الثلاثاء، 29 أبريل 2014

النوم في العمل .. أو «العمل» في النوم

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«الحلم لا يصبح حقيقة عن طريق السحر. إنه يتطلب تصميما جميلا وعملا شاقا»
كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق


كتب: محمد كركوتـــي

عندما تكون موظفاً صغيراً، تحلم كل ليلة بأن تصبح موظفاً كبيراً (مدير، رئيس مؤسسة، عضو مجلس إدارة منتدب، رئيس قسم...). وعندما يشاء القدر وتسعفك مؤهلاتك (لا الواسطة، ولا لقرابتك من ذوي النفوذ)، تحلم بـ "حلم" فيه أي شيء، إلا عملك وزملائك وموظفيك وناتج شركتك.. وخصوصاً رئيسك. باختصار.. تأمل بحلم بلا كوابيس العمل، بل وحتى بلا مسراته إن أمكن أيضاً. ترغب "بإجازة" ولو في سياق حلم، لأنك ببساطة لست مؤهلاً لإجازة بمفهومها التقليدي، ونتائجها النفسية الإيجابية، وعوائدها المثمرة عندما ترجع مرة أخرى إلى طاحونة العمل. أنت أصبحت الآن في ورطة، لن تخرج منها إلا بخروجك من موقعك الذي حلمت به يوماً، وتمنيت أن تصل إليه بأسرع وقت ممكن. عليك أن تتحمل تبعات رغبتك هذه. أنت لست موظفاً.. أنت محرك الموظفين، تحمل إذن.
في السنوات العشر الماضية، ذابت الحدود الفاصلة بين الحياة الخاصة ومعترك العمل. والسبب ليس سوى الأجهزة الذكية "اللعينة". وإذا كان هناك من نصيحة، لا تذكر هذا التوصيف أمام صاحب القرار الأخير في مؤسستك، سواء كنت مديراً أو غير ذلك. عليك في الكثير من الأحيان، أن تشكر التكنولوجيا أمامه، تملقاً أو قناعة، وتصور الحياة العملية كمشهد خراب شامل بدونها. لقد باتت أجهزة الاتصال الذكية بمنزلة شهادة دائمة (شرط أن تكون البطارية مليئة) على إخلاصك وتفانيك في عملك، وعلى عدم اكتراثك بحياتك الخاصة. فالعمل أولاً، وليس مهماً أمامه شؤون الأسرة، أو حتى شؤونك الشخصية إن لم تكن لديك أسرة. ولاؤك للأجهزة الذكية هو ولاء مباشر لعملك. لا تنسى أنها حولتك إلى ملكية لجهة عملك، ليس وفق عقد العمل، بل بالتماهي بين حياتك الخاصة والعملية. مهلاً.. تذَكرْ أن الدوام الرسمي يبدأ ولا ينتهي!
تقول الكاتبة لوسي كيلاواي، إنها توصلت إلى حل جذري لهذه القضية زوال الحدود بين العمل والحياة الخاصة، وهي على الشكل التالي: "يأتي الجميع إلى المكتب في وقت محدّد كل صباح، ويعملون لمدة ثماني ساعات يتاح لهم بعدها أن يعودوا إلى بيوتهم، وعمل كل ما يرغبون فيه من دون تدخل أو إزعاج إلى صباح اليوم التالي! حاولت جاهداً أن أعثر على حل في صيغة "حلها"، لكني فشلت. هي في الواقع أعادت كتابة بند تتضمنه جميع عقود العمل، بصرف النظر عن طبيعة الجهات التي تصدرها. ولوسي بلا شك تسخر من الحالة كلها، عندما تقدم شيئاً يعرفه الجميع وموثق، ولكن أحداً لا يطبقه. وإذا ما كان هناك جديداً حقاً في هذا الأمر، فليس سوى صفقة أثارت الجدل العارم، توصلت إليها إحدى النقابات في فرنسا، يحظر بموجبها على العاملين تبادل الرسائل النصة والإيميلات فيما بينهم خارج ساعات العمل.
ولكن هل يمكن تطبيق ذلك فعلاً؟ رغم النفوذ القوي الذي لا تزال النقابات الفرنسية تتمتع به (زال هذا النفوذ تماماً في بلد كبريطانيا) هل تستطيع هذه النقابات أن تتابع سلوكيات الترغيب والترهيب التي يمكن أن تمارسها الإدارات العليا في المؤسسات على موظفيها الكبار والصغار؟ وإن تمكنت من متابعتها، هل يمكنها أن تتخذ شيئاً حيالها، خصوصاً عندما يظهر شيئاً من الضعف من جانب الموظف نفسه؟ أغلب الظن أنها لن تستطيع أن تضمن تنفيذاً واقعياً للصفقة التي توصلت إليها. دائماً هناك من يمكنه أن يحل مكان الموظف، ويقبل أن "يمزج" عمله بـ "أحلامه" الليلية إلى جانب الكوابيس التي تأتي في أي وقت. لقد أصبح نظام العمل المحدد بثماني ساعات من الماضي فعلاً. وهذا الماضي بدأ في الواقع بالانفجار التكنولوجي في مجال الاتصالات والتواصل. فأنت معرض لأن تحضر اجتماعا مهما أو مملا أو مضنيا على الهواء مباشرة، بينما تلبس البيجاما.
يقولون إن العديد من عباقرة العالم وعمالقة الابتكار يعملون وفق نظام صارم، يفصل بين عملهم وحياتهم الخاصة. ربما يكون هذا الأمر صحيحاً، ولكن المؤسسات لا تبحث عادة عن عباقرة، بل عن منتجين مباشرين. وإذا ما احتاجت إلى عبقري، فمن السهل عليها أن تمنحه الاستثناء اللازم. فهو في النهاية فرد واحد أو اثنان. إنهم يحاولون التأكيد على أن نظام العمل المحدد بفترات زمنية معلومة لا مجهولة، يحقق النتائج المطلوبة والعوائد المرغوبة والنجاح المنتظر. غير أن الأمر ليس بهذه السهولة، لأن الذي يضع المعايير حالياً طرفان لا ثالث لهما. الإدارات العليا في المؤسسات، و"شريكتها" تكنولوجيا الاتصالات. وهذه الإدارات لا تعترف إلا بوجود حراك، والحراك في النهاية (بصرف النظر عن توقيته) يعني الإنتاج.. وهذا الأخير هو الهدف ومعه الغاية. وليس مهما طبيعة الأحلام التي تمر في "منامات" الموظف، طالما أن بطارية هاتفه الذكي Full.

الجريمة .. المصيبة التي كانت مشكلة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«الجرائم مثل المناقب .. لها مكافآتها الخاصة»
جورج فارجوهر كاتب ومسرحي أيرلندي


كتب: محمد كركوتـــي



إنها المصيبة المتأصلة. ولا يبدو في الأفق أي أمل على حلها أو حتى التقليل من ضرباتها. أما لماذا هذا التشاؤم، فإن هذه المصيبة تتعاظم على مدار الساعة، وتأخذ أشكالاً جديدة، بل وتطرح "ثقافات" باتت تشكل حالة طبيعية في بعض المناطق، وغير صادمة في مناطق أخرى. وهذا من أخطر التحولات قاطبة، أن تكون ثقافة "المصيبة"، شيء خاضع للتطور الطبيعي. إنها ببساطة الجريمة على المستوى العالمي. لا يوجد مجتمع محصن منها، بما في ذلك البلدان التي تنعم بالرخاء، أو على الأقل، الغالبية العظمى من سكانها ينعمون بهذا الرخاء. وإذا كان لكل جريمة أسبابها، فليس هناك مبررات لكل هذه الأسباب. لقد أصبحت بعض المجتمعات تتفاخر بأن نسبة الجريمة المرتكبة فيها تتضمن معدلات أقل من جرائم القتل! حتى ولو كانت النسبة العامة للجريمة مرتفعة فيها!
بالفعل، بات للجريمة "ثقافاتها"، والخوف أن تتحول هذه "الثقافات" إلى "استحقاقات" بأشكال مروعة أكثر وأبشع. وانتشار إفرازات الجريمة يرتفع بارتفاع نسبها وطبيعتها. ولكن الأهم من هذا كله أن هناك تفاوتا مخيفا على صعيد مستويات الإدانة في هذا البلد أو ذاك. ونسبة الإدانة المنخفضة في بلد ما، تعني ببساطة ارتفاع معدلات الجريمة فيها، وتنوع أشكالها، بما في ذلك الأشكال التي لم تكن موجودة أصلاً في عالم الجريمة. ففي الدول الأكثر فساداً، يمكن بسهولة أن تصدر أحكام البراءة بحق أشد المجرمين عنفاً وقتلاً وضرراً للمجتمع. وبالطبع ترتفع مستويات العدالة، بانخفاض معدلات الفساد. إنها مصيبة في المعيار العالمي والمحلي. وهي قضية لا تتعلق "مثلا"، بارتفاع حجم الثروات "الجاهزة" للسرقة أو النهب، أو قتل أصحابها للفوز بها، بل ترتبط ارتباطاً مباشراً بمستويات التنمية الموجودة في هذا المجتمع أو ذاك.
لقد ظهرت هذه الحقيقة واضحة مجدداً، من خلال التقرير الأخير لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، الذي صدر تحت عنوان عريض "الدراسة العالمية حول القتل". وردت بالفعل نسب وأرقام مرعبة، تمنح المشكلة توصيف المصيبة. ومن أهم النقاط التي تستحق التركيز عليها، هي تلك المتعلقة بربط التنمية بمعدلات الجريمة. وليس المقصود هنا الرخاء، بقدر توفير الفرص المناسبة وفق طبيعة المجتمعات. والتنمية الطبيعية لا تحد من الجريمة فحسب، بل تضع حدوداً لـ "الثقافات" التي نشرتها الجريمة ضمن الكيانات المجتمعية، ولا سيما في المجتمعات التي ارتضتها بديلاً عن الثقافات الطبيعية لها. في هذه المجتمعات، صارت معايير الجريمة، هي الثقافة الطبيعية التي تخضع للتطور أيضاً! ليس هناك محصن من الجريمة، والفارق بين دولة وأخرى، يكون عادة في حجم الإدانات.
وحسب هذا التقرير، تسببت الجرائم في فقدان حياة أكثر من 430 ألف شخص حول العالم في عام 2012. نصف جرائم القتل حدثت في إفريقيا والأمريكتين. وأمام هذا الواقع، يرى المختصون التابعون للأمم المتحدة، ضرورة النظر برؤية مختلفة لطريقة التعاطي مع الجرائم ومسبباتها ونتائجها. وهنا يظهر الرابط بين التنمية والجريمة. فقد أظهرت الأرقام، أن المجتمعات التي تعاني نسب تنمية عالية تقل فيها معدلات الجريمة. وكلما حدث تطور اقتصادي جيد وارتفع نوعية المساواة في الدخل، تقل أيضاً نسب الجريمة. ويقول واضعو التقرير "إذا كان هناك بلد يعاني اقتصاديا، ويعاني أيضاً انعدام المساواة في الدخل .. فإننا سنرى الكثير من جرائم القتل والعنف".

