الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

معزوفة انفصالية شمال أوروبا وجنوبها




"الوطنية، عندما يأتي حبك لأبناء وطنك أولا. القومية، عندما تأتي كراهيتك لأبناء أوطان أخرى أولا"
شارل ديجول - رئيس فرنسي راحل

كتب: محمد كركوتي

غطت أحداث الاستفتاء الذي أُجري في إقليم كتالونيا للانفصال عن المملكة الإسبانية، على أخبار وتطورات مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست". هذا الحدث الكتالوني يستحق توصيف "التاريخي"، على الرغم من أنه لم يكن الأول من نوعه. وهو كذلك، لأنه جمع أكبر عدد من الناخبين الذين صوتوا لمصلحة الانفصال، ناهيك طبعا عن أعمال العنف النادرة التي حدثت قبل الاستفتاء المذكور وبعده، إلى جانب بالطبع التحركات المضادة للانفصال، سواء من شريحة الكتالونيين الوحدويين، أو من الإسبان الوطنيين بشكل عام. "بريكست" تراجع عن الواجهة في الفترة المذكورة، لكنه سرعان ما ظهر مرة أخرى، ليس من جهة تحقيق تقدم في مفاوضات الخروج "فلا تقدم حدث حتى اليوم"، بل بسبب المعزوفة الانفصالية الاسكتلندية التي ارتفع صوتها مؤيدا استفتاء الكتالونيين الانفصاليين.
في أوروبا اليوم، رحى انفصال تطحن في شمالها، ورحى انفصال آخر في جنوبها. لكن هذه الأخيرة بلغت الحد الأقصى، لماذا؟ لأن الحكومة المركزية في مدريد ترى أنه لا يوجد خيار آخر لإيقاف موجة الانفصال إلا بإعادة كتالونيا تحت السلطة المركزية، ونزع الحكم الذاتي الذي تنعم به عنها. والحق أن العاصمة منحت كثيرا من الفرص لرئيس حكومة الإقليم كارلس بودجمون للتراجع عن الاستفتاء واعتباره شيئا لم يكن، لكن قومية الأخير حولته إلى كائن صامت، بعد صراخ وصخب، لا يرد لا بالسلب ولا بالإيجاب، أملا أن تحدث المعجزة، وتمضي خطوات الانفصال إلى الأمام. يحتاج بالفعل إلى معجزة لأسباب كثيرة. لعل في مقدمتها، أن الاستفتاء من ناحية دستورية غير شرعي، وهذه النقطة على وجه الخصوص، لم تستقطب جهة أوروبية واحدة مؤيدة للانفصال إلا اسكتلندا. وهذه الأخيرة لا تمنح دعما بقدر ما تطرح تشويشا جانبيا فقط.
تلاقت مصالح الانفصاليين في الإقليمين الإسباني والبريطاني في فترة زمنية حساسة بالفعل، لكنهم في النهاية لا يملكون الأدوات اللازمة للتقدم في هذا الاتجاه. وإذا كانت هناك إمكانية مستقبلية لاسكتلندا بالانفصال عن المملكة المتحدة "ربما مع نهاية العقد الحالي"، غير أن الأمر مختلف تماما في الحالة الكتالونية. فالإقليم الإسباني لا يمكنه العيش معزولا حتى لو حدثت المعجزة وتم الانفصال، وهو ممنوع مسبقا من دخول الاتحاد الأوروبي، والسبب أن أي عضو جديد في هذا الاتحاد يحتاج إلى إجماع الدول المنضوية تحت لوائه. وهذا يعني أن لإسبانيا حق الفيتو. دون أن ننسى، أنه ليس جارا لدولة أوروبية صغيرة لا نفوذ لها، بل يشترك مع فرنسا بحدود طويلة، كتب فيها تاريخ محوري مس القارة كلها. بل شهد هذا الشريط الحدودي، ولادة أدب غربي رفيع يُدرس في مدارس ومعاهد هذه القارة.
في الحالة الاسكتلندية الأمر مختلف. فبريطانيا ستكون خارج الاتحاد الأوروبي في غضون عام ونصف العام، وبالتالي لن يكون لها صوت في مسألة انضمام اسكتلندا للاتحاد الأوروبي من عدمه، إذا ما تمكن الانفصاليون الاسكتلنديون من تحقيق حلمهم. بل المرجح أن تلقى ترحيبا من الاتحاد، لو استطاعت المفوضية منع فيتو انتقامي إسباني، كترهيب للكتالونيين. غير أن هذا الفيتو ليس مطروحا، لاعتبارات عديدة، منها أن إسبانيا المركزية لن تدخل في معارك أوروبية من هذه الزاوية، وهي لا تستطيع في الواقع مواجهة من هذا النوع، بينما لا تزال تتلقى الدعم الاقتصادي من الاتحاد، وهو الدعم الذي بدأ "كما هو معروف" ضمن خطة إنقاذ موازية بعض الشيء للخطة الخاصة باليونان. يضاف إلى ذلك، أن مدريد لن تنسى وقوف الاتحاد لجانبها في الأزمة الكتالونية.
الاتحاد الأوروبي أعلن صراحة وبقوة أنه يقف مع الحكومة المركزية الإسبانية، لا يهم امتعاض الانفصاليين الكتالونيين. فالاتحاد يستند إلى مبرر قانوني ودستوري لا يترك مجالا لانتقاده، وبذلك أراح نفسه من مسألة عويصة وخطيرة، هي في الواقع آخر ما يأمل أن تحدث. والمسألة الكتالونية رغم محليتها، إلا أن روابطها الأوروبية متشعبة. الأمر ليس بهذه الصورة في المسألة الاسكتلندية، خصوصا عندما لا يكون الصوت البريطاني حاضرا في قلب صنع القرار الأوروبي. وكأن الأوروبيين يقولون للاسكتلنديين، إذا استطعتم الانفصال وفق المبادئ الديمقراطية، تعالوا إلينا أهلا وسهلا. غير أن هذا كله، لا يجعل الاتحاد الأوروبي مرتاحا. فأكثر ما يؤرق كتلة كبرى كهذه دعوات الانفصال في هذا البلد أو ذاك، لاسيما عندما تظهر تلك القوميات المخيفة.
يعتمل في أوروبا اليوم الانفصال في شمالها وجنوبها، دون أن نشير بالطبع إلى الأزمة الكامنة المهيأة للانفجار في أي لحظة من جهة إيرلندا الشمالية. وهذه الأخيرة وحدها مشكلة مرتبطة بـ"البريكست" نفسه مباشرة بفعل الروابط بين إيرلندا العضو الكامل في الاتحاد والإقليم الشمالي الذي يقبع تحت التاج البريطاني. وفي كل الأحوال، لا يبدو هناك أمل للكتالونيين في انفصال من جانب واحد. قد يحصلون على بعض الامتيازات المحلية، لكن لا انفصال.. لا انفصال.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الاثنين، 23 أكتوبر 2017

