الثلاثاء، 30 نوفمبر 2010

التسامح البريطاني المُغتصَب

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")



" عبر القرون.. تاريخ الشعوب ليس إلا دروساً في التسامح المتبادل"
إميل زولا أديب وكاتب فرنسي


 
 
محمد كركوتـي
 
لو كانت الأم تيريزا، أو كما يحلو للبعض مناداتها بـ "ماما تيريزا" ( تلك الإنسانة التي غمرتها إنسانيتها طوال حياتها)، على قيد الحياة، لقالت لـ "سَميتِها" وزيرة الداخلية البريطانية تيريزا ماي: مهلاً أيتها الوزيرة، لا تجعلي من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها بلادك، ومعها بلدان العالم أجمع، أن تكون دافعاً لتجريد بريطانيا مما تبقى من تسامحها. مهلاً "يا سَميتي"، لا تكوني وقوداً، لـ "العنصرية الاقتصادية"، الهائمة في بحار من الوقود "الرخيص" أصلاً. مهلاً، لا تخلطي الأمور بعضها ببعض، ولا تدخُلي تاريخ بلادك، من نفس البوابة التي دخلها وسيدخلها، القوميون المتطرفون. أنا لا أفهم بالاقتصاد، ولم أستوعب ما يسمى بـ " الفقاعات الاقتصادية"، ولا دخل لي بارتفاع أو انهيار الأسواق، ولا أعرف كيف تجري العمليات المصرفية، سواء الحقيقية منها أو الوهمية، واستحال علي استيعاب كيف تتحول قيمة الأوراق المالية والأصول والممتلكات، إلى قيمة أوراق الأشجار المتساقطة، في خريف عاصف. الذي أعرفه – والكلام لماما تيريزا – أن "الاقتصاد" في معايير التسامح، يعني وفرة للمعايير غير الأخلاقية، وغير الإنسانية. ليمر الاقتصاد بفقاعات، لكن لتبقى الأخلاق عميقة، وليبقى التسامح أساسها.

سيقول المسؤولون البريطانيون، الذين يحاولون على طريق تغذية المشاعر القومية المتطرفة، الإبقاء على ائتلافهم الحاكم أطول مدة ممكنة، لتيريزا ماي: دعك من هذه المرأة الحالمة، التي لا تفهم بالاقتصاد ولا بالسياسة، وتريد أن تجرك إلى "قطاع" لا وقت لنا بدخوله. نحن نعيش أزمة، علينا أن نواجهها بكل الأدوات، بصرف النظر عن ماهيتها، وتعارضها مع "أخلاقيات ماما تيريزا". سيقولون: لتحل "ماما" مشاكلنا، ونحن نعدها بأن نحافظ على ما ترغب هي أن نحافظ عليه. إن واقعنا تجاوز مرحلة السماحة والتسامح. دعك يا ماي من هذا كله، وابدئي بتنفيذ قرارات حكومتك، بخفض 20 في المائة من التأشيرات التي ستمنح في العام 2011، إلى العمال القادمين من دول خارج الاتحاد الأوروبي، وقولي لـ "الماما": لأننا نحترمها ونقدرها، فسوف نخفف القيود بالنسبة للعاملين في الشركات متعددة الجنسيات!. لكن لن تقول الوزيرة البريطانية: إن عدة مؤسسات وشركات بريطانية كبرى، هددت الحكومة بترك البلاد، إذا لم تحصل على القرار الحكومي، بتخفيف القيود هذه!. فالحكومة استجابت للمطالب، التي تمكن المؤسسات المذكورة، من استقدام عمالها وموظفيها، لمدة أقصاها خمس سنوات، على أن لا يزيد ما تدفعه لكل فرد من هؤلاء، عن 40 ألف جنيه إسترليني (ما يوازي 47 ألف يورو) سنوياً.

من حق بريطانيا ومعها كل دول العالم أن تحمي نفسها اقتصادياً، من خلال تشريعات وقوانين جديدة تخص العمالة. ويخطئ من يقول عكس ذلك، سواء كانت البلاد في أزمة أو كانت في حالة ازدهار. لكننا ببساطة لا يمكن أن نُخرِج هذه القضية من ارتباطها العنصري أو القومي أو المحلي.. والسياسي أيضاً. ففي الغرب – عموماً – يسجل اليمين المتطرف نقاطاً انتخابية" وطنية" لصالحه، ابتدءاً بالسويد وهولندة والنمسا، وليس انتهاءً بفرنسا وألمانيا وإيطاليا. وقد استغل المتطرفون في الواقع، آلام الأزمة الاقتصادية العالمية ومصائبها، لكي يتقدموا إلى الأمام، مع تراجع حدة الاشمئزاز - وأحياناً "الاستحقار" - الذي كانوا يتعرضون له في مجتمعاتهم!. فما كان مُحرماً قبل الأزمة، بات مُباحاً بعدها، وما كان مُعيباً – قبلها – أصبح أمراً عادياً بعدها!. ولذلك سمحت الحكومات الخائفة من شعوبها (بسبب توريطها لهذه الشعوب بأزمة تاريخية كان بالإمكان تفاديها)، للعصبية – العنصرية، المحلية وبعدها الوطنية وبعدها القومية، لا أن تنطلق فحسب، بل وتنمو أيضاً!. فقد بات السماح لهذه النوع من العنصرية، جزءاً أصيلاً في التسويق الانتخابي، لأحزاب كانت حتى وقت قريب، بمثابة " ملاذ سياسي واجتماعي آمن" للمهاجرين الشرعيين والعمال والموظفين الأجانب. هذا التحول الخطير، يعطي مساحة للاستنتاج، بأن القوى اليمينية المتطرفة في الغرب – وتحديداً في أوروبا – ستصل إلى مرحلة تتمكن فيها، من تغيير القواعد التقليدية المتبعة، في مجال التعاطي مع الأجانب. والحجة موجودة " حماية اقتصاداتنا الوطنية"!.

المثير في الحالة البريطانية، أن الائتلاف الحكومي، بين حزبي المحافظين والديمقراطيين الليبراليين ( وهو ائتلاف لا يزال البعض يراه مضحكاً أكثر من كونه غريباً)، والذي سن قانون الحد من منح التأشيرات الشرعية للعمال والموظفين الأجانب، تمكن من تكميم أفواه قيادات الحزب الليبرالي في هذا المجال. فقد حلت عند هذا الحزب المعتدل والمدافع عن الحقوق الإنسانية بكل أشكالها، نشوة الحكم مكان "قدسية" الأخلاق والمبادئ!. ولذلك.. فلا غرابة في ظهور أصوات من الحزب الليبرالي بين الحين والآخر، تعبر عن مرارتها من هذا الائتلاف، ومن التحولات الأخلاقية السلبية لدى قيادته. إلى درجة أن اعترض وزير التجارة فينس كابل ( وهو عضو في الحزب الديمقراطي الليبرالي)، على مشروع حكومته نفسها، لأنه يتضمن – بالإضافة إلى الحد من تأشيرات العمل – تقليص عدد التأشيرات الممنوحة لمن؟ للطلبة والأسر!. وهذا وحده، يؤكد مرة أخرى، بأن القوانين البريطانية الجديدة، لا تستهدف العمال والموظفين الأجانب فحسب، بل تشمل بصورة خطيرة، الأجانب الذين يرغبون في التحصيل العلمي، والأسر التي تسعى إلى لم شملها بالطرق القانونية لا الاحتيالية. ولمزيد من التضييق، لم تخف وزيرة الداخلية في بريطانيا، أنها تدرس خفض أجور بعض العمال الأجانب، كجزء من عملية تشديد قوانين الهجرة.

ولأن المعايير الانتخابية – الشعبوية، هي التي تحكم حالياً في المملكة المتحدة ( والغرب عموماً)، فقد تناست حكومة الائتلاف، بأن بريطانيا – كغيرها من الدول الغربية – تحتاج إلى مهاجرين شرعيين، يساهمون في تصحيح الخلل الديموغرافي، الذي تعيشه كل هذه البلدان، من جراء ارتفاع متوسط الأعمار، وانخفاض نسبة مواليد السكان الأصليين!. وهذه وحدها أزمة، ستكون أمامها الأزمة الاقتصادية الراهنة، مجرد سحابة صيف!. وهي تعلم – على سبيل المثال – أن تخفيض عدد تأشيرات العمل التي ستمنحها في العام 2011 إلى 21 ألف و700 تأشيرة، من 28 ألف تأشيرة في العام 2009، ستخفض من قدرة الدولة في المستقبل، على مواجهة الأزمة الديموغرافية. ولكن، كيف يمكن لحكومة، أعلنت في برنامجها الانتخابي، أنها تضع تخفيض عدد العمال والموظفين والطلاب الأجانب، هدفاً أساسياً لتحققه خلال فترة وجودها في السلطة، أن تفهم ما يجب عليها أن تفهمه؟!.

يقول المؤلف والأديب الأميركي توم روبينز :" كن ملتزماً في قراراتك، لكن كن مرنناً في نهجك". لكن يبدو أن الحكومة البريطانية ( ومعها حكومات في بلدان غربية أخرى)، صارمة في قراراتها ونهجها. فعندما تتحول الرؤى الإستراتيجية إلى سلعة سياسية – انتخابية، تنزوي المعايير الأخلاقية، وتنتهي بيئة التسامح، التي لا تصب فقط في مصلحة الأجانب، بل في مصلحة الشعوب الغربية نفسها.

إن بريطانيا هي الدولة الغربية الوحيدة، التي فقدت أموالها في فقاعات اقتصادية تاريخية، وفقدت معها "حلاوة" تسامحها، الذي تميزت به على مدى عدة عقود من الزمن، مقارنة مع بقية الدول المشابهة لها. وإذا ما استشرت "العنصرية الاقتصادية" فيها، فسوف لن يتمكن هذا البلد، من استعادة ملامحه المتميزة. سيكون مثل باقي البلدان، التي لا تنظر أبعد من أنفها!.

هذا ليس طرح عاطفي، إنه طرح أخلاقي.


الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

الفيلم الأوروبي الطويل: من أجل مئات المليارات من الدولارات ؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")









" الديون والأكاذيب، غالباً ما تتماهى مع بعضها البعض "
فرانكوس رابيليس مؤلف وكاتب فرنسي


محمد كركوتـي


المشهد الأول من الفصل الثاني للقصة الحقيقية التي تحمل عنواناً مخيفاً هو "ديون الاتحاد الأوروبي" أو " من أجل مئات المليارات من الدولارات" ( عرض الفصل الأول مستمر!).. يقف رئيس الاتحاد هيرمان فان رومبوي، معلناً بصوت درامي أن "منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي بأسره لن يبقيا، إذا لم تُحل أزمة ديون الدول الأعضاء". في المشهد نفسه، تظهر واحدة من أبطال القصة -الحقيقية جداً- هي أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، لتقول بصوت جهوري "إن الاتحاد الأوروبي سينهار، إذا قُدر لليورو أن ينهار". في الفصل الأول من القصة ذاتها، تتواصل مشاهده، بغرق اليونان في بحار من الديون السيادية، والأفضل أن أقول "الديون الحكومية" ( لا أزال أجد صعوبة في قبول توصيفها. فهل هناك سيادة وكرامة مع الديون؟!)، مع تدافع "فرق الإنقاذ" لانتشالها، ومع موجة من التأنيب والإذلال والتحذير، من جانب عدد من الدول المُنقِذة، خصوصاً ألمانيا. المادة "الاقتصادية الدرامية" – إن جاز التعبير – تنتقل من الفصل الأول إلى الثاني، مع بقاء "الأبطال" أنفسهم في قلب القصة، بينما الضحايا يتبادلون الأدوار!. ولأن الأزمة الاقتصادية العالمية، قدمت بحراً من القصص التي لا تنتهي، فلا خوف من شح "النصوص"، ولا خشية من نقص في عدد الأبطال و"الكومبارس" معاً. سيكون دائماً على الساحة "أبطال اقتصاديون"، مثل كلينت إيستوود ( ليكن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي) ومارلون براندو (ليكن رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون) وروبرت دي نيرو ( ليكن رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو بريلسكوني) وجوليا روبرتس ( لتكن مستشارة ألمانية ميركل)، وسيكون هناك العشرات - بل المئات - من الكومبارس على نفس الساحة الدرامية.

ولعل هذه القصة هي الوحيدة في هذا العالم، التي يمكن متابعة فصولها وأحداثها في نفس الوقت. أي لا فواصل بينها!. فأحداث الفصل الأول المستمرة، تتواصل مع قدوم وفد ثلاثي من المفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي إلى اليونان، لمواجهة احتمالات عدم قدرة هذا البلد على تسديد الديون التي مُنحت له، والبالغة 110 مليار يورو!. فعذراً من "الجمهور"، لا وقت للاستراحة، ولا فرصة لتحريك المفاصل. الأحداث مستمرة، والدراما متفاعلة، والقصة بلا نهاية!.

عودة إلى المشهد الأول من الفصل الثاني، ليكن عنوانه مقولة للمؤلف اللاتيني ببليليوس " الديون الصغيرة تنتج دائناً، والديون الكبيرة تنتج عدواً". أيرلندا.. تُكابر وتمتنع عن طلب العون، رغم معرفتها بأن اقتصادها مهدد بالانهيار، بل شارف عليه!. أيرلندا تُجري مباحثات سرية مع صندوق الإنقاذ الأوروبي، وتعلن في الوقت نفسه، أنها لا تقوم بأي مباحثات!. أيرلندا نفسها تتراجع وتعترف بوجود مباحثات حقيقية في هذا الشأن!. بعثة تضم ممثلين عن المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي ( مكرر من الفصل الأول!)، تصل إلى دبلن علناً، من أجل درس المشكلات البنيوية للمصارف الايرلندية. بريطانيا تعلن رسمياً، أنها ستساعد أيرلندا في محنتها الاقتصادية، بينما تعيش المملكة المتحدة حالة غرق في ديونها!. أيرلندا تطلب عوناً لمصارفها، ولكن ليس لموازنتها العامة، الغارقة بالديون والعجز!. هذا أمر ليس مهماً، سوف ترضخ في النهاية إلى معايير وشروط المُنقذين، فهي تعلم أن الغريق لا يمتلك الحق ولا حتى الوقت، لفرض شروطه على مُنقذه. وربما من "سكرة" الانهيار، لم يقرأ المسؤولون الأيرلنديون، إعلان فرنسا وألمانيا (الدولتان الأكثر إنقاذاً في منطقة اليورو) المشترك، بفرض عقوبات رادعة بحق كل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، تفشل في خفض العجز في موازنتها العامة في غضون ستة أشهر. ولم يسمع هؤلاء ما قاله ساركوزي علانية: "إن الدولة التي تسجل نسب عجز كبيرة، ولا تتخذ الإجراءات الكافية لخفضها، يجب أن تتعرض لعقوبات سريعة وفعالة". مهلاً، هناك لوحة في المشهد. ألمانيا تريد إشراك المصارف ومؤسسات القطاع الخاص في إدارة أزمة الديون. سيداتي سادتي.. مازال المشهد الأول من الفصل الثاني مستمراً.

المشهد الأول من الفصل الثالث. ليكن عنوانه مقولة للشاعر الأميركي أوجدين ناش "الديون تشعرك بالسعادة عندما تكسبها، وتشعرك بعكس ذلك عندما يتوجب عليك إعادتها". وزير الخارجية البرتغالي لويس أماديو يلوح للمرة الأولى، بإمكانية خروج بلاده طواعية من منطقة اليورو، لماذا؟ لأن البرتغال، تواجه متاعب داخلية شرسة، في تمرير حزمة التقشف التي فُرضت عليها من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. زميله وزير المالية فرناندو سانتوس، يعلن أن حكومته لا تخطط لطلب المساعدة من المجتمع الدولي، بل ستواصل القيام بالحصول على التمويل من خلال سوق السندات الدولية. ولأن أحداث القصة متشابهة –بل متطابقة - فقد تقمص البرتغاليون، الدور الأيرلندي الرافض للحصول على مساعدة. لكن الأحداث تسير في نفس السياق، فلا يمكن للشبونة الاستمرار في الرفض، أو مواصلة التهديد بالخروج الطوعي من منطقة اليورو، عندما يستكمل الخراب تسيده لحالة البلاد الاقتصادية. وقتها تنزوي الكرامة ومعها الكبرياء، ولا غرابة في رؤية ممثلي الإنقاذ، يفتحون ملفات الديون البرتغالية، ومعها أضابير العجز في الموازنة العامة، الذي يقترب من 10 في المائة من مجموع الناتج المحلي.

في العام 1965 أنتجت السينما العالمية واحداً من أشهر أفلام "الوسترن" حمل اسمه الشهير" من أجل حفنة من الدولارات" أو For a Few Dollars More ، من بطولة كلينت إيستوود. وفي العام 2008 أنتجت الأزمة الاقتصادية العالمية، واحداً من أطول " الأفلام" الأوروبية، لا يستحق اسماً سوى " من أجل مئات المليارات من الدولارات" أو For a hundreds billion dollars more . في فيلم إيستوود، كان القتل هو الطريقة الوحيدة للحصول على حفنة من الدولارات. وفي "فيلم" الأزمة، هناك مجموعة من الطرق ينبغي إتباعها للحصول على مئات المليارات من الدولارات. الخنوع والاستجداء والتذلل وفتح الملفات مهما كانت سرية والاعتراف بالحقائق.. منها، وقبل هذا وذاك، الانكشاف الاقتصادي الكامل. باختصار.. لا مكان للسيادة الوطنية أو المحلية، ولا مجال للكرامة مهما كانت هشة وضئيلة.

بالأمس كانت اليونان، واليوم حلت أيرلندا، وغداًً يأتي دور البرتغال، وبعد غدٍ ربما أسبانيا ولا غرابة إن كانت بعد بعد غدٍ إيطاليا. لن نتحدث هنا عن الدول الأوروبية خارج منطقة اليورو. فقد غمرت الديون صروحها، قبل شعوبها ومسؤوليها. وهذه وحدها مصيبة عالمية أخرى، ستتطلب مُنقذين، هم أنفسهم يسبحون في بحار من الديون!. كما أن دول اليورو لا وقت لديها ( ولا حتى مالاً) للتعاطي مع هذه القضية المتفاقمة. وبالعودة إلى المشهد الأول من الفصل الثاني، نجد أن الحبكة، ليس في إنقاذ هذا البلد أو ذاك، أو عجز هذه الدولة أو تلك، بل في محاولات حماية الاتحاد الأوروبي نفسه من الانهيار. فمع اندلاع الأزمة العالمية، واستفحال كارثة الديون الأوروبية، كانوا يتحدثون عن مصير منطقة اليورو، وكيفية حماية المنطقة من التفكك. اليوم يتحدثون عن مصير اتحاد، بُني على أسس متينة لا ارتجالية، وأقيم على قواعد ثابتة متأنية، لا هشة ومتسرعة. اتحاد صار رمزاً عالمياً للنجاح، وتحقيق الأهداف.

سينجو الاتحاد الأوروبي، لكنه سيكون مثل ذلك الملك الذي انتصر في الحرب، وعاد إلى بلاده لوحده. لقد فقد كل جيشه!.


الأربعاء، 17 نوفمبر 2010

الإنترنت والتلفزيون وما بينهما

(هذا المقال خاص بمجلة " جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج")








" الزمن أقنعني بشيء واحد، هو أن التلفزيون وجد للظهور فيه، لا مشاهدته "
نويل كاوارد كاتب وممثل ومخرج دراما بريطاني




محمد كركوتـي

بعد المطبوعات التي فقدت بريقها والعديد من مواقعها، وتهددت في مصيرها أمام الإنترنت وتوابعها، جاء التلفزيون الذي قد يفقد أضوائه أمامها. وفي ظل الحديث الذي لا ينتهي عن مصير المطبوعات، واستحواذ الإنترنت على مزيد من قرائها وإعلاناتها ومصادر دخلها، بدأ حديث عن العلاقة التي أصبحت شبه متشابكة بين الشبكة الدولية والتلفزيون، وعن الآثار المترتبة على تصاعد أسهم الإنترنت عند الملتقين من كل الأعمار، لاسيما الشباب منهم. فالقضية ليست "فانتازية" بل حقيقية، وليست موسمية بل مستدامة، خصوصاً بعد أن تخلصت الإنترنت من توصيفها النخبوي، إلى التوصيف "الشعبوي"، وبعد أن أضحت ضرورة مُلحة في الحياة اليومية، لاسيما في المجتمعات التي حققت نمواً كبيراً في هذا المجال، وانغماساً عالياً في خطوطها. وفي ظل المعركة الناشبة بين الشبكة الدولية والمطبوعات – بكل أشكالها – تلوح في الأفق معركة، قد لا تكون بعنف الأولى، لكنها في النهاية، ليست معركة جانبية، وإن كانت تبدو على الساحة – أحياناً وليس دائماً - حلول وسط فيها.