واستناداً إلى التقرير، فإن متوسط معدل جرائم القتل العالمي تبلغ 6.2 لكل 100 ألف شخص، غير أن جنوب إفريقيا سجلت 30 ضحية لكل 100 ألف، وأمريكا الوسطى سجلت 26 ضحية لكل 100 ألف، إضافة إلى أن معظم الضحايا ومرتكبي جرائم القتل هم من الرجال. يشير التقرير إلى أن نسبة الإدانة العالمية لجرائم القتل المتعمد هي 43 لكل 100 جريمة قتل، ولكن هناك تفاوت بين المناطق، موضحا أنه مقابل 100 جريمة قتل، يدان 81 شخصا في أوروبا، أما في آسيا فتتم إدانة 48 شخصا. في حين يدان في الأمريكتين 24 شخصا فقط. إنها أرقام مرعبة، ليس فقط على صعيد ارتفاع معدلات الجريمة، بل أيضاً على صعيد تفاوت مستويات الإدانة. وكل ذلك بالفعل، يعود إلى غياب التنمية. حتى في البلدان المتقدمة الثرية، ترتفع معدلات الجريمة في المناطق الأفقر منها. ففي قلب مدينة كلندن أو باريس أو نيويورك هناك أيضاً تفاوت كبير في نسب الجرائم المرتكبة فيها بين منطقة وأخرى. ولا شك أن السجون لا تشكل حلولاً مثالية. في الولايات المتحدة ينفق على السجون أكثر من 8.5 مليار دولار سنوياً، وهي أموال هائلة بالفعل، يمكن ببساطة أن يذهب جزء منها إلى التنمية التي تحتاج إليها حتى داخل الولايات المتحدة. دون أن ننسى، أن العالم أنفق في العام الماضي أكثر من 1750 مليار دولار على التسليح. وعشرة في المائة منها، تحل 40 في المائة من المشكلات الناجمة عن الجريمة.


اقتصاد سورية .. من الصفر إلى الصفر

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«لن أُفاجأ فيما لو تفككت سورية بالكامل»
جيمس ستافريديس أدميرال في سلاح البحرية الأمريكية

كتب: محمد كركوتـــي


قبل عام ونصف العام تقريباً، نقل الأخضر الإبراهيمي المبعوث العربي - الدولي لحل الأزمة السورية، عن سفاح سورية بشار الأسد قوله في اجتماع خاص بينهما: "لن أترك سورية إلا دماراً وخراباً". وهذا الأخير يعرف (كما الجميع)، أن أحداً في هذا العالم لن يُوقف تنفيذ أهدافه الإجرامية الهمجية المتوارثة. فالقرار الأمريكي واضح منذ البداية، لا تدخل ولا حسم، بل إن الموقف الأمريكي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تعطيل حراك الثورة نفسها! لأسباب بعضها لا يثير إلا السخرية، وبعضها الآخر ملتبس حتى لدى أصحاب الموقف نفسه! في حين أن إمدادات الأسد (المالية، والعسكرية، والنفطية، والمرتزقة.. وغيرها) لم تتوقف من الأنظمة المارقة المساندة له، كإيران وروسيا وغيرهما. وقد تمكن الأسد بالفعل، من بسط شعاره على المشهد كله "إما أنا أو الخراب الشامل". شعار مرادف للترجمة "التشبيحية" له "الأسد أو نحرق البلد".
في ثلاث سنوات خسرت سورية 37 سنة من التنمية. وكان السوريون قد خسروا البلاد كلها على مدى أربعين عاماً، ظلت ملكاً لنظام تحكمه أسرة طائفية دنيئة. والأمر لا ينتهي عند هذا الحد. فإذا توقفت الحرب اليوم، فإن البلاد تحتاج إلى قرابة ثلاثة عقود لاستعادة اقتصادها. وهذه النتيجة الأخيرة، توصلت إليها بعد سلسلة من الأبحاث وجمع الإحصائيات المباشرة على الأرض، وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). أي أن سورية تحتاج إلى ثلاثين عاماً كي تعود إلى ما كانت عليه قبل الثورة الشعبية العارمة. بمعنى أن هذه المدة الطويلة، لا تضمن ازدهاراً ولا تنمية ولا أي شكل من أشكال الإنجازات الاقتصادية. فقط العودة إلى الصفر من الصفر! فاقتصاد ما قبل الثورة، لم يكن اقتصاداً بالمفهوم المعروف. كان اقتصاد أسرة، تقوم بتطبيقه على بلاد بأكملها.
وبعيداً عن الضحايا الذين بلغ عددهم (وفق للأمم المتحدة) أكثر من 200 ألف مدني من كل شرائح المجتمع، فقد وصلت الإنتاجية في سورية بالفعل إلى ما دون الصفر. وهو أمر مفهوم، إذا ما استندنا إلى استنتاج (الأونروا) بأن ما جرى في البلاد وصل إلى مستوى الدمار في الحرب العالمية الثانية. ويقول الخبراء المحايدون، إن الأسد لم يترك لهم شيئاً لقياسه وتقييمه في المدن المدمرة، التي فقدت سكانها. وجرى تدمير منظم لكيان الأسرة فيها، وانهار اقتصادها وغابت مظاهر الحياة عنها. هذا هو توصيف الخبراء الذي يحاولون الوصول إلى توفير أفضل دراسة ممكنة للوضع الاقتصادي السوري في أعقاب سقوط الأسد. فالحصيلة الراهنة لحرب الأسد على السوريين، هي مجموعة من الخسائر للاقتصاد بلغت في العامين الأولين من هذه الحرب أكثر من 84 مليار دولار، ولو أضيفت حصيلة العام الثالث، فإن الاقتصاد خسر ما لا يقل عن 110 مليارات دولار، إلى جانب طبعاً، الخسائر الناجمة عن ارتفاع عدد العاطلين عن العمل إلى مستويات لم يسبق لها مثيل. ففي عامين اثنين انضم 2.33 مليون سوري إلى "جيوش" العاطلين في البلاد. دون أن ننسى، وصول عدد النازحين داخل سورية إلى أكثر من تسعة ملايين نسمة، وعدد اللاجئين في الدول المجاورة وحول العالم بلغ أكثر من أربعة ملايين فرد.
سيسقط بشار الأسد. هذا مؤكد، ولكن بتكاليف أكثر من هائلة. مرة أخرى لا يمكن حساب تكاليف أرواح الأبرياء بأي ثمن. ويكفي قياس هذه التكاليف بتشبيه الخبراء المحايدين الذين وضعوا سلسلة من الدراسات وفق المعايير العلمية المتبعة في المؤسسات الدولية، لحالة الدمار في سورية بناتج الدمار الذي خلفته الحرب الثانية. حسناً، هذا يعني، أن أولئك الذين امتنعوا عن وقف قتل الشعب السوري (خصوصاً الأمريكيين والأوروبيين)، عليهم (أخلاقياً على الأقل)، أن يقدموا المساعدات الكفيلة بإعادة بناء اقتصاد البلاد لمن تبقى من هذا الشعب. لا تكفي تسهيلات اللجوء التي اعتمدتها بعض البلدان الغربية، والمساعدات الإنسانية التي تمر عبر المؤسسات الدولية. من واجبهم أن يتقدموا بصورة عملية وواقعية نحو إعادة البناء هذه، تعويضاً على الأقل لدورهم في الكارثة التي شاركوا فيها بصورة مباشرة وغير مباشرة.
لن يُبقي سفاح سورية شيئاً يمكن البناء عليه في سورية. فلديه ابناً عن أب عن جد، من الحقد الطائفي ما يكفي كي يترك البلاد أرضاً محروقة خالصة. الذي يضرب الأطفال بالمواد الكيماوية، ويلقي البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية والمساجد والكنائس والقلاع التاريخية وأضرحة الرموز الدينية، لا يهتم بمصير مؤسسة أو طريق أو سد أو مدرسة. على العالم أن يواجه الحقيقة التي شارك هو نفسه فيها، بتقاعس منقطع النظير في التاريخ. سورية لن تكون مجرد أشلاء. فحتى هذه سيقضي عليها الأسد. سورية ستكون لا شيء. فقط لا شيء. وستحتاج بعد زوال الأسد وعصاباته إلى كل شيء.. كل شيء.

معاهدة الأشرار

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«واجب عدم التعاون مع الأشرار، كواجب التعامل مع الأخيار»
مهاتما غاندي الزعيم الهندي الراحل



كتب: محمد كركوتـــي

يتسيد فلاديمير بوتين الساحة، المشهد، اللوحة. يتراجع قليلاً هنا بعض الشيء، ولكنه يتقدم كثيراً هناك. ليس مهماً التهديدات الغربية له، إلا في الحدود التي تمكنه من عدم التفجير أكثر. فالغرب يعيش حالة ارتباك سياسي (مع بوتين وغيره من المارقين)، من فرط خمول السياسة الخارجية الأمريكية، التي فضل لها باراك أوباما ذلك، إلى حين انتهاء ولايته. إلى جانب عدم وجود قيادات في بقية الساحة الغربية، يمكنها أن تُحدث توازنا ما في ظل السياسة الأمريكية الحالية. يرسل بوتين الجيوش على الحدود من أوكرانيا ويسحبها، ويتلقى مواقف غربية لا تتوازى مع هول التحرك العدواني له. لقد وجد الساحة خالية له ومعه عدد آخر من المارقين كسفاح سورية بشار الأسد، وعلي خامنئي. فلا بأس من اللعب على المكشوف وبعدوانية، طالما أن التبعات لن تكون سوى سلسلة من التصريحات التي ينتهي مفعولها بانتهاء إلقائها.
بوتين يعد الآن اتفاقاً نفطياً-عسكرياً مع إيران، على عدة مراحل، تصل تكلفته الإجمالية مبدئياً إلى 20 مليار دولار، وتبلغ تكلفة المرحلة الأولى منه ثمانية مليارات دولار. ولا تزال بنود الاتفاق سرية، أو غير معلنة. وبمجرد التوقيع عليه رسمياً، لن يتردد رئيس روسيا ولا زميله رئيس إيران في الإعلان عن تفاصيله. فليس هناك ما يردعهما على الساحة. بل على العكس، هناك صمت أمريكي رهيب إلى حد الملل. ولعل من أسباب هذا الصمت، أن البيت الأبيض نفسه، بدأ في منح الموافقات للمؤسسات والشركات الأمريكية للتعامل مع إيران. صحيح أنها لا تزال في البداية، ولكن الصحيح أيضاً، أن حواجز كثيرة على صعيد العقوبات المفروضة على طهران تحطمت بالفعل، من قبل الشركات الغربية بشكل عام. بعض رؤساء هذه الشركات لا يزالون يخشون تحولا مفاجئا سلبيا في الموقف الأمريكي حيال إيران، فالتزموا الحذر والترقب.
وعلى الرغم من أن روسيا تصدر الطاقة بمختلف أنواعها، فإن الاتفاق الذي تم تسريب بعض بنوده، يحول موسكو إلى وكيل إيران المعتمد في هذا المجال، فضلاً عن قيام الروس بمهام عديدة على صعيد تأهيل المنصات النفطية الإيرانية، وتطوير البنى التحية للقطاع النفطي بشكل عام. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن روسيا ستساعد طهران على بناء محطتين نوويتين جديدتين! أي أن بوتين لا يتجاوز فحسب، بل ويتحدى الغرب كله، ولا سيما الولايات المتحدة. وللعلم، إن الاختلاف الوحيد بين الجانب الروسي والإيراني الآن هو على تسعير النفط في هذا الاتفاق. وهو خلاف يدخل ضمن نطاق تلك المساومات التي تفضي في النهاية إلى الصفقة. خصوصاً إذا ما علمنا، أن السعر المختلف حوله لا ينقص إلا دولارات قليلة عن سعر النفط في السوق الدولية.
هذا الاتفاق لن يتوقف عند بنوده، بل سيتطور لاحقاً وفي فترة قريبة إلى ما يشبه معاهدة بين الطرفين، في الوقت الذي لا تزال الشكوك تحوم حول نيات إيران حيال المنطقة والعالم. ولكن مرة أخرى، لا أحد في الأجواء قادر على إبداء الاعتراض على مثل هذه الاتفاقات، على الأقل في الوقت الراهن. ستزود روسيا إيران بالسلاح، وفق الاتفاق المذكور، وعلينا أن نتخيل خطورة ونوعية هذا السلاح، طالما أن الرقابة الغربية تساوي صفراً الآن. وبإمكان بوتين الخبير بالصفقات المروعة، أن يعلن شيئاً وينفذ شيئاً آخر في هذا المجال. فليس صعباً أن يضمن الاتفاق بنداً بتسليح إيران مثلاً بمليار دولار، بينما يورد في الحقيقة أسلحة بعشرات المليارات من الدولارات. هذا إذا فكر رئيس روسيا ببعض الاحترام للغرب النائم.
والغريب أن تحذيراً واحداً لم يصدر حتى من قبل شركاء أوباما الغربيين على هذا الاتفاق. نحن نعلم (على سبيل المثال) أن موقف فرنسا هو الأقوى على الصعيد الغربي حيال طهران، ولكنها لا تزال صامتة. والحق أن الموقف الفرنسي المتشدد، بات موقفاً صامتاً. دون أن ننسى تكالب الشركات الفرنسية على إتمام عقود مختلفة مع إيران في الآونة الأخيرة، بما في ذلك شركات لصناعة السيارات، وبالطبع الشركات النفطية والمصارف وغيرها. لن نتحدث هنا عن بريطانيا، التي فضلت الانصياع للرغبة الأمريكية حيال طهران دون حتى نقاش جدي. لا أحد يطالب هنا بالمبادئ. فهذه الأخيرة لا وجود لها على الساحة العالمية. المطلوب هو تدارك المخاطر. فاتفاق بوتين وخامنئي هذا، يعني ببساطة انفراط نصف عقد العقوبات الغربية على إيران. وإلى جانب الخروقات التي أحدثتها طهران في هيكلية هذه العقوبات، علينا أن نتخيل في المستقبل القريب، مستوى "النعم" الاقتصادية التي سيتمتع بها النظام الإيراني.
إن هذا الاتفاق ليس سوى شراكة اقتصادية مريبة بين نظامين يسعيان إلى تحدي العالم، ويتبعان أسوأ الأساليب للوصول إلى غايتهما. وهو بلا شك خطوة أولى لمعاهدة بين الأشرار، في حين لا يزال أوباما يفكر.. وسيظل يفكر حتى نهاية فترة رئاسته.