تكاليف أسطورية للعنف



«أولئك الذين يجعلون السلم مستحيلاً، يصنعون عنفاً بلا حدود»

جون كيندي، رئيس أميركي راحل


كتب: محمد كركوتي 

لا شيء يقف في وجه تصاعد الخسائر المالية الناجمة عن العنف بمفهومه العام. وهذا النوع من الخسائر لا يختص فقط بالتكاليف الناجمة عن هذه الآفة، بل يشمل أيضاً الإنفاق على مواجهتها، عبر العمليات عسكرية، والتأمين الخاص، بالإضافة إلى ما تحتاجه قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة من أموال لأداء مهامها الطويلة والخطيرة في آن معاً. ولذلك وُضعت الحروب، وعمليات الإرهاب، والثورات المنفلتة، ومواجهات العصابات فيما بينها، والمناوشات العسكرية بين بلدين متجاورين (وما أكثرها)، والاقتتال القبلي العصبي الطائفي، وُضعت كلها ضمن توصيف العنف، فالخراب الناجم من هذه الحالات المروعة كبير، من دون أن ننسى بالطبع الانعكاسات الرهيبة لها على التنمية والمجتمعات والإنتاجية، وغير ذلك من العناصر الحتمية لضمان قيام أي اقتصاد في هذا العالم.
العنف بكل فروعه، كان طبيعياً أن يتسبب في تراجع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بصورة مخيفة في السنوات القليلة الماضية، فوفق «معهد الاقتصادات والسلام» الدولي، خفض العنف (أو الأعمال العدائية) هذا الناتج في العام 2015 بنسبة 13.3%، أي ما يعادل 1876 دولاراً لكل فرد على وجه الأرض، أمام التكاليف الإجمالية فقد وصلت إلى 13.6 تريليون دولار! ما يوازي ناتج كل من اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا مجتمعة! بل أدنى قليلاً فقط من الناتج الإجمالي لكل بلدان الاتحاد الأوروبي البالغ 16.6 تريليون دولار! والمصيبة هنا، أن عدداً ليس كبيراً من البلدان ينعم بالسلام والأمن في هذا العالم المليء بالمخاطر، ما يؤكد مجدداً أن لا نهاية لهذا العنف، ولا حد لتلك الخسائر، ولا توقف للمشاكل والأزمات الاقتصادية.
المصائب التي يصنعها الإنسان، لا تقارن من حيث الخسائر والأضرار (طبعاً، من دون ذكر تبعات الكراهية التلقائية) مع تلك الناجمة عن الكوارث الطبيعية، أي أن الإنسان أكثر كارثة على نفسه من غضب الطبيعة ذاتها، وهذا يظهر بوضوح (مثلاً) من تكاليف الكوارث الطبيعية التي بلغت العام الماضي 79 مليار دولار، سبعون في المائة منها تم تسديده عبر شركات التأمين. وأيضاً، لا داعي للاستفاضة في تناول حجم الخسائر البشرية الناجمة عن هذه الكوارث، التي بلغت 3800 قتيل في الستة أشهر الأولى من 2016. علينا أن نتخيل الخسائر البشرية المقابلة الناتجة عن العنف والأعمال العسكرية المختلفة! سيبدو غضب الطبيعة على الإنسان رحمة، مقارنة بغضب البشر على أنفسهم.
كل ذلك يضرب الناتج المحلي الإجمالي العالمي بصورة خطيرة، وينال على وجه الخصوص من بلدان لا تتحمل عاصفة غبار بسيطة من فرط هشاشتها الاقتصادية، فكيف الحال بأعمال عنف وحروب بعضها لا آفاق له، وبعضها الآخر لا أمل حتى بيوم يأتي ليشهد نهايتها؟ والغريب أن البعض لا يحب معرفة، أن تكاليف التنمية والبناء تظل أقل بكثير من تكاليف الحروب وتداعياتها. وهذا هو الفارق بين دول تعتمد على السلم والأمن كـ «رأس مال» لها للمضي قدماً نحو التنمية المستدامة، وبلدان ترى في السلاح والكراهية والعنف «رأس مالها»! لكن المصيبة، لا يمكن فصل العالم عن بعضه بعضا، فتداعيات العنف والحروب تنتقل بصور مختلفة في كل الأرجاء.
الناتج الإجمالي العالمي واحد، وإن كان مكوناً من «نواتج» كل البلدان، وكلما تقدم السلام على الحروب، كان هذا الناتج أكثر صحة، وكأنه جسد واحد لأطراف عديدة.

(المقال خاص بجريدة "الاتحاد")

إيران .. من أوباما إلى ترمب



"شكرا لهيلاري كلينتون. إيران صارت قوة، وفي طريقها نحو السلاح النووي"             
دونالد ترمب - رئيس الولايات المتحدة 