ولعل الأسئلة الأولية التي تطرح في هذا المجال هي، من يستفد ممن؟، ومن أقوى ممن؟، وكيف يمكن المواءمة بين الطرفين؟. وقبل هذا وذاك، من سيفوز في النهاية بالقطعة الكبرى من الكعكة الإعلانية، ومن "حلوى" الرعاية التجارية؟. فالدخل المالي هو الذي يقرر في النهاية مصير هذه الأداة الإعلامية أو تلك، وهو الذي يرسم معالم الاستثمار فيها، وبالتالي آفاق تطورها، خصوصاً إذا كانت القنوات المعنية تقوم على قاعدة مؤسسية، لا ارتجالية ولا موسمية.. ولا "بقالية".

نعم يخسر التلفزيون أمام الإنترنت، وإن بصورة أقل من خسارة المطبوعات. وقد ظهر هذا واضحاً في دراسة أجرتها مؤسسة "ديلويت 2010 تي. أم. تي بريدكشينز" أو The 2010 Deloitte TMT Predictions الأيرلندية. حيث توقع معدو التقرير، أن يواصل التلفزيون تسيده للمشهد على صعيد وسائل الترفيه المنزلية، ولكن لعام آخر. وهذا يعني أن شيئاً ليس مضموناً للقنوات التلفزيونية، لكي تستمر في تسيدها هذا في الأعوام المقبلة، وأن الأمور قد تتحول في العام المقبل، في غير صالحها. لقد ضرب هذا التقرير، ما يعتقد به المتابعون لقطاع الإعلام بكل أدواته، بأن تحميل المواد المختلفة التلفزيونية وغيرها من الإنترنت على أجهزة الكمبيوتر، لمشاهدتها في وقت لاحق أو وقت مناسب، ستؤثر تدريجياً على طريقة المشاهدة التلفزيونية، وستنشئ سلوكاً سيكون مستداماً إلى وقت طويل. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو، من يضمن استمرار المتابعة التلفزيونية المباشرة من قبل المشاهدين، في وقت تتزايد فيه أعداد مستخدمي الإنترنت، حتى في الدول التي لم تصل بعد إلى مرحلة متقدمة، لتشكل الإنترنت جزءاً أصيلاً من حياة سكانها اليومية؟.

ومهما يكن من نتائج التقرير المتخصص المشار إليه، إلا أن الأمور تتجه لمصلحة الإنترنت، حتى لو توقع واضعو التقرير، مشاهدة أكثر من 90 في المائة من المواد التلفزيونية، وأكثر من 80 في المائة من المواد الإذاعية، من خلال البث التقليدي، أي بصورة مباشرة. ولعل السبب الرئيسي وراء استمرار تسيد التلفزيون والإذاعة المشهد الإعلامي العام، يعود إلى أن هاتين الوسيلتين متاحتان للغالبية العظمى من المشاهدين – المستهلكين، وتكاليفهما بسيطة، غير أن نسبة كبيرة من المُعلنين، يتجهون عادة إلى المستهلكين المتمكنين اقتصادياً ومعيشياً، الأمر الذي سيصب مستقبلاً في صالح الإنترنت، على صعيد الدخل، وبالتالي على صعيد الاستثمار فيها. ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من القنوات التلفزيونية والإذاعية -العربية وغير العربية- تواجه تراجعاً ملموساً في مداخيلها الإعلانية، من جراء تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية، التي أقصت على الساحة العربية، عدداً من القنوات، وأجبرت قنوات أخرى على إتباع نظام تقشف صارم في السنتين الماضيتين.

لن تسيطر الإنترنت مائة بالمائة، على المشهد الإعلامي العربي والعالمي، لأن جزءاً من المادة التي تستخدم من خلالها، هي تلفزيونية وإذاعية، لكن في المقابل، هناك تزايد كبير لما أصبح يعرف بـ " الإنتاج التلفزيوني الاجتماعي الخاص" عبر الإنترنت، وهو أمر سيؤثر سلباً على الإنتاج التلفزيوني التقليدي في المستقبل، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الإنتاج الإعلامي الاجتماعي ( وليس الإخباري) يستقطب العدد الأكبر من الناس في كل بقاع الأرض. يضاف إلى ذلك أن انخفاض تكاليف الوصول إلى الإنترنت على مستوى العالم ( يمكن قضاء ساعات كافية على الشبكة الدولية بأقل من دولارين أميركيين)، سيعزز من مكانة هذه الشبكة والطلب عليها، حتى في المجتمعات التي تعاني شحاً مالياً.

فعلى سبيل المثال، أظهرت مجموعة من الإحصائيات والدراسات، بما في ذلك دراسة أعدتها مؤسسة "ديجتال انسياتس" أو Digital insites الأوروبية، أن جيل الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، "يديرون ظهورهم" تدريجياً للتلفزيون، مقابل تزايد شغفهم بتصفح الإنترنت الذي يأخذ من وقتهم أكثر من ثلاث ساعات يومياً. وحسب الدراسة، فإن مستخدمي الإنترنت في المنطقة، يمضون ساعات أطول في تصفح الإنترنت من مشاهدة التلفزيون، مما يدفع المتابعين لأحوال سوق الإعلام، لتوقع مستقبل واعد لسوق الإعلانات على الشبكة الدولية. والأمر ليس مختلفاً كثيراً في المناطق الأخرى من العالم. أعداد كبيرة تتجه إلى الإنترنت، ليس فقط لقراءة ما يرغبون عليها، بل أيضاً لمشاهدة "المنتجات" التلفزيونية التقليدية وغير التقليدية، وللاستماع إلى "المنتجات" الإذاعية بكل أنواعها.

وعلى هذا الأساس، فإن المعركة الدائرة حالياً بين الإنترنت والتلفزيون، قد تتحول إلى حرب، سيكون معها هذا الأخير في وضع صعب ومعقد للغاية.


الثلاثاء، 16 نوفمبر 2010

قمة الـ "أنا" لا الـ "نحن"!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" مرة أخرى.. غالبية الاختلافات الاقتصادية، هي اختلافات حول الدرجات لا حول الأنواع"ألفريد مارشال بروفيسور اقتصادي بريطاني

 


محمد كركوتـي
 
ذكرتني دعوة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، مجموعة العشرين، قبل قمتها في العاصمة الكورية الجنوبية سيول، لـ "الوحدة في هذا الوقت الحرج الذي يعيشه الاقتصاد العالمي"، بدعوات بعض قادة العرب الحكماء قبل كل قمة عربية بـ "ضرورة الوحدة في الوقت الحرج الدائم الذي يعيشه العرب". وبهذه الدعوة، يبدو أن بعض الأطراف المحورية في مجموعة العشرين – لاسيما الكبار التقليديين -، "أحبت استعارة" شيء من روح "المجموعة العربية"، رغم الأوقات الحرجة، والكوارث المتراكمة، وتداعيات المصائب الاجتماعية، الناجمة بالدرجة الأولى عن الأزمة الاقتصادية العالمية!. هذه الأطراف وضعت إلى حين، مشروع النظام الاقتصادي العالمي المزمع، وقضايا الإصلاح الاقتصادي، وأهداف الألفية التي استحدثتها الأمم المتحدة مطلع القرن الجاري، لتحسين ما أمكن من حياة البشر البائسين، ووضعت إلى حين أيضاً، خريطة الحرب على الأزمة الكبرى، لتركز على قضية – مهما كان هناك من مدعين بأهميتها وخطورتها – تخص في الواقع طرفان فقط، هما الصين والولايات المتحدة الأميركية!. قضية ثنائية استحوذت على حراك مجموعة تقود العالم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وللسيطرة على "قطار" الاقتصاد العالمي، الذي يسير بلا قائد يوجهه ويوقفه عندما يلزم الأمر، بل لنقل بلا "فرامل"، تُمكِن القائد المنتظر من إيقافه!.