مجموعة الثماني .. «النضال» في الوقت الضائع

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«الرجل يموت، الأمة تنهض وتخبو..لكن الفكرة تظل حية»
جون كيندي رئيس أمريكا الراحل



كتب: محمد كركوتـــي

لا يَصدُق وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف غالباً. لقد تخصص على يد رئيسه فلاديمير بوتين في لي الحقائق، وهو من السياسيين المستعدين لإنفاق كل وقتهم، لإثبات أن مياه البحر ليست مالحة، وأنها صالحة للشرب! إنه يبالغ في تزوير الحقائق، لدرجة تجاوز بمراحل طويلة نظراءه في عصر الاتحاد السوفياتي. وإذا أخطأ أحد مساعديه، ونطق بالحقيقة (وقد حدث ذلك بالفعل)، فإن لافروف جاهز "لتصحيح" الخطأ! ولا بأس من تأنيب هذا المساعد أو ذاك. لقد أعاد بوتين لروسيا سوفياتيتها، ولا معنى لتغيير الاسم، ووجد في لافروف الأداة الطيعة لتنفيذ سياسة لا تقود إلا إلى الخراب. السياسيون يكذبون، لَكِنْ هناك سياسيون يكذبون أكثر من نظرائهم. ولا شك أن لافروف مثال يحتذى وفق هذه القاعدة.
ومع ذلك، فإن وزير الخارجية الروسي صدق مرة واحدة نادرة، حين اعتبر أن مجموعة الثماني لا قيمة لها أمام مجموعة العشرين. وقال "إن إخراج روسيا من مجموعة الثماني ليس مأساة". وهذا صحيح، لأن هذه المجموعة لم تعد كما كانت قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، ولأن وجود روسيا أصلاً فيها، كان نوعاً من أنواع المجاملة الذي فرضه الانفراج الدولي، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، ولأن مجموعة الثماني، لم تخضع نفسها للتطوير طوال السنوات الخمس الماضية. أما قبل الأزمة الاقتصادية، فلم يكن هناك داع للتطوير أصلاً. فقد كانت هذه المجموعة تسيطر بالفعل على الاقتصاد العالمي، وهذه السيطرة كانت سبباً رئيساً للكارثة الاقتصادية العالمية الكبرى. وعندما يسيطر المرء على شيء، لا يفكر عادة في التغيير أو التطوير أو الإصلاح. أذكر أن وزير الخارجية البريطاني الأسبق دوجلاس هيرد، قال في خضم تردي أوضاع حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا مطلع التسعينيات "إذا أردنا أن نصلح الحزب، علينا أن نكون في المعارضة، وليس في السلطة".
لافروف الذي استهجن تجميد عضوية بلاده في مجموعة الثماني، تلقى دعماً قوياً ممن؟ من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي قالت علانية "إن مجموعة الثماني التي تضم روسيا ماتت". والحق أن موت المجموعة لا يرتبط بخروج روسيا، بل بوجودها كمجموعة على الساحة. لقد تحولت بعد الأزمة الاقتصادية إلى ناد ارتبط بقائه بهيبة الدول الأعضاء فيه. فكان لا بد من استمراره بأي صورة من الصور. في وقت، أعادت فيه الأزمة طرح مفهوم الهيبة للنقاش، بل و"إعادة تدوير" هذا المفهوم.. إن جاز القول. وسواء دخلت روسيا أم خرجت أم جمدت، فقيمة مجموعة الثماني استمرت بشكل مختلف، ضمن مجموعة العشرين فعلاً. فهذه المجموعة الأخيرة، هي التي أخذت زمام المبادرة على الساحة العالمية في أعقاب الانفجار الاقتصادي الكبير. وأهمية الأعضاء الثماني، باتت متماهية مع أهمية "العشرين" كلها.
ورغم الأهمية الكبرى للدول الأعضاء في "الثماني"، إلا أنها باتت جزءاً من مجموعة أهم. و"الثماني"، ليست كما الاتحاد الأوروبي، الذي يمكن أن يُحدِث مصيبة فيما لو قرر طرد دولة عضو فيه. التشابك في مجموعة الثماني يستحيل أن يصل إلى التشابك في الاتحاد. فعلى سبيل المثال، لا ترتبط - حتى الآن - الدول الأوروبية ضمن"الثماني" باتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، وكذلك الأمر بالنسبة لدولة كاليابان، التي لا تزال "تقاتل" من أجل اتفاقية تجارية عادلة مع أمريكا. وحتى التشريعات الأمريكية الراهنة – مثلاً - لا تسمح بتصدير الغاز الأمريكي لأوروبا المتعطشة له، في حين أن هذا القطاع هو أول القطاعات الأوروبية التي ستتضرر من التخارج مع روسيا. وعندما تقع المصائب العالمية، لا تتجه الأنظار إلى"الثماني" بل إلى "العشرين".
لن تخسر روسيا من خروجها من مجموعة الثماني، لكنها بلا شك ستواجه خسائر كبيرة جراء العقوبات التي تفرضها أوروبا وأمريكا واليابان وغيرها. والخسارة الوحيدة التي يمكن أن تضرب موسكو بطردها من المجموعة، ليست سوى خسارة رمزية. إنها ستفقد وضعية وجودها في ناد يضم الكبار فقط، بصرف النظر عن أهمية هذا النادي. لم يخف وزير الخارجية البريطاني وليم هيج مشاعر الألم عندما قال عن اجتماع لمجموعة الثماني بدون روسيا "بالطبع إنها ضربة قوية للمجموعة". غير أن هذا ليس حقيقياً، لأن الضربة القوية لا تؤثر في جثة هامدة، أو في أفضل الأحوال، في مجموعة هي جزء رئيس في مجموعة أكبر وأكثر فاعلية وقوة.
إذا أراد "أبطال" مجموعة الثماني أن يُحدثوا تحولاً حقيقياً في هذا المجال، ليس أمامهم سوى العمل على شكل من أشكال العزل ضمن مجموعة العشرين نفسها. غير أن هذا الأمر لن يكون سهلاً لاعتبارات ومواقف سياسية متباينة مفهومة. كما أن الأمور لم تنضج بعد، للانتقال إلى مثل هذه الخطوة. وفي كل الأحوال، تستطيع مجموعة الثماني، أن تعتبر أحداث منطقة القرم في أوكرانيا وتطوراتها، بمنزلة دافع جديد لإعادة النظر في المجموعة نفسها، وقبل ذلك، لإعادة "تثمينها" في ضوء المتغيرات التي حدثت في الأعوام الخمسة الماضية، وليس من منطلق التمنيات.

لعنة السندات الإفريقية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«الرجل المدين.. هو في الواقع عبد»
رالف إيمرسون فيلسوف وشاعر أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

حسناً، حجم مديونية القارة الإفريقية مرتفع.. ويرتفع. وهذا أمر سيئ. وفي أفضل الأحوال، غير متوافق مع آمال النمو التي تعيشها الدول الإفريقية، وغير الإفريقية التي تتعاطف معها وتعمل بصدق من أجل الوصول إلى أجود نقطة اقتصادية ممكنة. الإعفاءات السابقة من الديون، شكلت في الواقع ما يمكن اعتباره "رأس مال" للدول الإفريقية للنهوض، أو على الأقل لبدء التحرك نحو شكل من أشكاله. وتقدمت بعض الدول في هذا الاتجاه. فأعباء الديون التي كانت تعيش تحتها، شكلت كابحاً للحراك، ورغم أن الدول الدائنة أخذت وقتاً ليس قصيراً، لتعفي من الديون، إلا أنها أخذت في النهاية خطوة كانت واجبة، أكثر مما كانت خطوة سخية. ولم تتم هذه الخطوة، إلا بعد حملات مختلفة، تزعّمها نيلسون مانديلا رئيس جنوب إفريقيا الراحل، وانضمت إليها مجموعة كبيرة من القوى والشخصيات المختلفة، فيها المطربون.
يقول الشاعر والكاتب البريطاني الكندي روبرت سرفيس "الوعد هو دين لم يسدد". لقد وعدت الدول الكبرى أن تخفف ما أمكن من الأزمات الاقتصادية في القارة الإفريقية، وعليها أن تفي بوعدها. هناك بلا شك عوائق كثيرة في عدد من الدول الإفريقية، ناتجة أساساً من حال الفساد المتواصل. مع ضرورة الإشارة إلى أن دولاً أخرى في هذه القارة، حققت قفزات نوعية في مجال محاربة الفساد. ومن السخرية، أن طبيعة العون أو المساعدة التي تقدمها القوى الكبرى للبلدان التي تشهد فساداً، تسهم هي الأخرى في تعظيم الفساد، عن طريق وصول الأموال إلى غير مستحقيها، وفي طرق مريبة. على كل حال، هذه قضية أخرى، تستحق التركيز عليها في المرحلة المقبلة، خصوصاً في ظل ظهور وثائق رسمية في الغرب، أثبتت ضياع نسبة كبيرة من أموال المساعدات والمعونات الاقتصادية والإنسانية.
الديون لا تصنع الأعباء فحسب، بل تنشر الهموم أيضا. فقد قال بنجامين فرانكلين أحد مؤسسي الولايات المتحدة "الأفضل أن تذهب إلى سريرك بدون عشاء، بدلاً من أن تستيقظ بالديون". لقد عادت بالفعل مستويات الدين للارتفاع من جديد في كثير من الدول الإفريقية، وأول ضحية لها هو النمو الاقتصادي في المنطقة. وفي السنوات القليلة الماضية، تحققت مكاسب لافتة على الصعيد الاقتصادي الإفريقي. وهذه المكاسب باتت مهددة بالفعل، بإجماع كل الاقتصاديين، الذين حذروا مما أسموه "لعنة السندات". وإصدار السندات فيه من المخاطر أكثر من المكاسب، خصوصاً في بلدان لا تزال تسير بخطوات بطيئة في اتجاه "ثقة اقتصادية" لا تزال غائبة عن المشهد. فقد قامت دول مثل غانا والسنغال ونيجيريا ورواندا وزامبيا.. وغيرها بإصدار سندات بحثاً عن مزيد من الاقتراض. ومع تراجع حجم المساعدات الخارجية، زادت وتيرة الاقتراض، بما في ذلك القروض الأعلى كلفة من جهات تجارية.
ورغم أن مستوى المخاطر في هذا الشأن لا يزال منخفضا، إلا أن الأمر لن يبقى كذلك في المستقبل القريب، خصوصاً في ظل التنامي غير الصحي للاقتراض، وإصدار السندات. وعلى صعيد القروض العالية التكلفة، يقول الاقتصادي جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل "القطاع المالي يحب أن يجد من يفترسهم وأحدث فرائسه هي الحكومات في الدول النامية". والمعادلة باتت مكشوفة. سترتفع مستويات الدين بصورة لن تستطيع الدول المدينة تحملها، وبعد ذلك سيتدخل البنك وصندوق النقد الدوليين للإغاثة الاقتصادية. وحسب ستيجليتز، سيتكرر المشهد من جديد! والوضع الاقتصادي العالمي الآن ليس كما كان قبل الأزمة الاقتصادية العالمية؛ فالدول التي شطبت في السنوات التي سبقت الأزمة ما يقدر بـ 100 مليار دولار من ديون القارة الإفريقية، ليست على استعداد الآن للقيام بخطوة مماثلة.
والدول الدائنة هي نفسها تعيش أزمات ديون هائلة، وضعت بعض بلدان الغرب تحت ما يمكن تسميته بالوصاية من جانب المنقذين. مع ضرورة التذكير بأن المنقذين أنفسهم، باتوا في السنوات القليلة الماضية يخضعون لمجموعة من الضغوط. سواء تلك الناجمة عن ارتفاع الدين الحكومي، أو ضغوط سياسية محلية تكبل أو تعيق تحرك الحكومات. كل المؤشرات تدل على أن مستويات الديون في بلدان مثل غانا وأوغندا وموزمبيق والسنغال والنيجر ومالاوي وبنين.. وغيرها تتجه للعودة إلى ما كانت عليه قبل الإعفاءات من الديون، التي تتمتع بها. ورغم أن متوسط الزيادة في الدين بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي لا يزال متواضعاً، لكن المؤشرات على المخاطر بدأت تظهر.
بعض الدول الإفريقية حافظت على توازن الحالة الاقتصادية فيها، غير أنه لا توجد ضمانات لعدم انضمامها إلى شريحة البلدان الساعية لمزيد من الاقتراض. والحق أن مسؤولية القوى الكبرى لا تنحصر فقط في الإعفاء من الديون، بل تشمل أيضاً مراقبة مباشرة لما يجري على الساحة الاقتصادية في القارة الإفريقية. فأي انفلات اقتصادي مقبل لن يبقى في إطاره الإفريقي بل سيخرج من هذه القارة إلى أرجاء أخرى من العالم.

