الخميس، 24 يوليو 2014

فقراء الأغنياء وأغنياء الفقراء

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



 
"الأغنياء هم الذين سيشعرون بالألم لو توقفت المساعدات عن إفريقيا. الفقراء لن يلاحظوا الفرق"
دامبيسا مويو - أكاديمية ومؤلفة اقتصادية زامبية
 
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
 
تبقى المساعدات التي تُقدَم إلى الدول النامية، وخصوصاً الإفريقية منها، مثار جدل تاريخي لا ينتهي، بين مع يعتقد بعدم جدواها، وبين من يرى أنها مورد أساسي للتنمية والإنقاذ، بصرف النظر عن الجوانب السلبية التي تختص بعمليات التوزيع والاستثمار والتوجيه الصحيح لها. وهؤلاء يعتقدون أن وجود نسبة حقيقية من المساعدات، أفضل بكثير من عدم حضورها على أي مسرح اقتصادي معاشي في الدول الإفريقية، ولا سيما تلك التي تحتاج بالفعل إلى أساسيات التنمية، بكل قطاعاتها، وفي مقدمتها الاجتماعية. المعارضون لهذه المساعدات، ليسوا من أولئك الذين يعتقدون بأن التآمر هو أساس العمل. إنهم ينتمون إلى شرائح مختلفة، منها أكاديمية صرفة، يقومون بوزن الأمور من كل جوانبها وبأدق تفاصيلها.
ورغم تحسن أداء (وليس حجم) المساعدات لإفريقيا في السنوات القليلة الماضية، من جراء خطوات اتخذتها الدول المانحة، إلا أن العوائد الفعلية لها على الأرض، لا توازي قيمتها. والسبب يبقى أولاَ وأخيراً في فساد لا يتوقف في الدول المتلقية، وفساد يوازيه من المؤسسات الغربية الخاصة. الدول المانحة تعرف طبيعة هذا الخراب، ولكنها فشلت في الحد منه على مدى عقود. فالمحركات الفاسدة الخاصة، لا تزال أقوى عزماً من المحركات الحكومية في البلدان المانحة. ولعل بيتر بوير الاقتصادي التنموي الأمريكي، أكثر الأشخاص الذي قدموا وصفاً بليغاً لهذه الحالة. ماذا قال؟ "مساعدات الدول المتقدمة هي في الواقع ضرائب يدفعها الفقراء فيها، للأغنياء في الدول الفقيرة". وهذا هو الانطباع السائد لدى الغالبية العظمى من الرأي العام الغربي، حتى في ظل تحسن أداء المساعدات.
يعتقد البعض ومنهم الأكاديمية الاقتصادية الزامبية المعروفة دامبيسا مويو، أن مساعدات الدول المتقدمة لإفريقيا لا تعمل. ويمضي هؤلاء أبعد من ذلك بالقول، إن جهود المنظمات الخيرية المعروفة وحراك عدد من المشاهير الذين ينشطون في نطاق العمل الخيري (مثل بوب جيلدوف، وأنجلينا جولي وغيرهما) أكثر فائدة وحضوراً حقيقياً من مساعدات الغرب. وتقول مويو "إن عائلتي الفقيرة نفسها عانت تبعات المساعدات". ويستند هؤلاء إلى بيانات البنك الدولي التي أظهرت، أن 85 في المائة من المساعدات الغربية في البلدان النامية، تذهب في غير