لم نكن بحاجة للانتظار حتى اختتام قمة مجموعة العشرين وبيانها الختامي، لكي نعرف النتائج. فـ "المكتوب كان واضحاً من عنوانه". واجتماعات وزراء مالية المجموعة الممهدة للقمة، كانت أفضل مؤشر على النتائج. كانت عبارة عن مجموعة من لقاءات، مليئة بالمناوشات والاتهامات، والأخطر من هذا وذاك، أنها شهدت ولادة محور اقتصادي ( الكبار التقليديين) داخل المجموعة التي يُفترض أنها أنهت عصر المحاور الاقتصادية!. كانت ببساطة اجتماعات "الاقتصادات الوطنية" لا "الاقتصادات العالمية". كانت اجتماعات الـ "أنا" لا الـ "نحن"، رغم معرفة الجميع – بما في ذلك المناوشين أنفسهم - بأن الـ "أنا" هذه، لم تجلب للعالم على مدى سبعة عقود من الزمن سوى الخراب والأزمات، والكساد والركود، والازدهار الوهمي الفقاعي!. إلى ماذا أدت هذه الحالة؟.. أدت إلى ترحيل الملفات الهامة إلى القمة المقبلة في فرنسا، وإذا ما بقي الحال على ما هو عليه، ستُرَحل إلى القمم المقبلة التي تليها!. وقد ساهم التوتر القائم بين الكبار التقليديين – باستثناء ألمانيا – وبين الصين تحديداً، في انتهاء القمة إلى قرارات "تسويفية"، أكثر من كونها قرارات مُلزِمة، وهو أمر يبدو مقبولاً من مجموعة هامشية إقليمية ضيقة، لا مجموعة أُوكلت ببناء نظام اقتصادي جديد، يحل مكان النظام الذي صبغ العالم بألوان قاتمة، واحتكر القرار الاقتصادي " المقدس"!.

المشكلة التي واجهت مجموعة العشرين - التي حققت قفزات نوعية في أعقاب الأزمة ربما من فرط الصدمة وهول الواقعة – في قمة سيول، أن بعض الأطراف الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بدأت تلعب "سياسة اقتصادية" محلية لا "اقتصاد سياسي" عالمي. وهذا أمر لا يتوافق و"عضويتها" في مجموعة عالمية احتوت كل المجموعات التقليدية!. والسلوك الأميركي في القمة المذكورة، لا يتوافق مع سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما، التي اعتمدت "الإشراك" و المصلحة الاقتصادية العالمية، أساساً لتوجهاتها. كما لا تنسجم مع ما قاله أوباما نفسه – قبل القمة – بـ "بضرورة أن يقوم قادة زعماء مجموعة العشرين بتنحية خلافاتهم جانباً، والعمل معاً والتعاون من أجل تحقيق تعافي الاقتصاد العالمي". فالذي حدث أن خلافات واشنطن – بكين هي التي سيطرت على التحضيرات للقمة، وبعدها استحوذت على القمة نفسها، وهمشت ما لا يجب أن يُهَمش!. فالأولى تقول: إنكم تخفضون قيمة عملتكم (اليوان)، وتسببون الضرر لاقتصادنا بإغراقنا بمنتجاتكم، والثانية تقول: إنكم تطبعون الدولارات الأميركية بدون غطاء، وتتلاعبون بعملتكم لتنشيط اقتصادكم.

في ظل هذا "الردح الاقتصادي"، كيف يمكن لمجموعة تسيطر على 90 في المائة من الاقتصاد العالمي، أن تحقق خطوات مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى، على صعيد تهدئة الاقتصاد العالمي، تمهيداً لتأسيس منظومة مستدامة له؟. كيف يمكن أن يتفرغ قادة العالم العشرون، إلى المسائل المصيرية؟. كيف يمكن للمجموعة القائدة، أن تحسم ( أو تُحَضِر للحسم) قضايا التنمية والفقر والفوضى المالية والاختلالات والفوائض التجارية؟. كيف يمكنها أن تقدم ما عجزت عن تقديمه مجموعة الثماني؟. فالقضية – رغم التصريحات "الجميلة"- ليست عالمية صرفة، بل ثنائية محضة. وهذا آخر ما يريده هذا العالم الذي لا يزال يبحث عن مخارج النجاة من الخراب الأكبر!. مرة أخرى كانت قرارات قمة سيول "تسويفية"، لا مستدامة. بل لم تكن مُلزمة بصورة فعلية لأي من الأطراف. وعلى هذا الأساس، يحق للعالم أن يبدي مخاوفه من المستقبل، ويحق له أن يقول للكبار: مهلاً.. نحن في أزمة، أنتم مفجروها. لا تواصلوا التفجير. أنتم تفجرون ما هو مُفَجَرٌ أصلاً!!.

كانت المملكة، أكثر دول المجموعة حرصاً على ترابطها، سلوكاً ومنهجية وسياسة اقتصادية شاملة.. لا فردية أو ثنائية أو "محاورية" – إن جاز التعبير - . وفي مجموعة تخص العالم، ولا تخص دولها فقط، حرصت الرياض على دورها المكمل، لا دورها "المُنقِص". وهذا أمر مطلوب من كل دولة فازت بمكانة لها في مجموعة العشرين. فعندما تفشل قمة – بهذا المستوى – في الاتفاق على آلية لكشف الاختلالات الكبرى بين الفوائض والعجوزات التجارية، يعني أن حرب العملات تقترب من الانفجار. الذي حدث أن القمة وجهت وزراء مالية المجموعة، بوضع ما سمي "إجراءات إرشادية" لكشف الاختلالات الكبيرة في الموازين التجارية التي تهدد استقرار الاقتصاد العالمي!. وعندما تُرحِل قضية فرض ضرائب على المعاملات المالية للمصارف والمؤسسات المالية الكبرى، للمساهمة في تغطية نفقات مواجهة الأزمة العالمية إلى القمة المقبلة، هذا يعني أن القضية أصبحت مطاطة، ربما تُرَحل من قمة فرنسا إلى قمم أخرى في المستقبل!. هذا دون أن نتحدث عما وصلت إليه الخطوات الرامية لتأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد، لا يحتوي الخلافات والاختلافات والاختلالات والمآرب الفردية فحسب، بل يقي العالم من أزمات كبرى شبيهة بالأزمة العالمية.