الغذاء.. كارثة في حالة انتظار

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«الغني ينتفخ من الفخر، والفقير ينتفخ من الجوع»
شالوم أليشيم أديب وكاتب أوكراني روسي



كتب: محمد كركوتـــي

قضية الجوع في العالم مزمنة. هذا لا شك فيه، ولكن مسألة حلها أيضاً مزمنة، وهي أشبه بتلك القضايا العالقة التي أصبحت على مر العقود جزءاً من التاريخ المتجدد. ورغم التقدم بعض الشيء في عملية الحل هذه، إلا أن الوصول إلى مستوى مقبول لهذا الحل، لا يزال بعيداً، وبعيداً جداً. هناك جهود صادقة بلا شك، ولكن أيضاً هناك معوقات كثيرة، بعضها يرتبط بالفوضى السياسية - الاقتصادية التي لا تزال ماثلة على الساحة، وبعضها الآخر يتعلق بعدم التعاون الأمثل في عملية الحل هذه. فالمشاريع والأهداف التي حُددت لمواجهة أزمة الجوع، كانت جيدة للغاية، غير أن أدواتها ظلت دون مستوى جودتها. ولا بأس من تقاذف الاهتمامات بين الأطراف المعنية. فقد أضحت هذه الاتهامات جزءاً أصيلاً من مقومات السياسة الدولية. وتكرس "شعار"، أنتم السبب.. لا أنتم السبب، في المشهد العام.
تقول الممثلة الأمريكية جينجر روجرز "أنا أسد جوعي ولا أسد شهيتي". وإذا طبق العالم بالفعل ذلك، فإنه سيختصر كثيراً من المشكلة، بل سيطرح ثقافة ليست جديدة، غير أنها ستكون أكثر شيوعاً. وهذا ما هو مطلوب على الساحة في الوقت الراهن. الجوع يهدد نصف سكان العالم حالياً، حسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو". وبينما يفترض أن تقلل مشاريع التنمية والأهداف الإنمائية الدولية عدد الجوعى، ليس فقط عن طريق توفير الغذاء الأساسي اللازم، بل من خلال خفض ما أمكن من معدلات الفقر، فإن العدد يتزايد على مستوى العالم. وفي حالات قليلة على الساحة.. يراوح مكانه. وقضية الجوع لا تتصل فقط بالفقر، ولكن بضمان إمدادات غذائية معقولة للسكان العالم. فإذا كانت هذه الإمدادات مهددة، فإن الأموال الموجودة تكون بلا قيمة. لماذا؟ لأن على العالم (حسب "الفاو") زيادة إنتاجه من الغذاء بنسبة 60 في المائة بحلول منتصف القرن الجاري. والبديل، هو نقص شديد في الغذاء، قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، بل وحروباً أهلية.
إذن.. القضية تمضي أبعد من عناصرها المباشرة، لتصل إلى مناطق خطيرة للغاية. والحق أن الطلب على الغذاء سيرتفع في العقود المتبقية من نصف القرن الراهن، ليس فقط من جراء ازدياد عدد السكان، بل أيضاً من ارتفاع معدلات الثراء. وهذا الطلب سيأتي من شريحتين متناقضتين. الأولى ثرية تضم مزيداً من الأثرياء الجدد، والثانية فقيرة تضم أيضاً مزيداً من الفقراء المتزايدين. وتلبية الطلب بالنسبة للشريحة الأولى، ليس أقل مشاكل من تلبيته للشريحة الثانية. وهذا يتطلب الكثير من العمل، والمزيد من التخطيط، وقبل هذا وذاك، المزيد من الإصرار لتحقيق أهداف الألفية الخاصة بالفقر والجوع والتي ينتهي موعد تحقيقها المزمع في العام المقبل، أي بعد أشهر معدودة من الآن. والمصيبة الأولى تكمن، في انخفاض الإنفاق العالمي على البحوث الزراعية، التي باتت ضرورة حتمية ليس لتوفير الغذاء فحسب، ولكن لابتكار مصادر غذائية ــــ زراعية تتجاوب مع الطلب.
ومن الحقائق المروعة "على سبيل المثال"، أن أكثر من نصف مليار شخص سيقعون فريسة الجوع المزمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حتى ولو أنجزت هذه المنطقة أهداف الألفية المشار إليها، الرامية إلى خفض نسبة الفقراء لـ 12 في المائة من عدد السكان. وهذا يؤكد مرة أخرى، ضرورة الوصول إلى صيغ جديدة لتوفير الغذاء، بما في ذلك الابتكار المفقود أو على الأقل الذي لا يحظى باهتمام يوازي أهميته. ليس كل ما تقوم بها المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، يواجه إخفاقات. ولكن رغم تقدم ملحوظ وليس كبيراً في مكافحة الفقر، الذي يؤدي تلقائياً إلى الجوع، لا يزال هناك (حسب "الفاو" مرة أخرى) أكثر من 842 مليون نسمة في العالم يعانون سوء التغذية. ثلثا هؤلاء يعيشون في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ولا بد من الملاحظة هنا، أن المصاب بسوء التغذية لا ينضوي في قائمة الجياع.
سيتجاوز عدد سكان العالم بحلول منتصف القرن الحالي تسعة مليارات نسمة. بزيادة أكثر من ملياري نسمة. وهذا العدد الهائل يفرض حقائق تبدو حالياً مروعة نظرياً، ولكنها ستكون أكثر من مروعة عملياً عندما يحين موعد الاستحقاق. وستظهر بالتأكيد المزيد من المشاريع والخطط الانمائية في السنوات المقبلة، غير أنها لن تكون ذات معنى فيما لو ظل جانب التمنيات فيها حاضراً بالتساوي مع جانب الإنجازات. ولأن المكتوب يظهر من عنوانه كما يقولون، فقد أثبتت (على سبيل المثال) القمم المخصصة للغذاء في العالم فشلها، وفي أفضل الأحوال أثبتت تحقيقها أهدافا يمكن أن يدعي أياً كان أنها أهداف لا تُذكر مقارنة بالاستحقاقات العالمية على المدى المتوسط والبعيد. فالتحديات كثيرة وبعضها ينظر إليه على أنه صعب للغاية. فالدول النامية "مثلاً"، تحتاج بصورة ملحة إلى زيادة محاصيلها بنسبة تصل إلى 77 في المائة، وعلينا أن نتخيل صعوبة تحقيق ذلك في السنوات المقبلة. إن "الإنجازات" العالمية التي تحققت من خلال المشاريع الدولية، ستكون مثاراً للسخرية، عندما تفشل البلدان النامية في تحقيق حد أدنى من المنجزات الزراعية. إنها كارثة في حالة انتظار.

