الخميس، 12 ديسمبر 2013

التعصب القومي يضر باقتصاد أوروبا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«مع انكماش التوقعات والآمال، كل إنسان يشعر بأنه ضحية، ويقوم بالتضييق على الأجانب للدفاع عن مربعه»
أوسكار هاندلين - مؤرخ أمريكي




كتب: محمد كركوتــــي

العثور على مسؤول غربي، وتحديداً أوروبي، يتحدث صراحة عن أهمية المهاجرين الأجانب بالنسبة لبلاده واقتصادها، أمر أقرب إلى المعجزة. ورغم معرفتهم بهذه الأهمية حقاً، إلا أنهم لا يجرؤون عادة على الإفصاح عنها، والسبب هو نفسه دائماً.. الانتخابات. وفي هذه الأخيرة، تكون دائماً المشاعر الوطنية أقوى من أي مشاعر أخرى، بما في ذلك الإنسانية منها. وفي الوقت الراهن، يعاني السياسيون الغربيون هشاشة انتخابية تاريخية. فإما أن يسيطروا على السلطة بحكومات ائتلافية متناقضة الطرفين غالباً، وإما أنهم يدخلون في دوامة الانتخابات المبكرة، التي ما إن تنتهي واحدة، حتى يجري الحديث عن أخرى! وفي أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، صار وجود حكومة قوية مُشكَّلة من حزب واحد، أو بأغلبية مريحة، حلماً سياسياً، فقد قوضت الأزمة كثيراً من التراكمات والقدرات السياسية للأحزاب الأوروبية بشكل عام. وأصبحت ''المزايدة'' المحلية العنصر الأقوى في البرامج الانتخابية.
وتتصدر الأحزاب المحافظة اليمينية مشهد ''الصمت'' عن فاعلية وأهمية المهاجرين في الحراك الاقتصادي العام. وسوء النية تجاه المهاجرين، هي جزء أصيل من تعاطيها معهم، طبعاً ضمن القانون. لكن الصمت انسحب ''بصورة أقل بالطبع'' حتى على الأحزاب الاشتراكية اليسارية التي اعتادت التعاطي مع هذه المسألة بانفتاح واسع. فاستحقاقات الشعبية والانتخابات تسود، وإن تعارضت مع المبادئ والقيم التي قامت عليها هذه الأحزاب. ومن هنا كان إعلان وزير الأعمال البريطاني فينس كيبل، عن أهمية الهجرة بالنسبة لبلاده، مهماً ويمكن اعتباره نقطة تحول حقيقية. قال: ''علينا أن نكون حريصين، لأن الدليل أن هجرة العمال والطلبة من خارج الاتحاد الأوروبي إلى بريطانيا، أمر مفيد للغاية للاقتصاد البريطاني''. ومضى أبعد من ذلك، عندما أشار إلى ''التأثير الخطير لقيود الهجرة على أداء الاقتصاد''. لكن مهلاً.. العجب من هذا الكلام يتقلص، لماذا؟ لأن كيبل، وإن كان وزيراً في حكومة يقودها المحافظون، إلا أنه ينتمي إلى الحزب الثاني الذي يشكل مع المحافظين الحكومة وهو حزب الديمقراطيين الأحرار. إنه حزب يختلف تماماً في رؤيته حول المهاجرين مع الحزب الآخر. ما يعزز الاختلافات داخل الحكومة الواحدة.
تحتاج أوروبا إلى المهاجرين، هذا أمر لا يجادل فيه إلا أولئك الذين لا يزالون أسرى المشاعر القومية المتهاوية. وفي هذه القارة ما يقرب من 20 مليون أجنبي، غالبيتهم يتمركزون في ألمانيا، وفرنسا وبريطانيا. والدول الثلاث هذه هي ببساطة أقوى البلدان الأوروبية اقتصادياً، ومن الطبيعي أن تكون الكثافة الأجنبية فيها أعلى من غيرها، خصوصاً تلك التي تعاني من أزمات اقتصادية لا تنتهي. وفي عام 2008 رفض رئيس الوزراء البريطاني السابق جوردون براون الدعوات إلى وضع قيود على المهاجرين سنوياً إلى بلاده، وربما كان هذا أحد أسباب -وليس السبب الوحيد- عدم فوزه في الانتخابات التي أنتجت الحكومة الائتلافية الحالية. وفي نهاية العقد الماضي، بلغت مساهمة المهاجرين في الاقتصاد البريطاني قرابة ستة مليارات جنيه استرليني. وهي نسبة كبيرة. وكان المستشار الألماني السابق جيرهارد شرويدر في مطلع العقد الماضي أكثر جرأة عندما أعلن صراحة، ضرورة فتح الأبواب أمام الهجرة. فحتى اليوم، ليس لدى ألمانيا سياسة واضحة بشأن المهاجرين، وإن كانت موجودة فيما يرتبط باللاجئين. والمصيبة، أن اثنين من كل ثلاثة ألمان يعبرون عن رأيهم بضرورة تقليص عدد الأجانب، إنها المشاعر القومية المترهلة.
وحسب الوكالة الاتحادية للعمل في ألمانيا، فقد أكدت مطلع العقد الراهن، أن البلاد بحاجة إلى مئات الآلاف من المهاجرين سنوياً، وأنها بحلول عام 2025 تحتاج إلى أكثر من 6,7 مليون مهاجر في سن العمل. وأن الوضع في ألمانيا يتطلب بصورة ملحة ما يقرب من 200 ألف مهاجر سنوياً على الأقل، لمواجهة استحقاقات العمل فيها. فأوروبا هرمت، ومحاولات رفع سن التقاعد فيها لا تزال في بدايتها. وحتى لو نجحت في ذلك، فإن الضمانات ليست متوافرة، فضلاً عن وجود اعتبارات اجتماعية، ستفرغ بصورة أو بأخرى الكثير من مخططات رفع سن التقاعد. تتناقص في أوروبا الأيدي العاملة والشباب، كما ينقصها جيل متعلم متدرب جديد، ليس متوافراً بما يسد التنمية في الوقت الراهن والحراك الاقتصادي العام. ولهذا السبب، تسعى الكثير من المؤسسات الأوروبية إلى تقديم إغراءات متنوعة للطلاب الأجانب فيها للبقاء والعمل. وهي بذلك، تضرب بصورة مباشرة معاول التنمية في البلدان الأصلية لهؤلاء الطلاب.
لا يمكن للقارة الأوروبية العجوز أن تحل مشاكلها الخاصة بالعمالة، إلا إذا كرست الثقافة الوطنية المنفتحة تماماً في كل بلدانها. وهذا أمر لن يكون سهلاً بأي حال. فبعد سنوات من انضمام دول أوروبية شرقية إلى الاتحاد الأوروبي، لم تسد النقص في العمالة في الدول الأوروبية الكبرى. وحتى بعد أن تمنح التسهيلات الجديدة للمهاجرين من خارج الاتحاد، عليها واجب أخلاقي، يتمثل في تعويض البلدان التي يأتي منها المهاجرون، بما يكفل الحد المطلوب لتنمية تحتاج إليها.. وتحتاج إليها جداً.
 
 
 
 

الخميس، 5 ديسمبر 2013

مع الثورات ومع الأموال المنهوبة أيضاً

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

 
 
 
 
«اللص الذي يبتسم، يسلب شيئاً من السارق»
وليام شكسبير - أديب إنجليزي




كتب: محمد كركوتـــي

سيكون الصمت على الأموال المنهوبة مصيبة أخرى على الشعوب التي نُهبت منها، ولا سيما تلك التي تصارع الآن للوصول إلى أقرب نقطة من الاستقرار، في أسرع وقت متوافر. لا يمكن تأجيل العمل على إعادتها، ولا حتى البطء في عمليات حصرها، وإرجاعها إلى أولئك الذين سلبت منهم علانية، وعلى مدى عقود. في سورية، امتلك جمهورية واحصل على الشعب هدية! وفي ليبيا لم يبق للقذافي سوى الهواء خارج ممتلكاته! وفي مصر كان كل دولار ينفقه مبارك على البلاد، يحتفظ بـ ''فكة'' الألف! وفي تونس كان من الصعب على بن علي فتح حسابات شخصية في المصارف، فأخذ المصرف المركزي كله له! وفي اليمن، كان صالح يكنز أموال الشعب، على اعتبار أن الخراب في البلاد لم يترك مجالاً للإنفاق! هذه هي الخريطة''الاقتصادية'' في سورية، وهكذا كانت في الدول التي نجحت شعوبها في خلع أنظمتها المريعة.
لندع منتدى إعادة الأموال المنهوبة من ''دول الربيع'' يناقش ويبحث. إنه لا يزال في طور تشكيل اللجان! وفي مرحلة استيعاب القوانين والإجراءات في البلدان التي ''حطت'' فيها هذه الأموال، والتي لا تزال تستقطب المزيد منها. ولنضع جانباً بيانات التنديد والتهديد الصادرة عن عدد من دول المنتدى المذكور. هناك دول عربية (بينها خليجية) تستحوذ على كميات هائلة من الأموال المنهوبة. هذه حقيقة أكدها في أكثر من مناسبة علي المري المحامي الخاص للأمم المتحدة المكلف بملف استرداد الأموال المنهوبة. ولكن مهلاً، هذه الدول لم تكن مع الأنظمة المخلوعة ولا مع نظام سفاح سورية بشار الأسد السائر إلى الخلع، إنها ''مؤيدة'' للثورات، ولـ''حقوق'' الشعوب التي قامت بها من أجل عيش كريم، وعدالة مستحقة. والدول العربية هذه، كانت تكدس للناهبين هذه الأموال، حتى قبل أن تندلع الثورات.
ليست مفارقة، أن الثورات رفعت من وتيرة تهريب الأموال المنهوبة، إلى بعض الدول العربية. وهنا تتضح الصورة أكثر. فهذه الدول دعمت الثورات المشروعة لأنها تولد لها أموالاً غير مشروعة، عن طريق تهريبها كلها قبل سقوط الأنظمة الناهبة لها. ولا مانع من رفع أعلام الثورات، طالما أنها تغطي عمليات تمرير الأموال وناهبيها أيضاً. لا يهم ما يقوله المسؤولون عن ملف الأموال المنهوبة، طالما غاب الضغط عن الدول الحاضنة للأموال القذرة، ولا توجد مؤشرات تدل على أن توجهاً ضاغطاً سينطلق في هذا الاتجاه. إنها أموال تغني أصحابها الحقيقيين الشرعيين عن أي مساعدات أو معونات عربية ودولية، وقادرة على توفير السند اللازم لهذه الدول في مرحلة التحول والانتقال إلى حالة الاستقرار المنشود. وبعض الذين يقفون مع الثورات واستحقاقاتها ويكدسون أموالاً منهوبة، مثل اللص ''الجميل'' الذي لو أمِنت له، سيأخذ ما يمكنه من أسنانك في أول قبلة.
هذه الأموال ليست مكدسة في خزائن أو ''تحت البلاطة''.. تجري على مدار الساعة عمليات تبييض لها في الدول الحاضنة. وهناك أشكال في غسلها، بعضها بات معروفاً، وبعضها الآخر متجدد، يصعب حتى على الدوائر المختصة بمكافحة غسل الأموال اكتشافها بالسرعة التي تضمن ضبطها. وليس سراً أن مسؤولين كبارا في الدول المعنية، يتابعون مباشرة حال هذه الأموال. فهذا الحجم من المال لا يمكن أن يدخل البلاد عن طريق مهربين أفراد أو حتى عصابات منظمة على مدى سنوات، دون معرفة السلطات نفسها. وبالتالي لا يمكن لأي مسؤول في هذه البلدان أن يدعي عدم معرفته بوجود الأموال المسلوبة. لا شك في أنهم يريدون الاستفادة منها لأطول فترة ممكنة، وهذا ما ينبغي أن يدفع الدول المؤثرة للعمل السريع من أجل وضع حد لامتصاص أموال شعوب ظُلمت وسُرقت عدة مرات. وهي في الواقع تُنهب من الخارج أيضاً. يقول المحامي الخاص للأمم المتحدة علي المري ''إن أكره شيء على المسؤولين في الدول المعنية، الحديث عن الأموال المنهوبة''.
ربما نفهم التعقيدات الإجرائية والقانونية في الدول غير العربية في مجال إعادة الأموال المسلوبة. وهي تقوم حالياً بإعادة النظر في كل هذه القوانين. لكن في الدول العربية المخزنة لهذه الأموال، الأمر مختلف، كما أن اقتصاداتها ليست متشعبة بصورة يصعب العثور فيها على الأموال المستهدفة. وإذا ما أراد المسؤولون التعاون في هذا المجال، فإنهم يستطيعون إنهاء الأمر في أيام. لكن المصيبة أن أموال الشعوب المنهوبة، دخلت بالفعل في صلب الحراك الاقتصادي، ولعبت دوراً في سند الاقتصاد، مع ضرورة الإشارة إلى أن أي تعاون مع منتدى إعادة الأموال الدولي، سيجلب معه سلسلة لا تنتهي من الفضائح. إنها معضلة، غير أن استحقاقاتها لن تمضي أدراجها هكذا. هناك الكثير من المخارج يمكن استخدامها، ويمكن احتواء ما أمكن من الآثار السلبية على الدول الحاضنة للمال القذر، لكن الأمر برمته يتطلب قراراً سياسياً على أعلى المستويات. إن البيانات المؤيدة للثورات والتحولات في ''دول الربيع''، باتت قيمتها، كقيمة بيانات سفاح سورية المؤيدة لحقوق الإنسان.






