الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

"تسويق" حكومي أجنبي بفضائيات عربية


(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




" البث التلفزيوني الحكومي، يقوم على التبليغ لا على توصيل المُعلنين إلى المستهلكين"

بات ميتشيل الرئيسة التنفيذية
لمركز بالي الأميركي للإعلام
(متحف الإذاعة والتلفزيون سابقا)

 
 
محمد كركوتــي
 
لم يحظ المشاهد العربي في السابق تدافعا نحوه من جانب حكومات أجنبية، عن طريق إطلاق قنوات فضائية مجانية ناطقة باللغة العربية، كما يحظى اليوم. فقد تحول إلى هدف معلوم، لجهات معلومة أيضا، ومتلقي "متخم" بكل أنواع الفضائيات، بما في ذلك فضائيات التداوي بالأعشاب، وترتيب أطباق الطعام في الخزائن، وكيفية شرب المياه، وأغاني الـ "إس إم إس". ( يوازي عمق "طرب" هذه الأخيرة، مستوى "بلاغة" المفردات المستخدمة في الرسائل النصية القصيرة)!. فعلى مدى أعوام قليلة عج الفضاء العربي بفضائيات، بلغ نشاط توالدها معدل فضائية واحدة كل أسبوع، بصرف النظر عن جودتها ومهنيتها وحتى جدواها. لقد كانت الأموال متوافرة، في عالم كان يعيش طفرة اقتصادية تاريخية، تحولت في مساحة زمنية ليست طويلة، إلى قنبلة انفجرت في كل الأرجاء، لتخلف أزمة اقتصادية غافلت حتى أولئك الذين كانوا يصنعونها!. لن أتحدث هنا عن "البقالات الفضائية"، فبعضها انتهى – بفعل الأزمة- وبعضها الآخر ينازع، لأن الطفرة – عادة – لا تدوم طويلا، وهي على عكس النهضة التي تكفل استمراريتها الذاتية، أو على الأقل تضمن قدرتها على إعادة الانطلاق، في أعقاب حالة تستدعي التباطؤ في مرحلة ما.

توصيف "البقالات الفضائية"، لا ينطبق بأي حال من الأحوال على الفضائيات الأجنبية الناطقة بالعربية. فوراء هذه الفضائيات دول كبرى، لها القدرة على إطلاق فضائيات "يومية"، وتحظى بمكانة – وفي كثير من الأحيان بهيبة - عالمية تؤهلها لامتلاك فضائيات بكل اللغات. لكن هذا لا يعني أن الفضائيات العربية الحالية المملوكة لدول أجنبية، تتمتع بميزانيات مفتوحة. ففي هذه الدول أنظمة محاسبة شعبية - برلمانية، لا يمكن لحكوماتها تجاوزها، وعلى هذه الأخيرة التي تدفع اليوم لفضائيتها العربية – وغير العربية – أن تبرر غدا مدفوعاتها. والخزائن العارمة ( أو التي كانت عارمة) في هذه الدول ليست مفتوحة دائما، لكنها تفتح وفق قواعد إجرائية ومهنية متعارف عليها.

في الفضاء العربي حاليا، باقة من الفضائيات الأجنبية – العربية سعت وتسعى إلى وجود لدولها على الساحة العربية، لاسيما في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، اليوم الذي غيرت فيه الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة الأميركية شكل العالم، وغيرت معه أدوات التشكيل أيضا. يضاف إلى ذلك "استحقاقات امتداد" العولمة – قسرية كانت أم طوعية – على الساحة الدولية، دون أن أستبعد تعاظم الفقاعة الاقتصادية العالمية منذ مطلع القرن الحالي. وباستثناء بريطانيا التي أطلقت فضائيتها العربية ( بي بي سي) في منتصف تسعينات القرن الماضي لفترة وجيزة، وأعادت إطلاقها قبل عامين ونصف العام تقريبا. فإن بقية الفضائيات الأخرى بدأت بإطلاق نفسها تباعا مع بداية الألفية الحالية. الولايات المتحدة الأميركية دخلت بـ " الحرة"، وتبعتها روسيا بـ " روسيا اليوم"، وفرنسا بـ " فرانس 24"، وألمانيا بـ " دويتشه فيلله". ولأنه كما يقول المصريون:" ما فيش حد أحسن من حد"، خاضت الصين غمار الفضاء التلفزيوني العربي بفضائية عربية، وكذلك فعلت كوريا الجنوبية بفضائية مُعرَبة. بل حتى الدنمارك درست – ولا تزال تفكر – إمكانية إطلاق فضائية موجهة إلى العرب.

ولكن هل يمكن لهذه الفضائيات أن تستقطب العدد الذي يبرر وجودها من المشاهدين العرب، في ظل فضاء عربي مفتوح، لا يشبه الفضاء التلفزيوني الذي كان يخيم على المنطقة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي؟. وهل يمكن للمادة العربية الأكثر حرية (الآن) في هذه الفضائيات، أن تغري هذا المشاهد بمتابعتها؟. وهل استطاعت أن تَوصِل بصورة "رشيقة" رسائل دولها إليه؟. لاشك في أن هذه الفضائيات أحدثت حراكا إيجابيا في عمليات تطوير القنوات الأرضية والفضائيات الحكومية العربية، لكنها لم تكن الأولى في هذا المجال. فقد استطاعت فضائيات عربية صرفة تتمتع بحد أعلى من المهنية الإعلامية، أن "تُجبر" عددا كبيرا في المحطات الحكومية في العالم العربي على التطوير – بصرف النظر عن مستواه وزخمه – وجعلت الحكومات أكثر خشية على مصير محطاتها. فعندما لا يكون هناك منافس، تغيب عادة معاول الإبداع. ولذلك لم تشكل الفضائيات الأجنبية – العربية عاملا رئيسيا في هذا المجال، وإن مثلت أداة مساعدة للتحفيز نحو التغيير أولا، وتلطيف الخطاب الحكومي ثانيا. يضاف إلى ذلك أن الفضائيات العربية (الصرفة) تجاوزت الحكومية بأشواط طويلة جدا، الأمر الذي جلب لها شرائح متعددة ومتنوعة وعريضة من المشاهدين العرب. فعندما كان المشاهد العربي يفضل – على سبيل المثال - الـ " بي بي سي" العربية في تسعينات القرن الماضي على قنوات بلاده، لم تكن في الأجواء العربية فضائيات أخرى أصلا، ولذلك كان يرى في هذه المحطة الأجنبية "ملاذا ومصدرا آمنا وصادقا" للحصول على معلومة ذات جودة عالية.

أما بالنسبة إلى المادة المقدمة. فقد تحسن مستواها في الفضائيات العربية – مرة أخرى الحرفية – وباستثناء بعض المحظورات (وهي قليلة بالفعل)، فإن مادة الفضائيات الأجنبية العربية، لا تسجل تفوقا عارما على مثيلاتها العربية. بل أن بعض الفضائيات العربية تقدمت في المادة الإخبارية في كثير من الأحداث الرئيسية، لأنها كانت تنفق عليها أكثر من إنفاق الأجنبية نفسها. وطبعا لا مجال للمقارنة في المادة الدرامية، بين الأجنبية ونظيراتها العربية. فهذه الأخيرة، تولي اهتماما كبيرا لهذه المادة، التي توفر لها أعلى درجة من المشاهدة، بينما لا تبدي "الأجنبية" أي اهتمام في هذا المجال.

لست متأكدا من أن الفضائيات الأجنبية تمكنت من تسويق دولها للمشاهد العربي. فهذا النوع من التسويق، يواجه عادة مصاعب كبيرة في تحقيق أهدافه، حتى في الدول التي تمتلك أدوات إعلامية متطورة. وأذكر أنني كنت ضيفا على إحدى هذه الفضائيات، أناقش موضوع الأزمة الاقتصادية العالمية، وأداء الدول الكبرى في مواجهتها، عندما أرادت المذيعة أن تدفعني للإشادة بأداء الدولة التي تمول هذه الفضائية. وعلى الرغم من "مقاومتي" الحوارية لكي لا أنجر ورائها، ظلت "تقاوم" من جانبها، إلى أن تمكنتُ من تحويل مجرى الحديث بصورة غير مباشرة، حفاظا على مستوى الحوار. إن الغالبية العظمى من مشاهدي الفضائيات – عربا أم أجانب – ليسوا مغرمين في متابعة " تسويق الدول". بل يسعون من خلال متابعاتهم التلفزيونية إلى مزيد من الخدمات (بكل قطاعاتها) وبالطبع يتطلعون إلى الترفيه. وإذا أرادت الدول التي تمتلك الفضائيات العربية تسويق نفسها للمشاهد العربي، عليها أن تتوجه إلى هذا المشاهد المقيم فيها في الدرجة الأولى. فهذا الأخير يحتاج بالفعل إلى مزيد من جرعات التعريف والتوعية المحلية، وهو أمر ليس متوافرا في أكبر الدول وأكثرها رسوخا، لاسيما وأن هناك جاليات عربية متعاظمة في البلدان نفسها، تحتاج أيضا إلى ما يمكن تسميته " الإشراك" في المجتمعات التي تعيش فيها، ليس من أجل الذوبان في هذه المجتمعات، بل للحصول على دور أكبر في عملية التنمية والتطور والتثقيف، وحتى المشاركة السياسية والاجتماعية.