تركيا .. اقتصاد متأزم بحكومة مضطربة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






«العقل في الرأس وليس في السن»
مَثَل تركي


كتب: محمد كركوتـــي

سواء صَحَّت التسريبات والمحادثات الهاتفية التي تدين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أم لم تصح. وسواء نفذ هذا الأخير تهديداته بحظر مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة عن الشعب التركي، ولا سيما “اليوتيوب” الذي احتضن مقاطع الفضائح أم لم يحظر. فالاقتصاد التركي يواجه المتاعب والمصاعب، ومستقبلا لن يكون سهلاً. ليس مهماً الآن نص المحادثات الهاتفية بين أردوغان ونجله، حول تخزين الأموال، أو عن الاتفاق على عمولات، وغير ذلك من قضايا الفساد. سيأتي الوقت الذي ستظهر فيه الحقيقة، حتى لو وضع رئيس الوزراء، القضاء في بلاده تحت جناحيه. وحتى لو جعل من موقع اجتماعي عدواً له. وحتى في ظل تطمينات رئيسه عبد الله جول، بأنه يستحيل حظر المواقع على طريقة أردوغان.
فبمجرد تهديده بحظر المواقع الاجتماعية إذا ما فاز في الانتخابات المحلية التي ستجري في 30 من مارس الجاري، هبطت الليرة التركية بصورة ملحوظة بين إغلاقين في يومين متتاليين. وفي “يوم التهديد”، هبط المؤشر الرئيس للأسهم في بورصة إسطنبول 1.42 في المائة. وكأن الاقتصاد التركي قوي إلى درجة تمكنه من تحمل مثل هذه التصريحات، التي تذكر بعدد من رؤساء الدول العربية الذين رحلوا إلى الأبد بطرق مختلفة. وفي الوقت الذي كان على أردوغان أن يواصل فيه استيعاب الضربات التي لم تتوقف جراء خفض إجراءات التحفيز الأمريكية، والمؤشرات التي تدل على أنها ماضية في المستقبل على النهج نفسه، فتح جبهات داخلية، لم تحقق له شيئاً على الأقل في الوقت الراهن. الذي حدث أن ما تبقى من التدفقات المالية الأجنبية الموجودة في تركيا، بدأ أصحابها يفكرون في حزم حقائبهم والمغادرة. ولا سيما مع مغادرة نسبة لا بأس بها من هذه الأموال في الأشهر القليلة الماضية.
كل المؤشرات تدل على أن النمو الاقتصادي في تركيا سيتباطأ في العام الجاري، رغم ما حققه الاقتصاد من نمو مرتفع في السنوات العشر الماضية. والليرة التي خسرت أكثر من 20 في المائة من قيمتها أمام الدولار الأمريكي في العام الماضي، خسرت في شهر يناير وحده 10 في المائة أيضاً. ولا شك أن هناك مجموعة عوامل لهذا التدهور. منها محلي داخلي، ينحصر في الارتباك السياسي الذي تعيشه حكومة أردوغان وحزبه الحاكم، ولا سيما بعد سلسلة الفضائح الأخيرة. ومنها خارجي يرتبط بالحالة العامة التي تمر بها حالياً غالبية الأسواق الناشئة، ولا سيما ماليزيا والأرجنتين وجنوب إفريقيا. غير أن تركيا تبقى الأكثر تأثراً بهذه الحالة، التي لن تنتهي بسرعة، بل على العكس ستستكمل ضرباتها في المستقبل؛ لأن العلاج التقليدي الذي اتبعه أردوغان، لم يؤد إلى أي حل، خصوصا اللجوء للاحتياطي المالي لسند العملة.
وتشير الأرقام إلى أن قرابة 90 في المائة من الشركات التركية لديها كميات ضخمة من القروض بالعملة الأجنبية، الأمر الذي يضعها بين كفي كماشة، كلما انخفض سعر صرف الليرة التركية مقابل العملات الرئيسة. عند هذا الحد تكون هذه الشركات قد غاصت في بحر من المديونيات، ستصعب عليها مواجهته، في ظل أداء اقتصادي هش، أو في أفضل الأحوال، أداء اقتصادي بلا يقين. لا أحد يستطيع ضمان استدامة الازدهار في أي بلد في العالم. لقد شهدنا كيف جفت اقتصادات قيل إنها لا يمكن إلا أن تواصل الازدهار. بما فيها تلك الاقتصادات التي تتمتع بقدرة ذاتية هائلة، بدت في يوم من الأيام أنها لا تقهر. فكيف الحال ببلد كتركيا لا يعتمد فقط على تدفقات أجنبية، بل ارتبط بسياسات أمريكية اقتصادية متقلبة، أو متغيرة.
في العام الماضي، وقبل أن تبدأ أزمة الأسواق الناشئة، اعتبرت مجلة “الإيكونومست” البريطانية الرصينة، أن تركيا نجحت بالفعل في استقطاب تدفقات مالية استثمارية كبيرة، وأن هناك “حالة ازدهار على البوسفور”. لكن بعد عدة أشهر، رأت “الإيكونومست” نفسها، أن الوضع لم يعد كذلك، وأن السوق التركية الناشئة هي الأضعف في العالم. لماذا؟ لجمود تدفقات الرساميل إليها. واليوم، يمثل أداء سوق الأسهم في إسطنبول الحالة الأضعف بالفعل، مقارنة بالأسواق الناشئة المشابهة. إن المستقبل الاقتصادي التركي يواجه حقاً أزمة حقيقية، وآثار الاضطراب السياسي في البلاد، تزيد من صعوبة مواجهة هذه الأزمة، خصوصاً بعد أن تأكد للجميع أن الاعتماد بصورة كبيرة على التدفقات المالية ليس مضموناً، بل من مزايا هذا النوع من التدفقات، أنها الأبطأ في الدخول، والأسرع في الخروج.
أردوغان مضطرب. وحكومته كذلك. وحظر “اليوتيوب” و”الفيس بوك” و”تويتر” وغيرها، سيكون بمنزلة مؤشر لتدفق الأموال الأجنبية إلى خارج البلاد. وبدلاً من أن تضع الحكومة الحقائق على الساحة كما هي، اعتبر وزير المالية فيها أن الخسائر الثقيلة التي مُني بها الاقتصاد التركي جاءت نتيجة “استراحة الاقتصاد أثناء التسلق”! إنها في الواقع مرحلة إعادة صياغة قسرية للاقتصاد. فهذا الأخير لم يصل بعد إلى وضعية يمكن له فيها أن يستريح.

والآن .. إليكم «الاقتصاد المقاوم»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«تكمن أكبر مشكلة في التواصل .. في الوهم»
الأديب الأيرلندي جورج برنارد شو