 

بطالة ثورات الربيع

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«أنت تقتلني عندما تسلبني وسيلة العيش»
وليام شكسبير ـــ أديب إنجليزي




كتب: محمد كركوتـــــي

يقولون، إن ربيعاً عربياً جديداً سيندلع في دول الربيع نفسها، منفجراً من شرارة البطالة فيها. وإذا كان الظلم ومعه الاستبداد والطغيان، شكل ''مصنع'' متفجرات ''الربيع''، فإن المتعطلين عن العمل سيكونون ''المصنع'' الجديد. ورغم أن البطالة تبقى محورية ''إلى جانب غيرها من المحاور'' لثورة، أو تمرد، أو احتجاج شعبي واسع، إلا أن ''الربيع'' في دول الربيع لم ينته ليبدأ غيره. والآثار السلبية له، تدخل ضمن نطاق استحقاقاته الطبيعية. فالتغيير مثل العلاج، مزعج بلا شك، لكنه حتمي بطبيعته، وضروري بناتجه، ومحوري بدوره. دون أن ننسى، أن مستويات البطالة كانت في أسوأ حالاتها، تحت حكم الأنظمة المخلوعة. صحيح أنها زادت سوءاً بعدها، لكن الصحيح أيضاً، أن العوامل التي سبقت الثورات، عمقت الآثار السلبية في فترة التغيير. فالقضية لا ترتبط ببطالة أقل، بل بوجودها الظالم في ظل أنظمة سرقت ما تستطيع من مقدرات شعوبها.
لا يمكن بأي حال من الأحوال تطبيق مقاييس البطالة في الدول الراشدة، على تلك التي تعيش حتمية التغيير. ومع ذلك، حتى في دول كإسبانيا واليونان وإيطاليا وغيرها، تأتي قضية البطالة في البند الثاني، لأن البند الأول لا مجال للالتفاف حوله، وهو ببساطة إنقاذ الاقتصاد أولاً، ودون هذا الإنقاذ، يستحيل تشغيل العاطلين، أو إدخال جدد إلى مؤسسات العمل، أو حتى تشغيل من هم في العمل فعلاً. واقتصادات دول الربيع العربي، تحتاج في الواقع إلى إعادة بناء وصياغة جديدة، أي أنها أسوأ من أن تخضع للإصلاحات، تماماً مثل الأنظمة التي شكلتها. الثورة على هذه الأنظمة، أتت من فرط اضمحلال قابليتها للإصلاح. والحكومات السيئة، تنتج بالضرورة اقتصادات سيئة، إلى جانب إنتاجها التلقائي ثقافة سيئة، وسياسة سيئة، وسمعة سيئة. تكفي الإشارة هنا، إلى إجماع المشرفين على ما يعرف بـهيئة ''إعادة الأموال المنهوبة من دول الربيع العربي''، على أن هذه الدول ليست في حاجة إلى أي مساعدات أو معونات، إذا ما استرجعت بالفعل أموالها المنهوبة.
في مصر ''حسب البيانات الرسمية والدولية''، ارتفع معدل البطالة في نهاية الربع الأول من العام الجاري، إلى 13,2 في المائة، وفي تونس إلى 16,5 في المائة، وفي ليبيا إلى 15 في المائة، وقفز في اليمن إلى 40 في المائة. ومقارنة بحالة التشكيل الاقتصادي في هذه البلدان، فإن النسب المشار إليها ''باستثناء اليمن المُنتج الأكبر للبطالة'' ليست عالية. وفي أغلبية دول العالم العربي، هناك مصيبة تشغيلية لم تصب أياً من البلدان غير العربية الأخرى. فهي الوحيدة التي يرتفع فيها عدد المتعطلين عن العمل من المتعلمين، بينما ترتفع معدلات التشغيل عند الأميين! فلا غرابة إذن، من ارتفاع عدد المتعطلين الخريجين، خصوصاً ''مرة أخرى'' في مرحلة التشكيل الاقتصادي. في هذه الدول ''كن أمياً تجد عملاً أسرع''، و''إن كنت متعلماً نتصل بك في السنوات الطويلة المقبلة''!
ستستغرق عودة التشغيل في دول الربيع العربي إلى مستوياته السابقة وقتاً، وسيأخذ وقتاً إضافياً آخر من أجل الوصول به إلى مستويات معقولة، تحاكي ما سيتم إنجازه على الساحة. وما سينجز مرتبط بالتأكيد بالاستقرار السياسي المنشود، إضافة طبعاً إلى جهود دول النيات الحسنة، التي توفر الاستثمارات والمساعدات الاستراتيجية لا التمويلية فقط. والنيات الحسنة هنا، تتعلق بعدم تسييس هذه المساعدات، كما أن من مصلحة الدول التي تشهد التغييرات الحتمية، أن تُدخل في تشكليها الاقتصادي الجديد مفهوم المساعدات التنموية لا الاستهلاكية. والمال الاستهلاكي يتحول في كثير من الأحيان إلى أعباء تبقى ملازمة للوضع الاقتصادي لسنوات، بل في أحيان كثيرة إلى الأبد. إن العالم العربي كله، يحتاج إلى 100 مليون وظيفة بحلول عام 2025، حسب تقديرات البنك الدولي. مع الإشارة إلى أن النسبة الكلية للبطالة تراوح بين 25 و30 في المائة، بينما لا تتعدى عالمياً 6 في المائة. ومنظمة العمل العربية تقدر عدد العاطلين في كل الدول العربية بـ 25 مليون نسمة، من إجمالي قوى عاملة تبلغ 120 مليون نسمة.
إن دول الربيع العربي جزء من المشهد البائس هذا، صحيح أنها الأكثر تفاعلاً في الوقت الراهن، إلا أن الخريطة العامة سيئة أصلاً. هناك بطالة أحدثتها الثورات العربية، هذا لا شك فيه، وهناك اضطرابات تتفاعل فيها، وهناك ''ألاعيب'' سياسية تستهدفها، وهناك نيات أكثر سوءاً من الأوضاع الاقتصادية تجاهها. والاستقرار ليس مطلوباً لهذه الدول، بل لدول المنطقة كلها دون استثناء، والمائة مليون وظيفة التي تحدث عنها البنك الدولي، ليست خاصة بخمس دول تشهد استحقاقات الثورات والتغيير، بل تشمل الكل. لا شك في أن تغييرات ''دول الربيع'' سوف تُستكمل بأضرارها الطبيعية ومكاسبها الحتمية. وكلما كانت هناك نيات وطنية لا سياسية سائدة، كانت مدة التشكيل الاقتصادي الجديد أقصر، وكلما تأطرت النيات العربية الصادقة ''وهي متوافرة'' بحاضن استراتيجي، تغيرت حالة البطالة إلى الأفضل، بل حالة التشغيل المضطربة إلى اتجاه بعيد عن سراديب السياسة، وآثام النيات السيئة.

الأسد .. النهب بالعقوبات أيضاً

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")
 
 
 
 
 
 
«السارق الأكبر يقود مسيرة السارقين الصغار»
ديوجين سينوب فيلسوف إغريقي
 
 
 
 
 
كتب: محمد كركوتــــي
 
السلاح الكيماوي الذي يمتلكه سفاح سورية بشار الأسد أنقذه! وفق اعتبارات ومفاهيم إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وهي تقوم على مبدأ بهذا الشكل ''اقتل بالكيماوي، ليس مهمًّا. المهم أن تسلمنا إياه''. فالجريمة ليست محل مُساءلة، إذا ما سلَّم المجرم سلاحه! وقد فعل الأسد ذلك. لا معنى للضوابط الإنسانية بهذا الصدد، ولتستقر الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في الأدراج. مفاتيحها ''مفقودة''، ولن يتم ''العثور''عليها، قبل خروج أوباما من البيت الأبيض إلى الأبد. إنه يخفيها، ولكن دون أن يمسها! غير أن الأمر لا يقف عند غفران فظاعة الأسد الكيماوية، إنه يشمل هدايا غربية لهذا الأخير، دون أن يعترف مقدمو الهدايا بها. الدول الغربية التي أربكها الموقف الأمريكي من ثورة الشعب السوري، تخطت ارتباكاتها بسرعة مذهلة، واندمجت في''مهرجان الهدايا''! مهلًا.. لا علاقة لاقتراب موسم أعياد الميلاد ورأس السنة بالأمر. فهدايا الأطفال، ليست كهدايا السفاح.
الولايات المتحدة ومعها ملحقاتها الغربية، أطلقت الشركات والمؤسسات والمصدرين والسماسرة، لعقد صفقات غذائية مع الأسد وعصاباته. والحجة، أن الشعب السوري يواجه شُحًّا غذائيًّا إلى درجة الحرمان، وأنه ينبغي تأمين المواد الاستهلاكية الرئيسة. وفي كل الأحوال، لا تشمل العقوبات الغربية المفروضة على الأسد وأتباعه، توريد المواد الغذائية والمحروقات وغيرها من المواد الأساسية. وما قامت به هذه الدول، أنها أفرجت عن حسابات مصرفية منهوبة في غالبيتها من الشعب السوري نفسه، لتسديد ثمن الصفقات التي تُعقد مع عدد من الدول القادرة على توفير الإمدادات الغذائية المطلوبة. حتى الآن، لا يوجد في الأمر شيء. من حق الفرد السوري الذي يُقتل أن يتناول الشاي بالسكر المستورد قبل مقتله، ولا بأس من رغيف بدقيق مستورد، وطبق أرز مستورد أيضًا.. وهكذا! فالولايات المتحدة وملحقاتها، لا يقبلون الجوع للشعب السوري، وإن قبلوا بمقتله!
أين المصيبة إذن؟ يقوم الأسد وعصاباته مباشرة بإبرام عقود التمويل الغذائي لسورية، ولا يوجد فرد من هؤلاء، خارج قوائم الحظر التي أعلنتها الدول الغربية كلها، على مدار عامين، ومنعت التعامل معهم. وهذه الدول تعرف بأمر هذه الصفقات، التي وفرت مزيدًا من الأموال المنهوبة للأسد وعصابته، الذين أخذوا يحققون المكاسب المالية الكبيرة، مستغلين الإفراج عن حسابات مصرفية، هي في الواقع مجمدة؛ لأن كل ما فيها من أرصدة منهوبه. وهؤلاء في الواقع، لم يستعيدوا الأموال فحسب، بل يقومون بتشغيلها! صحيح أن جزءًا من المواد الغذائية التي تصل إلى سورية تذهب إلى عدة شرائح من الشعب السوري، في إطار تعزيز ولائها للأسد، لكن الصحيح أيضًا، أنها استعادت جزءًا من الأموال التي يفترض أنها للشعب السوري. وهي بذلك سرقت أموال هذا الشعب مرتين. دون أن تصل المواد الغذائية التي يتباكى عليها الغرب، إلى كل مستحقيها!
إن الأمر برمته لا يتطلب جهود الاستخبارات الغربية كلها أو حتى واحدة منها، لمعرفة حقيقة ما يجري، ليس فقط من تربح أفراد تتصدر أسماؤهم قوائم الحظر الغربي، ولا عدم وصول الإمدادات الغذائية إلى مستحقيها، بل أيضًا السرقة المنظمة لهذه الإمدادات. لماذا؟ لأن موظفي الأمم المتحدة الذين يشرفون على شحنات الإغاثة لسورية، أكدوا في تقارير رسمية رُفعت للأمين العام نفسه بان كي مون، بأن إمدادات الإغاثة تُباع على أرصفة الشوارع من قبل عصابات الأسد، وأن هذه العصابات لم تهتم حتى برفع شعار المنظمة الدولية عن المواد المبيعة! ليس غريبًا أن ينهب الأسد وأتباعه شحنات الإغاثة، فقد نهب مع والده البلاد كلها على مدى أكثر من أربعة عقود، الغريب أن الدول الغربية التي أطلقت الأموال لتجري في أيدي هؤلاء، لم تكلف نفسها، ولو بتصريح رسمي يتيم، يفضح (ولا أقول يمنع) ما يجري. فالمعلومات التي وصلت إليها، لم تأت من المعارضة، أو من حكومات مناوئة للأسد، بل من موظفين تابعين للأمم المتحدة نفسها! لا شك أن الغرب مشغول بتفكيك أسلحة الأسد الكيماوية، ولا وقت لديه لأمور ''تافهة'' مثل بيع كيس من السكر على رصيف دمشقي.
لقد ظهرت على السطح- كما تجمع من معلومات- شبكة تجارية سرية، صحيح أنها تستخدم– كعادتها- أسماء مختلفة وجهات جديدة، لكن من السهل تحديدها؛ لأن تتعاطى مع جهات في الخارج، يمكن منعها من قبل الحكومات الغربية - إذا ما رغبت - من التعاطي مع هذه الشبكة الدنيئة، التي تسرق المسروقات عدة مرات! الأسماء هي.. هي، رامي مخلوف، أيمن جابر، عبد القادر صبرا، وعدد من اللبنانيين والعراقيين والإيرانيين، كلهم موضوعون على قوائم الحظر الغربية، لقد عادوا إلى الواجهة. ولا غرابة في أن يبتكر باراك أوباما الفَرِح بكيماوي الأسد، تبريرًا يتلخص في أن حاجة توفير الغذاء في سورية تبيح التجاوزات! بل ربما سيطلب من أحد معاونيه أن يؤكد أنه لا مناص من التعامل مع هذه العصابة الإجرامية التي توفر الغذاء! إنها الصيغة الرهيبة نفسها. لا بأس من ضرب المدنيين السوريين بالكيماوي، طالما أننا سنتسلم السلاح بعد ذلك!
 