محلها. وأنه بين العامين 1980 و1996، دعمت الدول الغربية حكومات إفريقية مارقة ومجرمة بالمساعدات المباشرة. وقبل أيام، أكدت مجموعة من المنظمات غير الحكومية أن دولا غربية تستغل المساعدات إلى إفريقيا كستار لإخفاء "النهب المنظم" للقارة السمراء التي تخسر نحو 60 مليار دولار سنويا، عبر التهرب الضريبي والتغير المناخي، وتحويل الأرباح، التي تجنيها الشركات متعددة الجنسيات خارج القارة. ورغم حصول إفريقيا (مثلاً) على قروض واستثمارات أجنبية ومساعدات تنموية بقيمة 134 مليار دولار إلا أن 192 مليار دولار تخرج من المنطقة، تاركة فجوة تبلغ 58 مليار دولار.
ويقول مارتن دروري، مدير منظمة هيلث بافرتي أكشن، وهي واحدة من المنظمات، التي وضعت التقرير إن "المفهوم الشائع أن المملكة المتحدة تساعد إفريقيا من خلال المساعدات، لكن الحقيقة أنها توفر ستارا للمليارات المنهوبة". لا شك في أن المساعدات تنهب بطرق مختلفة، وبعض المساعدات تنهب بكل الطرق مجتمعة، ولكن هل فعلاً لا قيمة لها؟ بل هل يمكن أن تسبب المعاناة، كما قالت مويو؟ وهل عجز العالم عن إيجاد طرق مثلى للحفاظ على قيم هذه المساعدات؟ أسئلة كثيرة تطرح في هذا الخصوص، وستضاف إليها أسئلة أخرى في المستقبل، طالما أن الخلل واضح في هذا النطاق المهم والحساس. لكن كثرة هذا النوع من الأسئلة لا تلغي جوانب أساسية محورية إيجابية ومهمة لهذه المساعدات الضخمة.
هنا يظهر أولئك الذين لا يتفقون مع الشرائح المنتقدة للمساعدات الغربية. فوقف المساعدات تعني ببساطة لهؤلاء، إغلاق آلاف المدارس والعيادات الطبية في إفريقيا، وإنهاء برامج مكافحة الإيدز والملاريا ووباء (تي بي) وغيرها من الأوبئة. وهذه برامج يستفيد منها الملايين حالياً في القارة السمراء. كما أن هناك برامج أثبتت جدواها في مسألة التدريب والتأهيل في بعض المناطق الإفريقية، فضلاً عن مشاريع توفير مياه الشرب النقية، إلى جانب سلسلة من مشاريع البنى التحتية، التي تساهم مباشرة في الحفاظ على البيئة، وتحمي السكان في الوقت نفسه. هناك الكثير من الفوائد لهذه المساعدات، صحيح أنها لا توازي قيمتها الحقيقية، ولكنها في النهاية توفر عوائد إنسانية لا غنى عنها، لأعداد هائلة من الأفارقة.
وليس أفضل من إعادة صياغة لهذه المساعدات، لا باختيار مشاريع جديدة، بل بوقف حازم وقاطع لعمليات النهب التي تتعرض لها، فضلاً عن أن جانباً من عوائدها المالية يخرج من الدول المخصصة لها، إلى حسابات مصرفية سرية قذرة، توازي قذارة سارقيها، وغالباً ما تكون في البلدان الغربية نفسها. إنها عملية ضرورية ليست فقط لمستحقي المساعدات، بل للجهات المانحة لها أيضاً.