كتب: محمد كركوتـــي

بعد "الجهاد الاقتصادي"و"جهاد الاكتفاء الذاتي"، و"تشكيلة" أخرى من "الجهادات" الإيرانية، من "إخراج" علي خامنئي. أطلق هذا الأخير "صرعة" جديدة، باسم جديد، لكن بأدوات قديمة، تثير المزيد من السخرية، في أوساط ما تبقى من عقلاء في هرمية النظام الإيراني نفسه. مرشد الثورة له "نظرياته" الاقتصادية الخاصة، وليس مهماً عنده ما يقوله الاقتصاديون الخبراء، أو أولئك الذين ينظرون إلى الوضع برؤية منطقية شاملة. يريد الآن – بعد "الجهادات" السابقة وفشلها - اقتصاداً من نوع مختلف. هذه المرة أصدر أوامره إلى السلطات الثلاث في البلاد تحت شعار "الاقتصاد المقاوم"! لماذا؟ لإلحاق الفشل بالعدو وإرغامه على التراجع في الحرب الاقتصادية التي يفرضها على إيران. لقد بدأ خامنئي حربه الخاصة بالجهاد، ويسعى الآن إلى إنهائها بالمقاومة! ففي المشهد العام حالياً، انفراج ساعده على ابتكار اقتصاده الجديد.
وفسر خامنئي "المنتظر الدائم للمهدي الضائع دائماً" اقتصاده المقاوم، على الشكل التالي: "إذا ما اعتمدنا على الاقتصاد المحلي على أساس الثقافة الثورية والإسلامية، أي الاقتصاد المقاوم، فإننا نفلح في القضاء على المشكلات الاقتصادية، ونلحق الفشل بالعدو الذي يفرض علينا حرباً اقتصادية حقيقية، بل نفلح حتى في تقديم نموذج للاقتصاد المبني على العلم والعدالة". أمام هذا التفسير، لا نجد سوى تسمية واقعية لشعار خامنئي، وهي ببساطة "اقتصاد الوهم"، أو "اقتصاد التمنيات"، أو "اقتصاد الهِبل". لقد شعر خامنئي، بعد الاتفاق المبدئي بين إيران والقوى الدولية حول البرنامج النووي الإيراني المريب، ببعض النتائج الاقتصادية الإيجابية على الساحة الإيرانية. وكان على "مرشد" الثورة، بدلاً من إطلاقه "الاقتصاد المقاوم"، أن يتوجه يومياً بالشكر لباراك أوباما، الذي يقدم لإيران من التسهيلات أكثر مما تستحق، أو أكثر مما يوازي "تعاونها". وهذا ما أشار إليه سراً بعض المسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي نفسه. ومع ذلك، يعتقد خامنئي أن حرباً اقتصادية تشن على بلاده!
حققت إيران في الأسابيع القليلة الماضية نتائج اقتصادية إيجابية، ما كانت لتتحقق لولا "بركات" أوباما، الذي يؤمن أن ذلك يسهم في الوصول إلى حل نهائي لأزمة النووي الإيراني! والحقيقة، أن مفهوم الرئيس الأمريكي في هذا الصدد، أربك شركاءه، بل عددا من المسؤولين الأمريكيين الذين يحاولون أن يقدموا مقابلاً موازياً فقط لما قامت به إيران. فقد أفرج عن جانب من الأرصدة الإيرانية المجمدة، وأعطى الضوء الأخضر للدول التي تمتلك أرصدة إيرانية أن تقوم بتحويلها إلى طهران، ولا سيما تلك التي تستورد النفط الإيراني وتحتفظ بالأرصدة. والناقلات الإيرانية الهائلة التي كانت متوقفة في البحر منذ سنوات.. تحركت. حتى الإنتاج النفطي ارتفع في الأسابيع الماضية، دون أي اعتراض أمريكي أو غربي، على الرغم من أن جزءاً منه يذهب مباشرة إلى سفاح سورية بشار الأسد، الذي يخضع -كما نعلم- لعقوبات دولية مشددة! ففي شباط (فبراير) الماضي شهدت صادرات النفط الإيرانية مزيدا من الارتفاع، وذلك للشهر الرابع على التوالي، وزادت 100 ألف برميل يوميا على الأقل إلى 1.3 مليون برميل يوميا. أي أعلى من نصف مستوياتها قبل العقوبات في عام 2011.
هذه الأجواء دفعت شركات أمريكية كبرى ومتوسطة للتحرك لدى الإدارة الأمريكية للسماح لها بالعودة إلى إيران ومزاولة أعمالها الاستثمارية الضخمة، بما فيها تلك المختصة بالقطاع النفطي. ويتدفق حالياً عشرات المديرين التنفيذيين للشركات الغربية المعروفة على طهران، من أجل عقد الصفقات، بمن فيهم أولئك الذين يديرون مؤسسات صناعة السيارات والآليات الثقيلة وحتى الطائرات. بل فُتح المجال أمام مؤسسات إيرانية لرفع دعاوى قضائية ضد حكومات غربية على تجميد أرصدتها أو أعمالها في الفترة السابقة. إلى جانب ذلك، تم تخفيف القيود على بعض الجهات الإيرانية الموكلة بتمويل الحكومة الإيرانية، التي ثبت على بعضها، أنها تقوم بأعمال تخالف القوانين الدولية، إضافة طبعاً، إلى تلك الجهات التي تمارس كل الممنوعات، لتوفير النقد اللازم لإيران في ظل العقوبات المفروضة عليها.
ورغم كل هذه التطورات، مع زخم "الهدايا" الأمريكية التي لم يحلم بها نظام علي خامنئي، يأمر هذا الأخير بإطلاق "الاقتصاد المقاوم"! بل ذهب أبعد من ذلك بإعلانه استراتيجية أطلق عليها "تقوية الثقافة الجهادية". وماذا دعا أيضاً؟ دعا إلى "رفع تكاليف العدو". لا شك في أن الساحة مواتية لخامنئي وأتباعه لإطلاق ما يرغبون من "اقتصادات" و"استراتيجيات" بما في ذلك تلك التي تنال مباشرة من مصالح القوى الغربية، فالإدارة الأمريكية الحالية تمارس سياسة دولة من الدرجة الرابعة والخامسة، لا الأولى أو الثانية، ومثل هذه السياسة تفسح المجال أمام من يرغب في التحدي، سواء كان على مستوى هذا التحدي أم لا. إنها سياسة لم تحط من شأن أقوى دولة في العالم، بل أربكت الحلفاء الذين يملكون البوصلة، لكنهم ليسوا قادرين على التحكم فيها. فلا غرابة من ابتكار خامنئي كل أنواع "المقاومة" التي تتماشى وفق الموسم والموضة.
 

مصالح الأشرار .. أموال إيرانية لـ «القاعدة» الإرهابية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"العالم مكان خطر للعيش، ليس لوجود الأشرار فيه، بل بعدم القيام بما يكفي لوقف هؤلاء الأشرار"
ألبرت إينشتاين - عالم من أصل ألماني


كتب: محمد كركوتـــــي

تأخرت الولايات المتحدة في كشف الرابط بين إيران وتنظيم القاعدة. وهذا يعود إلى تأخر السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام، في محاكاة ما يجري على الساحة الدولية، منذ وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض. وهذا الأخير يرسم السياسة الخارجية على مبدأ الموظف الذي لا يعمل كيلا يرتكب الأخطاء، لكنه نسي أن الأمر إذا انطبق على موظف بلدية في قرية نائية في بلد متعثر غير راشد، لا يتماشى مع وضعية رئيس الولايات المتحدة. ولا يعقل أن دولة بقوة ومكانة هذه الأخيرة، لم تكن تعرف الصلة الوطيدة بين إيران والتنظيم الإرهابي. فإذا كانت قادرة على قتل زعيمه أسامة بن لادن، فإنها على الأقل تعرف مسارب التمويل الرئيسة التي تصل إلى "القاعدة"، خصوصاً، أن كلا الطرفين (إيران والقاعدة) بقيا منذ سنوات طويلة تحت المجهر. هل لا يزال أوباما محتفلاً بقتل بن لادن، ونسي ما تركه لبقية كوادر وأفراد التنظيم؟!
جهات كثيرة تحدثت في السنوات السابقة عن العلاقة المالية على الأقل بين إيران و"القاعدة"، كانت تلقى تجاهلاً كبيراً من جانب الولايات المتحدة، التي لم تكن تصدق أن رابطاً يمكن أن يجمع بين الطرفين. والحقيقة أن هذا ليس أقل من سذاجة، أكدت مرة أخرى سذاجة أوباما في الحكم. فمصالح الأشرار واحدة، وأكثر كتب التاريخ سطحية يورد لمن يرغب مئات الحالات المشابهة في التاريخ. ليس مهماً الفوارق التي قد توجد في المبادئ لدى الطرفين، المهم النتائج .. والأهم أن تكون زاخرة بالأذى والشر. هتلر-إمبراطور اليابان، موسوليني، فرانكو، صدام حسين، العنصري الفرنسي لوبين. الأسد، رئيس كوريا الشمالية، القذافي، موغابي .. وغيرهم، كلها أمثلة من التاريخ المعاصر والحديث. "وحدة الشر"، أكثر "الوحدات" مرونة وسلاسة، وتكون في أفضل حالاتها، عندما تتم في الأنفاق والجحور، لا في التجمعات المعلنة.
أخيراً كشفت الإدارة الأمريكية عن دعم إيران لتنظيم القاعدة! بعد أن تبين لها، أن شركات وأشخاصاً إيرانيين أو مقيمين في إيران، هم مسؤولون عن نقل الأسلحة والمقاتلين لتنظيم القاعدة في سورية، وبعلم السلطات الإيرانية. إلى جانب طبعاً، التمويل المالي من إيران أو عبرها، إلى هذا التنظيم. وبعيداً عن تفاصيل "الاكتشاف" الأمريكي الجديد، فالتمويل الإيراني للقاعدة لا يقتصر على سورية، بل يشمل منذ سنوات ساحات أخرى، من أفغانستان إلى باكستان إلى اليمن إلى المغرب العربي. ولا شك في أن هذا التمويل يشمل أيضاً الساحات في الغرب، على اعتبار أنه عدو واحد للطرفين. ورغم الالتباس الذي قد يظهر من جراء هذا التعاون الوثيق، إلا أن "مصالح الأشرار" تزيله على الفور.
والغريب أن الولايات المتحدة نفسها، رصدت في عام 2011 مكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار، لمن يدلي بمعلومات لاعتقال شخص يدعى ياسين السوري، الذي ثبت لها أنه يعمل من إيران على تمويل تنظيم القاعدة. غير أنها لم تتقدم خطوة واحدة على صعيد الاهتمام أكثر بهذا الرابط بين الجهتين! وفي عام 2012، كشفت تحريات للأمن المغربي، حول مصادر تمويل جديدة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، تأتي من إيران أو عبرها. وفي أكثر من مناسبة أثبتت السعودية الترابط بين مجموعات إرهابية قاتلة مثل الحوثيين وحزب الله وتنظيم القاعدة .. وإيران. وهذه الأخيرة، بقيت حتى اليوم مصدراً مهماً للتمويل، سواء بصورة مباشرة، أو عبر تسهيلات، كإقامة شركات وهمية، وأعمال تجارية. المهم بالنسبة لهذه المجموعات وإيران النتائج التخريبية، وليس التفاصيل. صحيح أن الولايات المتحدة، كانت سباقة في وضع حزب الله على قائمة الإرهاب، لكن الصحيح أيضاً، أنها امتنعت عن فتح ملف مهم أيضاً يتعلق بالعلاقة المتشابكة بين "القاعدة وإيران.
من الصعب بالطبع الوصول إلى تفاصيل التمويل الإيراني المالي لتنظيم القاعدة. لكن ليس صعباً تتبع المصادر الرئيسة له. خصوصاً في ظل وجود منظومة تضع إيران تحت الضوء في مسألة الإيرادات المالية، بصرف النظر عن التسهيلات الجزئية التي تتمتع بها طهران حالياً، نتيجة اتفاقها المؤقت مع القوى الكبرى بشأن برنامجها النووي. ومما لا شك فيه، أن إيران ستمضي إلى الأمام في دعمها لأي جهة إرهابية، وستقدم لها ما تحتاجه من تمويل. والأهم أنها ستستغل الفترة الراهنة التي تنعم فيها ببعض التسهيلات، لمواصلة العلاقة مع الأشرار. وشبكات القاعدة في إيران، تزداد مكانة فيها. فالنظام الإيراني لا يستطيع الاستمرار في الواقع، إلا من خلال علاقاته مع تنظيمات إرهابية، يعتبرها جزءاً من "عمقه الاستراتيجي". إن أنظمة قائمة على الشر والخداع والتطرف والنيات السيئة.. تدعمها "التقية"، لا تسندها إلا مجموعات إرهابية قاتلة، ولا تسند هذه الأخيرة إلا أنظمة كهذه. إن تلاقي المصالح يزيل الكثير من العقبات في طريق طرفين، يسعيان إلى الوقوف في وجه العالم، لا لشيء، إلا لنشر الشر على أوسع نطاق.