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

"المهدي" الأمريكي لتخفيف العقوبات عن إيران

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«قلت أكثر من مرة، إن إيران دولة راعية للإرهاب»
تشاك هاجل وزير الدفاع الأمريكي



كتب: محمد كركوتـــي

يفكر الرئيس الأمريكي باراك أوباما جدياً في تخفيف العقوبات المفروضة على إيران. فالرجل ابتكر سياسة جديدة في هذا العالم، لا دخل لها بالسيادة والإرادة، وحتى بالمصلحة العليا، وهي ''سياسة التسليم''، وهو يعيش وهماً بأن ''التسليم'' سيحقق الأهداف بلا خسائر، أو بأقلها! وهذه السياسة، تصيب حلفاءه بغصات متجددة، وبارتباك سياسي لم يعد خافياً، ومخاطر نالت من كل القضايا المطروحة، وتلقفت ناتجها وتنعمت به أنظمة مارقة في سورية والعراق وإسرائيل وروسيا.. وبالطبع إيران. هذه السياسة، منحت المسؤولين المارقين في هذه الدول، ما لا يحلمون به، في مواجهتهم للمجتمع الدولي. تكفي الإشارة هنا، إلى أن أوباما سلم زمام المبادرة لـ ''أزعر'' روسيا فلاديمير بوتين، الذي اقتنع (قبل مجيء أوباما إلى الحكم)، بأن العالم لن يتعاطى معه إلا كقاطع طريق، أو في أفضل الأحوال، زعيما لمافيا منظمة بدقة. الكبير على الساحة الدولية حالياً، ليس سوى بوتين! وهذا الأخير (وغيره من المارقين الآخرين) سينعم بذلك، طالما بقي أوباما في البيت الأبيض.
الرئيس الأمريكي يريد تخفيف العقوبات عن إيران، لكنه يخشى مَنْ؟ الكونجرس الأمريكي، الذي يعيش حالة مع إدارة الرئيس، مشابهة لحالة حلفاء الولايات المتحدة. الفارق بين الحلفاء والكونجرس، أن الأخير يمكنه أن يعرقل (وأحياناً يعطل) سياسة التسليم ''الأوبامية''، بينما لا يمكن للآخرين ذلك، ويمكن أن يلوح بالعصا، ويضع العقبات اللازمة في قضايا أخرى داخلية، مثل مسألة رفع سقف الدين، التي تحولت إلى مسلسل اقتصادي ''درامي'' متعدد الحلقات. أوباما يريد التخفيف (وإن وصفه بأنه سيكون طفيفاً جداً)، وإيران تتمناه حتى ولو كانت صوتياً فقط. إن مجرد الحديث عن تخفيف العقوبات، يعطي نظام الملالي الإيراني جرعة يحتاج إليها، خصوصاً أن الطرف المانح هو الولايات المتحدة نفسها، وعلي خامنئي المنتظِر لعودة المهدي الضائع، يعرف أن المهدي نفسه لا يستطيع أن يوفر فرصة كهذه. إن أوباما يقوم في المقابل (عند خامنئي) بواجبات المهدي.
في آب (أغسطس) الماضي، كانت آخر عقوبات أمريكية تُفرض على إيران، وكانت شديدة أيضاً. وقبل نهاية العام الجاري، قد نرى أول تخفيف لهذه العقوبات، ولن تخرج ''عطايا'' أوباما عن سياسة التسليم، التي اضطرته إلى إطلاق وزير خارجيته جون كيري، لكي ينشر ''طمأنينة صوتية'' في المنطقة! ولأنها كذلك، فقد ذهبت مع صداها. لا يمكن القيام بفك جزئي للحصار الاقتصادي المفروض على إيران، قبل أن يحصل المجتمع الدولي على ضمانات من نظام الملالي. لكن حتى هذه النقطة تمثل معضلة، لأن أحداً لا يمكنه في الواقع القبول بضمانات نظام لا يمارس إلا التقية في كل شيء، فكيف الحال ببرنامجه النووي الخطير الذي يشكل تهديداً مسلطاً على المنطقة والعالم. المصيبة أن سياسة أوباما تجنح إلى القبول، ومن الواضح أن المعارضين لهذه السياسة ضمن فريقه، لا يملكون الأدوات اللازمة لردعه. لقد فشلوا معه في الكارثة السورية ولا يزالون، وكذلك الأمر بقضايا تخص الشعب الفلسطيني، وحتى طبيعة العلاقة مع حكومة المالكي الإيرانية في العراق.
لا شك في أن العقوبات التي فُرضت على إيران تساهم بصورة مباشرة (قدر الإمكان) في كبح جماح نظام علي خامنئي. ومع ذلك، فإيران تحتل الآن بصورة أو بأخرى سورية العربية، وتمتلك القرار العراقي، وعصاباتها منتشرة في كل الأجواء، وفي مقدمتها عصابات حزب الله اللبناني. وعلينا أن نتصور تخفيفاً (مهما كان طفيفاً) للعقوبات المفروضة عليها، وناتجه التخريبي الحتمي. لقد قلصت العقوبات الإنتاج النفطي الإيراني إلى النصف، ولو كانت عوائد الإنتاج الكامل حاضرة، لوجدنا خراباً أكبر، ومخاطر أقوى. من فرط قباحة هذا الزمن السياسي، أن المرء مضطر للموافقة على ما يقوله، من؟ بنيامين نتنياهو، الذي قال ''الاتفاق مع إيران يتجه لأن يكون خطأ تاريخياً''. والسبب أن في البيت الأبيض رئيس مستعد لمنح الثقة للشيطان، طالما أن ذلك يعفيه من القيام بدوره كرئيس لدولة محورية في العالم، مطالَبة بالوقوف الصارم في وجه أعداء المجتمع الدولي.
هناك مشاريع عديدة وكبيرة تنتظر إيران لإطلاقها، أو إطلاق شيء منها، في أول فرصة تتنفس فيها اقتصادياً. وناتج هذه المشاريع لن يذهب إلى التنمية التي تحتاج إليها البلاد، بل إلى الإنفاق على سياسة الخراب الإيرانية. في عز الحصار خصص خامنئي المليارات لنظام سفاح سورية بشار الأسد، وهو لا يزال يمده بشريان الحياة، دون أن ننسى التهديد الإيراني المستمر لدول المنطقة، وفي مقدمتها الخليجية منها. لقد قلب الرئيس الأمريكي المعادلة، فبدلاً من أن ينتظر الجانب الإيراني إشارة أمريكية للتمسك بها، أخذت الولايات المتحدة دور المنتظِر، لتتلقف الإشارات من إيران! وأوباما المنتظِر أفضل كثيراً لإيران من مهدي منتظَر لن يظهر في يوم من الأيام. لقد انتظر الإيرانيون المهدي من الشرق، إنهم الآن مذهولون. لقد أتاهم من جهة الغرب!

أموال منهوبة من شعوب منكوبة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«القانون الأول عند اللصوص، أن شيئاً لا يصغر على السرقة»
جيمس بريسلين صحافي ومؤلف أمريكي



كتب: محمد كركوتـــي

الذي يتابع أعمال المنتدى العربي الثاني (في مراكش) لاسترداد الأموال المنهوبة، ويهتم بالتصريحات والمواقف التي أُطلقت وأُعلنت من جانب ممثلي الدول المشاركة، يعتقد للوهلة الأولى، أن الأموال التي نُهبت من الشعوب العربية، ستعود إليها في غضون أيام، بل إن الأمر لا يحتاج حتى لمنتدى أو اجتماع أو مؤتمر! ممثلو الدول الغربية، كانوا ''ثوريين'' في تصريحاتهم، بمن فيهم المتحدثة باسم الحكومة البريطانية لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا روزماري ديفيس التي كشفت عن وجود توجه دولي، يهدف إلى استرداد الأموال المنهوبة، من دول ما بات يعرف بـ ''الربيع العربي''، وذلك لمساعدة اقتصادات مصر وتونس وليبيا. ومضت أبعد من ذلك، بقولها: ''إن المجتمع الدولي وافق على تحمل مسؤولياته في مساعدة الشعوب العربية، التي شهدت ثورات وتمر بمرحلة انتقالية على استرداد أموالها المنهوبة''.
لكن ببساطة، الأمر ليس كذلك. لا تزال هناك الكثير من التغييرات التي ينبغي على الدول الغربية القيام بها، تتعلق بالأنظمة الإجرائية والقضائية، وطبيعة ملاحقة هذه الأموال التي لا تزال تمثل نزيفاً لشعوب تحتاجها من أجل أن تعيش، لا لتخزنها، أو تجمعها في حسابات لجني فوائدها. أما لماذا الدول الغربية؟ فلأنها تستحوذ بالفعل على أكبر قدر من هذه الأموال المشينة. في حين لا يمكن تبرئة بعض الدول الخليجية، لتوفيرها ملاذات آمنة لأموال تنتشر روائحها القذرة في كل الأجواء. والدول الخليجية هذه، أشار إليها دون تسميتها علي المري المحامي الخاص للأمم المتحدة المكلف بملف استرداد الأموال المنهوبة. ''البطولات'' في التصريحات الغربية وبعض العربية، التي تضمنت التزاماً بإعادة هذه الأموال، لا تزال صوتية. ويبدو أن الغربيين أُصيبوا بالعدوى من العرب في المجال الصوتي.
فرغم هذا الالتزام، والاجتماعات التي تمت منذ إطلاق المنتدى العربي لاسترداد الأموال قبل أكثر من عام، و''التعهدات'' المنطلقة دون توقف، لم يُرَد إلى الشعوب العربية المعنية سوى 100 مليون دولار أمريكي من أموالها المنهوبة! فهل عجزت الاستخبارات في هذه البلدان عن تعقب الأموال في مصارفها وعقاراتها ومؤسساتها؟! إن الأمر برمته ليس بهذه الصعوبة، خصوصاً في بلدان باتت أنظمتها المالية محكمة بصورة لم يسبق لها مثيل، وأصبح مجرد فتح حساب شخصي في مصرف ما، عملية مضنية، لا تنجح في بعض الأحيان. غالبية الأموال المنهوبة، وصلت إلى البلدان الغربية (وبعض الخليجية)، بمعرفة مباشرة من المسؤولين فيها. ومن بينها بريطانيا، في عهد رئيس وزرائها الأسبق (مُسوّق الطغاة) توني بلير، إلى جانب دول وأشباه دول، مثل سويسرا ولوكسمبورج وإمارة موناكو وجمهورية التشيك وجزر كايمن وإسرائيل، وغيرها. على ديفيد كاميرون الاتصال فقط ببلير، كي يعطيه معلومات حقيقية عن مكامن هذه الأموال في قلب بريطانيا نفسها.
لا يمكن تجاهل الفوائد الناتجة عن الأموال المنهوبة في بعض الدول. وهنا المفارقة. يصعب تعقب هذه الأموال، لكن من السهل ملاحظة الفوائد الناتجة عنها! ومن المعطلات في رد الأموال إلى أصحابها، تلك القوانين التي تفرض قيوداً صعبة وجامدة، على الرغم من أنها في طبيعتها إجرائية أكثر منها تشريعية. والدول المندفعة باتجاه إعادة الأموال، ليس عليها سوى إحداث تغييرات سريعة في قواعدها الإجرائية، من أجل ردها بصورة أسرع، والاستفادة منها خصوصاً في المراحل الانتقالية التي تمر بها بلدان الربيع العربي. وإذا ما أراد الغرب إحقاق الحق في هذا المجال، يمكن أيضاً، توفير مساعدات مالية للشعوب المتضررة من عمليات النهب، وربط المساعدات (بصورة تقريبية) بما سيعاد لها من أموالها. ولكن في النهاية، تبقى عملية تسهيل إجراءات رد الأموال، أفضل بكثير من أي حلول أخرى.
غير أن هذا كله مرتبط بالجدية في تحديد حجم الأموال المنهوبة، ومكامنها. وفي بعض الحالات، مرتبط بالقدرة على الإفصاح عنها من قبل بعض الدول الحاضنة لها. دون أن ننسى، أن هناك حكومات ستتعرض لإحراج كبير (خصوصاً تلك التي تتشدق بالعدالة) إذا ما كشفت عن حجم الأموال التي تستوعبها مصارفها وأعمالها وسراديبها ومخازنها، ولا سيما تلك التي أعلنت وقوفها إلى جانب الثورات العربية. وفي كل الأحوال، الأمر بات جزءاً أصيلاً من اتفاقية الأمم المتحدة التي وقعت عليها 167 دولة، وهي مخصصة لمكافحة الفساد، كما أنها ملزمة لكل الأطراف. ولعل من أهم نقاط هذه الاتفاقية، تلك التي تتعلق بالسماح بعمليات تفتيش دولية في الدول الموقعة عليها.
إن المسؤولية في هذه القضية، أخلاقية أولاً وأخيراً، لأنها خاصة بحياة ومستقبل شعوب تعرضت لنهب لا حدود له، على مدى عقود، إلى جانب تعرض كرامتها للاغتصاب المتكرر. وإذا كانت هناك بعض الحكومات المُخزِّنة للأموال المنهوبة، لا تهتم بالجانب الأخلاقي، فمن واجب الحكومات التي تدعي الأخلاق، أن تتحرك الآن .. وليس غداً.

