الاثنين، 1 نوفمبر 2010

خائفون من ضرائب هزيلة تسند أمماً!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")

" نحن نصنع العيش بما نحصل عليه، ونصنع الحياة بما نقدمه "
ونستون تشرتشل رئيس وزراء بريطانيا الراحل



محمد كركوتـي

قبل أن يُسلِم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، بلاده التي نكبها اقتصادياً - وسياسياً طبعاً - إلى خليفته باراك أوباما، كان يهرب بطرق مُريعة من الأسئلة الخاصة بمساعدات الولايات المتحدة الأميركية للدول الفقيرة، وتحديداً تدني هذه المساعدات على مدى ثماني سنوات من حكمه للبلاد. وأحسب أنه كان يتهرب من الإجابة لسببين، الأول، أنه لم يكن يجيد الإجابة على أي شيء، والثاني، أنه كان - ومعه أركان إدارته - يفشلون في تبرير تراجع حجم المساعدات الأميركية بصورة تاريخية في فترته الرئاسية. ففي الفترة بين العامين 2000 و2008، تراجعت هذه المساعدات إلى النصف، وكانت هذه المسألة في الواقع، خارج الأجندة الرسمية. ولو تمكن بوش ومعه "ذئاب" إدارته، أن يوفقوا المساعدات لأوقفوها، بل لو استطاع ومعه " الذئاب" أنفسهم أن يسترجعوا ما قدمته بلادهم للدول الفقيرة، لفعلوا!. كانت إدارته - على عكس إدارة كلينتون التي سبقتها - ترى في المساعدات مجرد ضريبة مقيتة، ولا تجد فيها التزام لدولة كبرى، فرضته المعايير الإنسانية والسياسية أيضاً. كانت إدارة صغيرة المقام، تعمل على تصغير بلادها معها. لم تكن تعلم، أن قيمة الكبير ليست في حجمه فقط، بل في هامته الإنسانية والأخلاقية، وقبل هذا وذاك.. في مسؤولياته التاريخية.

وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية، ووقعت معها – كبقية القضايا المصيرية الأخرى – المساعدات التي تمثل "الأوكسجين" الناقص للدول الفقيرة. كل الدول المانحة، انطلقت في حديث لا يتوقف عن أوضاعها الاقتصادية المتردية، بما في ذلك توقف النمو، والبطالة، وخفض الإنفاق العالم، وبالطبع الديون الحكومية (السيادية). فالأموال شحت، وبالتالي فإنها ستنعكس بصورة مباشرة على المساعدات والمنح الخارجية. وأخذ المانحون - في ترديد غير مباشر- للمقولة المصرية الشعبية الشهيرة "ما يحتاجه البيت، يحرم على الجامع". وبصرف النظر عما يقولونه – وهو صحيح – غير أنه لا ينطبق على دول، أخذت " مقاليد الحكم" الاقتصادي، لفترة بلغت سبعة عقود من الزمن، ولا يسري على الكبار، إذا ما أرادوا أن يظلوا كباراً. هناك أزمة تاريخية كارثية بلاشك، تسبب بها الكبار .. لا الصغار، وستستفحل هذه الأزمة، إذا لم يف المانحون بوعودهم والتزاماتهم في مسألة المساعدات، لأن تداعيات الأزمة الكبرى، أكبر بكثير من قوة انفجارها. فالانفجار ينتهي في وقته ومكانه، لكن أثاره تبدو بلا نهاية، وبلا مساحة جغرافية محددة. وربما ينفع الدول المانحة، أن أذكرهم بما قاله العالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين " إن قيمة الإنسان بعطائه، لا بقدرته على الأخذ".

مع تواصل الأزمة الاقتصادية بأشكالها المختلفة، تعرضت كل البرامج التنموية العالمية في الدول الفقيرة، بما في ذلك برنامج " أهداف الألفية"، الذي أطلقته الأمم المتحدة في العام 2000، من أجل خفض معدلات الفقر والجوع والمرض في الدول النامية. والسبب الرئيسي، هو تقاعس المانحين عن الإيفاء بتعهداتهم، واحترام التزاماتهم. البنك الدولي يبحث عن الأموال، ولا يجدها، ويحاول بشتى الوسائل الوصول إلى حلول وسط – لا حلول ناجعة – من أجل استمرار برامجه بصورة تستحق توصيفها كبرامج. وهذه المؤسسة الدولية المرتعدة من شح الأموال، تعترف بأن حملتها لجمع الأموال لمساعدة الفقراء في العالم تتطلب "قوة دفع مستمرة"، نظراً لتخفيضات الموازنات في الدول المانحة الغنية. فعلى سبيل المثال، انخفض نصيب أفريقيا من المساعدات العالمية للتنمية، من أكثر من 40 في المائة في العام 1990 إلى ما بين 30 و35 في المائة منذ العام 2000. إضافة إلى ذلك، ارتفعت نسبة الفقراء الذين يعيشون في القارة السمراء، ويتوقع أن تصل إلى نحو 40 في المائة في العام 2015.

