. طفل هو رمز من رموز "منظومة" تشغيل الأطفال، وهو الاسم الألطف لـ "منظومة قتل الأطفال ومعها الطفولة".

قبل عام تقريباً، كتبت في هذا الموضوع المشين تحت عنوان " عفواً.. وظيفتك سيشغلُها طفل!"، وأجدني ملزماً في التعاطي مع هذا الملف المعيب، كلما سنحت الفرصة. ولأن الفرص سانحة دائماً في هذا المجال - من فرط تفاقم المصيبة – فإن القضية تستأهل الوجود الدائم على "سرير" العمليات لا العلاج. فقد تجاوزت مرحلة المعالجة، لتنتقل إلى مرحلة الاستئصال والعمليات الجراحية الحاسمة. لا.. لم يقم العالم بما يجب عليه أن يقوم به، لنسمح له بالقول: " تركنا الباقي على الله". لقد شبعنا ادعاءات لا حصر لها، و بطولات ( لاسيما الغربية منها) بلا سقف، وكانت النتيجة، وصول أفواج من العمال الصغار "الهرمين" إلى سوق العمل. قبل عام كتبت: "هذه القضية – المصيبة وليدة الأمس لا اليوم، والأزمة الاقتصادية العالمية بريئة من إحداثِها، لكنها مُدانة في استفحالها، وفي ارتفاع عدد ضحاياها". حاولت أن أكون أقل عنف في توصيف الحالة من "قتل الأطفال والطفولة" إلى "الأطفال الهَرمون"! أو "الأطفال الكبار قسراً"! أو "الأطفال البالغون بقرار"!. يقول زعيم التبييت المنفي دالاي لاما (لاما تعني بلغة التبييت "محيط الحكمة"): "إن مشاكل هذا العالم بما في ذلك تشغيل الأطفال والفساد، هي أعراض لأوبئة روحية، وافتقار إلى الرحمة". ولعلي أضيف.. أن تشغيل الأطفال، هي عملية تقوم على أخلاق موبوءة – إن وجدت الأخلاق أصلاً. وقالت بعد لاما، طفلة بنجلادشية، هي سلطانا تبلغ الثانية عشر من عمرها، وتعمل في مصنع للملابس: " لماذا ينبغي علينا دفع فاتورة الفقر؟. نحن لم نصنع الفقر، البالغون هم الذين صنعوه".

يتجاوز عدد الأطفال في العالم العربي 130 مليون طفل، أي ما يوازي 60 إلى 65 في المائة من المجموع الكلي للسكان. ويصل عدد الأطفال العاملين فيهم إلى 12 مليون طفل، عشرون في المائة منهم دون سن العاشرة ( يبلغ عدد الأطفال العاملين في العالم قبل الأزمة الاقتصادية العالمية 250 طفل، ومن المرجح أنهم وصلوا الآن إلى 300 مليون) . وطبقاً لوكالات رعاية الطفولة العربية، يعمل الأطفال العرب في معظم مجالات العمل المتاحة. فعلى سبيل المثال، يعملون في زراعة التبغ في جنوب لبنان، وقطف الياسمين في مصر، والزراعة في الريف اليمني والمغربي، وصيد الأسماك في اليمن ومصر وتونس، والخدمة في المنازل في مصر وسوريا والمغرب، وفي الصناعات الخطرة مثل الدباغة في مصر، والسجاد في المغرب وتونس، وفي ورشات إصلاح السيارات أو بيع الحاجيات، والقيام ببعض الخدمات البسيطة كغسل السيارات أو تلميع الأحذية في الشوارع في معظم الدول العربية!. وكما هو حال مخططات التنمية بصورة عامة في العالم العربي، فإن برامج الحد من تشغيل الأطفال، تشبه عمليات الحد من الفساد. لا شيء على الصعيد العملي يتحقق في كلا القضيتين. والمريع، أن هذا التشغيل المشين، أصبح جزءاً أصيلاً من الحياة الاجتماعية، في غالبية الدول العربية، وقد اختُرعت له تسمية مريعة هي " مساعدة الطفل لأسرته"!، لكنها في الواقع هي " إعالة الطفل ( أو الطفلة) لأسرته"، لأننا نعرف أن المساعدة لا تكون في أي حال من الأحوال دائمة، بل هي في غالبية الأحيان مرحلية أو مؤقتة.