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2013

التجسس الاقتصادي في سياق التجسس على ميركل والملا عمر

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«مهما كانت طريقة تفسيري لهذا الأمر. كنت في النهاية جاسوسة، ولست فخورة بذلك»
كريستين كيلير الجاسوسة البريطانية الشهيرة

كتب: محمد كركوتــــي
 
في ستينيات القرن الماضي، وجدت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية نفسها لفترة قصيرة جداً في حالة ركود! رغم اشتعال الحرب الباردة آنذاك. ربما لأن المحاربين كانوا يستريحون قليلاً. ماذا فعلت الوكالة، خوفاً من ''تكلس'' عظام عملائها؟ تجسست (للتسخين) على الممثلة إليزابث تيلور وزوجها الممثل ريتشارد بيرتون في ليلة دخلتهما! الدول تتجسس على بعضها، هذه حقيقة، ولكن تجسس الولايات المتحدة يبقى من نوع آخر، هدفه تعرية الهدف من آخر قطعة ممكنة، ولا يهم إن كان صديقاً أم عدواً أم عابر سبيل. والشعار هو نفسه، ذاك الذي يجلب الغثيان ''حماية الحرية''. ولهذا قال السياسي الكندي الراحل تومي دوجلاس: ''إن حماية الحرية لا يمكن أن تتحقق عبر التجسس''. وهو أراد أن يسهم في فضح هذا الشعار، ومعه ''الهتاف'' المصاحب له دائماً، وهو''حماية الأمن القومي''! ولكن ما دخل ''الأمن القومي'' بدخلة تيلور وبيرتون، وبأغنيات جون لينون، وبوب ديلان، ونكات الكوميدي الأمريكي ليني بروس، وغيرهم ممن كانوا أهدافاً ''استراتيجية'' للجاسوسية الأمريكية؟!
التجسس في الولايات المتحدة مَرَضي، آت من داء الخوف الذي حقنت به نفسها منذ تأسيسها، ولا توجد مؤشرات لدواء يشفيها منه. فهي تتجسس على الأصدقاء في طريقها التجسسي على الأعداء. لا فرق هنا بين هاتف أنجيلا ميركل، والـ ''توكي وكي'' الملا عمر، أو أيمن الظواهري. أو إيميل أبوحمزة المصري ونيكولا ساركوزي، أو رئيسة البرازيل ديلما روسيف. الجميع أهداف ''مشروعة'' للتجسس. والأمر يكلف فقط اعتذاراً للأصدقاء، أو نفياً يعرف الأمريكيون أنه سيُرمى في أول صندوق قمامة. إنهم يتجسسون على كل شيء. من تنهدات تيلور ونكات ليني بروس، إلى مخططات العمليات الإرهابية، مروراً بكل حراك، سياسي واقتصادي وعسكري. لا فائدة من اتصال ميركل الغاضب مع باراك أوباما، الذي نفى (كالعادة) التهمة رغم أنه يحمل سلاح الجريمة! كما يجب على المستشارة الألمانية، أن تلتفت لشؤونها المحلية، بدلاً من الانشغال بطرح مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يطالب بوضع نهاية لعمليات التجسس المكثفة، وانتهاك الحياة الشخصية. هذا القرار لن يمر، حتى لو دعمته دولة كفرنسا.
يقول كاتب روايات الجاسوسية الشهير جون لو كارييه: ''السؤال القديم يبقى: من يستطيع التجسس على الجواسيس''؟! سيبقى هذا السؤال بلا جواب. في العمل السري، تكون الأجوبة هي الأسئلة! الولايات المتحدة تتجسس (من ضمن ما تتجسس) صناعياً وتجارياً واستثمارياً ونفطياً. وإذا كان لدى دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا والصين واليابان وغيرها، ما تخشى عليه من التجسس، فلا ضير من هذا النوع من التجسس على دول لا تملك شيئاً. وعندما لا تملك شيئاً، لا تخسر شيئاً. و''قطاع'' التجسس مثل قطاعات المحامين، لا يزدهر إلا في الأزمات. ولكن مهلاً، قفزت الولايات المتحدة على هذا الثابت، لتتجسس في كل الأوقات، وفي كل الأماكن، وعلى كل الشخصيات. فهي تتجسس على الصين اقتصادياً، وتنشر عيون عملائها على الدول الصديقة. من هذه الدول بريطانيا نفسها، التي ظلت صامتة (رسمياً) إلى حد الغيظ من فضائح التجسس الأمريكية. وربما هذا الصمت ينبع، من أن واشنطن لا تحتاج للتجسس على لندن، لأن الأخيرة تقوم بالمهمة نيابة عنها!
في السنوات القليلة الماضية ارتفعت وتيرة التجسس الاقتصادي بمفهومه العام، وهو متبادل بين الدول المتنافسة. وتفيد الوثائق الأمريكية التي نشرت حتى الآن، أن هذا النوع من التجسس وصل إلى أعلى مستوى له. ويأخذ (كما العادة في الحالة الأمريكية) الشكل الأكثر ''إبداعاً''. فقد شمل التجسس الأمريكي الصناعات والطاقة والعلاقات التجارية، وحتى البحوث الأكاديمية، والوثائق والأوراق الخاصة بالتنمية، وحراك الأسواق المالية، فضلاً عن الاستثمارات الخاصة المتعلقة بالأفراد، وتلك التابعة للحكومات. وهذا التجسس يتم بالطبع عبر مختلف الوسائل، الشخصية والإلكترونية، وما يعرف بالطرف الثاني والثالث. والخسائر المادية الناجمة عن التجسس كبيرة، لكن الخسائر المعنوية تبقى أكبر، خصوصاً من جانب الأصدقاء لا الأعداء. إن وباء التجسس الأمريكي بلغ حداً، أن قامت واشنطن باستجلاب معلومات اقتصادية تجسساً، بينما يمكنها الحصول عليها بصورة معلنة ورسمية!
يبقى الأوروبيون ''الحلفاء'' الأكثر شعوراً بالأسى من مجمل عمليات التجسس الأمريكية عليهم. البعض منهم اعتبر الأمر خيانة بكل معناها، والبعض الآخر فضل الصمت المُعبر، وآخرون التزموا الصمت الفاضح. أصوات كثيرة صدعت في البرلمان الأوروبي، لإرجاء مفاوضات التجارة مع الولايات المتحدة، كتعبير على امتعاض الأوروبيين من تجسس الأصدقاء عليهم. غير أن كل هذا، لن يقدم شيئاً يذكر على صعيد تغيير السلوكيات التجسسية الأمريكية. كل ما فعلته إدارة أوباما، أنها كالت الاتهامات لمن؟ للصين، بأنها أكثر الدول تجسساً على الصعيد الاقتصادي. لقد فعل الأمريكيون مثل العرب، الذين وضعوا الحق على الطليان في كل شيء! والحقيقة أن الحق كله على أخلاقيات الولايات المتحدة، التي لا تفرق من فرط خوفها المرضي المكتسب بين العدو والصديق!

الأحد، 27 أكتوبر 2013

ورطة الفنان والإعلامي العربي في ضحالته الفكرية

(المقال خاص بمجلة "إذاعة وتلفزيون الخليج" التابعة لمجلس التعاون الخليجي)




 الجاهل يؤكد، والعالم يشكك، والعاقل يتروى

 أرسطو

كتب: محمد كركوتـــي
مع انطلاق الثورات العربية المختلفة، وقع إعلاميون وفنانون عرب في شرك استقطاب إرادي!  أي أن جهة لم تغصبهم على ذلك. وتحديداً أولئك الذين استعبذوا الوقوف إلى جانب أنظمة حكم، قدمت لشعوبها كل الآلام الممكنة  وغير الممكنة، والمعاناة المتجددة. ورغم أن هؤلاء يعتاشون على الشعبية (بصرف النظر عن مستواها، أو أحقيتهم بها)، إلا أنهم، وبكامل إرادتهم قرروا الإعلان عن معارضتهم للحراك الشعبي، الذي أنتج هذه الثورات والانتفاضات المتلاحقة. كانوا في بعض الحالات، أعنف حتى من المستوى العنفي لبعض الثورات! بعضهم اعتبر، أنها ثورات مجرمين وقطاع طرق، والبعض الآخر قدم لها توصيفات تتراوح مابين التطرف والتخلف، دون أن يعترفوا بسبب واحد مباشر، لاندلاع مثل هذه الثورات، أو بمبرر للغضب الشعبي العارم. الأمر الذي أدخلهم أوتوماتيكياً في نطاق أنظمة غير شرعية، ليس بالضروة أنهم استفادوا منها أصلاً!  هؤلاء في الواقع، غامروا بشعبية لا يمكنهم الاستغناء عنها، بتأييد أنظمة، أصبح من الضروري التخلص منها. لقد  قامروا  بأرصدتهم دون أن يكونوا مضطرين للمقامرة. وفي المقامرة (أياً كانت) لا يوجد رابح دائم.
طرح فنانو وإعلاميو الأنظمة الاستبدادية كل "ثرواتهم" في سوق متلاطمة غير واضحة، دون سبب. ماذا حدث بعد ذلك؟ أنهم أُدخلوا قوائم أطلق عليها "قوائم العار"، وهي عبارة عن لوائح متجددة، وضع معاييرها ناشطون وجهات وقفت إلى جانب الثورات، بصرف النظر عن التفاصيل. ففي زمن الثورات، تدخل الكثير من التفاصيل في سياق الترف غير المُستطاع. أو في نطاق زمن ليس أوانه. ومشكلة أولئك الذين ارتضوا الدفاع عن الظلم، أنهم استخدموا القنوات التلفزيونية منابر لهم، وفي عز زحمة التعبير عن آرائهم وموافقهم عبرها، غاب عنهم أنها (أي القنوات)، الأدوات الوحيدة لعيشهم المهني، ومعاشهم الحياتي، وبدونها سيضطرون للبحث عن وظيفة أو مهنة أخرى. استفادت القنوات التلفزيونية التي تدعي التنوع، ولا تمارسه في الواقع، من هذه الموجة الجديدة في زمن التحولات. فالمشهد يحتاج لمعارضين من هذا النوع لتحولات شعبية، ويحتاج أيضاً إلى ثوار بجانبهم. ورغم أن النتيجة محسومة شعبياً، إلا أن فنانيي وإعلاميي الأنظمة المتلاشية، قرروا المواصلة حتى النهاية. ولكن نهاية مَنْ؟ نهايتهم الشعبية.
أظهرت الثورات العربية وتداعياتها في هذا المجال مرة أخرى، مدى ضحالة الوعي الذي تتمتع به الغالبية العظمى من المشتغلين في حقل الإعلام والفن في العالم العربي. وهي ضحالة متأصلة. وهؤلاء ليسوا أفضل بالتأكيد من أولئك الذين يستيدون المشهد الرياضي مثلاً. هناك جهل تاريخي بدأ مع بداية الحراك الفني والرياضي العربي بشكل عام، أصاب النسبة الأكبر من المشتغلين المذكورين، ولا تبدو مؤشرات لنهاية له. صحيح، أن أحداً لا يتوقع إنتاجاً فكرياً بناءاً منهم، لأنهم لا يملكون لا أداواته ولا وعيه ولا حكمته. لكن الصحيح أيضاً، أن هذه الساحة لم تُنتج شريحة مقبولة ومعقولة (عدداً ونسبة)، من أولئك الذين يتمتعون بالحد الأدنى من المعرفة والثقافة والوعي، في مختلف المجالات الاجتماعية والحياتية. ويكفي متابعة مقابلة مع فنان أو إعلامي لعدة دقائق، لكي نعرف جودة ما يملك، أو لكي نحدد مستوى ضحالة ما يتمتع به! هذا الحال، تجسد بأوضح صوره في تعاطيهم مع التحولات الثورية التي تحدث في بلادهم، أو تلك التي تجري في بعض البلدان الأخرى.  
ولعل السبب الرئيسي لهذا المشهد البائس، أنهم لم يفهموا أن الفنان أو الإعلامي، ينبغي أن يكون مع الحالة الاجتماعية لا السياسية أو العسكرية. وهنا يأتي الفارق بين فنان عربي وآخر غير عربي. ليس من فرط ثقافة الأخير وضحالة ثقافة الأول، بل من جهة النضوح في فهم العلاقة بينه وبين ما يجري حوله. هناك الكثير من الغوغاء الذين يتمسكون بضرورة أن يكون الفنان والإعلامي ملتصقاً بما يجري، دون أن يعرفوا مكان "الالتصاق" وطبيعته! فالقضية عندهم.. عنوان، شعار، ركاكة فكرية، ولا شيء غير ذلك.  يستطيع أي مشتغل في هذا الحقل، أن يعلن انتمائه لأي حزب سياسي، (أو حتى مجموعة عسكرية.. إن رغب ) سوف يخسر معارضي حزبه، ويكسب المتعاطفين مع هذا الحزب. هذه مسألة بديهية، وعليه أن يقبل ويتحمل تبعات انتمائه، وينصرف للدفاع عنه. لكن الأمر يجعله طرف، في حين أنه ينبغي أن يكون لكل الأطراف. هذا إذا افترضنا أنه يتمتع أصلاً بفكر، يتيح له الانتماء السياسي الحزبي الفاعل المنظم.
الذي حدث في خضم الثورات العربية، أن هذه الشريحة وقفت مع من لا يريده الشارع، الشعب، الجماهير، وحتى طبيعة الأشياء. في حين كان عليها أن تقف إلى جانب المتضررين مباشرة من نتاج الصراع بين الشعوب والأنظمة المتلاشية. ففي حين (على سبيل المثال) وجدنا الممثلة الأميركية أنجلينا جولي، تزور مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا والأردن، الفارين من حرب إبادة تشن عليهم، تظهر الممثلة رغدة، لتطلب علناً من بشار الأسد، بأن ينهي الثورة في سوريا بأسرع وقت ممكن، حتى ولو اضطر إلى استخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب! (لقد استخدمه بالفعل). هذه السورية، وضعت الشعب نفسه عدواً لها، بينما حددت الأميركية عوز اللاجئين العدو الوحيد، بصرف النظر عن رؤيتها للثورة. لم تهاجم الأسد ولا الثوار. بل هاجمت كل من يستطيع أن يقلل من حجم مأساة اللاجئين، ولا يقوم بذلك. لقد هاجمت حتى الدول التي تتقاعس في هذا المجال، دون أن تتورط بأي موقف سياسي يحسب عليها. هناك الكثير من النماذج العربية المشينة، بما في ذلك، من حيا دخول الدبابات إلى الجامعات، ومن برر المجازر.. إلى آخره.
إنه النضوح والوعي والحد الأدنى من الثقافة المطلوبة لأي مشتغل في الفن والإعلام. وعلى الرغم من أن الذين وقفوا إلى جانب الثورات، قدروا أنها منتصرة في النهاية، وأنهم في الواقع يدعمون بذلك شعبيتهم على المدى البعيد، وأنهم وجدوا أن الثورات حق، إلا أنهم تقاعسوا كثيراً في الجانب الإنساني الناتج. كان عليهم أن يهتموا بالطرفين. ففي الطرف الآخر، هناك متضررون مدنيون أيضاً، من صراع سيحسم في النهاية لصالح الشعوب، لكن مصير المخطئين والمعتدين من الفناين والإعلاميين على الثورات العربية كلها، حسم منذ اليوم الأول.