إن الموارد التي يسعى البنك لتوفيرها من الدول الأعضاء فيه، تخص هيئة التنمية الدولية التابعة له، توفر المنح وقروض التنمية منخفضة الفائدة لـ79 دولة، من الدول الأشد فقراً في العالم، أي أنها ليست هبات. وطبقاً لرئيس البنك الدولي روبرت زوليك، فإن الجهود المبذولة حالياً لجمع الأموال الضرورية، يمكن أن تساعد على حماية 200 مليون طفل إضافي، وأن تشمل خدمات الرعاية الصحية أكثر من 30 مليون شخص إضافي، وأن تساعد على مد طرق يبلغ إجمالي طولها 80 ألف كيلو متر، وأيضاً يمكن لهذه الأموال – وهذه نقطة مهمة جداً- أن تدرب وتوظف مليوني مُدرس جديد. لكن هذا يبقى كلاماً، ويمنح البنك نفس الصفة التي مُنحت لصندوق النقد الدولي، بأنه يحدث كثيراً، ولكن أحداً لا يستمع لحديثه. فكيف يمكن أن يحصل البنك الدولي على 140 مليار دولار أميركي، تعهد بتوفيرها منذ عام انفجار الأزمة في 2008، بينما يُحب المانحون حالياً، أن يُكرسوا صفة " المساكين" عليهم؟!. وكيف يمكن لبرامج التنمية العالمية الكبرى، أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بينما لا يعرف أحد مصير عمليات التمويل؟!. هل يمكن للمؤسسات الدولية المعنية، أن "تخترع" مصادر تمويل جديدة، غير التقليدية؟!. إنها مجموعة من الأسئلة، تحتاج إلى أجوبة فورية، لأن التأخر في برامج التنمية ( هي في الواقع برامج أقرب إلى عمليات إنقاذ منها إلى أي شيء آخر)، يعني أن هناك كارثة جديدة على الناصية، ومصيبة أخرى على عتبة الباب، وأزمة من نوع آخر في محيط الدائرة.

هناك مشاريع حلول، إلا أن البنك وصندوق النقد الدوليين، يستبعدانها لأنها تتطلب وقتاً لا يمكن للعالم أن يتحمله. لكن إذا أرادت الدول الكبرى أن تأخذ بها بالفعل وبصدق، يمكن أن تساند الجهود الدولية في "عمليات الإنقاذ" الإنسانية. والحقيقة أن هذا الحل طُرح قبل عام تقريباً، أي أنه ليس جديداً، وأن الأزمة تكمن في تردد الدول الكبرى في قبوله. فقد اقتُرح سابقاً، فرض ضريبة على المعاملات المالية ( المصرفية)، وحسب مؤسسات التنمية، فإن فرص ضرائب بنسبة 0.005 في المائة فقط لا غير، على المعاملات التي تجري بالدولار الأميركي واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني، ستوفر ما لا يقل عن 30 مليار دولار أميركي. والحقيقة.. يمكن اعتبار هذه الضرائب، نوعاً من أنواع التعويض التي يستحقها العالم، من أداء المصارف المشين ( على مدى أكثر من عقدين من الزمن)، الذي حضَر الأزمة العالمية وفجرها. لماذا الخوف من فرض هذه الضرائب؟ بينما تلقت غالبية المصارف المشينة مساعدات، وحظيت بعمليات إنقاذ حكومية، بأموال خرافية الحجم حقاً!. هل تخشى الحكومات من مؤسسات مالية، هي في الواقع تعمل تحت مظلتها، وأُنقذت بأموال دافعي الضرائب؟!.

لن تُشكل ضرائب بنسبة هزيلة كـ 0.005 في المائة، أي ضغط أو عبء على كاهل المصارف، في الوقت الذي يمكنها أن تصنع " العجائب" على صعيد الدول الفقيرة، وفي مجال برامج التنمية التي وافقت عليها وتحمست لها الدول الكبرى. إنها ضريبة مستحقة، على الأقل من جهة تكفير المصارف والمؤسسات المالية الكبرى، عن " ذنبها الاقتصادي" حيال العالم أجمع. كما أن للدول الكبرى، مسؤولية عالمية إذا ما أرادت أن تحتفظ بهامتها، شكلاً ومضموناً. فلا يمكن أن يتساوى "التودد" إلى مصرف أو مؤسسة، مع قضية توفير مياه للشرب - لا للاستحمام - في دولة (أو مجتمع) تصل فيها قيمة الأمطار إلى ثمن الألماس! وتستحيل المقارنة بين فقدان الدواء لعلاج مرضى الإيدز - مثلاً - في دولة ما، وبين تراجع أرباح المصارف!.

إنها قضية تتجاوز المؤسسات – مهما كبرت – لأنها ترتبط بالأمم مهما صغرت.

هناك تعليق واحد: