الخميس، 4 مايو 2017

التعليم والمستقبل ضحيتا الحروب



"التعليم ليس تحضيرا للحياة، بل هو الحياة نفسها"
جون ديوي، فيلسوف وإصلاحي تعليمي أمريكي راحل

كتب: محمد كركوتي

بعد القتل، واللجوء والنزوح والموت جوعا وبالغازات السامة، وتدمير مستشفيات ومدارس، وغيرها من أدوات الحروب الإجرامية المشينة، بعد كل هذا، هناك أكثر من 25 مليون طفل بلا تعليم نهائيا في البلدان والمناطق التي تشهد نزاعات، وذلك حسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف". وحتى البلدان التي خفت فيها النزاعات أو ضاق نطاقها، فإن الأطفال فيها ليسوا بحال أفضل في التعليم كثيرا من تلك التي تستعر فيها الحروب والمواجهات. فما تتركه الحروب هنا، يبقى لفترات طويلة قبل أن يزول، وقبل أن تظهر القوى الحقيقية لإزالته بأسرع وقت ممكن. والتعليم أحد عناوين الخراب في مناطق النزاع. فالكلمة للسلاح، لا للدفتر، والاستثمار في التسليح والمرتزقة وقُطاع الطرق، لا في التعليم. إنها حقيقة الحروب والنزاعات في هذا الزمن وفي الأزمان السابقة أيضا، فالتعليم ضحية أولية لهذه الحروب، تستمر آثارها إلى سنوات قد تتعدى جيلين أو أكثر.
حصة العرب من الـ 25 مليون طفل بلا تعليم، كبيرة، خصوصا أن نسبة من النزاعات والحروب لا بأس بها تجري في المنطقة العربية، وتمثل جزءا كبيرا من إجمالي هذه النزاعات. إضافة طبعا إلى حروب تجري في جنوب السودان وأفغانستان والنيجر وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وغيرها. والحق أن إحصائية "يونيسيف" لم تشمل العدد الحقيقي للأطفال الذي أصبحوا بلا تعليم في بلدان كسورية والعراق واليمن. ولعل الأسوأ بينها تبقى سورية في الوقت الراهن، مع وصول عدد النازحين واللاجئين نتيجة الحرب الجارية فيها إلى أكثر من 13 مليون نسمة من كل الشرائح والأعمال ومن كل المناطق في البلاد. وعلى هذا الأساس، يمكن أن يكون الرقم الفعلي أكبر بكثير من 25 مليون طفل.
إنه الواقع الملموس الواضح للجميع، ويتلخص في أن الحروب والنزاعات لا تدمر الاقتصاد وتقضي على أي أمل للتنمية فقط، بل تحرم أطفال اليوم من التعليم، وهذا الأخير هو في الواقع الوقود الوطني المحلي الذي لا غنى عنه، خصوصا في البلدان والمناطق التي تحتاج إلى إعادة إعمار ما دمرته الحروب ذاتها. ففي الوقت الذي تحتاج فيه هذه البلدان إلى كل فرد للبناء، فإنها ستجد نفسها أمام ملايين الأميين والجهلة، دون أن ننسى، أنه ليس أسهل من تحويل هؤلاء الأطفال غير المتعلمين إلى قتلة ومرتزقة وقطاع طرق ومجرمين وإرهابيين. فبدلا من أن يكون لهذا البلد أو ذاك كوادر قادرة على البناء ما بعد الحرب، ستكون لديه أعباء بشرية مخيفة اقتصادية وأمنية.