إذا كانت هناك قضايا اجتماعية ومعيشية تستدعي حملات وبرامج توعية وطنية ومحلية، فهي لا تنطبق على مسألة تشغيل الأطفال. فالتوعية في مسألة التعليم والاستهلاك والبيئة والتنمية البشرية وغيرها، تمثل ضرورة حتمية، في عملية البناء في بعض المجتمعات الموغلة في البدائية، والإصلاح في المجتمعات التي وصلت إليها "نسائم" حضارية – اجتماعية، غير أن الأمر ليس كذلك فيما يرتبط بالأطفال العاملين. الذي ينفع في هذه الحالة – تحديداً – استحضار ظروف اجتماعية، تحد من فقر الأسرة أولاً، وتدفع بقوة باتجاه تعليم الأطفال. والمعادلة ليست صعبة الفهم، هي ببساطة على الشكل التالي: " عدم التعليم + فقر = سوق عمالة هائلة للأطفال"!. وعندما يبلغ عدد الأطفال العاملين في اليمن – طبقاً لإحصائيات العام 2000 لا 2010 – 9,1 في المائة من إجمالي القوى العاملة، وعندما يبلغ عدد الأطفال المصريين العاملين ( حسب إحصاء 2001) الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عاماً أكثر من 2,7 مليون طفل ( ما يوازي 21 في المائة من مجموع الأطفال ذوي الفئة العمرية نفسها)، وعندما يصل عددهم في سوريا – حسب دراسة للأمم المتحدة عام 2002- إلى ما يزيد عن 18 في المائة، يعني أن هذه المصيبة، في طريق "المأسسة"، هذا إن لم تكن قد "تمأسست" فعلاً. لماذا؟ لأن العدد في تزايد، ولأن الإحصائيات المتداولة، إما قديمة العهد، أو لا تغطي العدد الحقيقي لهؤلاء الصغار "الهرمين".

في منتصف القرن الماضي، قال الأديب والكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل: "إذا أردت أن تعرف شكل الإنسانية في المستقبل، تخيل صورة وجه إنسان، على خده طبعة حذاء". واسمح لنفسي بالتصرف فيما قاله أورويل، فأقول : "إن شكل الإنسانية الآن، هي عبارة عن صورة طفل في الخامسة من عمره، يعمل في مصنع"!. إن هذه المصيبة الإنسانية، لم تنفع معها في السابق إدانات منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الأخرى غير الحكومية، ولم تجدي معها أيضاً توسلات القائمين على الجمعيات الخيرية. وقد أثبتت "الدموع الصادقة"، على عدم أهميتها، في ظل تعاظم المصيبة، مع غياب إرادة محلية – وطنية أولاً، ودولية ثانياً. صحيح أن تشغيل الأطفال في العالم العربي، هو جزء من هَمٍ عالمي، لكنه لا يزال دون مستوى الحراك الذي تقوم به الحكومات العربية. كيف يمكن التأسيس لمستقبل فيه لمحة إشراقة – لا إشراقة كاملة – بينما عناصره تقبع في جوف مستودع، وقرب جحيم فرن، وفي ركن مصنع، وفي عبودية الَدين.

إنها مسألة – كما الفقر – ليست مرتبطة بالاقتصاد فقط، بل متشابكة بالأخلاق. إنها ليست مسؤولية الأسرة التي لا تجد لقمة عيش، بل واجب مجتمع، لا يستحق اسمه، إذا ما سمح لطفل يمسح ويلمع الأحذية على قارعة الطريق!.