لقد بدا واضحاً – قبل القمة وبعدها – أن هناك من يريد خطف المقود في مجموعة العشرين، لأسباب وطنية صرفة ( المآرب السياسية في صبها)، وهذا لوحده يضع المجموعة مستقبلاً، في مواجهة تهديد خطير، سينال منها ومن هامتها.. بل وهيبتها. فقد أثبتت التجارب التاريخية، أن الاستئثار في القيادة العالمية، لا يختلف عن استئثار أي ديكتاتور في دولة يحكمها، ويصنع القرارات وفق المزاج والفائدة الشخصية. لكن الأوقات تتغير. فـ " السائق" السابق للعربة العالمية، فقد الكثير من مهارات القيادة بما في ذلك قدرته على التحكم بها، إلى درجة أودى بها ومن فيها في واد سحيق، فشلت عمليات الإنقاذ في انتشالها، واكتشف العالم أن كل "بوالص التأمين"، لا يمكن أن تغطي الخسائر الناجمة عنها!.

الثلاثاء، 9 نوفمبر 2010

المهاجرون هم الحل أو بعضه

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")



" ينبغي أن تسترخي مع شيخوختك.. ماذا يمكنك أن تفعل؟! "
فيليستي كيندال ممثلة مسرحية وتلفزيونية بريطانية



محمد كركوتـي


في أوروبا أزمة تتشكل منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، ستكون الأزمة الاقتصادية العالمية، مجرد "نزهة" أمامها. أزمة لا تنفع معها عمليات التحفيز والإنقاذ، لأنها مرتبطة بالاقتصاد والنمو الديموغرافي، أي أنها لا تخضع للمعايير الاقتصادية الصرفة، لكي تُوضع لها الخطط والبرامج المحددة والواضحة. إنها مرتبطة بـ "ثقافة" النمو السكاني، التي بدورها تستند إلى مفهوم كل فرد لها، لا المفهوم الموحد للمجتمع. ففي مجتمعات مفتوحة تكفل الاختيار الفردي التام – ومعه الحرية الفردية بالطبع - لايمكن بأي حال من الأحوال، لأي حكومة أن تفرض نسبة نمو سكاني، ولا معدلات محددة لعدد المواليد. وعلى الرغم من أن هذه الأزمة بدأت بالتشكل منذ ثلاثين عاماً تقريباً، غير أنها لا تُطرح بصورة واقعية وتحليلية عميقة، إلا في زمن الأزمات الاقتصادية. ففي النهاية، يستحيل تجريد النمو السكاني من روابطه الاقتصادية والتنموية. ولأن الأمر كذلك، فقد بدأت أوروبا بشكل خاص، والعالم الغربي بشكل عام، في إرسال التحذيرات من خطورة ما يمكن تسميته بـ " النمو الديموغرافي للمسنين" فيها. ومع بدء الحكومات الأوروبية في تنفيذ خطط تقشف تاريخية، في سبيل الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية، طُرحت هذه القضية بصورة قوية، لأن إحدى بنود هذه الخطط، تفرض رفعاً لسن التقاعد، لسد الثغرات بين متطلبات العمل والعاملين. فعلى سبيل المثال، تخوض الحكومة الفرنسية صراعاً مع النقابات والمؤسسات التي تُعنى بحقوق العمال والإنسان، لأن خطة التقشف التي وضعتها، رفعت سن التقاعد في البلاد من 60 إلى 62 سنة. والأمر كذلك في بعض الدول الأوروبية الأخرى. فقد وجدت حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي، أنه لا مناص من الإقدام على هذه الخطوة، لأن الأمة الفرنسية – كبقية الأمم الأوروبية – تشيخ، ولأن معدل عمر الفرد، يرتفع بصورة كبيرة للغاية.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، سادت أوروبا حالة يمكن تسميتها بـ "ازدهار الأطفال". كانت – ربما – بمنزلة تعويض ما، عن الضحايا الذين سقطوا في هذه الحرب، والذين يُقدر عددهم بحوالي 55 مليون إنسان ( بعض التقديرات تتجاوز هذا الرقم). لكن مع نهاية سبعينات القرن الماضي، بدأت هذه الحالة بالأفول، الأمر الذي أوجد موجة خطيرة من التغيرات السكانية في القارة كلها، سمتها مديرة معهد صندوق النقد الدولي ليزلي ليبتشيتس بـ " ظاهرة النمو الديموغرافي لدى فئة من المسنين"، واعتبرتها أخطر على الأوروبيين من الأزمة الاقتصادية العالمية نفسها!. فنسبة السكان العاملين، تتراجع مقارنة بنسبة المتقاعدين، وهذا يعني أن الإنفاق على المجتمعات العجوزة، تزداد بصورة كبيرة، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومات الأوروبية (والغربية كلها)، لوقف نزيف الأزمة العالمية، من خلال مجموعة من الآليات، من بينها التشغيل الأمثل والأطول للعاملين. وطبقاً لصندوق النقد الدولي، فإن المجتمعات المسنة، ستُحدث آثاراً مخيفة، بحلول العام 2015، في أوج التحركات الحكومية الهادفة لإزالة آثار الأزمة. ولنا أن نعرف، أن عمر الأزمة العالمية، لن يقل عن عشر سنوات منذ انفجارها في العام 2008 !.

في دراسة استطلاعية مثيرة أجرتها المفوضية الأوروبية، أظهرت أن عدد البالغين من العمر 60 عاماً سيتضاعف بمعدل مليوني شخص كل عام في دول الاتحاد الأوروبي، خلال الـ 25 سنة المقبلة!. وطبقاً للدراسة نفسها، فإن أعمار الطبقة العمالة في أوروبا سيتباطأ بشدة، وستتوقف نمو هذه الطبقة بعد ست سنوات فقط، كما ستتناقص الطبقة العاملة بعد الست السنوات المقبلة، بمليون إلى مليون ونصف كل عام، وستتزايد شريحة الأعمار بين 65 و 79 بمعدل الضعف بحلول عام 2060، وسترتفع أعداد من ناهزوا الـ 80 عاماً وما فوق بثلاثة أضعاف!. إلى ماذا ستؤدي هذه التحولات؟.. ستؤدي إلى خروج الكثير من كبار السن من سوق العمل مما يضغط على موازنات دول الاتحاد الأوروبي، ويضيف عبئاً أكبر على كاهل الشباب أو الطبقة العاملة التي تواجه هي نفسها تناقصاً مستمراً!.

الجميع يعرف الحل لهذه الكارثة الاجتماعية – الاقتصادية، لكن أحداً لا يمكن أن يطرحه، كقرار أو كأمر أو كمرسوم. إنه ينحصر في زيادة الإنجاب في القارة الأوروبية، ورفع معدلات المواليد، لكي تتناسب في المستقبل مع عدد المسنين. وهذه قضية – مرة أخرى – شخصية، بينما لا تبدو في الأفق مؤشرات على رغبة الأوروبيين في الإنجاب "المطلوب". فقد سبق عزوف الأوروبيين عن الإنجاب " المُرضي" للحكومات، عزوف آخر عن الزواج. قبل عامين أصدر معهد "برلين" للسكان والتنمية، دراسة أظهرت أن عدد سكان الاتحاد الأوروبي سيقلون بواقع 52 مليون شخص إلى 447 مليونا بحلول العام 2050. وحددت الدراسة مناطق في بولندا وشرق ألمانيا وشمال اسبانيا وجنوب إيطاليا، وتوقعوا لها أن تصبح مهجورة تماماً!. وحسب التوقعات الإحصائية، فإن متوسط الإنجاب يبلغ 1.5 طفل لكل امرأة في الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن كل جيل جديد سيكون أقل عدداً من سلفه بنسبة 25 في المائة. وبحلول عام 2050 فإن متوسط الأعمار في الاتحاد (المكون من 27 دولة) سيزيد 10 أعوام. فعلى سبيل المثال، تبلغ في إيطاليا نسبة كبار السن 19 في المائة من الحجم الكلي للسكان، وستصل – حسب الدراسات الإحصائية – إلى 28 في المائة بحلول العام 2030!. وفي سويسرا (خارج الاتحاد الأوروبي)، كان السكان هناك يعيشون في العام 1900 إلى سن 52 عاماً فقط، بينما تشير الدراسات إلى ارتفاع الفئة العمرية التي تتجاوز 81 عاماً بنسبة 25 في المائة في هذا البلد ما بين 2000 و2020. وقد يكون الوضع أسوأ في اليابان من أوروبا نفسها. فمع حلول العام 2015 سيكون ربع السكان من المسنين!.

مع هذا الواقع الخطير، لا مجال لـ " القومية أو الوطنية الاقتصادية"، وبالتأكيد لا مكان لـ "العنصرية الاقتصادية". أوروبا ( والغرب معها)، تحتاج إلى بشر عاملين، لا متقاعدين فقط. إلى من يُحرك، وليس مَنْ لا يتحرك. وفي عز الأزمة، طالبت مؤسسات كبرى في بريطانيا حكومة بلادها، بضرورة تخفيف قوانين جلب العمالة، لسد العجز الناجم في بعض القطاعات، بسبب نقص الكوادر الوطنية، وبفعل ازدياد عدد المتقاعدين في هذه القطاعات. وفي ألمانيا تلقت الحكومة فيها نفس المطالب. والخبراء الأوروبيون المستقلون، لا يجدون حلاً للتحولات الديموغرافية الخطيرة، إلا بالهجرة إلى أوروبا. فقد بات من الصعب الآن – ومن المستحيل في المستقبل – أن يكون هناك حراكاً اجتماعياً – اقتصادياً متكاملاً، في مجتمعات سيكون فيها ابن الخمسين "شاباً"، قياساً ببقية الشرائح العمرية بين 60 و85 سنة، وفي بعض المناطق بين 60 و90 سنة!. ولذلك فإن القوانين التي تسنها الحكومات الأوروبية للحد من الهجرة، ستنقلب عليها في المستقبل.

ليس مطلوباً من الحكومات أن تفتح أبواب أوروبا على مصراعيها للمهاجرين، على الأقل في هذا الوقت بالذات. المطلوب، أن تقوم بموازنة الهجرة مع متطلبات سوق العمل أولاً،و وخصوصاً تقاعد الكوادر، وأن يزيد من حجم جهودها في تكريس "إشراك" المهاجرين، لأن هؤلاء يفضلون عادة الانطواء على ذاتهم وعلى جالياتهم. وإذا استطاعت الحكومات الأوروبية أن تأتي بالعمالة الماهرة المطلوبة – ولنسمها عمالة الإحلال - فإنها ستختصر الطريق نحو "الإشراك". فالأعداد المطلوبة من المهاجرين الشرعيين - لكي تحقق شيئاً من التوازن الديموغرافي - يجب أن تحظى بتسامح شعبي – قبل الحكومي – وهو أمر غائب عن الساحة، خصوصاً وأن الأزمة الاقتصادية العالمية، نشرت – من ضمن ما نشرت – موجات من الشكوك، ليس حيال المهاجرين فحسب، بل بين الأوروبيين أنفسهم. لقد ضربت التسامح في مقتل!.

الاثنين، 1 نوفمبر 2010

خائفون من ضرائب هزيلة تسند أمماً!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")

" نحن نصنع العيش بما نحصل عليه، ونصنع الحياة بما نقدمه "
ونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا الراحل



محمد كركوتـي

قبل أن يُسلِم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، بلاده التي نكبها اقتصادياً - وسياسياً طبعاً - إلى خليفته باراك أوباما، كان يهرب بطرق مُريعة من الأسئلة الخاصة بمساعدات الولايات المتحدة الأميركية للدول الفقيرة، وتحديداً تدني هذه المساعدات على مدى ثماني سنوات من حكمه للبلاد. وأحسب أنه كان يتهرب من الإجابة لسببين، الأول، أنه لم يكن يجيد الإجابة على أي شيء، والثاني، أنه كان - ومعه أركان إدارته - يفشلون في تبرير تراجع حجم المساعدات الأميركية بصورة تاريخية في فترته الرئاسية. ففي الفترة بين العامين 2000 و2008، تراجعت هذه المساعدات إلى النصف، وكانت هذه المسألة في الواقع، خارج الأجندة الرسمية. ولو تمكن بوش ومعه "ذئاب" إدارته، أن يوفقوا المساعدات لأوقفوها، بل لو استطاع ومعه " الذئاب" أنفسهم أن يسترجعوا ما قدمته بلادهم للدول الفقيرة، لفعلوا!. كانت إدارته - على عكس إدارة كلينتون التي سبقتها - ترى في المساعدات مجرد ضريبة مقيتة، ولا تجد فيها التزام لدولة كبرى، فرضته المعايير الإنسانية والسياسية أيضاً. كانت إدارة صغيرة المقام، تعمل على تصغير بلادها معها. لم تكن تعلم، أن قيمة الكبير ليست في حجمه فقط، بل في هامته الإنسانية والأخلاقية، وقبل هذا وذاك.. في مسؤولياته التاريخية.

وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية، ووقعت معها – كبقية القضايا المصيرية الأخرى – المساعدات التي تمثل "الأوكسجين" الناقص للدول الفقيرة. كل الدول المانحة، انطلقت في حديث لا يتوقف عن أوضاعها الاقتصادية المتردية، بما في ذلك توقف النمو، والبطالة، وخفض الإنفاق العالم، وبالطبع الديون الحكومية (السيادية). فالأموال شحت، وبالتالي فإنها ستنعكس بصورة مباشرة على المساعدات والمنح الخارجية. وأخذ المانحون - في ترديد غير مباشر- للمقولة المصرية الشعبية الشهيرة "ما يحتاجه البيت، يحرم على الجامع". وبصرف النظر عما يقولونه – وهو صحيح – غير أنه لا ينطبق على دول، أخذت " مقاليد الحكم" الاقتصادي، لفترة بلغت سبعة عقود من الزمن، ولا يسري على الكبار، إذا ما أرادوا أن يظلوا كباراً. هناك أزمة تاريخية كارثية بلاشك، تسبب بها الكبار .. لا الصغار، وستستفحل هذه الأزمة، إذا لم يف المانحون بوعودهم والتزاماتهم في مسألة المساعدات، لأن تداعيات الأزمة الكبرى، أكبر بكثير من قوة انفجارها. فالانفجار ينتهي في وقته ومكانه، لكن أثاره تبدو بلا نهاية، وبلا مساحة جغرافية محددة. وربما ينفع الدول المانحة، أن أذكرهم بما قاله العالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين " إن قيمة الإنسان بعطائه، لا بقدرته على الأخذ".

مع تواصل الأزمة الاقتصادية بأشكالها المختلفة، تعرضت كل البرامج التنموية العالمية في الدول الفقيرة، بما في ذلك برنامج " أهداف الألفية"، الذي أطلقته الأمم المتحدة في العام 2000، من أجل خفض معدلات الفقر والجوع والمرض في الدول النامية. والسبب الرئيسي، هو تقاعس المانحين عن الإيفاء بتعهداتهم، واحترام التزاماتهم. البنك الدولي يبحث عن الأموال، ولا يجدها، ويحاول بشتى الوسائل الوصول إلى حلول وسط – لا حلول ناجعة – من أجل استمرار برامجه بصورة تستحق توصيفها كبرامج. وهذه المؤسسة الدولية المرتعدة من شح الأموال، تعترف بأن حملتها لجمع الأموال لمساعدة الفقراء في العالم تتطلب "قوة دفع مستمرة"، نظراً لتخفيضات الموازنات في الدول المانحة الغنية. فعلى سبيل المثال، انخفض نصيب أفريقيا من المساعدات العالمية للتنمية، من أكثر من 40 في المائة في العام 1990 إلى ما بين 30 و35 في المائة منذ العام 2000. إضافة إلى ذلك، ارتفعت نسبة الفقراء الذين يعيشون في القارة السمراء، ويتوقع أن تصل إلى نحو 40 في المائة في العام 2015.

إن الموارد التي يسعى البنك لتوفيرها من الدول الأعضاء فيه، تخص هيئة التنمية الدولية التابعة له، توفر المنح وقروض التنمية منخفضة الفائدة لـ79 دولة، من الدول الأشد فقراً في العالم، أي أنها ليست هبات. وطبقاً لرئيس البنك الدولي روبرت زوليك، فإن الجهود المبذولة حالياً لجمع الأموال الضرورية، يمكن أن تساعد على حماية 200 مليون طفل إضافي، وأن تشمل خدمات الرعاية الصحية أكثر من 30 مليون شخص إضافي، وأن تساعد على مد طرق يبلغ إجمالي طولها 80 ألف كيلو متر، وأيضاً يمكن لهذه الأموال – وهذه نقطة مهمة جداً- أن تدرب وتوظف مليوني مُدرس جديد. لكن هذا يبقى كلاماً، ويمنح البنك نفس الصفة التي مُنحت لصندوق النقد الدولي، بأنه يحدث كثيراً، ولكن أحداً لا يستمع لحديثه. فكيف يمكن أن يحصل البنك الدولي على 140 مليار دولار أميركي، تعهد بتوفيرها منذ عام انفجار الأزمة في 2008، بينما يُحب المانحون حالياً، أن يُكرسوا صفة " المساكين" عليهم؟!. وكيف يمكن لبرامج التنمية العالمية الكبرى، أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بينما لا يعرف أحد مصير عمليات التمويل؟!. هل يمكن للمؤسسات الدولية المعنية، أن "تخترع" مصادر تمويل جديدة، غير التقليدية؟!. إنها مجموعة من الأسئلة، تحتاج إلى أجوبة فورية، لأن التأخر في برامج التنمية ( هي في الواقع برامج أقرب إلى عمليات إنقاذ منها إلى أي شيء آخر)، يعني أن هناك كارثة جديدة على الناصية، ومصيبة أخرى على عتبة الباب، وأزمة من نوع آخر في محيط الدائرة.

هناك مشاريع حلول، إلا أن البنك وصندوق النقد الدوليين، يستبعدانها لأنها تتطلب وقتاً لا يمكن للعالم أن يتحمله. لكن إذا أرادت الدول الكبرى أن تأخذ بها بالفعل وبصدق، يمكن أن تساند الجهود الدولية في "عمليات الإنقاذ" الإنسانية. والحقيقة أن هذا الحل طُرح قبل عام تقريباً، أي أنه ليس جديداً، وأن الأزمة تكمن في تردد الدول الكبرى في قبوله. فقد اقتُرح سابقاً، فرض ضريبة على المعاملات المالية ( المصرفية)، وحسب مؤسسات التنمية، فإن فرص ضرائب بنسبة 0.005 في المائة فقط لا غير، على المعاملات التي تجري بالدولار الأميركي واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني، ستوفر ما لا يقل عن 30 مليار دولار أميركي. والحقيقة.. يمكن اعتبار هذه الضرائب، نوعاً من أنواع التعويض التي يستحقها العالم، من أداء المصارف المشين ( على مدى أكثر من عقدين من الزمن)، الذي حضَر الأزمة العالمية وفجرها. لماذا الخوف من فرض هذه الضرائب؟ بينما تلقت غالبية المصارف المشينة مساعدات، وحظيت بعمليات إنقاذ حكومية، بأموال خرافية الحجم حقاً!. هل تخشى الحكومات من مؤسسات مالية، هي في الواقع تعمل تحت مظلتها، وأُنقذت بأموال دافعي الضرائب؟!.

لن تُشكل ضرائب بنسبة هزيلة كـ 0.005 في المائة، أي ضغط أو عبء على كاهل المصارف، في الوقت الذي يمكنها أن تصنع " العجائب" على صعيد الدول الفقيرة، وفي مجال برامج التنمية التي وافقت عليها وتحمست لها الدول الكبرى. إنها ضريبة مستحقة، على الأقل من جهة تكفير المصارف والمؤسسات المالية الكبرى، عن " ذنبها الاقتصادي" حيال العالم أجمع. كما أن للدول الكبرى، مسؤولية عالمية إذا ما أرادت أن تحتفظ بهامتها، شكلاً ومضموناً. فلا يمكن أن يتساوى "التودد" إلى مصرف أو مؤسسة، مع قضية توفير مياه للشرب - لا للاستحمام - في دولة (أو مجتمع) تصل فيها قيمة الأمطار إلى ثمن الألماس! وتستحيل المقارنة بين فقدان الدواء لعلاج مرضى الإيدز - مثلاً - في دولة ما، وبين تراجع أرباح المصارف!.

إنها قضية تتجاوز المؤسسات – مهما كبرت – لأنها ترتبط بالأمم مهما صغرت.