أي أن تكون في الدول المتدافعة نحو المشاهد العربي في المنطقة العربية، وسائل إعلام تدعم المشاركة على صعيد الأجانب الذين يعيشون فيها. وهي بذلك تستطيع أن تحقق الكثير من الأهداف الذاتية، بينما ستكون عملية تسويق الدول نفسها أكثر سهولة ومنطقية في مرحلة لاحقة. وأحسب أن هذه الدول تعرف، بأن الفضاء العربي المليء بقنواته التلفزيونية الخاصة، ليس سهل الاختراق، خصوصا عندما يكون الهدف "تسويقا حكوميا".


الأحد، 22 نوفمبر 2009

بلير يخرج قبل أن يدخل!


( هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")











" السياسي يحتاج إلى القدرة على تنبؤ حدوث الشيء غدا.. وفي الأسابيع والشهور والأعوام المقبلة. وأن تكون له القدرة بعد ذلك على تفسير عدم حدوثه"
رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل


محمد كركوتــي

عندما خرج رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير من الحكم، كتبت مقالا تحت عنوان "بلير.. الخروج من الباب الخلفي". فهو لم يستطع الخروج من الباب الأمامي الذي دخل منه، كواحد من أقوى رؤساء الوزراء برلمانيا و"شبابيا" في التاريخ البريطاني، بعدما فشل في العثور على من يتفق معه في سياسته الخارجية ( لاسيما المرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية). فقد أراد أن يكون قائدا دوليا، لكنه اختار أسوأ الأدوات لتحقيق أمله هذا. فخسر "حلمه الدولي" في القيادة، قبل أن يخسر "حلمه الوطني" في الاستمرار أطول فترة ممكنة حاكما. ومع ذلك.. فالرغبة في الاستمرار على مسرح الأحداث لم تتراجع عند رئيس الوزراء البريطاني السابق. فقد اقتنص موقعا دبلوماسيا على ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، لكن عيناه لم تغب عن منصب رئيس الاتحاد الأوروبي. فهو موقع مرموق جديد، سيُدخل بلا شك شاغله التاريخ من بابه الواسع، لا من "مخرج الفرار" الضيق، وسيكرس الفائز به، كشخصية سياسية جامعة، لا كشخصية مفكِكة. لكن توني بلير خرج من أرفع منصب أوروبي، قبل أن يدخل إليه أصلا، بل قبل أن يُعتمد هذا المنصب في الهيكلية الإدارية والسياسية للاتحاد الأوروبي!.

وإذا كان "الالتصاق" البريطاني في عهد بلير، بالولايات المتحدة الأميركية في عهد جورج بوش الابن، سببا رئيسيا في رفض قبول ترشح الأول لموقع رئيس الاتحاد الأوروبي، فإن هناك عوامل أخرى، ساهمت في بقاء بلير مندوبا لـ "الرباعية الدولية" إلى مفاوضات الشرق الأوسط فقط. فلم تشفع له "توسلات" خلفيته جوردون براون أمام صناعي قرار التوظيف الأوروبي. وأحسب أن هذا الأخير، ما كان ليتوسل، إلا لكي يتخلص من "شبح" بلير على ساحة حزب العمال البريطاني الحاكم، الذي خرج من زعامته رئيس الوزراء السابق، كـ "اقتلاع الضرس" من دون تخدير. وقبل أن أتحدث عن العوامل الأخرى، التي أبقت بلير بعيدا عن رئاسة الاتحاد الأوروبي، لابد من الإشارة هناك، إلى التأثيرات السلبية لما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، عن علاقات بلير ببوش الابن، وعن المرحلة التي اختلط فيها على العامة، إذا ما كان بوش يحكم بريطانيا بالفعل!.

كان هناك من يرى، أن "التلاحم" بين الرجلين، لم يكن خاطئا، بل على العكس، كان ضروريا، لماذا؟. لأن وجود شخص كتوني بلير، مع آخر أحمق وأمي سياسي كجورج بوش الابن، يشكل توازنا مطلوبا، ويقلل من الحماقة "البوشية" التي شملت كل شيء خارج الولايات المتحدة وداخلها. ولكن ماذا يقول باول هنا :" لقد حاولت ومعي زميلي وزير خارجية بريطانيا آنذاك جاك سترو، أن نجعل بلير يُقدم على مراجعة بوش الابن". ويضيف قائلا:" لقد وجدنا أن رئيس الوزراء البريطاني السابق، جاهز لمراجعة بوش حول العديد من القضايا، وفي مقدمتها الشأن العراقي. لكن ما أن يرى بلير الرئيس الأميركي حتى يفقد عزمه"!!.

إذن.. لم تكن العلاقة ضرورية بين الاثنين، إذا لم تصل إلى مستوى، يمكن توني بلير "الحكيم والسياسي المحنك" من مراجعة بوش " الأحمق والسياسي الجاهل". ويضاف إلى "قنبلة" باول التي انفجرت في وجه بلير، أن الاتجاه لتقديم رئيس الوزراء البريطاني السابق إلى محاكمة بسبب حربه في العراق، أو على أقل تقدير استجوابه "بعنف تحقيقي" - غير جسدي بالطبع- لإشراك بلاده في حرب غير مبررة من الناحية القانونية أو لنقل: من الناحية المعلوماتية، لاسيما فيما يتعلق بالقدرات النووية العراقية التي لم تكن موجودة أصلا، هذا الاتجاه، ساهم هو الآخر في إبقاء بلير خارج المنصب الأوروبي الأكبر.

أما من الناحية الأخرى، فيرى الأوروبيون الموالون للاتحاد الأوروبي، أن توني بلير، لم يقم بما يكفي من خطوات عملية، لدمج بلاده بالاتحاد، خلال فترة حكمه التي دامت قرابة العشر سنوات. فلا تزال بريطانيا خارج نطاق منطقة اليورو، ولم تقم – حتى الآن – بإقرار الدستور الأوروبي، ولا تزال تعمل على بعض " الجبهات"، كبريطانيا لا كدولة عضو في اتحاد يتكرس يوما بعد يوم، ويتحول شيئا فشيئا إلى دولة واحدة. والأوروبيون الذين رفضوا توني بلير رئيسا للاتحاد، يعتقدون بأن هذا الأخير، يمثل الماضي ولا يرتبط بالمستقبل. وهذا لوحده سببا كافيا، لإبقاء بلير في أي مكان، إلا المكان الأوروبي.

والحقيقة، أن هؤلاء يمسكون بمبررات لا تقهر في هذا المجال. فكيف يمكن أن يأتي شخص من بلد ليس مندمج تماما مع وتيرة اندماج الاتحاد الأوروبي، ليكون رئيسا لهذا الاتحاد؟!. وكيف يمكن القبول بهذا الشخص، بينما لا تزال شوائب علاقاته مع إدارة بوش السابقة، على الساحة، بتداعياته وتبعاتها؟.

إنها مسألة فيها الكثير من النظر، والكثير من المنطق، والكثير من الحكمة. كما أنها ستكون مثالا يحتذى لأي زعيم أوروبي، يسعى في المستقبل للخروج عن "النص الأوروبي". فالاتحاد الأوروبي أصبح مثل الحزب السياسي، من يخرج عن نطاقه، يخرج منه.. وإلى الأبد، أو في أحسن الأحوال، يتعرض إلى تقليص نفوذه، بكل الوسائل المتاحة.


الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

"المتشائلون" الاقتصاديون!!