زحمة أثرياء في لندن

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







«لا يمكن للثري مهما كان فاحش الثراء.. شراء ماضيه»

أوسكار وايلد - أديب أيرلندي

كتب: محمد كركوتــي


سيزداد عدد الأثرياء في بريطانيا حتماً. أما لماذا حتماً، فلأن تدفقات مالية جديدة بدأت تدخل البلاد، قادمة من الدول الناشئة، التي تواجه سلسلة من المصاعب، في مقدمتها ارتباطها شبه المباشر بالسياسات الاقتصادية الأمريكية المتغيرة. في غضون أسابيع، خرج من هذه البلدان أكثر من 12 مليار دولار، وهي الفترة التي شهدت بدء الاضطراب الاقتصادي، الذي لم يلبث أن تحول إلى ما يشبه أزمة، طالت النمو والعملات الوطنية والأسواق المالية. وهناك الكثير من المؤشرات التي تدل على أن شبه الأزمة سيتحول إلى أزمة، ستتعمق أكثر في الدول التي تمر بحالة من عدم الاستقرار السياسي. بريطانيا (ولندن تحديداً) في الصورة، ولكنها في الإطار الإيجابي. فالمشاكل هناك تعني تدفقات مالية هنا، وتعني بالتالي توافد الأثرياء.. أهلاً وسهلاً.
تذكرت مقولة شهيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون "هناك أثرياء في كل الأرجاء، ولكنهم لا يساهمون في الواقع بالنمو في بلدانهم". وقد أرادت (وقتها) توجيه رسالة مباشرة لأثرياء بلادها، الذين تتهمهم بصورة غير مباشرة، بأن وطنيتهم منقوصة. وإذا كان الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي "يتفق" مع كلنتون حين قال أيضاً مقولته الشهيرة "إذا كان المجتمع لا يستطيع أن يساعد الفقراء الكثر، فهو لا يستطيع أن يحمي الأثرياء القلة". وأما رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل فيرى الأمر بصورة مختلفة، ولا أقول مغايرة حين قال "لا تستطيع أن تجعل من الفقير ثرياً، بتفقير الثري". إنها رؤى، قد لا تتضارب، ولكنها بالتأكيد مختلفة من حيث طريقة معالجة مسألة الثري والفقير، الحاضرة في البلدان الغنية والفقيرة. دون أن ننسى، الاختلافات في منطلقات الديمقراطيين والمحافظين.
تستمتع بريطانيا حالياً بوضعية اقتصادية جيدة، فهي ليست ملوثة بأدران أزمة ديون منطقة اليورو، كما أن الفاصل الذي وضعته على الحافة بينها وبين الاتحاد الأوروبي، وفر لها بيئة اقتصادية أكثر هدوءا من تلك التي يعيش فيها شركاؤها الأوروبيون. وهذا ما عمق من وضعيتها كمستقبِلة لتدفقات مالية من أثرياء يأتون من كل حدب وصوب. فمرونة القوانين الاستثمارية وتلك المتعلقة بالتملك وغيرها، تجعل الساحة البريطانية مغرية دائماً. وهي كذلك منذ عقود. فليس غريباً، أن تتدفق الأموال من شرق آسيا ومن تركيا وروسيا وغيرها من البلدان الناشئة، وحتى من الولايات المتحدة، وعدد من بلدان الاتحاد الأوروبي نفسه إلى بريطانيا، وتحديداً عاصمتها. هذه الأخيرة ظلت دائماً عاصمة الأثرياء الأولى، ولا بأس من أعداد كبيرة من اللاجئين الباحثين عن حياة أفضل، لتتجمل الصورة. فهي في النهاية مدينة لكل الشرائح، من كل الأجناس والأعراق.
قبل أيام كشفت دراسة حديثة، أعدتها مؤسسة "نيو وورلد ويلث"، عن تصدر لندن قائمة المدن في العالم من حيث عدد المليونيرات بنهاية عام 2013 بنحو 339.2 ألف مليونير. وجاءت مدينة نيويورك ثانياً بـ 300.1 ألف مليونير، ثم طوكيو بـ 226.5 ألف مليونير، تلتها سنغافورة في المركز الرابع بـ 225 ألفا، وفي المركز الخامس هونج كونج بـ164.5 ألف مليونير. وفي ظل الأزمة المتصاعدة في الأسواق الصاعدة، سيتزايد عدد هؤلاء في العاصمة البريطانية، التي أظهرت مؤشرات جديدة، ارتفاع عدد مشتري العقارات الفاخرة، رغم أن أسعارها تعتبر عالية بصورة فلكية، فضلاً عن ارتفاع نسبة الأعمال الجديدة فيها. دون أن ننسى، أن بعض أثرياء اليوم القادمين إلى لندن، لم يكونوا كذلك بالأمس. لنتذكر قليلاً بعض المصادر المريبة لأموالهم.
وبعيداً عما قالته منظمة "أوكسفام" الخيرية العالمية، عن سيطرة 85 ثرياً في العالم على ثروات تعادل ثروة نصف سكان الكرة الأرضية، وأيضاً، إن نصف ثروة العالم المقدرة بـ 110 تريليونات دولار يستحوذ عليها 1 في المائة فقط من السكان.. بعيداً عن هذا، فإن العاصمة البريطانية يمكنها أن توفر بالفعل متطلبات الأثرياء القدماء أو الجدد. وهي في النهاية ملاذ آمن استثمارياً وعقارياً وحتى أمنياً فيما لو قورنت بمدينة كنيويورك. ليس مهماً ما يقوله الوطنيون البريطانيون "جداً"، من أن البلاد باعت نفسها للأجانب. في الواقع، أن حراكاً كبيراً يمضي في البلاد بأموال الأجانب وبهم شخصياً. مثل هؤلاء "الوطنيين" موجودون في كل مكان حول العالم. وهم يثيرون زوابع موسمية أكثر منها مستدامة، وفي ظل حكومة حققت إنجازات اقتصادية مقبولة، قياساً بحكومات الدول الأوروبية الأخرى، فإن زوابع هؤلاء لا تخرج عن إطارها الإعلامي.
إذا ما تدهورت الأوضاع كثيراً في الدول الناشئة، فقد يصل عدد المليونيرات في بريطانيا إلى نصف مليون مليونير، وستبقى لندن الحاضن الأقوى لهؤلاء. وإذا كانت الحكومة لا تلقي بالاً لمناوشات "الوطنيين"، فإنها قد تكون مطالبة لاحقاً في تقديم إيضاحات عن مصادر بعض هذه الأموال التي تتدفق إليها، خصوصاً في ظل حراك عالمي متأجج لتتبع مصادر أموال هائلة، تفوح منها الروائح الكريهة. لا أحد يستطيع أن يتهم حكومة بريطانيا بهذا الأمر. ولكن الأسئلة الكثيرة قد تظهر في أي وقت، وتستوجب أجوبة كثيرة أيضاً.