المصارف .. المهم «ماتتمسكش»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"كلما ازدادت المعلومات عن كل واحد منا في ملفاتنا لدى المصارف، كلما نقص وجودنا"
مارشال ماك لوهان فيلسوف كندي


كتب: محمد كركوتـــي

أحسب أن مديري المصارف الأجنبية والأمريكية المتورطة حتى قمم خزائنها بانتهاك الحظر الأمريكي المفروض على عدد من الدول، يرددون قبل نومهم وفي الأحلام وعند الاستيقاظ، هذه اللازمة "أسرع.. أسرع. سوي قضاياك مع السلطات القضائية الأمريكية، قبل فوات الأوان". وفي مكاتبهم، يجتمعون يومياً للوصول إلى الصيغة المثلى للتسوية. أو بمعنى أدق، للوصول إلى أقل الغرامات الممكنة التي تقبل السلطات الأمريكية فيها، دون اللجوء إلى ترك القضايا بين أيدي القضاة. فالقضاء الأمريكي لن يرحم، وسيضع أرقاما فوق أخرى ليصل إلى أعلى الغرامات. والقضاء (كما بقية الجهات) يعرف سلفاً أن هذه المصارف جنت أموالاً طائلة من القفز فوق قوانين الحظر، على مدى السنوات الماضية، وساعدت أنظمة مارقة في إيران والسودان وسورية وليبيا وغيرها، على تدوير الأموال وإعادة صبها مجدداً لدى حكومات هذه الدول.
غيرت المصارف نفسها منذ عقود، وبدلت أهداف وجودها أصلاً. وتحولت (بإرادتها مستغلة التسيب الرقابي المروع) إلى مؤسسات لجمع الأموال، بصرف النظر عن مصادرها، ومدى مشروعيتها. المهم أن الأموال تتجمع، ومسألة الأخلاقيات ليست ذات أهمية. في إحدى المسرحيات المصرية القديمة يقول الممثل" أنا عاوز أشتغل شغلانة شريفة، لكن المهم ما تمسكش". ويقول الفيلسوف الأمريكي ناعوم تشومسكي "قبل السبعينيات كانت المصارف، مصارف. تعمل وفق معايير الاقتصاد الرأسمالي. تأخذ الأموال غير المستخدمة من حسابك، وتحولها للاستخدام، كمساعدة أسرة على شراء منزل، أو إرسال طالب إلى الجامعة". بالفعل لم تعد المصارف.. مصارف، خصوصاً الكبرى في العالم الغربي ذات الأسماء الرنانة، ولا بأس من نسبة ليست قليلة من المصارف المتوسطة. المهم بالنسبة لها "ماتتمسكش". لكنها "اتمسكت"، ليس فقط من نافذة انتهاك العقوبات، بل أيضاً من جحور غسيل الأموال، والتهرب من الضرائب، وتوفير ملاذات آمنة لأموال غير مشروعة. وماذا أيضاً؟ مسؤوليتها عن الأزمة الاقتصادية العالمية.
يظهر كل يوم مصرف هنا وآخر هناك، ليعلن اعترافه بذنب انتهاك العقوبات على عدد من الحكومات المارقة، واستعداده لتسوية الأمر مع السلطات الأمريكية عن طريق غرامة، يتمنى أن تكون مقبولة لدى الجانب الأمريكي. بالطبع أشهر هذه المصارف كان "بي إن بي باريبا" أكبر مصرف فرنسي، الذي قام بحساب سريع جداً، يقوم على المفاضلة بين تسعة مليارات دولار غرامة طوعية، أو 12 مليار دولار غرامة مؤكدة عبر القضاء. وقد عرف المصرف الفرنسي مبكراً أن تهديدات حكومته للإدارة الأمريكية، بما في ذلك فرض عقوبات تجارية على الولايات المتحدة، لا قيمة لها. بل كانت واشنطن تنشر في الأجواء حتى عدم سماعها لتلك التهديدات. فالدفع كان أفضل وسيلة لحماية المصرف، والدفع الفوري الأقل، أجدى من الدفع المؤجل الأكبر.
الغرامات تحط بالمليارات في خزائن الولايات المتحدة. ففي غضون عام تقريباً، جمعت واشنطن أكثر من 80 مليار دولار غرامات من مصارف أمريكية وأجنبية، تتعلق بانتهاك قوانين الحظر، وغسيل الأموال، والتهرب الضريبي، وحماية المتهربين من الضرائب الأمريكية، والمسؤولية عن الأزمة الكبرى. والأسبوع الماضي فقط، دفعت مجموعة "ستي جروب" المصرفية الكبرى سبعة مليارات دولار، عن دورها في الأزمة. وقبله دفع مصرف "جي بي مورجان تشايس" 13 مليار دولار (ضرائب وأزمة). و"بنك أوف أميركا" دفع 9.5 مليار دولار (أزمة). و"كريدي سويس" 2.6 مليار دولار (ضرائب). و"إتش إس بي سي" دفع 1.92 مليار دولار (تبييض أموال). و"جي بي مورجان تشايس" دفع 1.7 مليار دولار (احتيال). ووسط هذا التدفق من الغرامات، يظهر مصرف ألماني هنا وآخر إيطالي هناك، وبريطاني في أي مكان، ليدفع غرامات ما دون المليار دولار.
الوضع لا يتوقف عند دفع الغرامات، هناك منهجية "إذلالية"، تقوم بها السلطات الأمريكية ضد المصارف المتورطة في كل شيء تقريباً. ويبدو التشهير بها أقلها عنفاً وأثراً. فقد قدم (على سبيل المثال) مصرف "كريدي سويس" قبل أيام، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المصارف قائمة بأسماء أكثر من ألف من موظفيه إلى السلطات الأمريكية. وهذه الأخيرة ستحقق معهم، وقد يقدمون للمحاكمة على الأراضي الأمريكية. ومن شروط الاتفاق المهين، أنه يجب على المصرف أن يذكر بدقة اختصاصات ومهام كل مسؤول فيه، والمصرف السويسري طلب من موظفيه أخذ الحذر في التحقيق. حرب "أمريكا" على المصارف المحلية والخارجية مستمرة. ولن تنتهي قريباً. ففي غضون ساعات من اتفاق "كريدي سويس"، أبدى 13 مصرفاً سويسرياً الرغبة في تسوية مماثلة سريعة.
بعض هذه المصارف بدأ يتأثر مالياً من جراء الغرامات الهائلة. والبعض الآخر يمكنه الاستمرار والنمو، ليس من فرط النجاح المصرفي الهائل، بل من العوائد المالية الضخمة التي تم جنيها على مدى عقود من العمليات غير المشروعة. مع ضرورة التأكيد دائماً على أن الأموال القذرة أنقذت المصارف نفسها خلال الأزمة الاقتصادية العالمية. إنها "مذبحة المصارف" بكل تأكيد، ولكن دون قطع شريان الحياة.

الجاسوسية الاقتصادية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




« سيأتي يوم لن يتجسسوا علي عن طريق هاتفي. في الواقع هاتفي هو الذي سيتجسس علي»
فيليب ديك - أديب وكاتب أمريكي


كتب: محمد كركوتـــي

الأمريكيون يقولون للصينيين إنكم تتجسسون علينا اقتصادياً. الصينيون لا يردون على الاتهام ويواصلون العمل. الأمريكيون يصعدون من حملتهم الاتهامية للصينيين بالتجسس. هؤلاء يواصلون الصمت، ولأن الصمت في مثل هذه الحالات أشد فظاعة من الرد يبدأ الأمريكيون بسرد بعض عمليات التجسس الصينية عليهم لأنهم بالطبع غير قادرين على تحديد كل عمليات التجسس هذه. هنا يتحرك الصينيون ويقررون الرد لا يسردون عمليات تجسس الأمريكيين عليهم بل يرسلون قائمة بأسماء الجواسيس الذين يعملون لحساب الولايات المتحدة في قلب المؤسسات الصينية. الأمريكيون يصمتون بفعل الصدمة التي أحدثتها القائمة الرهيبة. الصينيون يضعون وراءهم على الفور الاتهامات ومعها عمليات التجسس التي كشفت عنها في واشنطن، ويمضون إلى مزيد من الإنتاج ولا بأس من مزيد من التجسس. المتهم هنا صار كذلك من متهم آخر وليس من جهة بريئة، والجواسيس لا تتهم الجواسيس عادة.
مع "الانفجار" التقني والتكنولوجي المتصاعد ظهر السؤال هل ما زال هناك شيء يمكن أن يكون هدفاً للتجسس في الاقتصاد على اعتبار أن كل شيء بات مفتوحاً على كل جهة بل أصبحت بعض الجهات أكثر تداخلاً مع منافسيها مما كان عليه في السابق ورغم ذلك فلا تزال هناك الكثير من القطاعات والنشاطات الاقتصادية المختلفة عرضة للتجسس.
في الاقتصاد القائم على التنافسية لا توجد صداقات بين أطرافه بل في حالات كثيرة تكون الأطراف أقرب للأعداء منها لجهات متنافسة. ولعل أبلغ توصيف في هذا السياق ما قاله رئيس سابق للاستخبارات الفرنسية ماذا قال "في الاقتصاد نكون منافسين وليس حلفاء" وهو أصدق تعبير يمكن أن يقوله رئيس للمخابرات سابق أو حالي، كما أنه وضع حدوداً واضحة وصادقة لطبيعة العلاقات حتى بين الحلفاء.
كُشف في السابق أن المخابرات الفرنسية كانت تضع ميكروفونات في مقاعد المسافرين من رجال الأعمال على الطائرات الفرنسية ولكن هل عمليات التنصت هذه على متن الطائرات المدنية هي حكر على الفرنسيين فقط؟ الجواب ببساطة لا، لا يوجد بريء في هذا المجال، هناك فقط "جاسوس متطرف"وآخر أقل تطرفاً، وأقسام التجسس الاقتصادي في أجهزة المخابرات (ولاسيما الغربية منها) تحظى باهتمام يفوق في بعض الأحيان الاهتمام بنظيرتها السياسية. الفارق بين الاثنتين أن الأولى تعمل بصمت أوسع من صمت الثانية دون أن ننسى بالطبع التكامل التلقائي بين الجهتين والتداخل الطبيعي بينهما وكما في المباريات الرياضية، يفوز هذا الفريق مرة ويخسر مرة ويتعادل أحياناً، كذلك الأمر بين الجهات الاستخباراتية الاقتصادية المتنافسة فمساحة التحرك واسعة في ملعب أوسع.
وليس أكثر صدقاً أيضاً في هذا السياق من روبرت جيتس المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي أيه) الذي قال بصراحة "إن أكثر من 40 في المائة من المتطلبات ذات طابع اقتصادي". وبعد جيتس بسنوات جاء إدوارد سنودن الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية ليكشف بالوثائق مستوى التجسس الأمريكي الاقتصادي على الأعداء والأصدقاء وأيضاً الحلفاء. لا فرق هنا بين هذه الأطراف إلا في درجات المخاطر العائدة إلى هذا الطرف أو ذاك ولكن هناك فارق بين التجسس الاقتصادي والتجسس السياسي أو غيره من الأنواع الأخرى. أن الحجة "حماية الأمن القومي" في الثاني لا تنطبق على الأول فالتجسس الاقتصادي لا يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي وإن أحدث أضراراً غير مباشرة، ومع ذلك فهذه الحجة هي الوحيدة التي تتعلق بها الأطراف الساعية للتجسس، شرقاً وغرباً.
الجاسوس الصيني هو نفسه الأمريكي والفرنسي والبريطاني والياباني والألماني ولكن بأهداف مختلفة، وإذا كانت الأخلاق في السياسة ليست ذات قيمة محورية علينا أن نتخيل المستوى الأخلاقي في عالم التجسس. لقد بات تعاظم مستوى التنافسية على الساحة العالمية في كثير من الأحيان دافعاً للتجسس أكثر منه للابتكار المضاد أو الحراك المتطور وقد قام قادة أقسام الجاسوسية في الغرب والشرق بتقديم تفسير مروع لنشاطاتهم ماذا يقولون "إذا كان التجسس يتم من أجل الأمن السياسي والعسكري فلماذا لا يتم التجسس من أجل الأمن الاقتصادي" ليس مهماً الفارق الحقيقي بين هذا الأمن وذاك، المهم أنه يحمل اسم "الأمن" وانتهينا ستشهد المرحلة المقبلة تعاظماً فظيعاً في نشاطات التجسس الاقتصادي خصوصاً في ظل مرور الاقتصاد العالمي بمرحلة بطيئة من التعافي الذي سيستغرق وقتاً طويلاً لكي يستقر عند مستويات معقولة.
ويبدو أنه في الأزمات "تشرعن" المحظورات أكثر. فإذا كانت المصارف الكبرى استنجدت بالأموال القذرة لإنقاذ نفسها من براثن الأزمة الاقتصادية العالمية، فلن يشكل تعاظم مستويات وعمليات التجسس الاقتصادي بين كل الأطراف صدمة أو حتى خبراً. إنها ممارسات "عادية" في الأوقات العادية وفي الأزمات أيضاً بل هي واجب قومي وطني في معايير الجاسوسية، وليس هناك وقت للنقاش حول الفروقات بين أمن وآخر.