كتب: محمد كركوتي
لم ينعم النظام الحاكم في إيران بمساحة زمنية مريحة إلا في ظل المساحة الزمنية التي شغلت فيها إدارة باراك أوباما البيت الأبيض. وبرحيل هذه الإدارة، فقد نظام علي خامنئي امتيازات لم يكن يحلم بها حقا.. إنها حقيقة يعرفها الجميع، بمن فيهم أولئك الذين كانوا ضمن إدارة أوباما نفسها، وكانت لهم رؤى مختلفة عن إدارتهم حيال التعاطي السهل المتسامح مع إيران. الرئيس الأمريكي السابق أراد طباعة بصمة له في التاريخ السياسي لبلاده، من خلال اتفاق نووي مضطرب مع إيران، والكل يعلم أن حلفاءه (لاسيما الفرنسيين) ضاقوا ذرعا بهذا التوجه، ما جعلهم الطرف الأكثر تشددا مع النظام الإيراني خلال المفاوضات. والمصيبة، أن أوباما أراد أكثر من "بصمة" له في أسرع وقت ممكن. فأعاد (مثلا) العلاقات مع كوبا، دون أن يتحقق أدنى تقدم لحقوق الإنسان في هذا البلد، وترك الشعب السوري لمصيره البائس، متفاخرا بأنه ليس كسلفه جورج بوش الابن، يزج بالجيش الأمريكي في حروب خارجيا.. كل هذا أدى إلى هروب الولايات المتحدة من واجباتها كدولة كبرى، وانتشار فراغات ملأتها الفوضى والظلم والحروب والإرهاب.
إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب "رغم محليتها"، وجدت الثغرات المفجعة "الأوبامية"، في السياسة الأمريكية حيال إيران، ليس فقط من ناحية الاتفاق النووي الهش، بل أيضا من جهة الاستراتيجية الإيرانية التخريبية في هذه المنطقة أو تلك، بما في ذلك التخريب داخل إيران نفسها. كان لابد أن تتشدد وتطلق مخططات جديدة حيال هذا البلد الذي لم يوفر فرصة سانحة إلا وانتهزها لنشر الإرهاب والفوضى والطائفية. وقبل هذا وذاك، لتنفيذ وهمٍ يعود لأول أيام عهد الخميني، ينحصر في ماذا؟ في "تصدير" الثورة ومثل هذه "الصادرات" لم تنتج إلا الويلات، على جهة "المنشأ" نفسها وعلى بلدان "الاستيراد". وهذا النوع من التصدير كما الاستيراد يتطلب أموالا وتمويلا مكلفا. بمعنى ينبغي أن تكون هناك سيولة وافرة للمضي قدما فيه.
وفي عز العقوبات التي فُرضت على إيران بسبب برنامجها النووي الخطير، تلقت من الاتفاق النووي المرتبك، أول دعم مالي. كيف؟ برفع جانب مهم من هذه العقوبات الذي رفد نظام خامنئي بالأموال المطلوبة. هذه الأموال لم تذهب بالطبع إلى التنمية، وخفض معدلات البطالة في البلاد عن طريق توفير فرص العمل، ولا استخدمت في انتشال ما أمكن من إيرانيين من ميدان الفقر، بل راحت كلها لـ"الحرس الثوري"، وهذا الأخير هو في الواقع الجيش الإيراني الحقيقي، إضافة إلى أنه وزارة مالية موازية لوزارة المالية المدنية في حكومة رئيس لا يملك في الحقيقة القرار النهائي لأي شيء في كل البلاد. "الماستر" الأعلى هو "الولي الفقيه" الذي لا يفقه إلا الحروب والتدخلات العسكرية المشينة، وتمويل العصابات، واحتلال ما أمكن له من مناطق لا يربطها مع إيران حتى شريط حدود بعدة أمتار.
هكذا وفر اتفاق أوباما النووي المدد المالي لنظام يثبت يوميا أنه ليس فقط ضد السلام الإقليمي، بل ضد السلم العالمي أيضا.. ليس مهما. هنا الحديث عن انحناء حلفاء الولايات المتحدة الغربيين لرغبة إدارة تريد نصرا ذاتيا. واهما.. فقد اعتاد العالم على الأصوات المرتفعة لهؤلاء الحلفاء في البدايات، وصمتهم المطبق في النهايات! كان ضروريا لإدارة ترمب أن تتحرك بعد أكثر من تسعة أشهر من التحقيقات والمشاورات والتحليلات بشأن اتفاق فيه من المخاطر أكثر ما فيه من الأمان. وهنا أيضا لنترك الحلفاء مرة أخرى جانبا.، لاسيما بعدما صرخوا (في البدايات) بأنهم ملتزمون بالاتفاق. هذا الأخير لن يلغى، على الأقل في المستقبل المنظور، لكن الأهم أن واشنطن فعَّلت آليات العقوبات على أذرع عديدة للنظام الإيراني، بما في ذلك ما يسمى بـ"الحرس الثوري". 
هذه مقدمة جديدة لوضع مزيد من الكيانات والشخصيات الإيرانية أو المتعاونة مع هذا النظام على قوائم العقوبات. لم يعد سرا منذ سنوات، أن "الحرس الثوري" يقوم بتسيير اقتصاد مواز في البلاد، وعوائد هذا الاقتصاد تذهب مباشرة لتمويل حروبه في كل الأرجاء، لاسيما في سورية والعراق واليمن، إضافة طبعا إلى دعم عصابات شيعية موالية، تعمل بكل صفاقة جهارا نهارا ضد بلدانها. وفي كل يوم يثبت النظام الإيراني أنه يستحق العقوبات تلو الأخرى، بل يتحدى حتى البلدان الغربية "اللطيفة" تلك التي تصرخ وتصمت فجأة! والعقوبات في الواقع لا تنال من الشعب الإيراني، بصرف النظر عن بكائيات بعض الإيرانيين "الخامنئيين"، لماذا؟ لأن عوائد رفع العقوبات في أعقاب الاتفاق لم تذهب إلى أي مشروع تنموي. ولا نزال نتذكر تأخر رواتب حتى العاملين في المنشآت النووية الإيرانية. 
إنها المتغيرات الأمريكية التي لاقت تأييدا حتى من سياسيين أمريكيين أعلنوا صراحة عدم حبهم لدونالد ترمب، وإيران ستدفع على ما يبدو فواتير إرهابها.


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

كأن بريطانيا تنقصها هموم



"عدم المساواة مضيعة بشعة للزمن، إنها مضيعة لمصادر الناس" 
جيرمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني المعارض 
كتب: محمد كركوتي
في زحمة الحضور المطلق لـ"بريكست" في بريطانيا، ووسط حرب أهلية في حزب المحافظين الحاكم، وفي ظل حكومة قابلة للانشطار في أي لحظة تبرز في البلاد، وفي مشهد ارتباك حول مصير المملكة المتحدة كدولة بحدودها الحالية المعروفة.. في ظل كل هذه المشاكل والهموم، تحضر على الساحة قضية ليست أقل خطورة من انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بل إنها أقدم من حيث الحضور من "بريكست" نفسه الذي لم يتجاوزه زمنه حتى اليوم العام ونصف العام فقط. بل حضرت بعد سلسلة من القوانين الدستورية والتشريعية المختلفة صدرت على مدى عقود في البلاد، إلا أن هذه القضية لم تحل. في الواقع تشير الأرقام إلى أنها تفاقمت بصورة خطيرة في جوانب عديدة. أما لماذا هي خطيرة؟ فلأن تلاحمها جذري بين الاقتصاد والمجتمع. إنها الفجوة بين أكثر المناطق ثراء وأشدها فقرا في بريطانيا. بمعنى آخر إنها تمثل عدم مساواة، تعتبرها بعض الجهات تهديدا خطيرا للمجتمع، بل يرى البعض الآخر أنها وصمة عار على مكانة بريطانيا. ووصل بالبعض إلى اعتبار القضية - المشكلة بمنزلة نقطة تحول فاصلة، وأنه يجب اتخاذ قرارات جوهرية بشأن نهج الاقتصاد. وإذا كانت تحذيرات كبير أساقفة كانتربري في المملكة المتحدة تكتسب دافعا دينيا، على الرغم من أنه لم يطرحها بهذا الصورة المجردة، إلا أن تحذيرات مؤسسات اجتماعية واقتصادية بعيدة عن الساحة الدينية لها أبعاد واقعية أكثر، لأنها تطرح المسألة بالأرقام. وهنا، ليس مهما عند أولئك الخائفين على مصير المجتمع من عدم المساواة، ما تقوله الحكومة، التي أعلنت أخيرا أن البطالة ارتفعت بشكل قياسي والعجز في الميزانية قد تراجع، وعدم المساواة "في الدخول" بلغ أدنى مستوى له منذ 30 عاما. هذه القضية قد تكون مثارة في بلدان نامية أو أقل تطورا أو فاشلة، لا في دول وصلت إلى "سن الرشد" والصدمة أن تقريرا للجنة المؤقتة للعدالة الاقتصادية التابعة لمعهد بحوث السياسات، توصل إلى نتيجة وهي: "أن الاقتصاد البريطاني أكثر الاقتصادات التي تعاني عدم التوازن في أوروبا. ويوجد فيه موظفون يتمتعون بمؤهلات تفوق وظائفهم أكثر من أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي" بل ذهب أبعد من ذلك حين استنتج أن "النموذج الاقتصادي لبريطانيا ببساطة لا يناسب العقد الثالث من الألفية الثالثة" وهذا يعني ببساطة أن البلاد بحاجة إلى تغيير بهذا الخصوص، على غرار بعض التحولات التي حدثت بالفعل في التاريخ البريطاني الحديث. بمعنى أن المملكة المتحدة تحتاج إما إلى "ثورة اقتصادية" أو "إصلاحات جذرية". لا تستطيع الحكومة الحالية القيام بأي شيء لإصلاح الخلل الخطير الراهن. هي في الواقع ليست قادرة على إقناع الناس بأنها متماسكة، أو حتى أنها قادرة على المضي قدما في إدارة البلاد بما يضمن مسيرة طبيعية أو تحولات إيجابية. صحيح أن هذه الحكومة لم "تخترع" عدم المساواة الذي يجري الحديث عنه، ويعود الأمر لسنوات ليست قليلة، لكن الصحيح أيضا أنها في وضع لا يمكنها من تقديم حتى أفكار إصلاحية. والأسباب كثيرة بهذا الخصوص، تبدأ بتكوينها الحزبي الراهن، ولا تنتهي بالمفاوضات الحالية مع الاتحاد الأوروبي للخروج من هذا التكتل. إضافة طبعا إلى أن حزب العمال المعارض يحقق النقاط تلو الأخرى لمصلحته من هذه الزاوية بالتحديد. بعد أن كانت قيادته حتى وقت قريب مثار سخرية من أنها غير قادرة على تحقيق تقدم شعبي على الإطلاق. هناك انفصال بين النمو الاقتصادي والدخول منذ الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008. هذا ما توصل إليه المختصون. وبعد هذه الأزمة مر على بريطانيا ثلاث حكومات، لم تتمكن من إزالة هذا الانفصال. فرغم ارتفاع إجمالي الناتج المحلي للفرد بواقع 12 في المائة في غضون العقدين الماضيين، إلا أن متوسط دخل كل موظف تراجع وبالعودة للتقرير المثير المشار إليه، فمنذ سبعينيات القرن الماضي "تراجعت حصة الدخل القومي الموجهة للأجور بشكل تدريجي من 80 في المائة إلى 73 في المائة، بينما زادت الحصة الموجهة للأرباح. وبلغت حصة الأجور أدنى مستوياتها حاليا منذ الحرب العالمية الثانية" إنها أرقام مذهلة لاقتصاد يمثل محورا رئيسا للاقتصاد العالمي ككل. إنها أزمة وهَم ووجع، ليست في محلها الآن في المملكة المتحدة، السائرة نحو مستقبل اقتصادي بل مصيري لا إشارات واضحة له، ليس فقط من جهة مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، بل من ناحية مستقبل وجود هذه المملكة بشكلها الحالي. الإصلاحات الاجتماعية - الاقتصادية المطلوبة، تبقى رهن الحالة السياسية، وهي حالة لا يمكن أن تنتج أي تغيير مفصلي في هذا الجانب الحيوي - الشعبي المهم. ولهذه القضية تفرعاتها أيضا، بما في ذلك الفجوة بين الطبقة الأكثر ثراء والطبقة الفقيرة، بل حتى لها رابط مع فارق الأجور بين الجنسين، وغير ذلك من روابط تختص مباشرة بالحياة اليومية العامة.
(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

غرامات مصرفية توازي دخلا قويا









"الجشع صار وباء في أوساط القادة المصرفيين في وول ستريت"
 سايمون مينوورنيج - مؤلف ومختص اجتماعي أمريكي

كتب: محمد كركوتي

 باتت الغرامات التي تفرضها الحكومات في الولايات المتحدة وأوروبا على المصارف، خبرا روتينيا، رغم أن المخالفات التي ارتكبتها هذه المصارف تعود لعدة سنوات، يصل بعضها إلى أكثر من عقد من الزمن. وكما أن هذا الخبر روتيني، كذلك إدارات المصارف تجنب بصورة روتينية كميات كبيرة من الأموال لمواجهة الغرامات. أي أن جزءا من الإنفاق السنوي المصرفي، صار يذهب في هذا الاتجاه، خصوصا في ظل تحرك حكومي قوي ضدها (لاسيما في الولايات المتحدة)، من أجل عرضها على القضاء أو القبول بغرامات مالية هائلة يتم الاتفاق عليها خارج المحاكم. وأغلب هذه المصارف باتت تفضل عقد صفقات بعيدا عن ساحات القضاء لأسباب كثيرة، في مقدمتها بالطبع أنها تعرف سلفا باستحالة نجاتها أمام الادعاءات الحكومية، وتعي حجم تورطها في مخالفات، بعضها مشين حقا. في آخر تقرير بحثي أصدرته مؤسسة كوينلان آند أسوشيتس المتخصصة في الخدمات المالية في هونج كونج، توصل الباحثون إلى أن الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة وأوروبا فرضت غرامات بقيمة 342 مليار دولار على المصارف منذ عام 2009. وهذا العام "كما هو معروف" أعقب مباشرة الأزمة الاقتصادية العالمية. وتتوقع المؤسسة نفسها أن تصل هذه الغرامات إلى 400 مليار دولار بحلول عام 2020. إنها تشكل رقما يوازي موازنات مجموعة كبيرة من الدول المخالفات المستهدفة باتت أيضا معروفة، وتتأرجح بين تضليل عملاء المصارف بالمشتقات المصرفية، وعمليات مشينة ومرعبة لغسل الأموال، تعود لمجرمين وعصابات، بل منظمات إرهابية، ناهيك عن القروض العبثية التي قدمتها من أجل أن تظهر على الساحة أنها تتحرك وتعمل بشكل كبير، فضلا عن عمليات مالية تجري بالباطن هربا من القوانين والضرائب وغير ذلك. ومخالفات المصارف أصابت المجتمعات التي تعمل فيها، كما أصابت نفسها مباشرة. لأن العمليات السرية أو غير المشروعة أو الفاشلة، أنتجت خسائر فادحة لها. وتتفق المؤسسات الرقابية المختلفة على أن سوء سلوك 50 مصرفا أدى منذ الأزمة الاقتصادية إلى خسائر بلغت 850 مليار دولار، صحيح أن حاملي أسهم هذه المصارف تخلصوا من إداراتها بسرعات مختلفة، إلا أن الخسائر بقيت ضمن اللوائح السنوية لها. أي أنها لا تستطيع التخلص منها، وتم حسابها ضمن خسائر التشغيل أو حذفها من الأرباح المتوقعة. ولا شك أن الإجراءات الحكومية المشددة التي اتخذت في أعقاب الأزمة العالمية، أسهمت كثيرا في التقليل من المخالفات، إلا أن مسؤولين غربيين يقولون إن هناك مصارف لا تزال ترتكبها بأشكال مختلفة. وتخضع المصارف في الدول الغربية بالفعل إلى تمحيص دقيق في سلوكياتها وحراكها وعملياتها، إلا أن المصارف الأخرى في بعض البلدان النامية لا تزال أكثر حرية من "زميلاتها" الغربية. وتتصدر المصارف الصينية قائمة المصارف التي تخلفت عن نظرائها الدوليين، في أكثر من مجال، لاسيما تعزيز الاستثمار في الامتثال لمكافحة غسل الأموال. المصارف الصينية تمثل بالفعل الخطر الأكبر على الساحة الدولية الآن، بما في ذلك إمكانية تسببها في أزمة ائتمان ستنال من الجميع، الممتثل وغير الممتثل، المتعاون والمراوغ، الذي تعلم الدروس والذي لم يفهم شيئا منها. وهذا يبرر المناشدات الآتية من جهة الغرب للصين، بضرورة ضبط قطاعها المصرفي بالصورة المطلوبة عالميا، وإطلاق حملة رقابية جديدة تأخذ في الاعتبارات كل شيء. من غسل الأموال إلى التلاعب بأسعار الفائدة، إلى بعض المشتقات المصرفية الخطرة. وفق الأرقام المتداولة، تنفق المصارف العالمية الكبرى حاليا ما يراوح بين 900 و1.3 مليار دولار سنويا لمكافحة الجريمة المالية. غير أنها بالمعيار الحقيقي لا تساوي شيئا. ولا يمكن أن تتحقق الأهداف في الوصول إلى قطاع مصرفي عالمي نظيف، إلا بسلسلة من الإجراءات الجديدة، أولها فرض الحوكمة فرضا. وهذه الأخيرة موجودة بالفعل في مصارف الدول الغربية، لكن مختصين يقولون إن هناك سراديب يمكن النفاذ منها والالتفاف حول الرقابة والحوكمة. ولا يمكن أن ينسى العالم في أعقاب انفجار الأزمة العالمية، كيف أن مصارف كبرى جدا اعترفت بأنها أنقذت نفسها جزئيا من "الأرباح" الناجمة عن غسل الأموال، ولنا أن نتصور الأموال القذرة من أين أتت؟ والأضرار المجتمعية التي تسببت فيها. المعركة بين الحكومات والمصارف لا تزال قائمة. ويبدو أنها ستستمر لسنوات طويلة، مع الاعتراف بأن الجهات التنظيمية والرقابية حققت إنجازات لا بأس بها في الأعوام الماضية على هذه الساحة المالية المروعة. لكن هناك كثير آت على هذه الساحة في الأعوام المقبلة. فالعالم لا يمكنه في هذا الوقت بالذات تحمل أي أزمة ائتمان مهما كان حجمها. في الواقع لا يزال هذا العالم يعاني الأزمة الكبرى، ولا تزال دول متقدمة تحاول أن تقلل الآثار بهدف الوصول إلى التخلص منها نهائيا. الساحة المصرفية في أي مكان، قابلة دائما للتوجه الخاطئ الذي ينال من المجتمع قبل أن ينال منها.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الإرهاب المالي




"تستطيع أن تحول أدوات التواصل الاجتماعي إلى أدوات جيدة أو أدوات مضرة وخطيرة
سيرا ـــ شاعرة ومغنية أمريكية 

كتب: محمد كركوتي

بعد أن أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ملاذا آمنا لتوصيل الرسائل والمعلومات الخاصة بتنفيذ أعمال إرهابية مختلفة، ووفرت "سراديب بريدية" لهذه المهمات التخريبية، صارت أيضا ممرات وملاذات آمنة لما أُطلق عليه أخيرا "الإرهاب المالي". وهو إرهاب لا يتعلق بجرائم القتل والتفجيرات وعمليات التفخيخ التي يقوم بها الإرهابيون، بل بتسريب معلومات سرية حول شركة ما من داخلها، أو عن عملية تجارية شرعية تتطلب الكتمان، أو تداولات مالية مختلفة، أو بيع وشراء الأسهم والسندات، أو نشاطات الاستحواذ والاندماج بين المؤسسات، وغير ذلك من الحراك المالي الذي يجري بتريليونات الدولارات حول العالم يوميا. وإذا كان الإرهاب الأصلي يقتل ويدمر ويخرب، فـ "الإرهاب المالي" يضر ويضرب كيانات من كل الأحجام، ويضع أسرارها قيد التداول السهل المتاح لمن يسعى إليها. هناك مشكلة عويصة في هذا النطاق، لم تتمكن الحكومات المعنية من حلها، بل ظهرت هذه الحكومات وكأنها جهات تسعى إلى فرض رقابة على وسائل التواصل الاجتماعي بغية تكميم الأفواه، أو غربلة الطروحات. والقائمون على هذه الوسائل يتعاونون في حدود ضيقة، انطلاقا أيضا من حق المستخدم في السرية، وهذا الحق تضمنه في الواقع القوانين والتشريعات التي تضعها الحكومات نفسها! وعلى مدى سنوات تحولت هذه المسألة من قضية لبحث المدى الذي يمكن للحكومات أن تصل إليه، والمسؤولية الأخلاقية لمؤسسات التواصل الاجتماعي، إلى سجال وجدال كبيرين. إحدى هذه المؤسسات رفضت تماما التعاون في هذا المجال، منطلقة بالطبع من القوانين التي تضمن لها ذلك، في حين أن هذه القوانين لم تتعدل بما يكفي لمنح الحكومات مزيدا من الحرية في الحراك على الساحة المغلقة لوسائل التواصل الاجتماعي. ولا شك أن العابثين بهذه الوسائل من إرهابيين قتلة إلى إرهابيين ماليين، يستغلون هذا الخلاف أو في أفضل الأحوال يستفيدون من التعاون المتواضع بين إدارات وسائل التواصل الاجتماعي والحكومات وجهات إنفاذ القانون. وإذا كانت الدول تواجه صعوبة في الوصول الحر إلى ملفات مستخدمي هذه الوسائل لأسباب أمنية، علينا أيضا أن نتخيل الصعوبة في الوصول إلى ملفات "الإرهابيين الماليين". وهنا يظهر الصراع الفعلي بين الجهتين المعنيتين، ولا يمكن أن يتم وضع حد لهذا الصراع، إلا بتشريعات جديدة، لن تكون عملية فرضها سهلة، ولها تكاليفها السياسية على الحكومات نفسها. ناهيك عن أن غالبية هذه الحكومات في العالم الغربي على وجه الخصوص، لا تتمتع بالقوة الشعبية على ساحاتها المحلية، الأمر الذي يدفعها إلى الحلول الوسط. يقول مكتب التحقيقات الفيدرالية "يبدأ التركيز على احتمال قيام الرسائل المشفرة، بتسهيل الجرائم المالية. والتشفير مشكلة متنامية في معالجة الاحتيال، وغسل الأموال والتداول بناء على معلومات سرية". وهذا الكلام مثير حقا، لأنه يعطي انطباعا بأنه حتى لو تم الوصول إلى الملفات "الخلفية" لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ولاسيما الـ "واتس آب"، فإن عمليات التشفير التي يقومون بها تقف سدا منيعا أمام الكشف عن محتواها. والسرية التي تقدمها (بحسب مكتب التحقيقات الفيدرالية) مثل هذه الخدمات، تجعل التنصت على المحادثات ومذكرات الاستدعاء بلا قيمة. وهذا يعني مجددا، أن السلطات الساعية إلى إيقاف "الإرهاب المالي"، ستعود مجددا إلى ما يمكن تسميته "المربع الأول". استطاعت السلطات الأمريكية والبريطانية على وجه الخصوص في الآونة الأخيرة، ضبط عدد من المتعاملين في سوق المال والتجارة، قاموا بتمرير معلومات عبر تطبيق "واتس آب" مضرة بشركات كانت تخضع لعمليات استحواذ، وعلى آخرين قاموا بتمرير معلومات أخرى عن صفقات سرية للأصدقاء. لكن ما ضبطته هذه السلطات لا يُذكر أمام "نشاط التمرير" الذي لا يتوقف، بل تتسع دوائره إلى أحجام خطيرة ومضرة بالفعل. وغالبا ما تكون العقوبة على شكل غرامات مالية، بإمكان أي متلاعب مالي أن يدفعها وأن يعيش بما جمعه من هذه العمليات بلا عمل لبقية حياته. حتى عقوبة السجن (إذا ما وجدت) تكون عادة قصيرة الزمن. وهذا يشكل أيضا معضلة أمام الحكومات التي "تناضل" للوصول إلى الأشخاص المتلاعبين ماليا، وليس لديها عمليا عقوبات قوية ضدهم إذا ما كانت محظوظة ووصلت إليهم. في الواقع لم تنفع قرارات الشركات والمؤسسات المالية في حظر الهواتف الذكية لموظفيها خلال فترة الدوام الرسمي. لأن هؤلاء يستطيعون الوصول إلى المعلومات السرية بحكم عملهم، وبإمكانهم تمريرها بأساليب أخرى خلال النهار. هواتف ذكية في سياراتهم، أصدقاء متعاونون معهم ينتظرون خارج المؤسسة، وغير ذلك من الأساليب. إنها عملية عويصة لكل الأطراف، باستثناء "الإرهابيين الماليين". والمشكلة هنا، ليست في تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، بل في طريقة عمل المؤسسات نفسها، ومستوى الثقة التي تمنحها لهذا الموظف أو ذاك. خصوصا إذا ما علمنا، أن عمليات تشفير مبتكرة يمكن أن يتوصل إليها أي شخص ينوي شرا في هذه المؤسسة، أو يحاول الحصول على مكاسب مالية غير شرعية.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

مصير الأموال في مدينة المال




"عندما تكون هناك أشياء لا تسير كما ينبغي، بإمكان لندن تحملها"
جيرمي هانت، وزير الصحة البريطاني


كتب: محمد كركوتي


في المربع المالي بلندن هذه الأيام، سعادة غامرة. وهذا المربع (والمدينة كلها معه)، يتلقف أي إشارة إيجابية حتى لو دخلت في نفق التمنيات، بل الأحلام. وكما أن الشمس ليست من الزائرين المقيمين في لندن، وهي أقرب إلى "مسافر ترانزيت"، كذلك الأخبار التي تحمل بعضا من فرح، أو لفتة انفراج، أو حتى وعدا غير مشكوك فيه. دعك من أقوال على شاكلة "برؤية لندن، كأنك رأيت أكثر ما يعرضه العالم"، أو "أنك تعيش في لندن مثل السائح"، أو "لندن أكثر الأماكن سحرا في العالم"، أو "أحب وضعيتي كأجنبي في لندن، هناك أعداد كبيرة من الأجانب فيها". كل هذه الأقوال وغيرها بالآلاف لا تغير من الوضع الراهن شيئا، وبالتأكيد لن تغير في تشكل الوضع الجديد في المرحلة المقبلة.
أظهر آخر استطلاع أجري في العاصمة البريطانية، أن هذه الأخيرة لا تزال المركز المالي الأقوى جاذبية في العالم متقدمة على نيويورك حتى بفارق كبير. وطبعا هذه النتيجة، تأتي في ظل المفاوضات الجارية حاليا بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لاستكمال عملية الخروج البريطاني من هذا الاتحاد المعروفة باسم "بريكست". لا تريد لندن أكثر من هذه النتيجة الآن، لأنها تعرف أنها لن تحصل على أفضل منها، بصرف النظر عن عدم محورية الاستطلاعات (بشكل عام) وأهميتها الفعلية على أرض الواقع. وكان طبيعيا أن ابتعدت مدينة نيويورك عن العاصمة البريطانية في هذا الاستطلاع، من زاوية الانعزالية الاقتصادية التي ارتضتها وتعمل لتعميقها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب. فهذا الأخير بات قائدا لانسحابات بلاده من تجمعات دولية راسخة في التاريخ، على مختلف الأصعدة.
خبر وحيد "باسم" ظهر في لندن في زحمة الأخبار "العابسة" منذ أكثر من عام، ما دفع أنصار "بريكست" إلى تحويله لشعارات مُقطَعة ومتقطِعة. و"التقطيع" للاستفادة القصوى منه من فرط قناعتهم بأن هذا أفضل ما سيظهر على الساحة من الآن وحتى موعد انتهاء مفاوضات الخروج، لاسيما أنهم يواجهون حقائق تظهر بصورة مستمرة الآثار السلبية الناجمة عن الانسحاب. ومن هنا كان ضروريا (مثلا) أن يحذر لوبي مالي بريطاني من الاكتفاء بنتيجة الاستطلاع، وهذا اللوبي أسرع بدعوة الحكومة لإيضاح تدابيرها الانتقالية بعد نيسان (أبريل) 2019 الوقت الرسمي للخروج البريطاني من الاتحاد. الكل يعرف أن لندن مركز مالي قوي وراسخ وحقيقي، وأن دولا تسيطر على اقتصادات أكبر من الاقتصاد البريطاني لم تستطع أن تقتنص لعواصمها مكانة توازي مكانة العاصمة البريطانية، في هذا المجال شديد الحيوية والتأثير.
لكن الصورة الحقيقية تختلف عن نتائج الاستطلاع المشار إليه، لماذا؟ لأن مؤسسات مالية ومصارف كبرى أعلنت مبكرا تفعيل خطط طوارئ من بينها الانتقال من لندن إلى مدن أوروبية أخرى، أو فتح مراكز رئيسة فيها. ويزداد عدد هذه المؤسسات مع عدم تأكدها حقا من التدابير التي تتخذها الحكومة البريطانية لما بعد إتمام الانسحاب. ناهيك عن الخلافات داخل الحكومة نفسها بشأن شكل ووتيرة ومعطيات عملية المفاوضات، وصورة العلاقة المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي، وطبيعة علاقات بريطانيا مع بقية بلدان العالم، خصوصا من الناحية الاقتصادية. يأتي هذا كله، في ظل مفاوضات تتسم بالحدة بين الطرفين، ووسط فوضى فاضحة في صنع القرار البريطاني بهذا الشأن، ما دفع مسؤولين أوروبيين للحديث علنا عن ضرورة أن تكون بريطانيا أكثر "حرفية" في هذه المفاوضات.
لندن لا تزال المركز المالي الأول على مستوى العالم دون منازع. لكن كيف سيكون وضعها مع إعلان أغلب المصارف البريطانية والأمريكية واليابانية الكبرى، أنها ستفتح وحدات لها في فرانكفورت الألمانية ودبلن الإيرلندية؟ بعض منها سينقل مراكزه الرئيسة، إلى جانب طبعا عودة كل الفروع الأساسية للمصارف الأوروبية إلى بلادها. دون أن نذكر باستفاضة مصير مقاصة اليورو التي تتمتع بها العاصمة البريطانية منذ إطلاق هذه العملة. والسؤال الآن، هل ستبقى لندن المركز المالي الأول بعد ذلك؟ لا شك أن هذه المدينة بنت نظاما ماليا فائق القدرة على التعاطي المالي العالمي. لكن غيرها من المدن الكبرى بنت أيضا أنظمة مالية قوية ذات سمعة عالية الجودة، ويمكنها من خلال التحديث والتوسع أكثر أن تستوعب كل "الهاربين" من العاصمة البريطانية.
لا يمكن النظر إلى لندن كأكبر مركز مالي عالمي على أنه حقيقة حتمية مستدامة. الأوضاع تتغير وتتبدل بصورة "درامية". وبريطانيا كلها تعيش اهتزازا اقتصاديا اجتماعيا، بل وطنيا أيضا، لم تمر به منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا الاهتزاز يعود بالطبع إلى قرار "بريكست" أولا، وإلى عدم وضوح الرؤية ما بعده ثانيا. يضاف إلى ذلك الحالة التفاوضية المهزوزة الراهنة، والصدام السري أحيانا والمعلن أحيانا أخرى بين السياسيين داخل الحزب الواحد. بريطانيا تتشكل حاليا بصيغة مختلفة، وبالتأكيد تتشكل معها لندن المدينة التي تحدث التاريخ عنها أكثر من غيرها من كل المدن.


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الأحد، 22 أكتوبر 2017

أي ضمانات في مواجهة كوارث الطبيعة؟



"الأعاصير تذكرنا دائما، أنه رغم تقدمنا التكنولوجي.. معظم ما يأتي من الطبيعة لا يمكن توقعه" 
دايان إيكرمان ـــ كاتبة وشاعرة أمريكية 

كتب: محمد كركوتي

مع استفحال موسم الأعاصير والزوابع في الولايات المتحدة ومنطقة الكاريبي، يتوازى رعب المتضررين مباشرة منها، مع خوف مؤسسات التأمين والشركات التابعة لها، أو المتعاونة معها في تحمل مخاطر بعض البوالص. فكما هو معروف، تقوم شركات التأمين عادة بتوزيع المخاطر على أكثر من جهة بما يعرف بـ "التأمين وإعادة التأمين". بعض هذه البوالص تشترك في تغطيتها جهات يقدر عددها بالعشرات، وبعضها الآخر يصل عدد الجهات إلى أقل من ذلك. وكل هذا يرتبط بمدى حجم المخاطر المحتملة في هذه البوليصة أو تلك، خصوصا عندما تتعلق المسألة بالكوارث الطبيعية المتوقعة أو تلك التي لا أحد يستطيع توقعها مهما كانت إمكانيته عظيمة في قراءة المستقبل وآلياته متطورة في هذا المجال. حتى النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، كانت هناك مقولة متداولة في لندن والمدن التي تحتضن مراكز مالية عالمية كبيرة، أن مؤسسة "لويدز" للتأمين لا يمكن أن تخسر. وهذه المؤسسة كانت تعتبر أكبر وأقدم شركة تأمين في العالم آنذاك. غير أن أعاصير ضربت بريطانيا في تلك الفترة، ضربت معها "لويدز" التي وصلت إلى حافة الإفلاس الفعلي، على الرغم من اتباعها نظام توزيع المخاطر على شركات أخرى. وأثبتت التجارب السابقة، أن المخاطر الناجمة عن الكوارث الطبيعية أكثر ضررا لشركات التأمين في أي مكان، من أي مخاطر أخرى. هي لا تواجه فواتير الأضرار في الممتلكات فقط، بل تدفع فواتير التأمين على الحياة، وهذا النوع من التأمين منتشر بصورة كبيرة في الولايات المتحدة مقارنة بغيرها من البلدان المتقدمة الأخرى. في غضون أقل من ثلاثة عقود، ضربت الولايات المتحدة أعاصير ضخمة بلغ عددها عشرة. في حين سجلت السنوات المشار إليها كوارث طبيعية أخرى ضخمة هناك، كالزلازل والهزات الأرضية المتوسطة والأمطار التي تنتج السيول، والرياح التي تعطل الحياة في المناطق التي تضربها. ووفق الأرقام، فإن الخسائر الناجمة عن الأعاصير العشرة فقط تصل إلى ما بين 470 و500 مليار دولار، من بينها ما يزيد على 160 مليارا هي الخسائر التي تتكبدها البلاد نتيجة إعصار "كاترينا" الشهير، الذي اتُفق على أنه خامس أعنف إعصار في تاريخ الولايات المتحدة قاطبة، وسابع أكبر أعاصير الأطلسي على الإطلاق. ولو أضيفت الأضرار المالية الناجمة عن الكوارث الطبيعية الأخرى ولا سيما الزلازل، سيرتفع الرقم إلى مستويات عالية جدا. ولا سيما زلزالي أوكلاهوما وسان فرانسيسكو، دون الإشارة طبعا إلى خسائر الكوارث الطبيعية التي لم تدخل السجلات في تاريخ البلاد. المتوقع أن تواجه شركات التأمين مع موجة الأعاصير الراهنة التي تضرب الولايات المتحدة ضربة قاصمة، ولا سيما تلك المعنية بالتأمين في منطقة فلوريدا والمناطق الأخرى المتضررة. ويتفق عدد من الخبراء في مجال التأمين، على أن هذه الشركات قد تصل إلى مرحلة العجز في تعويض المتضررين، خصوصا أنهم قدروا الخسائر التي ستنجم عن إعصار "إيرما" المتفاعل بأكثر من 100 مليار دولار. المشكلة الرئيسة في هذه النقطة بالتحديد، تتعلق بمدى صحة تقديرات القائمين على شركات التأمين للأضرار الناتجة من كوارث طبيعية يمكن أن تقع. والحق أنهم لو رفعوا توقعاتهم لهذه الخسائر، فإنهم سيكونون مضطرين لرفع أقساط التأمين إلى مستويات قد لا يمكن تحملها من قبل الزبائن. إنها في كل الأحوال نوع من أنواع المقامرة. فإذا كنت لا تعرف متى بالضبط سيضرب هذا الإعصار أو الزلزال، كيف يمكن لك أن تتنبأ بالأضرار التي ستنجم عنه؟! إعصار "إيرما" الذي لم ينته بعد تسبب في أضرار لأكثر من 26 مليون أمريكي، ناهيك عن عدد الأشخاص في البلدان الحدودية مع الولايات المتحدة. في السابق ضربت الكوارث الطبيعية معها شركات تأمين كبيرة ومتوسطة، وطمرتها إلى الأبد. بالطبع كانت الحكومات تتدخل في نهاية المطاف لتوفير الحماية للمتضررين. وفي بعض الحالات قامت هذه الحكومات بـ "تأميم" شركات بعينها منعا لاضطرارها إعلان إفلاسها، وتيسيرا لعملائها، ولاسيما أولئك الذين يحتاجون حقا للتغطية المالية، من هذه الكارثة أو تلك. لا شك في أن الإدارة الأمريكية تدرس كل الخيارات في مسألة الأعاصير التي ضربت البلاد (ولا تزال) هذا الموسم. فالمسؤولية لا تتوقف هنا عند إنقاذ المتضررين، بل تمضي قدما إلى مرحلة تعويضهم خصوصا أولئك الذين كانوا يلتزمون بالحفاظ على بوالص تأمين لمثل هذه الأوقات العصيبة. وشركات التأمين الأكثر براعة، هي تلك التي استطاعت أن توزع المخاطر على أكبر عدد من الجهات التأمينية. صحيح أن أرباحها ستنخفض، لكنها تضمن على الأقل الاستمرار بصورة طبيعية لأطول فترة ممكنة، ولمواجهة مزيد من الكوارث الطبيعية التي لن تتوقعها، وإن فعلت فهي ستفشل في تقدير أضرارها.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية)