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

الاقتصاد الأمريكي بالتقسيط

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أحياناً.. يتعين حتى على رئيس الولايات المتحدة الوقوف عارياً».
بوب ديلان شاعر ومغن أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

حتى إن لم تنفذ وكالات التصنيف الائتماني العالمية، تهديدها بخفض المستوى الائتماني للولايات المتحدة، إذا لم تحل أزمة الموازنة والدين، فالتصنيف ''العالمي المعنوي'' لهذا البلد، تعرض للتخفيض بصورة تلقائية. ودعم الاقتصاد الأمريكي ''بالتقسيط''، يرفع من حد ''التخفيض المعنوي'' له. والاتفاقات المؤقتة مثل الحكومات المؤقتة، لا توفر استدامة، ولا تنشر الطمأنينة محلياً وخارجياً. لا أحد يتوقع أن تصل الأزمة السياسية المتجددة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى الهاوية. هي على حافتها، ليس الآن، ولكن منذ زمن طويل، طويل جداً. وستبقى عند مستواها الحالي لأجل بعيد.. بعيد جداً. الذي حدث، أن الجمهوريين الذين يرغبون في فشل تاريخي لباراك أوباما، وهو أكثر رؤساء أمريكا اضطراباً وتردداً وسلباً للإرادة، يعرفون أنهم لا يستطيعون المقامرة بسمعة البلاد. الحل كان واضحاً، جرعات مالية محددة (بل محصورة)، لاستمرار البلاد في الداخل والخارج.
طرحت أزمة الدين الأمريكي الكثير من الأسئلة، دون أجوبة مقابلة أو مستحقة. وبعض هذه الأسئلة، نال حتى من الشعار الذي أُطلق في الولايات المتحدة مع تأسيس البلاد نفسها. شعار محلي مع ''نغمة'' أمريكية خالصة، لكنه صار في لمح البصر شعارا عالميا بل أمميا. إنه ''الحلم الأمريكي'' أو The American Dream. لكن مهلاً، لجورج كارلين الكاتب والمؤلف والكوميدي الأمريكي وجهة نظر خاصة. فهو يقول: ''إنهم يقولون الحلم الأمريكي.. لأنه يتعين عليك أن تكون نائماً لتصدقه''. ومعه قال الشاعر الأمريكي ألان جينسبيرج ''أمريكا.. لقد منحتُكِ كل شيء، والآن أنا لا شيء''. لن تشهد الولايات المتحدة الانهيار، وحتى لو تفككت إدارياً من الداخل، ستبقى جسماً سياسياً، فيه من القوة ما يكفي لتتصدر المشهد العالمي دائماً. لكن ''الهيبة الأمريكية''، تأثرت سلباً (بلا شك)، من جراء الصراع الداخلي حول الموازنة ورفع سقف الدين. والمشكلة لا تكمن في الفوارق الأيديولوجية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لقد تقلصت في الواقع بفعل استحقاقات التحولات التاريخية، التي تحدث في العالم. وهذه المشكلة محصورة في صراع إجرائي أكثر من أيديولوجية، بما في ذلك الرابط الخاص بالرعاية الصحية، التي يمقتها الجمهوريون تاريخياً.
لقد وجد الجمهوريون ''الحل''، وكان عليهم أن يجدوه هم لا الرئيس باراك أوباما، لأن هذا الأخير لا يملك الحلول بقدر ما يستحوذ على ''مشاريع مشاكل''. هناك تطرف داخل الحزب الجمهوري، هذا أمر مؤكد، والتطرف لا يغيب عادة عن هذا الحزب، غير أن له حدوداً مرتبطة بالمدى الذي يمكنهم احتكاره. وهذا المدى ينتهي عندما تبدأ الآثار الشعبية السلبية تنال من الحزب نفسه. مع ضرورة الإشارة إلى أن هناك جناحا في الحزب يقوده السيناتور جون ماكين، يعتقد أن الجمهوريين تجاوزوا الحدود. الحل المقبول لأولئك الراغبين في مواصلة ذل باراك أوباما، أن يسمحوا بتسيير شؤون الاقتصاد الفيدرالي ''بالتقسيط''! ورغم أن ذلك أنقذ الاقتصاد من الهاوية، إلا أنه أبقاه على حافتها، مع بقاء ''أدوات الذل'' في أيديهم. إنه حل اللاحل! وهو يشبه إلى حد بعيد الحلول التي تضطر الحكومات الانتقالية لاعتمادها، بسبب الظروف الاستثنائية، التي تمر بها بلادها.
الولايات المتحدة تعيش بالفعل حالة استثنائية، لكنها تتخذ شكل الاستدامة بكل مخاطرها الآن واستحقاقاتها لاحقاً. و''الاقتصاد بالتقسيط''، مثل الشراء بالتقسيط، تبقى الأمور مرهونة إلى أن يتم التسديد الكامل. وتحوم دائماً أجواء الشك في ملاءة المقترض، وفي قدرته على الإيفاء بأقساطه. لكن الأمر هنا يتعلق بدولة لا تزال تملك المفاتيح الأكثر للاقتصاد العالمي، وتجمعها روابط بدول حليفة وغيرها، الأمر الذي يصعد من مستوى الضغوط عليها. إن السماح للبيت الأبيض بالاستدانة حتى السابع من شباط (فبراير) المقبل، هو مجرد أول قسط. ولا توجد مؤشرات واقعية (الآن على الأقل)، تدل على أن الكونجرس سيمنح أوباما، عند ''تسديده'' القسط الأول، الصلاحية لإقرار سنوي نهائي للموازنة العامة. وهذا هو في النهاية السلاح الأمضى في أيدي الجمهوريين، ليس من المرجح أن يتخلصوا منه بسهولة. هم بذلك، يُسيرون شؤون البلاد، دون أن يطلقوا يد الرئيس.
سياسة ''التقسيط الاقتصادي'' هذه، وإن أذلت أوباما وأرضت معارضيه المتشددين، إلا أنها تزيد من حجم الشكوك حول مستقبل محورية الولايات المتحدة على الساحة الاقتصادية العالمية. هناك الكثير من الدول التي بدأت بالفعل إعادة النظر في استثماراتها الأمريكية، مثل اليابان والصين وغيرهما. وفي ظل الضعف الطبيعي الناجم عن استحقاقات الأزمة الاقتصادية العالمية، ستزداد الشكوك حول مستقبل الاقتصاد الفيدرالي الأمريكي نفسه بصورة مخيفة، وذات دلالات مرعبة. بما فيها تلك المتعلقة بالذي يُطرح حالياً ''الضعف في جسد الإمبراطورية الأمريكية''، إلى جانب حقيقة ''الحلم الأمريكي''، والسيادة العالمية لهذه الدولة. إن المسألة برمتها لم تعد محصورة في مؤسسات حكومية أُغلقت وأُعيد فتحها، فقد حدث ذلك في السابق، وليست مرتبطة باستعادة باراك أوباما راتبه من الدولة، بل باستعادة الولايات المتحدة ما خسرته من هيبتها. وهذا لن يتم بوجود أوباما في البيت الأبيض.

الأحد، 20 أكتوبر 2013

في أمريكا الوهم الاقتصادي بقيمة سوقية لا تُنافس

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«الرجال ليسوا أسرى لمصائرهم، بل هم أسرى لعقولهم»
فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي الأسبق



كتب: محمد كركوتـــي

أياً كانت نتيجة الصراع الدائر بين البيت الأبيض والكونجرس في الولايات المتحدة، فالرئيس باراك أوباما سيظل جريحاً حتى انتهاء ولايته. وسيبقى جريحاً إلى ما بعدها. وسيكتب في مذكراته لاحقاً، أن أعضاء الحزب الجمهوري استهدفوه شخصياً، أكثر من استهداف سياساته، أو سلوكياته وأساليبه في القيادة والعمل. سيكتب، كيف أنه كان ضحية لكل الأسباب مجتمعة. ولن ينسى أن يمرر أن أحد الأسباب تتعلق بلون البشرة. هناك ثلاث سنوات باقية لأوباما في البيت الأبيض. وهو بالتأكيد لن يحقق أياً من سياساته ووعوده الانتخابية في هذه الفترة المتبقية، بعد أن فشل في تمريرها أو على الأقل في وضع الأساس لها في السنوات الخمس الماضية. والسبب لا يعود فقط إلى أن الحزب الجمهوري يقوم بإفشال سياسات أوباما، بل لأن هذا الأخير ليس صانعاً للسياسات أصلاً. والبرنامج الوحيد الذي يسعى بالفعل إلى تطبيقه، كان ولا يزال ''الرعاية الصحية''، لكن حتى هذا البرنامج تمت صناعته في الواقع بتفاصيله الراهنة، خلال عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
بعد يومين ''في السابع عشر من الشهر الجاري''، سيعرف أوباما بالتحديد عمق الجرح الذي أصيب به. مساحة من ''جوف'' الجرح كانت بسببه هو شخصياً، عندما أصر على عدم التفاوض مع أعضاء الكونجرس، الذين يبحثون عن مكسب سياسي من خلال صفقة اقتصادية. الذي حدث، أن المتطرفين من الجمهوريين بدأوا يتسيدون المشهد. لقد أحرج تعنت أوباما في الحوار مع خصومه السياسيين، أولئك الذين يقفون عند درجة أقرب إلى الاعتدال. لم تنفع الحملات التخويفية التي نظمها الرئيس الأمريكي، في دفع أعضاء الكونجرس إلى تغيير موقفهم من مسألة رفع سقف الدين. بما في ذلك تلك الصادرة عن مؤسسات دولية كصندوق النقد والبنك الدوليين. لا شك في أن العالم كله سيتأذى من جراء عدم الاتفاق بين الجمهوريين وأوباما، بما في ذلك دول نامية كثيرة، ودول مستثمرة داخل الولايات المتحدة، بأشكال مختلفة. إضافة طبعاً إلى الأضرار المحلية الهائلة، التي بدأت تظهر على الساحة. غير أن الرئيس الأمريكي، يراهن على أن دفع الأمور إلى حافة الهاوية، قد ينقذ الأوضاع من الهاوية. لكن هذا النوع من الممارسة السياسية، بات منذ سنوات طويلة، أشبه بالنكتة القديمة التي سمع بها كل الناس إلا قائلها.
بالطبع لم تبدل ''تخويفات'' وزير الخزانة جاك ليو، في الأمر شيئاً، حتى وإن قال علناً، إن التفوق الاقتصادي لبلاده، يمكن أن يكون عرضة للخطر بسبب الميزانية الحالية، وأزمة الدين التي وصلت إلى طريق مسدود في الكونجرس. وهو يقول ''لا يمكن للولايات المتحدة أن تنظر إلى هذه السمعة المكتسبة بشق الأنفس، على أنها أمر مسلم به''. هذا الكلام ليس صحيحاً تماماً، وكما هو واضح، يلعب أركان إدارة أوباما على الجانب السيادي للولايات المتحدة وسمعتها العالمية. وهم يعرفون أن الوهم الاقتصادي الذي تسيدت به بلادهم المشهد الاقتصادي العالمي، لم يعد وهماً، بل أصبح واقعاً منذ عشرات السنين، حيث صار للوهم نفسه قيمة سوقية! لا يمكن لأي ''وهم'' اقتصادي غير أمريكي منافسته. وعلى هذا الأساس، فإن ''تخويفات'' إدارة أوباما ليست في محلها، خصوصاً أن كل شيء بات مكشوفاً أمام الجميع، بل وكل شيء أصبح معروفاً للجميع.
لم يتبق أمام أوباما، الذي وصفته في مقال سابق بأنه الرئيس الوحيد الذي يشرح أشياء لا يقوم بها، سوى ساعات للتوصل إلى اتفاق مع الكونجرس. وعليه أن يقبل بالعرض المقدم له، وهو رفع سقف الدين لأسابيع محددة متفق عليها. وبدون ذلك فإن الموازنة ستظل عالقة، والولايات المتحدة ستعلن رسمياً أنها لن تستطيع سداد ديونها. هناك تحولات واضحة في معسكر الرئيس الأمريكي نفسه. فحتى أولئك الذي يعتبرون أن الجمهوريين يلعبون سياسة بصورة غير أخلاقية، باتوا يعتقدون أن الاتفاق والتفاهم هما الأفضل لأمريكا. ولا يهم عمق الجرح الذي أصيب به أوباما، الذي سيمضي معه إلى آخر يوم في حياته. الجمهوريون يعرفون أن هذه الساحة هي الميدان الأهم بالنسبة لهم، لتمرير سياستهم الاقتصادية المحلية، بما في ذلك ''عدم تمرير'' نظام الرعاية الصحية. وهم متمسكون بأرض المعركة، التي لا تتهيأ عادة بسهولة.
ورفع سقف الدين لفترة محددة وقصيرة، يبقى أداة الضغط الكبرى في أيدي الجمهوريين، الذين يريدون أن يتفاوضوا حول عديد من القضايا، بما في ذلك الرعاية الصحية والاجتماعية والتشغيل وغيرها من القضايا الخاصة بمكامن المجتمع الأمريكي. لا يمارس أحد في هذه الدنيا السياسة ببراءة. والجمهوريون الأمريكيون يتصدرون الجهات التي لا تعترف حتى بالبراءة من ناحية نظرية لا عملية. فمادية هؤلاء تجعلهم يلعبون سياسة في ساحات لا تتحمل ذلك. لكن حتى هذه السلوكيات، لا يمكن ممارستها إلى ما لا نهاية، إذا ما كانت هناك جهة قوية تتمتع بالحد الأدنى من المؤهلات السياسية المختلفة. ومن سوء حظ الولايات المتحدة والعالم معها، عدم وجود جهة ذات قيمة مضافة أمام الجمهوريين في الولايات المتحدة.

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

موازنة أمريكية برئيس مضطرب

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










«البيت الأبيض أفخر السجون في العالم»
هاري ترومان الرئيس الأمريكي الأسبق




كتب: محمد كركوتـــي


ليس هناك أدنى شك في أن الجمهوريين في الكونجرس الأمريكي، يلعبون حزبيًّا مع الرئيس باراك أوباما في قضية ليست أقل من محورية. قضية تمس أمريكا محليًّا وخارجيًّا. وإذا ما استمرت دون حلول فستمس العالم أجمع. هذا هو ''الداء'' الأمريكي العالمي الذي لا دواء له بعد. يقول الأديب الأمريكي مارك توين: ''كان اكتشاف أمريكا عظيمًا، لكن سيكون عدم اكتشافها أعظم''. ورغم الفشل في العثور على حل للموازنة الفيدرالية العامة، لا خوف على ريادة الولايات المتحدة في العالم. وإذا كان هناك من ''خوف'' فهو يختص بـ ''مديري'' هذه الريادة. في البيت الأبيض، إدارة مضطربة على الصعيدين المحلي والخارجي، أضاعت نفسها (بإرادتها) في تقديرها للأولويات. في هذا البيت (المحكوم جزئيًّا - لا كليًّا - بإدارته)، رئيس ارتضى أن يكون ضعيفًا. والرئيس الضعيف هو في الواقع مُصَرِّفٌ للأعمال، لا واضع للسياسات، لكنه – يا للمفارقة - أخفق حتى في تصريف الأعمال! إلى درجة، أن توقف بعض الدول الفيدرالية نفسها!
الجمهوريون يلعبون حزبيًّا. هذا واقع، لكن اللاعب المقابل، لم يتمكن بعد خمس سنوات في حكم البلاد من تحسين أدواته هو للعب في الوقت الصحيح. لقد كان طوال السنوات الماضية رئيسًا مفرطًا في شرح أشياء لا يقوم بها، مما جعله محللًا بوظيفة رئيس الولايات المتحدة! ورغم إعلانه بأنه يريد التركيز على الشأن الداخلي، هذا هو ناتج ''التركيز'': شلل أقل من مريع وأكثر من خطير، لبعض مؤسسات الدولة! ومن ضمن المشاكل التي يواجهها أوباما، أنه يرفض التحاور مع الفريق الآخر. والحق أنه أصاب في هذا الأمر فقط. لماذا؟ لأن ناتج التحاور مع افتقاره إلى أدوات اللعب، لن يكون إلا في مصلحة الفريق الآخر. وإذا ما أضيفت الخلافات المستمرة داخل إدارة أوباما نفسها، إلى المشهد العام، فسيمكن التنبؤ ببساطة بالمحصلة النهائية لأي حوار. والأمر برمته لا يحتاج إلى خبير في شؤون الجمهوريين والديمقراطيين. فأوباما ضعيف في البيت وخارجه.
مهما بلغ تعنُّت الحزب الجمهوري في مسألة تمرير مشروع الموازنة الفيدرالية العامة، إلا أنهم في النهاية سيتوصلون إلى حل ما مع البيت الأبيض. فهم يعرفون أنهم لا يستطيعون التعطيل إلى ما لا نهاية، خصوصًا عندما تبدأ آثار هذا التعطيل تضرب مؤسسات حساسة انتخابيًّا بحكم روابطها الوطنية الشعبية المباشرة. ويبدو أن الرئيس الأمريكي المضطرب، نسي ما قرأه عن سلفه الديمقراطي فرانكلين روزفلت الذي قال ''عندما تصل إلى نهاية الخيط، اربط عقدة وتوقف''. فالقضية لا تحل بالعناد، خصوصًا إذا ما كان العناد بلا قوة ضاربة. يراهن أوباما في رفضه التحاور مع الجمهوريين على إحراج هؤلاء شعبيًّا، على أمل أن يتولد الضغط الذي يتمناه عليهم. غير أن الأمور لا تجري هكذا في الولايات المتحدة. فالتفاهم بين البيت الأبيض والكونجرس ليس خيارًا للإدارة. وهو في النهاية سيقبل بالحلول الوسط، بعد أن يذهب عناده هباء منثورًا. صحيح أن الجمهوريين يتحملون مسؤولية تعطيل المؤسسات، لكن الصحيح أيضًا أن الرئيس يساهم في إطالة أمد التعطيل.
الموعد الأهم، لم يعد لقاء للتحاور بين الجمهوريين والبيت الأبيض، بل في الـ 17 من الشهر الجاري، عندما يحين الوقت المنتظر لرفع سقف الدين. فالديون الحكومية بلغت – كما هو معروف - 16,7 تريليون دولار. وهذا يعني أن الولايات المتحدة، لن تكون قادرة على سداد ديونها، إذا ما تم التعطيل أيضًا. وهذه المصيبة إلى جانب مصيبة الموازنة، سترفع من مستوى الاضطراب الذي يعيشه أوباما (مرة أخرى بإرادته). عليه التوصل إلى تفاهم ما، بحلول الموعد ''الخطير''، حول معارضة الجمهوريين لقانون الرعاية الصحية. وهذا القانون بالتحديد يمثل حجر الزاوية لمواقف الحزب الجمهوري، الذي يخضع في النهاية لمجموعة نافذة من المحافظين المتطرفين. والصراع مع هؤلاء حول القانون بدأ في الواقع في عهد الرئيس الأسبق بيل كلنتون، الذي كان أكثر جدارة وقدرة على ''اللعب'' مع الجمهوريين وغيرهم.
ليس مهمًّا إلغاء أوباما زياراته لعدد من الدول الآسيوية، والمشاركة في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (آبيك)، وإن استغل هذا الأمر للتأكيد على بشاعة موقف الحزب الجمهوري من الموازنة. المهم أن يؤمن اتفاقًا ما مع الحزب المعارض، في غضون أسبوع تقريبًا، هي المدة المتبقية لتقرير مصير رفع سقف الدين، وهو يحتاج إلى رفع السقف بواقع 30 مليار دولار، ليتمكن من اقتراض هذا المبلغ بما يتيح له تسيير شؤون البلاد، والوفاء بالالتزامات على الحكومة. ومن دون ذلك، فإن المستوى الائتماني للبلاد سيهتز، مع انضمام مزيد من المؤسسات إلى قائمة الجهات المتعطلة.
الجمهوريون ليسوا أبرياء، ولم يكونوا كذلك سابقًا. لقد وجدوا الوقت المناسب لتمرير ما يستطيعون من سياسات اقتصادية، مستغلين اضطرابا واضحا للرئيس على الصعيدين الداخلي والخارجي. وهم في النهاية، لن يتركوا البلاد تتقاذفها أمواج الاقتصاد. دون أن ننسى استمتاعهم الشديد بذل رئيس، تخصص في شرح الأشياء، التي لا يقوم بها!

الخميس، 3 أكتوبر 2013

أزمة اقتصادية انفجرت لتعيد تشكيل العالم

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«الأزمة الاقتصادية العالمية، كشفت أخطاء أيديولوجية اقتصاد السوق الحرة»
ألان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق





كتب: محمد كركوتـــي

قبل خمس سنوات، هي عمر الأزمة الاقتصادية العالمية، وفي زحمة تداعي المؤسسات المالية ومعها المؤسسات الاقتصادية إلى جانب الحكومات الهائمة على وجهها، وبعد عامين من خروجه من منصبه كرئيس للمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ظهر ألان جرينسبان ليعلن للعالم، أن الأزمة التي انفجرت للتو، لا مثيل لها في التاريخ، وإن تكررت، فهي لا تحدث إلا مرة كل مائة عام، وأن ''الفيدرالي الأمريكي'' لا يسيطر على الأمور، وأن الحكومات أكثر هشاشة من بنوكها المركزية. وماذا قال أيضاً؟ ''لا أتحمل وزر الأزمة''! ويضيف ''الأخطاء التي ارتُكبت لا تُنتج أزمة''! كان ذلك في أيلول (سبتمبر) من العام 2008، لكنه بعد أن هدأت العاصفة، اعترف بالأخطاء الايديولوجية لاقتصاد السوق الحرة. كان كغيره من ''المتيمين'' بهذا الاقتصاد ''المنفلت'' الرافض للحد الأدنى جداً من الأخلاقيات، يحمل الضحايا مسؤولية العدوان على أنفسهم!! فهو من أولئك الذين يؤمنون بتطرف، بأن الكل يخطئ إلا السوق وحرياتها. وأن المعايير التي يطالب بها البعض ليست سوى مُعطلات لها! كان السياسيون يصفقون لكنهم لم يلبثوا أن تحولوا من التصفيق إلى ''اللطم''.
قبل خمس سنوات كان العالم ينفجر، دون قنابل ولا صواريخ ولا أسلحة كيماوية أو بيولوجية، أو غيرها من معدات الدمار. كان الانفجار أخلاقيا، معيشيا، إنسانيا. وهذا النوع من الانفجارات يستحق توصيف ''الانفجار العضوي''، والخراب الناجم عن مثل هذا الانفجار، لا يقارن بذاك الذي يخلفه السلاح التقليدي. لقد دمر هذا الانفجار، من ضمن ما دمر ''قداسة'' السوق. وهذه ''القداسة'' كانت بالتحديد، النواة الرئيسة للانفجار الكبير. كان العالم، قبل خمس سنوات ينفجر، ولكنه في الوقت نفسه يتشكل رغماً عن ''المجرمين'' الهاربين من مسرح الجريمة، ورغم الفوضى التاريخية التي أصابت الحكومات، ومعها حتى الجهات التشريعية بل والقضائية. كانت عملية التشكل ''العضوي'' – إن جاز التعبير - للعالم، لا تقارن من حيث السرعة والتكوين، مع تلك الناجمة عن قرارات وسياسات اقتصادية سياسية جديدة. لقد كانت الأولى تفرض حقائقها بصورة طبيعية، وكانت الثانية تتباطأ، بل تتلكأ، في التناغم معها. فما كان من الأولى إلا أن جذبت الثانية غصباً بأشكال مختلفة، من بينها التخلص من السياسيين الواحد تلو الآخر. هؤلاء أسهموا بصورة أو بأخرى في الانفجار الكبير. فالسياسي قبل الأزمة لا ينفع لما بعدها، ولن ينفع، وتحديداً في العالم الغربي، الذي انفجرت في ''وجهه'' الأزمة، قبل أن يوزع خرابها على العالم.
بعد خمس سنوات من أزمة لا تشبهها أخرى، لا يزال العالم في مرحلة التشكيل. بعض الدول تجاوزتها ولكن ليس تماماً. ففي هذا العالم لا يمكن فصل البعض عن الكل. ولهذا السبب فإن مصائب البعض تعم على الكل في معظم الأحيان. البعض الآخر من هذه الدول توهم أنه تجاوزها. الغالبية العظمى من الدول التي أنتجت الأزمة لا تزال ''تناطح'' مخلفاتها. الولايات المتحدة، أوروبا، في المقدمة بالطبع. ديون الدول المانحة الكبرى (وليس ديون الدول الفقيرة) باتت خبراً يومياً. العجز في الموازنات العامة، أصبح مثل النشرات الجوية. أما البطالة فلم تعد حالة استثنائية، أو مرحلية، بل حالة دائمة متعاظمة المشكلات والأرقام والأعباء الإنسانية والاجتماعية. هل تقاعس السياسيون الغربيون الحاليون، في مواجهتهم للأزمة واستحقاقاتها؟ بالتأكيد. ففي حين أنهم يستطيعون العمل بصورة أكثر حرية ومرونة، باعتبارهم ليسوا من مرتكبي الأزمة، إلا أنهم تصرفوا بشكل مغاير في بعض الأحيان.
بعد خمس سنوات من الأزمة، لم تستكمل أدوات إصلاح السوق. فالأمر يحتاج إلى إقرار نهائي دائم لأدوات تمنع الوقوع في أزمة أخرى جديدة. وبعد هذه السنوات، لا يزال بعض من سلوكيات الأسواق المنفلتة، ولاسيما ''وول ستريت'' حاضراً على الساحة. صحيح أن هذه السلوكيات لم تعد بالقوة نفسها التي كانت عليها قبل الأزمة، لكنها لا تزال موجودة في ''الأركان'' وعند ''المنعطفات''. لا شك في أن الأمر يحتاج إلى مزيد من السنوات لإزالة آخر الأدران لأسوأ مبادئ اقتصادية شهدها العالم، منذ أن عرف علم الاقتصاد. فخراب عقود لا يمكن أن يُزال في سنوات قليلة. والمشاهد التي خلفتها الأزمة، لن تنتهي قبل خمس سنوات أخرى. هذا إذا سارت الخطوات التشريعية والرقابية والسلوكية في الدول التي صنعت الأزمة، بوتيرة سريعة يطلبها العالم أجمع.
هذه الأزمة لم تخلف دماراً أو خراباً فقط. بل أوجدت أمراضاً نفسية من نوع مختلف، وإلى أن يتشكل الاقتصاد العالمي بالصيغة التي تحترم المعايير البشرية، والمقاييس المجتمعية، وبالطبع القيم الأخلاقية، فإن الاضطرابات الاقتصادية الاجتماعية السياسية، ستبقى على الساحة بصور مختلفة. إن الأزمة الاقتصادية العالمية، انفجرت في الواقع لتعيد تشكيل عالم، بالحد الأدنى المستطاع من الأشرار.



الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

الولايات المتحدة الأمريكية «النامية»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«رأيت طفلاً وليداً تحوم حوله الذئاب»
بوب ديلان، شاعر ومغن أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

يستحق الرئيس الأمريكي باراك أوباما ''كأس العالم''، باعتباره الرئيس الأكثر شرحاً لأشياء لا يقوم بها! وهو أيضاً يستحق جائزة عالمية أخرى، كرئيس يُجبر بقوة المُضرب عن الطعام ليأكل، دون أي اهتمام بالأسباب التي قادته للإضراب! هو أكثر الرؤساء الذين مروا على البيت الأبيض، حرصاً على نهاية خدمة رئاسية مضمونة، الأمر الذي يُغيِب عنه مسؤولياته كرئيس لأكبر دولة في العالم، ويحوله إلى موظف كبير، ينتظر تقاعده المضمون يوماً بيوم. قد ينفع أوباما مديراً لمصرف مهمته الرئيسة، أن يقول لا لأي شخص يسعى للحصول على قرض، مهما كان هذا القرض ملائماً، أو حتى مستحقاً. وهذه أهون المهام لكل المناصب. لقد فضل الرئيس الأمريكي الجانب الأسهل في الإدارة، على الرغم من أن هذه السلوكيات الإدارية، تنال بصورة مهينة من القدرات الإدارية. ولهذا السبب، لا تنقطع المناكفات والخلافات داخل إدارة أوباما نفسها. فالفريق يريد أن يعمل، والرئيس يريد أن ''يضمن'' دون عمل!
يقول محبو الرئيس الأمريكي ''اللذيذ''، إنه ابتعد عن الساحة الدولية من أجل الساحة الداخلية! ورغم أنه لا يحق لرئيس الولايات المتحدة هذا الابتعاد، لأسباب معروفة للجميع، ولا سيما تركه الساحة الدولية لـ ''أزعر'' روسيا ليقرر السياسة وفق معايير المافيات، إلا أن أوباما لم يحقق نجاحاً يتناسب مع انكبابه على الشأن الداخلي. ولهذا السبب وغيره، انصرف إلى شرح الأشياء، ولا بأس من التبريرات معها على إخفاقات، ما كانت لتحدث، لو أنه ارتضى أن يكون صانع قرار بعيد عن اعتبارات، ستختصر حجم البوابة التي سيدخل منها إلى التاريخ. فإذا أراد تقزيم دور بلاده خارجياً، بحجج ساذجة، عليه أن يرفع من شأنها على ساحتها الداخلية. الذي حدث، أن ما حققه داخلياً، جاء أقل بكثير من تكاليف تخلصه الطوعي من إرادته كصانع قرار، ومن إرادة البلاد على الساحة الخارجية.
يعيش اليوم في الولايات المتحدة 46 مليونا تحت خط الفقر. ورغم أن خط الفقر في هذه البلاد، أعلى بما لا يمكن مقارنته بغيرها من البلدان الفقيرة، إلا أنه يمثل عاراً على أوباما، وفق المعايير الأمريكية، وليس الإفريقية أو الآسيوية. هذا العدد الذي يمثل 15 في المائة من مجموعة سكان البلاد، يماثل إجمالي عدد سكان دولة كإسبانيا! ويقل بصورة طفيفة عن عدد سكان أوكرانيا! لم يقلل الرئيس الأمريكي ''المتخصص في الشؤون الداخلية''! عدد الذين يعيشون تحت هذا الخط، على الرغم من عدم انشغاله بالخطوط الحمراء التي حددها لسفاح سورية بشار الأسد. اكتفى بالحديث عن هذه الأخيرة كـ ''مُنظر'' لا كمنفذ. وكعادته، أسهب في شرحها بمناسبة وغير مناسبة، دون أن يقوم بها. الذي حدث، أنه ترك لـ ''سيد'' العالم حالياً فلاديمير بوتين مهمة تغيير اللون، من أحمر إلى أبيض! بل إن هذا الأخير (في بعض المواقف)، رسم الخط الأحمر لأوباما نفسه!
الأثرياء في الولايات المتحدة، ازدادوا ثراءً، والفقراء ازدادوا فقراً مدقعاً. هذه المعادلة المريعة في كل مكان، أتى أوباما أساساً لتعديلها. أو هكذا قال شارحاً إلى حد الملل. عتبة الفقر الرسمية في الولايات المتحدة تبلغ 11702 دولار سنوياً للفرد، و23201 دولار لعائلة مكونة من أربعة أفراد. وعلى هذا الأساس، فإن مستوى الفقر في البلاد يبلغ - حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية - 11 في المائة، بينما يصل أعلى متوسط لدى المنظمة نفسها 6 في المائة. وهذا يعني أن أوباما فشل حتى في خفض الفقر وفق المعايير التي تضعها منظمات دولية. علماً، بأن هناك دائماً فروقات بين تقديرات ومعايير المنظمات، وحقائق الوضع على الأرض. مع ضرورة الإشارة هنا، إلى أن المؤسسات الأمريكية المحلية تضع الأمريكيين تحت خط الفقر عند نسبة 15 في المائة. وسواء كانت هذه النسبة أو غيرها، فإن الرئيس الأمريكي، أخفق في أهم واجب أوكله لنفسه.
نسبة من الفقراء الأمريكيين لا تزال تحمل ''وول ستريت'' مسؤولية معاناة الفقراء أجمعين في البلاد. وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً، أن أوباما فشل أيضاً في إيجاد ''كابح'' سريع لمتنفذي السوق الأمريكية. وكانت معركته مع هؤلاء متقدمة في بداية ولايته، لكنها لم تلبث أن تراجعت، أو أصابها الوهن. وهذا يفسر الارتفاع في عدد الفقراء الأمريكيين، في السنوات الماضية. ولا يزال الرئيس ''المتخصص'' في الشؤون الداخلية لبلاده، يستجدي المؤسسات التشريعية لرفع سقف الدين العام، وأبقى أخيراً على برنامج التحفيز.
غير أن هذا كله لم يحقق أي هدف على صعيد الحد من معدلات الفقر في البلاد، الذي يبقى فقراً عنصرياً بتركيبته. وحسب مركز التعداد السكاني الأمريكي، فإن نسبة الفقر بين البيض من غير الأصول اللاتينية، تصل إلى 2,19 مليون نسمة، ومعدلات الفقر هي الأعلى بين الأقليات. وماذا أيضاً؟ يعيش أكثر من ربع السكان من أصل زنجي أو لاتيني في حالة فقر، في حين تنخفض تلك النسبة إلى 10 في المائة من البيض. هل هي الولايات المتحدة الأمريكية ''النامية''؟

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

«اقتناص» المهاجرين.. كسب اقتصادي أناني

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«تذكر.. تذكر دائما، أننا جميعاً، أنت وأنا على وجه الخصوص، وُلدنا هنا من مهاجرين وثوريين»
فرانكلين روزفلت الرئيس الأمريكي الراحل


كتب: محمد كركوتــي

في بعض الحالات تتماهى وضعيتا المهاجر واللاجئ، مع ملاحظة أن حالة النازح قد تتطور إلى الحالتين السابقتين، أو إحداهما، بصرف النظر عن تمسك الجهات المسؤولة حول العالم بهذا التأطير. هي تحرص على هذا النوع من التأطير، لأسباب تتعلق بمسؤولياتها وواجباتها حيال الحالات الثلاث. فلكل حالة التزامات مختلفة، وبالطبع أي جهة معنية تفضل الحالة الأقل تكلفة (بل الأدنى تورطاً) على المديين القريب والبعيد. لكل حالة تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.. ولها منغصاتها. والتكاليف الاقتصادية هنا لا تنحصر فقط في المانح، بل تشمل نسبة من الممنوحين أنفسهم. ولا سيما من خلال تشغيلهم بأكثر من حقوقهم، أو ''سرقتهم'' من أوطانهم المحتاجة إليهم. علينا فقط أن ننظر إلى فلسطين المحتلة، من هناك جاء التطور. نازح أولاً، لاجئ ثانياً، مهاجر ثالثاً، ولا بأس من مواطن أخيراً. البعض يعتبره تطوراً جيداً، استناداً إلى المعايير الاقتصادية والمعيشية، أما البعض الآخر فيرى عكس ذلك تماماً، ويحمل القوى الفاعلة المسؤولية.
على كل حال، تبقى قضية النازحين واللاجئين، مأساوية بصورة لا تُقارن مع مسألة المهاجرين، أو مع أي قضية اجتماعية معيشية أخرى، باستثناء تلك التي شهدها العالم على مدى سنوات، واستحقت عنواناً عريضاً هو ''الموت جوعاً''. حسب الأمم المتحدة، هناك 232 مليون مهاجر حول العالم. وهؤلاء أكثر من عدد النازحين واللاجئين، وهم يشكلون ما يقرب من 3,2 في المائة مع المجموع الكلي للبشرية. ويقيم هؤلاء بصورة رئيسة في أوروبا وآسيا. هذا العدد من المهاجرين يقارب عدد سكان إندونيسيا، ويفوق سكان البرازيل عدداً. وفي غضون عقد واحد، أضيف لأعداد المهاجرين 21 مليوناً. وحسب التوقعات التي تستند إلى أسس علمية، فإن عدد هؤلاء سيشهد ارتفاعاً في السنوات المقبلة, فالمهاجر يبحث أساساً عن حياة أفضل, بينما يبحث اللاجئ (وكذلك النازح) عن مكان يوفر له يوماً إضافياً على قيد الحياة.
تصل نسبة المهاجرين 11 في المائة من سكان البلدان المتقدمة. فهذه البلدان قادرة على استيعاب سلس لهم، دون أن تتكبد أعباء كبيرة. غير أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فعدد متعاظم من الدول المتقدمة تحتاج إلى خبرات وكفاءات علمية ومهنية في مختلف المجالات، وهي إن فتحت الأبواب أمام المهاجرين، فإنها تسد بعضاً من الثغرات في هيكلية سوق العمل والتوظيف بشكل عام. ومن أجل ذلك، بدأت بعض البلدان بتشجيع هجرة الكفاءات إليها، بصرف النظر عن الدول المصدرة لها، أو بمعنى آخر، بصرف النظر عن الدول المتسربة منها. وهذه الدول ببساطة، تحتاج إلى الكفاءات أكثر من البلدان المتقدمة. هي غالباً دول تسعى إلى النمو الذي يوفر لها حداً أدنى من الاكتفاء في مختلف المجالات.
والحقيقة أن الدول المتقدمة ترتكب مزيداً من الأخطاء في هذا السياق. ففي الوقت الذي تسهم (بصور مختلفة) في التنمية في البلدان المصدرة للكفاءات والأيدي الماهرة، فإنها تستقطب (أو تسرق) رافداً محورياً في التنمية هناك. مع ضرورة الإشارة إلى أن مساهمات الدول المتقدمة في التنمية بالبلدان النامية، تراجعت بشكل كبير في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وقلت التزاماتها بحجة الأزمة، التي ارتكبتها هي نفسها، لا أحد غيرها. فحتى على صعيد المساعدات الإنسانية، ينبغي أن ينشر التحذير الذي صدر أخيراً عن منظمة ''أوكسفام'' الخيرية العالمية، الرعب في الأوساط الدولية قاطبة. هذه المنظمة تقول ''إن سياسات التقشف التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، ستزيد عدد المعرضين للفقر بواقع 15 إلى 25 مليون أوروبي- مرة أخرى أوروبي- بحلول 2025، ليصل العدد إلى 146 مليون نسمة''.
أما لماذا ينبغي أن ينشر الرعب؟ لأنه إذا كان الأمر بهذه الصورة المرعبة في القارة الغنية، فكيف الحال في الدول الفقيرة أو النامية، المنتجة للأيدي الماهرة والكفاءات؟! الأوضاع المعيشية المتردية في هذه الدول، تعفي البلدان المتقدمة من ''عبء'' التشجيع على الهجرة إليها. فهؤلاء سيأتون إليها سواء بالتشجيع أو بالتسلل بصورة غير قانونية. وهذا ما يحدث بالفعل على كل الحدود المائية والبرية للبلدان المتقدمة. كل الدول تبحث عن مصالحها (هذا بدهي)، ولكن أليس من مصلحة البلدان المشار إليها، التقليل من التزاماتها الاقتصادية تجاه الدول النامية، بإبقاء الأدوات المنتجة في وطنها؟ سوف توفر عوائد في هذا المجال، يمكنها أن تستثمرها في بلادها نفسها، التي ستشهد (في الحالة الأوروبية) أكثر من 146 مليون فقير لاحقاً.
قضية المهاجرين، لا تنحصر في إطار شخصي فقط. إنها جزء أصيل من التنمية الشاملة في أي مكان، خصوصاً أولئك الذين يتمتعون بالكفاءات والمؤهلات اللازمة لبلدانهم. صحيح أن نسبة من بين المهاجرين تمثل عبئا حتى على الدول القادرة. فهي تبحث فقط عن مكان لعيش أفضل، دون أن تهتم بدورها في التنمية والمجتمع. ولكن الصحيح أيضاً، أن نسبة متعاظمة من المؤهلات تتسرب من دول تحتاج إليها بقوة، إلى دول تحتاج إليها بعض الشيء.