في تبييض الأموال .. عليكم بالحكومات الآن

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«مليار هنا، ومليار هناك، قريبا جدا ستتحدث عن أموال حقيقية»
إيفريت ديركسين - سيناتور أمريكي راحل


كتب: محمد كركوتـــي

عاد مسؤولو البنك وصندوق النقد الدوليين ليؤكدوا للمرة الـ 100 (ربما)، أن عمليات غسل الأموال عالميا تقدر بنحو 2.9 تريليون دولار، وأن 1.6 تريليون دولار أمريكي من الأموال النابعة من مصادر غير مشروعة، يتم نقلها بين دول العالم، مشيرين إلى أن الأموال التي يتم كشفها عبر الحدود لا تعادل 2 في المائة من هذا المبلغ. والحديث عن حجم وطبيعة جني هذه الأموال، بات أكثر من الحديث عن كيفية إدارة أفضل المعارك ضد العصابات والجهات التي تقف وراء تبييض الأموال حول العالم. هناك إجراءات اتخذت بالفعل في الأشهر القليلة الماضية، ركزت فقط على المصارف، ولاسيما الكبرى والمتوسطة منها، بما فيها مصارف حصلت على تمويلات حكومية لمنعها من الانهيار في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. أي أن أموالا شرعية تلوثت في خزائن هذه المصارف ذات الأسماء الرنانة.
والتركيز على المصارف الكبرى يبدو أسهل كثيرا في الحرب على عمليات تبييض الأموال، رغم أن هذه المصارف غسلت مليارات الدولارات دون حسيب أو رقيب على مدى عقود. وأغلبية المصارف المتورطة، اختصرت الطريق على نفسها وعلى السلطات (ولاسيما الأمريكية)، واندفعت بحثا عن تسويات معها، تضمن لها أقل الغرامات الممكنة. فالغرامات وإن كانت بمليارات الدولارات، ليست ذات قيمة فيما لو قورنت بحجم الأموال القذرة والمشينة التي مرت بها، ودخلت خزائنها، لتخرج نظيفة لا يلتصق بها شيء. الجزء الأكبر من هذه الأموال يدخل في القنوات المالية والاستثمارية المشروعة في كل بلدان العالم. وقد يكون التذكير مفيدا بأن أموال المخدرات على وجه التحديد، شكلت سندا رئيسا للمصارف التي غاصت في الأزمة الاقتصادية، وقد ثبتت السلطات الأمريكية هذه الحقيقة الصادمة في ملفاتها، وستظل وصمة عار إلى الأبد.
لعل من أهم الحقائق المروعة التي توصلت إليها المنظمات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين، أنه لا يتم الكشف (حتى الآن) إلا عن 2 في المائة فقط من الأموال المغسولة، وهي نسبة مرعبة، إذا ما قورنت بالحجم الإجمالي الذي اتفق عليه لهذه الأموال. كما أن 1.6 تريليون دولار أمريكي من الأموال النابعة من مصادر غير مشروعة، يتم نقلها عبر دول العالم، وللتذكر أيضا، فقد ورد في تقرير لمنظمة النزاهة المالية العالمية، أن 946.7 مليار دولار هي أموال غير مشروعة، تم تهريبها من 150 دولة نامية في عام 2011. وبحسب المنظمة نفسها، ارتفعت هذه الأموال بما لا يقل عن 13.7 في المائة عن حجمها في عام 2010، وفي هذا السياق، تصل فاتورة الجريمة المنظمة عالميا إلى 870 مليار دولار سنويا، كل هذه الأموال يتم تحريكها ونقلها عبر العديد من البلدان، بما فيها البلدان الغربية. فقد وجدت ملاذات آمنة فيها، على شكل استثمارات "إنتاجية"، وشراء عقارات باهظة، ولا بأس من التبرع لجمعية خيرية هنا وجامعة هناك، وغير ذلك من الأعمال التي تكمم الأفواه في كثير من الأحيان.
اتبعت الكثير من الدول أنظمة مقيدة لحركة الأموال، بعضها لا يسمح بنقل أكثر من عشرة آلاف دولار للفرد الواحد. وفي كل الأحوال، فإن أعلى مبلغ مسموح به هو في حدود 20 ألف دولار. لكن مثل هذه الإجراءات لم يكن لها أي هدف فعلي على صعيد محاربة عمليات تبييض الأموال. وتؤكد الحكومات في الغرب والشرق، أن عدد البلاغات الخاصة بهذه الجريمة قليل جدا، وهذا يعني أن الأموال المغسولة تعج في جميع البلدان، رغم كل الإجراءات الدولية التي تم الاتفاق عليها. لكن علينا ألا ننسى، أن بعض الحكومات، بما فيها حكومات تقوم بأداء تمثيلي رائع في "حربها" ضد تبييض الأموال، تفسح مجالات واسعة لهذه الأموال ضمن حدودها. هناك بعض المناطق في هذا العالم، تم إنقاذها اقتصاديا من خلال الأموال القذرة، قبل التبييض وبعده.
لم تعد الاتفاقات الدولية مهمة في هذا المجال. هناك آلاف الطرق التي يمكن أن تقبلها بعض الحكومات من أجل خزن هذه الأموال لديها. وإذا ما أراد العالم بالفعل الوصول إلى درجة مقبولة في معاركه ضد تبييض الأموال، فعليه أن يكون أكثر صراحة وشفافية مع بعض الحكومات المشكوك في تعاونها مع أصحاب الأموال غير المشروعة. والمصارف الكبرى والمتوسطة لم تعد بعد الحملة الأخيرة عليها، مكانا آمنا لتبييض الأموال. فالعيون عليها، وستبقى لأجل طويل، بصرف النظر عن مستوى النتائج. صحيح أن هناك اعتبارات سياسية تمنع نقل المعركة إلى صميم الحكومات نفسها، ولكن الصحيح أيضا، أنه لابد من القيام بذلك، إذا ما أريد بالفعل لهذه الجريمة أن تتوقف، أو على الأقل أن تصل إلى مستويات متدنية.
نحن نعلم، أن بعض الحكومات الغربية تحتفظ بهذه الملفات لاستخدامها سياسيا في الوقت المناسب، أو لجعلها أداة ضغط مستمرة. ولا يبدو أن هذه الحكومات ترغب في أن تعترف بأن تبييض الأموال ليس قضية سياسية. إنها مسألة حياة أو موت في العديد من البلدان الفقيرة، والمجتمعات التي تعيش على عتبة الكفاف.