السبت، 3 يوليو 2010

نادي دبي للصحافة يحتفل بتوقيع كتاب "زوبعة خارج الفنجان"

دبي:  نظم نادي دبي للصحافة في مقره بدبي، حفل توقيع كتاب محمد كركوتي "زوبعة خارج الفنجان"، الصادر عن مركز الإمارات للدراسات الاقتصادية. وصاحب حفل التوقيع حلقة نقاش، أدارتها المذيعة في محطة ( سي إن بي سي عربية) نهى علي، والصحافية في جريدة "الإمارات اليوم" علا الشيخ، وضمت العديد من الكتاب والصحافيين والنقاد.

وهذا الكتاب هو الثاني لـ كركوتي – بعد الأول "في الأزمة" - الذي صدر حول الأزمة الاقتصادية العالمية بحقائقها ومصائبها، بصدماتها وبديهياتها، بجرائمها و"جُنَحها"، بعنفها الكبير و"فجورها" الأكبر. ويقع "زوبعة خارج الفنجان" في 476 صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن مجموعة كبيرة من البيانات والإحصاءات، التي تعزز مادته. ويقول كركوتي في تقديم كتابه: "لولا الضرورات المهنية لأضاف كلمة (جشع) إلى عنوانه الفرعي، وبذلك تكتمل صورة الأزمة، بأوضح رؤية.. لكن بأقبح منظَر". ولو استطاع أن ينشره بعنوانين فرعيين، لأضاف "المال يتكلم .. ويشتم أيضاً". فالعنوان الأول يكمل الثاني، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأخلاقياً. ويرى كركوتي، أنه على الرغم من الانتعاش الهش أحياناً، والمقبول أحياناً أخرى، إلا أن هذه الأزمة ستبقى مستحقة للعديد من الكتب والبحوث والدراسات العربية لفهم جوانبها بصورة أعمق، ولكن بصورة يسيرة الوصول. أما لماذا يسيرة الوصول؟ فلأنها ضربت بأعاصيرها، كل شيء وأي شيء. أصابت رؤساء دول ومؤسسات قيل أنها لا تُقْهر، وأصابت أيضاً عمال التراحيل وأسواق بدائية تُقْهر على أي حال!. خصوصاً وأنه لم يتم العثور على ناجين في هذه الأزمة، أما جرحاها فسيظلون لزمن طويل يعيشون آلام الجراح.

ويعتقد الكاتب، أن الأزمة تحدث الآن، طالما أن عمليات التحفيز والإنقاذ والإسناد الحكومية متواصلة، وطالما شددت المؤسسات الدولية الكبرى وفي مقدمتها " صندوق النقد والبنك الدوليين"، على أن توقف هذه العمليات يهدد كل خطوة نحو الانتعاش. والمصيبة أن الانتعاش الحقيقي المرجو، لا يوجد "على الناصية"، وليس قريباً من الآمال. فحتى المتفائلين يتحدثون عن خمس سنوات أخرى، لخروج الاقتصاد العالمي نهائياً من "الزجاجة"!. فالأزمة التي انفجرت في القطاع المالي – المصرفي، وصلت شظاياها إلى مناطق في هذا العالم، لم تعرف بعد بوجود مصارف، وأماكن لا يزال " اقتصادها" قائم على المقايضة! يضاف إلى ذلك، أن الأزمة ستواصل "حدوثها الآن" طالما ظل العالم بلا نظام اقتصادي جديد، يستبدل بصورة كاملة ذلك النظام، الذي حضَر أزمات لكل عقد تقريباً على مدار سبعة عقود من الزمن. كان – ولا يزال - نظاماً طبقياً متحرراً من كل الضوابط، لاسيما الأخلاقية منها. كان نظاما استبدادياً، وضع السوق كـ "آلهة" وعبدها، وهاجم كل من يشكك في هذه "إلوهيتها"!

تضمن "زوبعة خارج الفنجان" ثمانية فصول، تناولت كل الجوانب التي نالت الأزمة منها، بما في ذلك الجوانب التاريخية والسلوكية والأخلاقية والإنسانية.