الجمعة، 13 سبتمبر 2013

في الاقتصاد «مصارف جرثومية» أيضا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«على البنك المركزي أن يضع سياسات، بمعزل عن اعتبارات سياسية قصيرة الأجل»
بن برنانكي رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي


كتب: محمد كركوتـــي


هناك كره تاريخي يفيض في ''وجدان'' المصارف حيال السلطات المالية. يبدأ مع تأسيس المصرف وفي أغلب الأحيان لا ينتهي. وحتى إن كانت هذه السلطات متساهلة في تشريعاتها ومراقبتها وقوانينها المالية، ينخفض الكره قليلاً، ويرتفع في الوقت نفسه توجس لا يزول أيضاً. لكن الكره يبقى في أعلى الدرجات، وفي كل الأوقات للجهات المالية العقابية. ويبدو أن هذه العلاقة لن تدخل في يوم من الأيام، في بيئة إيجابية. والسبب بسيط. هو أن السلوكيات المصرفية لا يمكن أن تتبدل ذاتياً، ويتطلب الأمر معها وجود ذراع غليظة، تُذكِّر أولاً، ثم تعاقب ثانياً. ولأن ذاكرة المصارف ضعيفة، فغالباً ما تكون الأولوية لـ ''ثانياً''.. لا لـ ''أولاً''! بالتأكيد تجهد المصارف نفسها للهروب من هذا وذاك، في عز انشغالها بجمع أكبر قدر من الأموال، بصرف النظر عن مصادره، وكي تتباهى بالاستحواذ على درجة أخرى عالية في قائمة أكبر وأقوى المصارف. وإذا كان المال ''كما يُقال'' يتكلم، فقد وجد الشاعر والمغني الأمريكي بوب ديلان، أنه يشتم.
عندما كان الاقتصاد العالمي ''فالتاً''، كانت المصارف تعيش أحلى أيامها، بل لنقل أحلى سنواتها. لقد دام ''عيشُها'' الرغيد أكثر من ربع قرن من الزمن. ازدادت قوة ونفوذاً، لدرجة أنها باتت هي التي تحدد السياسات المالية العامة في كثير من البلدان، ولا سيما تلك التي تتحكم في القرار الاقتصادي الدولي. بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، صُدم العالم من هول الخراب الذي أحدثته المصارف. أما المخربون فقد تسربوا الواحد تلو الآخر إلى ملاذات مضمونة. على كل حال، تغيرت الأمور، وأصبحت التشريعات المقيدة للمصارف واجبا وطنيا في كل دولة، بل ضمانة لبقاء الحكومات نفسها في الحكم. وفي زحمة حملة التنظيف التي تقوم بها هذه الحكومات، هناك الأموال المشينة، التي تتراوح بين عوائد المخدرات والاتجار بالبشر والنهب العام، وبين التهرب من الضرائب والعمولات الكبرى. وتركز الحكومات حالياً على الضرائب الضائعة، وكلها متجمعة في مصارف مختلفة في بلدان متعددة، وفي مقدمتها بالطبع سويسرا.
ظهرت قبل أيام في سويسرا دراسة مريعة حقاً! أجرتها مؤسسة ''كي بي إم جي'' المالية، بالتعاون مع جامعة ''سان جال''. تتوقع الدراسة أن يختفي ما بين 25 و 30 في المائة من المصارف السويسرية في غضون ثلاث سنوات، ليس بسبب اندماجها ''مثلاً'' مع مصارف أكبر منها، بل لأن التشريعات التنظيمية المالية الدولية الجديدة، تضغط عليها للكشف عن ودائعها. وهذه الودائع بمجملها، ليست سوى أموال مهربة من الضرائب، إلى جانب أموال مشينة أخرى. الضغوط المشار إليها، ليست أكثر من عملية تنظيف تقتل ''الجراثيم'' المصرفية، بعد أن عاثت هذه الجراثيم على مدى عقود في الأموال فساداً، وشجعت في الوقت نفسه على رفع عدد الفاسدين من كل الأجناس والمشارب. سيكتشف الخاسرون، الذين كانوا ''قبل الأزمة'' سكان العالم أجمع، حقائق من سويسرا، وغيرها من البلدان المشابهة، تجعلهم مشدوهين لسنوات طويلة.
لقد انخفض عدد المصارف السويسرية الخاصة ''حسب الدراسة نفسها'' في سبعة أعوام من 182 إلى 148 مصرفاً، بينما انخفض في العام الماضي فقط من 161 إلى 148 مصرفاً. وهو العام الذي لم تصل إليه الضغوط الخارجية على المصارف السويسرية، وغيرها في أشباه الدول التي تصدرت قائمة الملاذات الآمنة للأموال المشينة. كشف الإصلاح المالي الذي بدأ غصباً .. لا حباً ''بسبب الأزمة''، الكثير من الآثام المالية حول العالم، خصوصاً في الدول التي عاشت ''ولا تزال'' على أموال قذرة، لا يمكن تنظيفها إلا بحرقها. والهجمة الغربية الحالية على المصارف التي تتجمع فيها أموال ضرائب وطنية، ستقصي بالفعل الكثير من المؤسسات المالية. ولكن لم العجب؟ لقد ثبت أن مصارف ذات سمعة عالية لا تُمس، استخدمت الأموال القذرة في إنقاذ نفسها.
يطالب المختصون في سويسرا وإمارة ليختنشتاين، بضرورة تسريع حركة تعزيز المصارف الخاصة، ولا سيما في ظل المعركة الراهنة بين الولايات المتحدة والسلطات السويسرية، حول تجمع أموال أمريكية هائلة في مصارف الأخيرة، هي في الواقع ضرائب واجبة للبلاد. والسؤال الأهم هنا، كيف يمكن تعزيز هذه المصارف، بينما تقوم على أموال غير شرعية بل مشينة؟ لا أحد يطرح على الملأ طبيعة خطط التعزيز هذه، لأن المشكلة تكمن في موجودات مستحقة لجهات غيرها. ولهذا السبب، فإن خروج نسبة من المصارف الخاصة السويسرية من الساحة، هو الحل الأمثل لكل الأطراف. لا يمكن بأي حال من الأحوال إسناد المصارف المشار إليها، وفق المعايير التقليدية المعروفة. بل لا يمكن إنقاذها، فما تملكه .. ليس لها.
ليس أمام الحكومة السويسرية وغيرها من حكومات أشباه الدول، إلا التعاون مع الأنظمة المالية الدولية الجديدة، طوعاً أو كرهاً. وهذا يتطلب أيضاً التحرك واستغلال الفرصة المواتية، لتفعيل أكبر للحراك الخاص بملاحقة الأموال المنهوبة من الشعوب، ستكون أمامها الأموال الهاربة من الضرائب مجرد ''فكة''.

الأحد، 8 سبتمبر 2013

بكائيات أردوغان الإخوانية.. أنسته أزمته الاقتصادية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







''لا تبحث عن العجل تحت الثور''
من الأمثال التركية

كتب: محمد كركوتـــي

ينشغل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بالدفاع عن إخوان مصر. ولا مانع لديه من نقل العلاقات بين بلاده ومصر إلى أخطر مستوى لها. فهو في الواقع يدافع عبر بكائياته على حكم الإخوان المصريين، عن التنظيم العالمي لهذه الجماعة، التي استعذبت منذ انطلاقتها، العمل السري حتى لو كانت في الحكم. والحق، أن العمل السري، هو جزء أصيل من مبادئها وأدبياتها. دون أن ننسى، أن مرشداً سابقاً لهذه الجماعة في مصر هو مأمون الهضيبي، قال علانية: ''نتقرب إلى الله بأعمال التنظيم السري للجماعة''! وأعمال التنظيم السري هذه، أقلها الاغتيالات والتصفيات الجسدية. على كل حال، أنست بكائيات أردوغان، هذا الأخير الأزمات الاقتصادية التي تتجمع في بلاده. ويبدو واضحاً، أن ما يحتاج إليه التنظيم العالمي للإخوان، له الأولوية على كل شيء. تكفي الإشارة هنا، إلى استضافته اجتماعات هذا التنظيم ''سرياً طبعاً''، لبحث مصيبة انهيار حكم الجماعة في مصر.
تواجه تركيا مصاعب اقتصادية متصاعدة، أخذت تهدد شيئاً فشيئاً النمو الذي تمتعت به البلاد بالفعل في غضون السنوات القليلة الماضية. بل إن هذه المصاعب، بدأت تدفع خارجاً أولئك الذين اعتقدوا استدامة النمو إلى ما لا نهاية. ففي الأسابيع الماضية، شهدت البلاد هجرة للاستثمارات الأجنبية، واضطرت الحكومة إلى سن مجموعة من القوانين، لجذب ما أمكن لها، ليس من أموال الأجانب، بل من أموال الأتراك الذين يعيشون خارج بلادهم، مترددين في ضخها. وفي الواقع، تدخل هذه التطورات الدراماتيكية، في إطار تحولات في زخم التوجهات نحو الأسواق الناشئة نفسها. فقد وجدت شرائح عديدة من المستثمرين الأفراد والصناديق المتوسطة والكبرى، أن المخاطر باتت عالية في هذه الأسواق، ولا سيما في زمن الاضطرابات. وفي كل الأحوال، تواجه حكومة أردوغان مجموعة من المشكلات الاقتصادية، التي ستظل على الساحة لفترة لن تكون وجيزة.
يعاني البنك المركزي التركي كثيراً للحفاظ على ما أمكن من قيمة الليرة. وهو بين نارين. الأولى: رفع نسبة الفائدة، والثانية: استنزاف الاحتياطي من القطع الأجنبي. أعلن البنك حالة الطوارئ، في الوقت الذي وجد فيه أردوغان وقتاً، ليؤكد أن ''المركزي'' لن يُقدِم على رفع معدلات الفائدة. ماذا حدث؟ فشلت مبيعات البنك المركزي من العملات الأجنبية الصعبة في تهدئة التوتر الحاصل على الساحة الاقتصادية، وأخفقت تدخلاته المباشرة في سوق صرف العملات، بينما لم ينصت إلى أردوغان، ورفع الفائدة. لكن النتيجة بقيت كما هي. ومنذ مايو الماضي تراجعت الليرة 9 في المائة مقابل العملات الرئيسة الأخرى، وهي مرشحة للتراجع. يصف الاقتصاديون الأتراك اقتصاد بلادهم بـ ''الهش''، ويؤكدون أن ذلك يعود إلى الاقتراض المفرط، والتخلف عن السداد العائد بشكل أساسي إلى استثمارات مالية خارجية قصيرة الأمد، وأن التطورات الاقتصادية العالمية، كشفت عن مشكلات مزمنة في هذا الاقتصاد.
والحقيقة، أن مشكلات الاقتصاد التركي، بدأت قبل أكثر من عامين، حين بلغ التخلف عن سداد الأموال المستحقة نسبة 10 في المائة من الدخل المحلي. المسؤولون في حكومة أردوغان، يبررون هذه التطورات السلبية ''بأن كل بلدان العالم باتت عرضة للتقلبات الاقتصادية، بفعل انكشافها على تطورات الخارج في عالم مفتوح''. وهذا النوع من التبريرات، يطلقها عادة أولئك الذين ليسوا واثقين بما يكفي من علاج الأزمات المتصاعدة. هناك مشكلة مستمرة منذ زمن، وهي ضعف الأصول التركية، وأي سياسة اقتصادية تطرح حالياً، لا يمكن أن تعالج هذه المسألة بصورة جذرية. إنها مشكلات تتطلب إعادة النظر في الكثير من السياسات المتبعة، والإقدام على خطوات، لن تكون بالضرورة شعبية. إنها الضريبة السياسية التي لا ترحم حكومة ولا حزبا .. وبالتأكيد ولا ''جماعة''.
في الإطار نفسه، يساهم التوتر في العلاقات بين تركيا ودول الخليج العربية، في دفع هذه الأخيرة لإعادة النظر بوجودها الاقتصادي في تركيا. وقد ظهرت مؤشرات واضحة على ذلك، بقيام البنك المركزي الإماراتي ''على سبيل المثال'' بمطالبة المصارف التجارية، بإمداده بتفاصيل مساهماتها بمشاريع في تركيا، أو شراء صكوك وأدوات دين تركية، أو وجود إيداعات كبيرة لأتراك فيها، أو إيداعات لإماراتيين في البنوك التركية. اللافت أن خطاب ''المركزي الإمارتي''، اتخذ طابع الاستعجال، وطالب البنوك بالإفصاح عن هذه البيانات سريعاً. ومن الإمارات، أبلغت شركة ''طاقة'' فيها الجانب التركي، أنها لن تمضي قدماً في مشروع ضخم لبناء عدد من محطات توليد الكهرباء، تستخدم احتياطيات فحم ''الليجنايت'' الموجودة بوفرة في تركيا. وهذا المشروع يتكلف 12 مليار دولار أمريكي.
ليس مهماً تأجيل اتفاقية الربط بين بورصتي القاهرة وإسطنبول، نتيجة للتوتر الناجم عن تدخل أردوغان في شؤون مصر الداخلية. المهم بالنسبة لهذا الأخير، أن يحافظ ما استطاع على جملة من الاستثمارات الخليجية، لو تسربت إلى خارج تركيا، سترفع من حدة الأزمات التي يواجهها الاقتصاد التركي، خصوصاً إذا ما انضمت هذه الاستثمارات إلى أخرى أجنبية، انسحبت أو تفكر بالانسحاب من الساحة التركية.