(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")








" إذا كنت تعتقد أن أحدا لا يحفل إن كنت حيا أو ميتا.. جرب التوقف عن دفع أقساط سيارتك "
لاعب البيسبول الأميركي روبرت إريل ويلسون




محمد كركوتــي

ليس مسموحا لشخص بوضعية ومسؤوليات رئيس البنك الدولي روبرت زوليك، أن يكون متفائلا أو متشائما، فيما يرتبط بتداعيات وآفاق الأزمة الاقتصادية العالمية. وليس مقبولا منه أيضا، أن يكون متفائلا حينا، ومتشائما حينا آخر، لأنه ليس على طاولة "بوكر" أو " روليت" أو " بلاك جاك" في إحدى الكازينوهات. فهو يمثل مؤسسة يفترض أنها تتمتع بأعلى درجات من الشفافية والواقعية والحقيقة المجردة.. وبالطبع النزاهة. وهو أيضا بمثابة مؤشر، لما ستؤول إليه الأمور – خصوصا في زمن الأزمات - لا محلل يمكن أن تخطئ توقعاته أو تصيب. هو مثل سائق يقود قطارا، ينبغي أن يعرف بالضبط مواقع محطاته، وفي مقدمتها محطته الأخيرة. والأمر نفسه ينطبق على رؤساء ومدراء المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. فالخطأ في تقديرات هذه الهيئات، لا يُخيب الآمال فحسب، بل يُوصل الإحباط إلى أعلى قمته، أو يُلون الخراب بأزهى الألوان وأقواها بريقا!، والنتيجة في كل الحالات، لن تكون أقل من مأساة ضمن كارثة.

لقد اتبعت بعض الحكومات في العالم – راشدة وغير راشدة- منذ اندلاع الأزمة العالمية، أساليب الإنكار في البداية لبلوغ الأزمة دولها في المرحلة الأولى، والتخفيف من آثار الأزمة – لفظيا لا عمليا - في المرحلة الثانية، والتفاؤل -التسويقي الوهمي - في المرحلة الثالثة. لكن سرعان ما وجدت نفسها، مثل شخصية سعيد أبو النحس، التي رسمها الأديب الفلسطيني الراحل إميل حبيبي في روايته الشهيرة " المتشائل". وإذا كان "التشاؤل" الفردي يؤذي فردا، فإن "التشاؤل" العام يؤذي أمة – بل أمم – بأكملها. ولأن الأمر كذلك، فقد أسرعت الحكومات "المتشائلة"، إلى الهروب من حالتها المرضية هذه إلى الواقع، الذي ربما لا يضمن لها استمرار شعبيتها – لاسيما في الدول الراشدة -، ولكن بالتأكيد يوفر لمصداقيتها الحصانة المطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى. وإذا كان التفاؤل –غير الواقعي – ينتج وهمًا، كذلك الأمر مع التشاؤم، لكن " التشاؤل" لا يؤدي إلا إلى انفصام في الشخصية، في وقت يحتاج فيه العالم، إلى كل إمكانيات الشخصية المتماسكة.

لا شك في أن بعض دول العالم، شهدت نموا ما في غضون الأشهر القليلة الماضية، خصوصا مع بداية الربع الأخير من العام 2009. لكن هذا النمو ليس طبيعيا، ولا يدخل ضمن نطاق التطور الاقتصادي الذي يكمل المشهد التنموي العادي. هو أشبه بامرأة تحمل جنينها خارج الرحم، ولا أحد يستطيع أن يخمن، إذا ما كان هذا الجنين قابلا للحياة( جنينا أو إنسانا)، قبل أن تتضح الصورة الكاملة للحمل. والنمو الذي يتحدثون عنه الآن، هو في الواقع، عبارة عن توقف الانهيار أو الكساد أو الركود. والحراك الاقتصادي الراهن، لا يستحق صفة النمو، إلا بعد مرحلة الانتعاش. وطالما أن هناك عمليات إنقاذ – لا أقول تحفيز – تجري في كل الأرجاء، تبقى مرحلة النمو سابقة لأوانها. فعلى سبيل المثال، يجري الحديث عن خروج منطقة اليورو ( الدول التي تعتمد اليورو كعملة وطنية لها، ويصل مجموع ناتجها السنوي إلى 8400 مليار يورو) من الكساد. وعلى الرغم من الشكوك التي تلف هذا الخروج الهش، إلا أن الوضع الاقتصادي المتحسن لهذا المنطقة، لا يزال يعتمد على عمليات الإنقاذ، التي دفعت البنك المركزي الأوروبي، إلى ضخ المليارات من اليورو، لتشجيع الإقراض. وهذا يعني، أن الأموال الحكومية هي التي دفعت الحال إلى التحسن، لا الأداء المتكامل والطبيعي لاقتصاد منطقة اليورو. ولا بد من التأكيد هنا، على أن عمليات الإنقاذ تختلف عن عمليات التحفيز. فالأولى أُطلقت لانتشال الشركات من الغرق، لاسيما تلك التي تُعتبر رمزا من رموز السيادة الوطنية، والثانية لا تُطلق إلا في نطاق الشركات التي استجمعت أنفاسها. والسؤال يبقى: هل استجمعت الشركات والمؤسسات المعنية أنفاسها فعلا؟. وهل بلغت من القوة لتشجيعها؟، أم أنها لا تزال في أوضاع تحتاج فيها إلى المساندة، للحفاظ على كياناتها؟.

ولأن الصورة لا تزال غائمة، والمؤسسات التي أُنقذت لا تزال مضطربة، والوضع بأكمله لا يزال عائما، تبدو التوقعات المتناقضة للهيئات الدولية المعنية حول النمو – خصوصا البنك وصندوق النقد الدوليين – خارجة من اللوحة العامة للاقتصاد العالمي. فعندما يقول رئيس البنك الدولي، قبل أشهر: إن اقتصاد العالم، سيشهد نموا في العام المقبل، ويدعمه زميله رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس، علينا أن نفرح وتغمرنا السعادة. ولكن ما عسانا أن نشعر، عندما يعود زوليك وشتراوس للقول: إن النمو العالمي يواجه مخاطر التراجع في العام 2010؟!. ولأن هذا النمو الذي يتحدثان عنه هشًا، أسرعا للتأكيد على ضرورة أن لا يتم سحب إجراءات " التحفيز" الاقتصادي في العام المقبل. وإذا كان شتراوس – على سبيل المثال – يرى بأن أوروبا لن تشهد انهيارات جديدة للمصارف، كيف يفسر لنا الانهيارات المتتالية للمصارف الأميركية، حيث بلغ عدد المصارف التي أُغلقت نهائيا في غضون عام واحد 120 مصرفا. أليس لهذه الانهيارات تبعات عالمية؟، أم أن الاقتصاد الأميركي بات منفصلا عن الاقتصاد العالمي؟!!.

ربما كان وزراء مالية " منتدى التعاون لدول آسيا والمحيط الهادي" - المعروف اختصارا بـ " إيبك" - البالغ عددها 21 دولة، أكثر مسؤولية من رئيسي البنك وصندوق النقد الدوليين، عندما حذروا من تصور انتهاء الأزمة الاقتصادية العالمية. فهي – حسب هؤلاء - لا تزال موجودة، وأن الموقف لا يزال هشًا، رغم التحسن المالي. وتكمن مسؤولية وواقعية هذا التوجه، أن ما يشهده العالم حاليا، ليس سوى هدنة، ضمن نطاق الحرب الشاملة على الأزمة، لاسيما وأن بعض المسببات الحقيقية التي وَلدت الأزمة، لا تزال على الأرض، في مقدمتها، عدم التوصل إلى اتفاق عالمي نهائي، ينظم الأداء المالي للمصارف والمؤسسات المالية. ومما لاشك فيه، أن أصحاب القرار الاقتصادي العالمي، باتوا يعرفون الآن (بفعل الأزمة) أن الانتعاش – وإن تحقق مستقبلا وبصورة واقعية – عليهم أن يعملوا على احتواء المتغيرات التي أحدثتها هذه الأزمة. ولا أبالغ إن قلت، إن الأمر يحتاج لعشر سنوات أخرى، لأن السلوك الاستثماري والتنموي تغير في بعض البلدان، وانقلب رأسا على عقب في بلدان أخرى. مع ضرورة الإشارة، إلى أن أنماط الطلب الاستهلاكي تغيرت أيضا وبصورة متطرفة، وإلى التراجع المخيف في وتيرة تنفيذ مشروعات البنى التحتية، خصوصا في البلدان الأقل تقدما.

في الأزمات الكبرى، تبرز أزمات من قلبها، إلى جانب الفرص التي تستحدثها. لقد حدث هذا في الكسادين الطويل والعظيم اللذين انطلاقا في الولايات المتحدة الأميركية في القرنين السابقين. لم ينفع وقتها التفاؤل المستند إلى التمنيات، ولا التشاؤم المرتكز على الخوف. الذي ينفع في مثل هذه الحالات التاريخية، هو التعاطي مع الواقع كما هو، إلى جانب – بالطبع - التعاون الدولي الشامل. فالأزمة لم تكن خاصة بالولايات المتحدة – وإن انطلقت منها – ولا بالاتحاد الأوروبي، ولا بالصين أو الهند أو غيرهما من الدول. هي أزمة جمعت العالم تحت عباءة واحدة. عباءة مليئة بثقوب الجشع والاحتيال والخوف والإحباط .. والأمل أيضا، لا يستطيع حتى أمهر الخياطين ترقيع هذه الثقوب بمفرده، فما بالك برَتيها. إنها مسؤولية أمم بأجمعها. ومسؤولية حكماء – لا ملهَمين - يعرفون متى يتفاءلون ومتى يتشاءمون.. وأيضا.. متى لا " يتشائلون". حكماء يعرفون أهمية التحرك، ليس فقط لمواجهة الأزمة، بل أيضا للحيلولة دون اندلاع أخرى. فالعالم أُجهد بما يكفي من أزمة، أزاحت مسرات وهمية، وجلبت أحزانا واقعية.


الأحد، 15 نوفمبر 2009

السوق في مواجهة المجتمع!

(هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")













" الأشياء الأخرى قد تغيرنا.. لكننا نبدأ وننتهي مع الأسرة "
الكاتب الأميركي أنتوني براندت


محمد كركوتــي

لم تنجح حكومات على مر التاريخ، في تكريس مبدأ، أن السوق هي التي تضع معايير المجتمع، لا العكس. فهذا المبدأ الذي وضعته والتزمت به بعض الأحزاب السياسية التي حكمت عددا من البلدان الأوروبية، وكذلك الأمر مع بعض الإدارات التي حكمت الولايات المتحدة الأميركية، كان يعيش لفترة، ولكنه لا يموت إلا بمصيبة اقتصادية – اجتماعية عامة. كانت مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية المحافظة السابقة، الرمز الأكبر لـ "التيار السوقي"، وكانت لا تعترف بالمجتمع كمحرك لذاته، بل لا تعترف بوجوده أصلا. ماذا حدث على مدى 11 عاما، حكمت خلالها تاتشر بريطانيا طوال العقد الثامن من القرن الماضي؟. أشرف اقتصاد بلادها على الانهيار، بعدما تمزقت مفاهيم الأسرة، وسادت مفاهيم السوق الخالية من الضوابط. ونشأت في تلك الفترة شريحة طفيلية مدمرة، استطاعت أن تحقق مكاسب مالية كبيرة، عن طريق الغش والخداع، تشكلت من الفاشلين في كل شيء، إلا في الاحتيال.

كانت الأسرة التي تشكل المجتمع، في الدرجة الأخيرة من أولويات حكومة تاتشر – والحكومات الأخرى التي استلهمت المبدأ التاتشري- وتصدرت المصارف التي كانت تعقد الصفقات الاسمية أو الوهمية أو الورقية سلم الأولويات ( وهذا ما حدث قبل الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة)، والشركات الصغيرة والمتوسطة، التي كانت تظهر لأقصر فترة ممكنة، ثم تختفي، بعد أن تكون قد جمعت ما أمكنها من الأموال غير الشرعية، وأيضا المحتالون الذين عرفوا كيف يقدمون لوحة جميلة، لأبشع منظر ممكن. وسط هذا الخراب الاقتصادي المتعمد، كانت الأسرة تتعرض للقضم شيئا فشيئا، إلى أن زال حراكها الاجتماعي تماما، وأصبحت عبارة عن مجموعة أفراد تجمعهم صلة القرابة فقط، لا حراك الحياة. ماذا حدث بعد ذلك؟. قام قادة مؤثرون في حزب المحافظين الحاكم آنذاك، في ليلة ظلماء بعملية انقلاب بيضاء ضد تاتشر، التي خرجت بأبشع صورة مهينة من الحكم. فقد وجد المحافظون العقلاء، أن الخراب لم يتسيد المجتمع فحسب، بل وصل إلى الحزب نفسه الذي تردت سمعته، وخبا بريقه، وتراجع تأثيره.

حل جون ميجور المحافظ مكان تاتشر زعيما للحزب ورئيسا لحكومة البلاد. وعلى الفور رفع شعارا أراد من خلاله أن يستعيد حزبه بعضا من الشعبية التي فقدها على مدى 11 عاما. ما هو هذا الشعار؟ : العودة إلى الأصول". كان ميجور والفريق الحاكم الجديد، يريد أن يكرس حقيقة أن المجتمع ( بتكوينه الأسري) هو الذي يحدد المعايير العامة للسوق، وأن السوق عندما تخرج عن نطاق خصوصيتها ودورها، تجعل من المجتمع ساحة للذئاب، وسط مجموعة من الحملان.

في بريطانيا اليوم، توجها حكوميا مباشرا لتشجيع تشغيل الأزواج وفق عقود عمل لـ "جزء من الوقت"، أو ما يعرف بالإنجليزية بـ Part-time ، لأن حكومة جوردون براون، توصلت إلى ضرورة إبقاء الأسرة مع بعضها البعض لأطول فترة ممكنة، وبأكثر عدد من أفرادها، وتدعيم معاييرها وأخلاقياتها. وبالفعل طلبت وزيرة العمل إيفيت كوبر من رؤساء المؤسسات والشركات البريطانية، توفير الوظائف وفق هذا النوع من العقود، كما طلبت من مكاتب التشغيل ( التابعة للحكومة)، عرض هذه الوظائف على الأزواج الذين يتقدمون بطلبات العمل لديها. وتقول الوزيرة: "إن الحكومة التي تهتم بأداء الشركات والمؤسسات المختلفة، تهتم بصورة أكبر بنوعية الحياة الأسرية،و سبل دعمها". ولأن هذا الأمر لا يروق للشركات، فقد اتهم رؤساؤها الحكومة، بأنها لا تولي اهتماما لأوضاع شركاتهم، التي ترزح تحت ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية.

لكن للحكومة نقطة لصالحها. فهي لم تطالب بتوفير الوظائف من قبل الشركات وفق عقود العمل لجزء من الوقت، بل طالبت بعرض الوظائف ذات عقود العمل الكاملة أو ما يعرف بالإنجليزية بـ Full-time ، على أن يجري اقتسام الوظيفة الواحدة بين شخصين، في مكاتب التوظيف التابعة للحكومة، فضلا عن أن المطالبة الحكومية لا تجبر الشركة على تحويل عقد الموظف الحالي لديها من "كل الوقت" إلى "جزء من الوقت"، إلا إذا قبلت الشركة بذلك. وفي كل الأحوال، جاء اتهام رؤساء الشركات للحكومة بعدم اهتمامها بأوضاع شركاتهم تحت الأزمة العالمية فارغا، لأن وزير الأعمال اللورد بيتر ماندلسون، قام بتأخير فرض قانون التشغيل "جزء من الوقت"، إلى أن تنجلي صورة الاقتصاد البريطاني تماما ككل.

لاشك في أن هذه الخطوة، تعزز من الحياة الأسرية. فعلى سبيل المثال، أظهرت إحصائية صدرت مؤخرا، أن البريطاني يحظى بأعلى دخل مقارنة بزملائه في الدول الأوروبية الأخرى، لكن الامتيازات الاجتماعية والترفيهية التي تمنح له، هي الأقل مقارنة بمثيلاتها في بقية دول أوروبا، بما في ذلك طول ساعات العمل. وبصرف النظر عن هذه النقطة، إلا أن التوجه العام لتوفير أكبر قدر من الالتفاف الأسري، بات مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى. لأن المجتمع يعيش حاليا، أسوأ أزماته بسبب تداعيات الأزمة العالمية، ولأن عمليات التصحيح التي فرضتها الأزمة، تشمل بصورة أساسية المجتمع. فهذا الأخير كان – ولا يزال – الأكثر تعرضا لأذى الكارثة الاقتصادية العالمية، والأقل حصانة منها.


الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

توقيع كتاب " في الأزمة" لمحمد كركوتي


دبي: خاص


أقام "نادي دبي للصحافة"، حفل توقيع كتاب " في الأزمة" لـ محمد كركوتي، وذلك بحضور عدد من ممثلي وسائل الإعلام في الإمارات، بالإضافة إلى مجموعة من الكتاب والمهتمين. وسبقت التوقيع جلسة نقاش حول الكتاب بشكل خاص، والأزمة الاقتصادية العالمية بشكل عام. وأدار الجلسة كل من الزميلين نهى علي المذيعة في قناة "سي إن بي سي عربية" ، والدكتور صباح ناهي من قناة " العربية".

وتناول النقاش جوانب الأزمة الاقتصادية العالمية، التي تنال من العالم العربي، بالإضافة طبعا إلى هيمنة الأزمة على الحراك الاقتصادي العالمي. وشدد كركوتي، على أن الأزمة لم تهدأ بعد، وتوقع أن يتواصل وجودها عالميا وعربيا لفترة طويلة، خصوصا وأن خطط الإنقاذ التي اعتمدت منذ انطلاق الأزمة، لم تظهر نتائج عملية وفاعلة، بهذا الصدد. كما أشار المؤلف: إلى أن ضرورة أن يتخلص العالم، من ثقافة الأسواق المنفلتة، مع التشديد على أنه لا يطالب بسيطرة حكومية كاملة عليها.

وتضمنت جلسة النقاش أيضا، آفاق الأزمة وتاريخ الأزمات والمقارنة بينها. وتم التركيز على دور الإعلام العربي الغائب على صعيد تناول الأزمة بصورة تصل إلى القاعدة العريضة من المتلقين العرب للإنتاج الإعلامي بكل أنواعه. وأثيرت في الجلسة أيضا، مواقف وتنبؤات وسائل الإعلام العالمية، قبل الأزمة الاقتصادية.

وقام "نادي دبي للصحافة" بتقديم هدية تذكارية للكاتب، عبارة عن مجسم زجاجي لشعار النادي، الذي يقوم بنشاطات مختلفة على صعيد خدمة الإعلام والإعلاميين العالمين في الإمارات ككل.

يذكر أن كتاب " في الأزمة" صدر تحت عنوان فرعي هو " النمو لمجرد النمو مبدأ الخلية السرطانية"، عن مركز الإمارات للدراسات الاقتصادية. ويقع الكتاب في 342 صفحة، تتضمن مجموعة من الإحصاءات والبيانات المساندة للموضوعات الأساسية فيه. فضلا عن قسم للصور المعبرة، عن فداحة الأزمة الاقتصادية العالمية.


الصورة الأولى: محمد كركوتي

الصورة الثانية: كركوتي/ نهى علي/ صباح ناهي

















الاثنين، 9 نوفمبر 2009

جرائم الـ"دوت" والـ "كوم" ؟!



(هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










 " أُفضل الفشل بشرف عن النجاح بالاحتيال "
الكاتب الدرامي الإغريقي سوفوكليس


محمد كركوتــي

ليس غريبا أن توفر الأزمة الاقتصادية العالمية آليات و"معاول" لمرتكبي الجرائم المالية عبر الانترنت، أو ما أصبح يعرف بـ "الجريمة الالكترونية". فعندما تجف المياه، تزدهر سرقة الآبار من فوهاتها، ومن أخاديدها المخفية تحت الأرض. وعندما تتبخر الممتلكات، تتوجه العيون على ما تبقى منها. والأزمة "شفطت" ما كان في الأيدي والجيوب والخزائن، بما في ذلك الممتلكات ورؤوس الأموال "الوهمية"، أو الاسمية، أو الورقية. ومن كان يعتقد ( فردا أم مؤسسة) أنه يملك المال، اكتشف أنه يخزن "أموالا وهمية"، وممتلكات اسمية!. والجريمة الالكترونية المتصاعدة، تواكب الجريمة التقليدية في كل مكان على وجه الأرض، وتفوقها من حيث الخسائر. فالنشل اليدوي، والسطو المسلح، والسرقة الليلية والنهارية، والاحتيال المتنوع، هي مرادفات، لنشل الهوية الالكترونية، والسطو على مواقع الأفراد والمؤسسات، والسرقة من بطاقات الائتمان وغيرها من أدوات التحويل المالي، والاحتيال على مفاتيح الدخول إلى الشبكة الدولية، مع اختلافين واضحين، الأول: أن احتمالات وقوع المجرمين التقليديين أعلى من إمكانية القبض على المجرمين الالكترونيين، والثاني: أن وسائل وأدوات "التقليديين"، تظل أقل "توالدا" من مثيلاتها عند "الالكترونيين". لماذا؟، لأن "الإبداع الإجرامي" الالكتروني لا آفاق له، وتبدو ملاحقته أقرب إلى اللحاق بالسراب. ولعل هذا ما جعل حكومات تندفع للاستعانة بالمجرمين الالكترونيين التائبين، لملاحقة زملائهم السابقين. ويبدو أن هذه الحكومات – بمؤسساتها الأمنية المختصة – أخذت بنصيحة الشاعر المثير للجدل أبو النواس الذي قال : "وداوها بالتي كانت هي الداء".

لم تكن جرائم الـ"دوت" والـ "كوم"، أو الجرائم الالكترونية، جديدة على الساحة العالمية. فقد بدأت مع تعاظم اتساع رقعة الشبكة الدولية، وعلى الفور أقدمت المؤسسات – بكل أنواعها- على بناء جدران الكترونية مضادة، نجحت في بعض معاركها، وفشلت في بعضها الآخر. كانت – ولا تزال – أشبه بالملاكم، الذي يحقق نقطة لصالحه في المباراة، لكن سرعان ما يحقق خصمه نقطة أخرى. ومع التطور المذهل لأدوات الجريمة الالكترونية، بات المجرمون يحققون نقطتين لصالحهم مقابل واحدة لضحاياهم. والأمر ليس كذلك بالنسبة للأفراد، فهؤلاء بدون "جدران الكترونية مضادة"، ولا يملكون من " الأسلحة" سوى تلك التي توفرها الشركات أو الجهات التي تقدم لهم الخدمات الالكترونية، وهي عادة ما تكون متواضعة من حيث الفاعلية. ومع اندلاع الأزمة الاقتصادية، دخل العالم الالكتروني في فوضى تحمل معها المخاطر أكثر مما تحمله من تشتت.

وفي ظل استفحال الأزمة، حققت الجريمة الالكترونية معدلات عالية لم يسبق لها مثيل. ففي غضون عام واحد فقط ارتفعت في الولايات المتحدة الأميركية أكثر من 33 في المئة، وبلغت الخسائر الناجمة عنها في العام 2008 أكثر من 264 مليون دولار أميركي، مرتفعة من 239 مليون دولار في العام الذي سبقه، بينما لم تتجاوز في العام 2001 حدود 18 مليون دولار، وذلك طبقا لـ "مركز شكاوى الاحتيال عبر الانترنت"، التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالية، المعروف اختصارا بـ "إف بي آي". ومع نهاية العام 2009 ستقفز النسبة إلى مستويات أعلى، لأن العوامل المشجعة على ارتكاب هذه الجرائم لا تزال موجودة على الساحة. والولايات المتحدة تتصدر – من ضمن ما تتصدر – قائمة الدول الأكثر إنتاجا لهذه الجرائم، ومعها بريطانيا وكندا، ومن أيضا؟، نيجيريا والصين!. ولمزيد من "الهم الالكتروني" تعتقد شركة " تريند مايكرو" الأميركية المتخصصة في مجال البرمجيات وخدمات "الأمان الالكتروني"، أن مجرمي الانترنت يستغلون الأعداد الهائلة من المبرمجين المحترفين والبارعين في اختصاصاتهم الذين فقدوا وظائفهم بفعل الأزمة!. وهذا يعني أن العالم لن يصاب فقط بزخم إجرامي الكتروني، بل بـ "عديد" بارع من المجرمين!. مع الإشارة إلى أن الأجواء مواتية أيضا لهؤلاء، بفعل الضبابية التي تشهدها بيئة الأعمال في العالم، لمهاجمة المؤسسات، وطبعا لسلب أكبر عدد ممكن من الأفراد.

لا توجد أرقام حقيقية بعد عن الحسابات المصرفية المخترقة من قبل "مجرمي الانترنت"، ولكن العدد، طبقا لبعض المصارف التي تنشر البيانات في الولايات المتحدة وأوروبا عن هذه العمليات، يتزايد، وبصورة مريعة. فالسرقات تستهدف أكبر قدر من المعلومات المصرفية والهوية والموارد، بواسطة أكثر الطرق تعقيدا. دون الإشارة بالطبع إلى المواد الالكترونية الخبيثة التي ينشرها هؤلاء في أوسع نطاق ممكن، والرسائل الالكترونية غير المرغوبة، التي يصل عددها وفي الوقت الراهن يوميا إلى 115 مليار رسالة، مقابل 75 مليار رسالة في العام 2005 . ومن المذهل ، أن البرمجيات الخبيثة الموجودة على عناوين الانترنت ارتفعت في العام 2008 - حسب شركة " تريند مايكرو" – 256 في المئة، مقارنة بالعام الذي سبقه!!. وإذا كانت المؤسسات والشركات المستهدفة، تستطيع تحديد حجم خسائرها المالية، والعمل على احتواء أزماتها مع مجرمي الانترنت، فإن الضحايا الأفراد يستطيعون – بالطبع - معرفة مستوى خسائرهم، لكن لا توجد طريقة أو وسيلة لتحديد الحجم الحقيقي لخسائر الأفراد مجتمعين، فالغالبية العظمى من هؤلاء، لا يبلغون الجهات الأمنية المختصة، عن عمليات الاحتيال والسرقة التي يتعرضون لها، على الرغم من وصول عدد الشكاوى المرفوعة في الولايات المتحدة وحدها في العام الماضي، إلى 275284 شكوى!. وإذا ما وزع حجم الأموال المسروقة خلال عام واحد فقط على الضحايا المعلومين، فتبلغ الخسائر حدود 931 دولارا لكل ضحية.

ومن ضمن "التسهيلات" التي قُدمت للمجرمين الالكترونيين، أن الشركات والمصارف والمؤسسات المالية، خفضت الإنفاق على حربها ضد هؤلاء، وذلك في إطار التخفيض الذي اتبعته، لمواجهة تبعات الأزمة الاقتصادية. وسرعان ما وجدت نفسها أمام كارثة الأزمة، ومصيبة جرائم الانترنت!. وفي الجانب الآخر، فإن غالبية مستخدمي الشبكة الدولية، ليسوا على قدر من الكفاءة والفطنة التي تمكنهم من المواجهة. فالبرامج الخبيثة لا حدود لها، والأفكار الالكترونية المدمرة تتوالد مثل الفئران. فلم تعد الرسائل غير المرغوبة – على صعيد الأفراد - أداة ناجعة من أدوات الاحتيال والسطو، لأن أمرها فضح عند الجميع، والبرامج التي تستهدف المؤسسات، لم تعد هي الأخرى كما كانت. فالمنهجية الاحتيالية تتغير على مدار الدقيقة لا الساعة، وخسائر هذا النوع من الجرائم يفوق الخسائر الناجمة على الجرائم التقليدية. ويكفي الإشارة إلى دراسة كندية حديثة، أظهرت أن معدل خسائر السطو المسلح يصل إلى 3200 دولار للحالة الواحدة، وترتفع إلى 22500 دولار في حالة السطو عن طريق الغش والخداع. بينما تقفز خسائر السطو الالكتروني إلى 430 ألف دولار، ومعدلات ضبط الجناة تهبط من 95% في حالة السطو المسلح إلى 5% في حالة السطو الإلكتروني!. والمصيبة - حسب الدراسة – أن معدل ملاحقة المجرمين قضائياً لا تتجاوز 1% من "الحالات الالكترونية"!. وتعزيزا لهذه الدراسة هناك أخرى أصدرتها الأمم المتحدة حول جرائم الانترنت، أظهرت أن ما بين 24 و42 في المئة من مؤسسات القطاع العام والخاص في العالم، تعرضت لنوع من أنواع الجريمة الالكترونية، وقد شهدت ارتفاعا أيضا في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية.

وإذا كانت الأزمة قضية – أو مصيبة – عالمية، وفعَلت من مكنونات الجريمة الالكترونية، تبدو على الساحة الآن، ضرورة لـ " عولمة" هذا الهم المتوالد. فهناك الكثير من بلدان العالم ( بأفرادها وحكوماتها) لا تزال دون مستوى خوض الحرب ضد هؤلاء المجرمين. وإذا كانت الدول المتمرسة في هذه الحرب، تربح معركة وتخسر اثنتان، فلا غرابة في أن تخسر بقية الدول المعارك كلها في هذه الحرب. دون أن ننسى بأن غالبية المجرمين الالكترونيين، يعيثون في الانترنت فسادا وإجراما من مواقعهم في الدول المتمرسة نفسها!.


الأحد، 8 نوفمبر 2009

كساد الطلاق!


( هذا المقال خاص بموقع "سي إن بي سي عربية")







" الطلاق باللاتينية.. هو سطو غير مسلح على جيب الرجل "
الممثل الأميركي روبين وليامز


محمد كركوتــي

غيرت الأزمة الاقتصادية العالمية، المفهوم التقليدي للطلاق. واستحدثت نوعا من المستجدات تبدو غريبة وغير متوافقة مع المنطق. لمَ لا؟ والأزمة نفسها، لم تكن وليدة مسببات منطقية، ولا عوامل طبيعية. فقد تجمعت حممها "خارج النص"، وقذفت بها في كل الأرجاء. وإذا كانت عمليات الانتحار الفردية التي انتشرت في العالم، بسبب الخسائر من الأزمة وضياع الأموال إلى الأبد، تبدو مفهومة، رغم كونها مرفوضة إنسانيا. فإن تأثر "حراك" الطلاق بصورة عكسية بها، طرح الكثير من التساؤلات، ونشر حالة من الاستغراب. وأحسب أنه حتى "الملهمين الاقتصاديين" انضموا إلى قوائم المستغربين.

هناك الكثير من مسببات الطلاق. من بينها شخصية، وأخرى ترتبط بمؤثرات خارجية، فضلا عن تدهور الأوضاع المعيشية للأسرة، لاسيما إذا ما كان الشح المالي يتسيد الموقف داخلها. فعندما تفرغ الجيوب، تبدأ الأزمات، وعندما تستفحل هذه الأخيرة، تنطلق المواجهات، وعندما تفشل كل الجهود للحد منها، يبرز الطلاق كحل أمثل للحالة كلها. وفي المجتمعات الغربية، كِلا الطرفين ( الزوج والزوجة) يجهزان أسلحتهما، ويتقمصان شخصيات أكثر الرموز عنفا في التاريخ، للحصول على أكبر قدر من المكاسب المالية أولا، والمعنوية ثانيا. والطلاق في الغرب، أعلى كلفة للطرفين منه في الشرق. وعلى هذا الأساس، تدخل عملية الطلاق في طرق ومسارب طويلة وأحيانا معقدة، وتستهلك مساحة زمنية ليست قصيرة، تُنهك الزوج والزوجة، قبل أن يفترقا ويستريحا من بعضهما البعض.

غير أن أحد عوامل الطلاق، شهد تغيرا في اتجاهه أو مفهومه بصورة عكسية. فعلى الرغم من المشاكل الاجتماعية والمعيشية والمالية والإسكانية، التي أتت بها الأزمة، تراجعت حالات الطلاق في الغرب بشكل عام، وفي الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص. لماذا؟، لأن الطرفين لا يستطيعان تحمل نفقات الطلاق، في الوقت الذي يبحثون فيه عن دولار أميركي منسي هنا وهناك، لمواجهة تبعات الأزمة معيشيا. وبذلك أخرجت الأزمة " لسانها" في وجوه الساعين إلى الطلاق، والخلاص من شركائهم إلى الأبد، تماما مثلما أجرت الـ " لسان" نفسه في وجوه الساعين إلى الزواج. فالتكاليف عالية في الحالتين، والمال تبخر في كل الحالات، من جراء تقليص الوظائف وتخفيض الرواتب وتراجع أسعار المنازل.

وطبقا لـ "الأكاديمية الأميركية لمحاميي قضايا الزواج"، فإن 57 في المئة من هؤلاء أكدوا وجود تراجع كبير في دعاوى الطلاق في الربع الأخير من العام 2008، مقابل 14 في المئة منهم قالوا: إن هذه الدعاوى زادت بشكل طفيف. والأمر مشابه إلى حد بعيد في الدول الأوروبية، التي تتبع أنظمة طلاق متقاربة مع الولايات المتحدة. وهذا يعني أن الأزواج غير القادرين على تحمل بعضهم البعض، باتوا مكبلين ومتسمرين في مواقعهم غير المرغوبة، إلى أجل غير مسمى. وما على هؤلاء إلا أن "يجتروا" حبا سابقا، ربما يستجمع حال الأسرة عاطفيا، أو أن يعيشوا خانعين لأزمة اقتصادية لم يرتكبوها. فعندما يكون الطلاق في كفة، والميزانية "النافقة" في الكفة الأخرى، يصبح " الحب المستعاد" أقل كلفة.

ومن يدري؟، ربما تقدم الأزمة الاقتصادية آلية لصيانة الحب، حتى لو كان مكروها!.


الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

حفل توقيع كتاب " في الأزمة"



يقيم (نادي دبي للصحافة ) الاثنين المقبل في مقره بدبي، حفل توقيع كتاب (في الأزمة)"النمو لمجرد النمو...مبدأ الخلية السرطانية" لمؤلفه محمد كركوتي. وستعقب الحفل جلسة نقاش يشترك فيها ممثلو وسائل الإعلام والمهتمين حول الكتاب، تتناول آفاق الأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيراتها في المجالات السياسية والاجتماعية والعسكرية. فضلا عن انعكاساتها على القطاعات التعليمية والإنسانية والصحية والبيئية والإعلامية والأخلاقية وغيرها، بما في ذلك تشكيلها – أي الأزمة – ما يمكن تسميته بـ " القومية الاقتصادية". وتتناول الجلسة أيضا قضية العولمة، وضرورة أن تكون شاملة في الأوقات المحن والأزمات، وفي زمن الازدهار والمسرات.
يذكر أن كتاب " في الأزمة" صدر في أبوظبي عن مركز الإمارات للدراسات الاقتصادية، ويقع في 342 صفحة. ويتضمن مجموعة كبيرة من البيانات والإحصاءات كملاحق للموضوعات التي تم تناولها، بالإضافة إلى عرض للأزمات الاقتصادية التي مر بها العالم على مدى قرنين من الزمن، مع توثيق أقوال القادة والمسؤولين حول الأزمة، في الدول المؤثرة على الساحة الدولية.


المكان: مقر " نادي دبي للصحافة "  في دبي
الزمان: الاثنين التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2009
الوقت: الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر 16.30

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

البطالة.. "بطلة" المستقبل العربي!!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )








" أنت تقتلني عندما تأخذ آلية العيش مني"
الأديب الإنجليزي وليم شكسبير


محمد كركوتــي

أتلقى عددا ليس قليلا من الرسائل الالكترونية التي تصلني في نطاق التعقيب على ما أكتب، يطلب فيها مرسلوها تناول قضية البطالة في حقيقتيها العالمية والعربية. ويبدو أن ما يُكتب عن البطالة – في كل الوسائل الإعلامية – لا يزال عند هؤلاء، أدنى من بشاعتها وعمقها ومصائبها. فهي مشكلة شبه دائمة في زمن الأزمات، وأوقات النمو. قد تتفاوت ضراوتها من مرحلة إلى أخرى، لكنها حاضرة تقض مضاجع المسؤولين والمشرعين الاقتصاديين، و"تلغي" مسببات النوم عند ضحاياها المباشرين. ولذلك فهي تشكل العنوان الدائم الذي لا يغيب، في الموازنات العامة، وتتمثل بشبح مريع للعاطلين أنفسهم. وإذا استطاع هذا العاطل أو ذاك، الفوز في نوم لا أرق فيه، فإنه في الدقيقة الأولى لاستيقاظه، يبدأ "عمله" كعاطل. فهو لا يحتاج لـ "تحضير" نفسه لهذا النوع من "الوظائف". وفي التاريخ الحديث، عُرف عن رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويلسون، أنه كان يوجه السؤال الأول لوزير ماليته الآتي إليه بحقيبة الموازنة العامة : "كم عدد العاطلين عن العمل لدينا؟". كان هذا السؤال يسبق أسئلة أخرى تتعلق بالعجز وبالميزان التجاري وبالخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من العناصر التي تشكل مكونات هذه "الحقيبة". وأحسب أن قادة بقية الدول الراشدة، يوجهون السؤال ذاته، بنفس ترتيب ويلسون. وفي الإطار نفسه، كان الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون يقول :" أنا لا أعتقد أنه باستطاعتنا إصلاح نسيج مجتمعنا، قبل أن يجد القادرون على العمل وظائف لهم". وهذا صحيح، لأن العمل ينظم الحياة، ويبني لها أساسا منضبطا.

قبل أن تتفجر الأزمة الاقتصادية العالمية، كانت هناك بطالة عالمية أقل عنفا، لكنها لم تكن كذلك على الساحة العربية، رغم كل مؤشرات النمو الذي شهدته المنطقة العربية في الأعوام التي سبقت الأزمة. كانت عالميا.. تحت السيطرة، وعربيا فوقها. كانت منسجمة إلى حد ما، مع هيكلية الاقتصادات الراشدة، لكنها خارج نطاق الانسجام على الساحة العربية. والمريع أن المنطقة العربية كانت – قبل الأزمة – الوحيدة بين مناطق العالم، التي شهدت نموا اقتصاديا، مصاحبا لـ "نمو" العاطلين!. وعندما حلت الأزمة كـ " زائر" مدمِر، تسارع قطار البطالة عربيا، بصورة باتت السيطرة عليه، مجرد حلم، في عدد كبير من البلدان العربية. ولأن الآليات المساندة لمواجهة البطالة، إما غائبة أو متواضعة، تحولت القضية من مشكلة إلى مصيبة، تجاوزت كل القدرات والإمكانيات، بعدما رمت بالمخططات المحلية في كل بلد، والاستراتيجيات العربية الشاملة، على قارعة الطريق، في ظل إرباك رهيب، في فهم عمليات التحفيز. وهذه النقطة تحديدا، أضافت هما فوق هم على المشهد الاقتصادي العربي. لماذا؟ لأن صانعي القرار الاقتصادي، فهموا التحفيز، على أنه أداة من أدوات خلق الوظائف، لكنه في الواقع ( عربيا وعالميا)، هو آلية لحماية ما تبقى من الوظائف والأعمال، وإبقائها على "قيد الحياة" أطول فترة ممكنة. فحتى خطط التحفيز في الدول الكبرى، فشلت في "تكريس" المفهوم العربي لها. إن هذه العمليات ليست تحفيزية، بل إنقاذية، والفارق شاسع في مساحته بين التوصيفين. والتحفيز – بشكل عام – لا يصلح إلا في زمن التباطؤ، أما في زمن الانهيار، لا ينفع إلا الإنقاذ.. بل والنجدة.

مع نهاية العام 2009 ، سيصل عدد المنضمين الجدد للعاطلين على مستوى العالم، إلى 59 مليون عاطل ( حسب منظمة العمل الدولية). وطبقا للتقديرات المتداولة، بلغ مجموع العاطلين في العام 2007 أكثر من 190 مليون شخص، وبإضافة ضحايا الأزمة، سيرتفع هذا العدد إلى قرابة 250 مليون. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن هناك دول لا توفر الأرقام الحقيقية لعاطليها، لأنها لا تطرح أصلا أرقاما حقيقية لاقتصاداتها. في الجهة المقابلة يبلغ المجموع الكلي للعاطلين العرب، مابين 17 و18 مليون (حسب منظمة العمل العربية)، أي ما يوازي 20 في المئة من مجموع عدد السكان. ولمزيد من الصدمة، هناك سبع دول عربية، في قائمة الدول الثلاثين الأكثر ابتلاءا بالبطالة!. هذا يعني أن نصيب العرب من "حاصل" مجموع عدد العاطلين الجدد – بفعل الأزمة- سيكون كبيرا، مع الاعتراف باستحالة تحديد أرقام واقعية للعاطلين السابقين والجدد، لكن في كل الأحوال، لن تكون أقل مما هو متداول على الساحة. ومع ذلك، فالقضية لا تنحصر فقط فيما هو موجود أو واقعي، بل تكمن في مسألة مواجهة الكارثة. وأقول كارثة، لأنها تضع تحت جناحيها، مشاكل معيشية وإنسانية واجتماعية، وحتى أمنية، وتؤثر بصورة مخيفة في التشكيل الاجتماعي العام وتطوره.

يحتاج العالم العربي، إلى ما يقرب من 5,5 مليون وظيفة، ليس خلال قرن أو عقد من الزمن، بل كل 12 شهرا!. وكانت هناك حوالي 3,5 مليون وظيفة متاحة – أو شبه متاحة- قبل الأزمة العالمية، لكن هذه الأخيرة، خفضت حجم هذه الوظائف، كما خفضت عدد المؤسسات والشركات، التي يمكن أن تساهم في توفير فرص العمل. وقد ضربت هذه الحقائق – عرض الحائط – ما اتفق على تسميته بـ " العقد العربي للتشغيل 2010 – 2020 "، وهذا العقد يهدف إلى خفض البطالة العربية، ليس فقط عن طريق توفير الوظائف، بل من خلال استحداث برامج للتدريب المهني والتطوير الوظيفي، ورفع نسبة الملتحقين في التعليم والتدريب المهني، بحدود 50 في المئة في العقد الثاني من القرن الحالي. هذا هو الجانب " الجميل" من القصة. أما الجانب القبيح منها، يتمثل في أن الموجود على الساحة، لا يزال – وسيظل لفترة طويلة – أدنى من طموح واضعي المشروعات أو الإستراتيجيات المطروحة. وطبقا لتقديرات "منتدى دافوس الاقتصادي" الذي عقد في الأردن في مايو/ أيار من العام 2009 ، فإن عدد العاطلين عن العمل سيبلغ 80 مليون شخصا بحلول العام 2013. بينما جاء في "المنتدى العربي للتنمية والتشغيل" الذي انعقد في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2008 ، أن عدد العاطلين العرب سيصل إلى 70 مليون بحلول العام 2018. وعلى الرغم من التفاوت في السنوات والعدد، فإن الرقمين التقديرين، "يعلنان" عن انفجار محقق لـ " قنبلة نووية" مصنوعة من البشر، لا من اليورانيوم المخصب!، لاسيما إذا ما أخذنا في الاعتبار التقديرات بوصول مجموع الكتلة البشرية للعرب في غضون عقد مقبل من الزمن، إلى 350 مليون نسمة، مرتفعا قرابة 30 مليون نسمة، عن ما هم عليه الآن!.

إن الأزمة الاقتصادية العالمية – بالإضافة إلى سوء التخطيط والتنمية – أفرغت قرارات هامة خرجت بها القمة العربية الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، التي عقدت في الكويت مطلع العام الجاري، من محتواها، بل وضعتها إلى جانب " زميلاتها" من القرارات السياسية في الأدراج، وفي أرشيف جامعة الدول العربية. فهذه القرارات وضعت تصنيفا عربيا ضروريا للمهن بشكل عام، بلغ 1200 مهنة جديدة. لكن لكي يمضي هذا التصنيف قدما، يجب أن تكون هناك خطوات عملية، على صعيد تسهيل انتقال العمالة العربية، على أساس أن هذا التصنيف يلبي احتياجات الدول العربية نفسها. وفي ظل الفوضى التي خلفتها الأزمة، بات من الصعب تكريس التصنيف على أرض الواقع، في المدى المنظور على الأقل. فغالبية الدولية العربية، تقوم حاليا بإعادة هيكلة اقتصاداتها وفق المعايير التي طرحتها الأزمة، وتحاول بناء مصدات دفاعية لمواجهة أي أزمة محتملة في المستقبل. طبعا هذا لا يعني أن هذه الدول أوقفت قطار التنمية فيها، لكن الأمر يتطلب – بعد الاتفاق العام -، وجود آليات متطورة وواقعية لتطبيق أية مخططات في مواجهة البطالة العربية. والتصنيفات المطروحة تندرج ضمن هذا النطاق.

نحن نعلم، أن البطالة – في أي دولة أو منطقة – تمثل إحدى المصائب الاجتماعية - الاقتصادية، لكنها في المنطقة العربية، لا تزال تمثل لوحة مشوهة، لمستقبل مشوش.


الأحد، 1 نوفمبر 2009

مادوف.. كـ "مصاص دماء"


( هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")













" نكون غير أخلاقيين، لم تركنا هذا المصاص المحتال يحتفظ بأمواله"
رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل





محمد كركوتــي

يبدو أن المحتال الأميركي الأكبر برنارد مادوف المحكوم بالسجن 150 عاما، سيدخل التاريخ عدة مرات، ولكن من الأبواب الخلفية. كيف لا؟ وهو الوحيد في التاريخ قاطبة، الذي استطاع أن يجمع أكثر من 65 مليار دولار أميركي، عن طريق الاحتيال والخداع، وأوقع من الضحايا ما يزيد عن 30 ألف بين مؤسسة وشركة وجمعية خيرية واجتماعية و مدرسة جامعة ومصارف وأفراد، بل وحتى كنائس!، ونشر الهموم في كل الأرجاء. فقد تفوق على أستاذه الإيطالي – الأميركي تشارلز بونزي، الذي ابتكر "نظاما" استثماريا احتياليا في عشرينات القرن الماضي، يقوم على دفع "الأرباح" للمودعين ( المدخرين) الأقدم، من أموال المودعين الجدد، دون استثمار دولار واحد في أي عمل أو مشروع!. وهذا التفوق ليس فقط على صعيد حجم الأموال، حتى لو حسبت بأسعار اليوم (تشارلز بونزي سرق ثمانية مليون دولار)، ولكن أيضا من حيث المدة الزمنية الطويلة. فقد احتال مادوف وسرق على مدى عقدين من الزمن، بينما لم تدم عمليات الاحتيال على يد بونزي أكثر من خمس سنوات، تخطيطا وتنفيذا!.

الاثنان دخلا التاريخ من أضيق أبوابه الخلفية، وسيخلدان على رأس قائمة المحتالين واللصوص، لكن مادوف عاد ودخله من جديد من باب تخليد مصاصي الدماء! كيف؟. في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام، يحتفل الأميركيون – وغيرهم من شعوب الدول الغربية - بيوم يطلق عليه "هالوين" ، ويرتبط هذا اليوم بالطقوس السلتية الوثنية التي كانت تمارس في الجزيرة الأيرلندية منذ 800 سنة قبل الميلاد. وهذه الطقوس هي عبارة عن استذكار الأموات والإيمان بالتجدد. لكن مع مرور الزمن، تحول الاحتفال بهذا اليوم، إلى ما يشبه مهرجان مخصص للأطفال، لكنه يجتذب الكبار أيضا. ولأنه يوم يرتبط بالموت، فقد اعتاد المحتفلون التنكر في ثياب تجسد الخوف والرعب، كما أطلقوا العنان لمخلياتهم، لتصميم أقنعة تتناغم مع كل عناصر الرعب.

ماذا فعلت الشركات التي تنتج هذه الأنواع من الملابس والأقنعة هذا العام في الولايات المتحدة؟ أضافت قناعا مستوحى من وجه برنارد مادوف، وطرحته كرمز للخوف والشر، وقبل هذا وذاك، كمصاص دماء. واللافت أن الشركة التي صنعت هذا القناع، أعلنت بأنها سجلت أفضل المبيعات له، مقارنة ببقية الأقنعة.

وعلى الرغم من أن هذه الاحتفالية لا تجري إلا مرة كل عام، فإن دخول مادوف عالم الأقنعة، يعزز مرة أخرى، مدى تأثير العمليات الاحتيالية الإجرامية التي قام بها هذا المحتال في المجتمع الأميركي، ومدى التصاق آثامها بهذا بأفراد هذا المجتمع. لا غرابة هنا. فهذا " المصاص" نال من الأثرياء، ومن أولئك الذين كانوا يبحثون عن مئة دولار إضافي لمواجهة متطلبات الحياة، بعد أن سرق من مؤسسات يفترض أنها محصنة بفعل الضمير والأخلاق لا القانون. فهو لم يوفر حتى الجمعيات الخيرية، ومؤسسات الوقف التي تشرف على مدارس وجامعات وغيرها من مراكز للثقافة والفنون.

ولو كان هناك يوم أو مهرجان لـ "الاحتيال"، من ينافس برنارد مادوف كشعار له؟!.