ليس هناك مجال لتحميل أي جهة دولية مسؤولية تزايد أعداد الأطفال المحرومين من التعليم في مناطق النزاعات. فلا يمكن لأي جهة دولية مهما كان تأثيرها كبيرا، أو حتى قدراتها المالية والبشرية عالية المستوى أن تؤدي دورا محوريا في هذا المجال. والسبب معروف بالطبع، أنه لا توجد أرضية آمنة لإطلاق برامج تعليمية فعالة وضم ما أمكن من هؤلاء الأطفال إليها. نجحت بعض الجهات في توفير التعليم بالفعل لبعض الأطفال، لكن ليس فيها بلدانهم، بل في مناطق خارجية. والوصول إلى هذه المناطق الآمنة أو الأقل خطرا، هو في حد ذاته انتحار، لأن كثيرا من هؤلاء يُقتلون على الطرق، أو تتم سرقة الأطفال أنفسهم لبيعهم، على اعتبار أن هذه التجارة تنشط بصورة لا مثيل لها خلال النزاعات والحروب.
وتفضل نسبة كبيرة من أسر الأطفال المشار إليهم البقاء في مناطقهم على أمل انتهاء المواجهات. وهنا يتزايد عدد الأطفال المحرومين لأن كل المناطق التي يبقون فيها بلا مؤسسات تعليمية أساسا وبالتالي بلا مدارس من أي نوع. إنها مصيبة العصر بلا مبالغة. فهي مرتبطة بصورة مباشرة بالمستقبل الذي من المفترض أن يكون ساحة لأطفال اليوم. المصيبة الأكبر، أن حرمان الأطفال من التعليم يتم حتى في البلدان التي ليس فيها حروب أو نزاعات، وذلك لأسباب اقتصادية بحتة. الطفل يمثل "كادرا" مهما اقتصاديا وفق هذه المعايير المخيفة حقا، وغالبا ما تحظى هذه المعايير بقبول بل وترحيب أسر الأطفال أنفسهم، لأسباب اقتصادية طبعا! فإذا كانت وضعية الأطفال التعليمية في مناطق الحروب والنزاعات مفهومة، فكيف يمكننا فهم الحالات الأخرى؟
وهنا يمكن ببساطة توجيه مزيد من اللوم للجهات الدولية المختصة. صحيح أنها تملك عذرها في صعوبة بل استحالة الوصول إلى مناطق القتال، لكنها لا تملك مثل هذا العذر في المناطق التي لا تشكل أي خطر على عملها، حتى لو واجهت مناوشات من بعض الأنظمة الحاكمة التي لا ترغب في وصول هذه الجهات التعليمية أساسا. الأنظمة المشار إليها، تعتبر الحرف والكلمة من الأسلحة مؤجلة الاستخدام ضدها، وفي أغلب الأحيان لا تستطيع منعها من تأدية واجباتها حيال الأطفال بشكل عام. المهم أنه يمكن تخفيف كارثة أطفال مناطق النزاعات، بتدعيم أكثر لتعليم الأطفال في المناطق التي تشهد مناكفات ومناوشات فقط.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


انتخابات مبكرة في بلد بلا بوصلة



"حكومة بريطانية جديدة قبل مفاوضات الخروج، جيد بالنسبة لنا أيضا"
أنطونيو تاجاني، رئيس البرلمان الأوروبي


كتب: محمد كركوتي

لنترك جيرمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني المعارض يواصل عيشه في أحلام تحمل معها خيبتها، ولندع الحزب الديمقراطي الليبرالي المتضائل جانبا. ولسنا مضطرين إلى تناول موضوع تيارات أو أحزاب أو تجمعات سياسية بريطانية متطرفة، لأنها ببساطة لا تشكل أية أهمية فاعلة على ساحة التغيير، خصوصا في زمن الانتخابات العامة الطبيعية، فكيف الحال بالانتخابات المبكرة غير الطبيعية التي تأتي وسط متغيرات يمكن وصفها بالمخيفة بالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى أن تكون بريطانيا جزءا من محيطها والعالم بصورة سلسة، لا أن تصبح أداة أو عامل اضطراب في العلاقات الدولية. لنضع كل هذا جانبا، لأنه لا يشكل عمليا محاور رئيسة في الانتخابات المقبلة التي ستجري في حزيران (يونيو) المقبل، أي بعد عام واحد من الاستفتاء التاريخي على انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وقبل أيام من بدء رسمي لمفاوضات الانسحاب. رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تعرف أنها منتصرة في هذه الانتخابات، ليس من فرط قوة حزبها (المحافظين) على الساحة الشعبية أو الانتخابية، بل من هزالة مكانة أحزاب المعارضة كلها "ولا سيما العمال" على الساحتين الشعبية والسياسية. فالديمقراطيون الأحرار، الذين خسروا أكثر من 80 في المائة من مقاعدهم النيابية في آخر انتخابات عامة فاز بها حزب المحافظين بهامش ضئيل أيضا، هؤلاء لا أمل منهم على الأقل من الآن وحتى الانتخابات العامة العادية المقبلة. لقد انهار في الواقع هذا الحزب بفعل تلك الخسائر المهينة، ولم يستطع أن يلعب دورا مؤثرا في ساحة بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، باعتباره الحزب الأكثر تمسكا بهذا الاتحاد. دون أن ننسى، أنه فقد جزءا من ساحته بالتحالف مع المحافظين في حكومة ائتلافية. وتيريزا ماي التي دعت إلى الانتخابات العامة المبكرة، تعرف أيضا وأيضا، أن غريمها الأساس (حزب العمال) في أسوأ أوضاعه منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. والسبب أيضا واضح يعود إلى وجود قيادة لهذا الحزب لا يهمها الفوز في الانتخابات بقدر ما يهمها تكرار الشعارات الكئيبة السمجة، والتمنيات بالنصر والنجاح التي ينتهي مفعولها عند أول خطوة خارج الاجتماعات. لقد أعاد جيرمي كوربين زعيم الحزب أدوات بالية إلى العمل، وهو بذلك يقدم أفضل خدمة ممكنة لحزب المحافظين في هذا الوقت بالذات. أما لماذا هذا الوقت؟ فلأن الحكومة المحافظة هي نفسها هشة ومعها الحزب تحمل اسمه. كما أن بريطانيا دخلت مرحلة "الهشاشة"، في أعقاب التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي. أي أن الأحزاب والبلاد هشة بلا بوصلة مضطربة سياسيا وإجرائيا. طبعا حجة تيريزا ماي للدعوة إلى انتخابات مبكرة، تكمن في أن إجراء الانتخابات في موعدها المحدد في عام 2020، سيكون في ذروة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وهو أمر لا يتناسب مع الحالة العامة. إنه مبرر مقنع بالفعل، غير أن هذا لا يجعلنا ننسى المآرب الأخرى لماي من انتخابات مبكرة، وهي تنحصر بصورة رئيسة في الضعف الشديد لأحزاب المعارضة. وليس أفضل للمحافظين من هذا الوقت لإطلاق انتخابات يعرفون مسبقا أنهم منتصرون فيها. لن تكون هناك حكومة ائتلافية، وحتى حكومة محافظة بأغلبية ضئيلة، بل ستكون هناك (كما هو واضح) حكومة تمضي في كل الاتجاهات بأغلبية مريحة، بينما سينشغل حزب العمال بطرد زعامته الحالية، وإعادة تجميع صفوفه بما يتناسب مع المعطيات الحقيقية لا الوهمية. لا شك في أن الانتخابات العامة المبكرة ستعطل "بعض الشيء" مسيرة اسكتلندا نحو الاستقلال عن المملكة المتحدة، وهذا أمر مفيد لرئيس الوزراء البريطانية في هذا الوقت بالذات، غير أنه لا يضمن بالطبع توقع مسيرة الاستقلال التي تتخذ بعدا أكثر خطوة يوما بعد يوم بالنسبة لكيان المملكة ككل. في كل الأحوال، لم يتوقع أحد أن تجري بريطانيا انتخابات عامة مبكرة، تماما كما لم يتوقع أحد أن يفوز الانفصاليون باستفتاء الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ومن توقع (مثلا) فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأمريكية؟! غير أن انتخابات حزيران (يونيو) المقبل تبدو نتائجها أكثر وضوحا من كل الانتخابات والاستفتاءات الماضية، ليس بسبب قوة ماي والمحافظين، بل من فرط ضعف العمال وأحزاب المعارضة الأخرى، وهشاشة الوضع في كل البلاد. لن تكون هناك مفاجآت في هذه الانتخابات، وستعزز ماي مكانتها زعيمة لحزب المحافظين، وستعطي نفسها شرعية لم تتمتع بها بعد على اعتبار أنها تسلمت منصبها من دون انتخابات عامة. لكن القوة المتوقعة لرئيسة الوزراء، تأتي في وقت تفقد فيه البلاد كلها قوتها، ليس فقط بسبب انسحاب مؤكد من الاتحاد الأوروبي، بل من جهة تنامي التوجهات الاستقلالية الوطنية البريطانية. في حين أن هذه الأخيرة قد لا تكون موجود في غضون عقد من الزمن.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")