«حرب أهلية» منوعة في بريطانيا



"ما تحتاج إليه بريطانيا سيدة حديدية" 
مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة 


كتب: محمد كركوتي

في بريطانيا.. كل شيء صار متصلا بـ "بريكست"، حتى إن النقص في عدد القابلات، وسائقي الحافلات، ومرشدي القطارات، والعاملين في الإطفائيات، بات يعلق على مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كأن "الحلم" تحقق في العثور على حامل للمشكلات الصغيرة والكبيرة في هذا البلد. حزب المحافظين الحاكم أكثر من منقسم، وحزب العمال المعارض فيه من الفوضى ما يكرس الانقسام. ناهيك عن الانقسام المتصاعد بين أولئك الذين يعدون الأيام لتحقيق الانفصال عن الاتحاد، وبين الشريحة التي لا تزال تأمل في معجزة ما تؤخر "على الأقل" هذا الانفصال. بريطانيا الآن، ليست سوى ساحة للاتهامات المتبادلة التي طالت حتى كبار السن الذين يتحملون مسؤولية ترجيح كفة المقاتلين من أجل الطلاق الأبدي من الاتحاد الأوروبي. هل هي "حرب أهلية" حقا؟ لا يوجد توصيف أكثر ملاءمة من ذلك. المفاوضون من جهة الحكومة مع الاتحاد الأوروبي، يتعرضون لضربات من زملائهم في الحكومة نفسها! ووصلت هذه الضربات إلى حد التصادم في آليات الانسحاب بل أهدافه! في حين أن الطرف الآخر "الاتحاد الأوروبي" يمضي قدما في مواقف أوروبية متجانسة إلى حد التطابق في كل المحاور المطروحة. المشهد البريطاني، أصبح حديث أوروبا من حيث "الولدنة" السياسية البريطانية، في مسألة مصيرية بكل معنى الكلمة. فكل خلاف بريطاني محلي، هو في الواقع انتصار أوروبي لا يحتاج إلى جهد لا في المفاوضات ولا في المناورات. ولا ينقص إلا أن يقول الأوروبيون لشركائهم المنسحبين: اتفقوا على موقف واحد وتعالوا للتفاوض، لا وقت لدينا للمهاترات. في لندن.. حكومة ضعيفة، ضعيفة جدا، تقودها رئيسة وزراء تحكم بائتلاف هش، بل مضحك من حيث التكوين. ناهيك عن أن تيريزا ماي استمرت في موقعها كرئيسة للوزراء بعد انتخابات عامة خسرت فيها أغلبيتها. ولهذا السبب وغيره، بدأ بعض أركان حزبها العمل على إزاحتها في أسرع وقت ممكن. وانطلق بعض الأركان الآخرين إلى إزاحة رئيس وزراء محتمل هو وزير المالية فيليب هاموند، الذي يمثل في نظر هؤلاء خطرا داهما، باعتباره أكثر اعتدالا في مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهذا الأخير أعلن مواقفه في أكثر من مناسبة، ولا سيما تلك الداعية إلى استمرار عضوية بريطانيا حتى بعد الموعد النهائي للانسحاب لعامين إضافيين على الأقل، من أجل تأمين انسحاب سلس لا يضرب الآليات التنفيذية على الساحة البريطانية. هاموند نفسه الذي وقف إلى جانب تيريزا ماي للوصول إلى زعامة الحزب في أعقاب استقالة الزعيم السابق ديفيد كاميرون، يتعرض لانتقادات من ماي مباشرة، خصوصا أن الأخيرة لا تريد التوقف عن تملق قادة تيار الانسحاب "بريسكت"، أملا في أن يقفوا إلى جانبها في أي محاولة جديدة لعزلها. فهي تعلم أنها تعيش وتحكم على حافة الهاوية، كما أنها لم تعد تمثل ملجأ لا لجبهة الانسحاب، ولا لتكتل البقاء. إنها تسعى إلى البقاء في المنصب أطول فترة ممكنة، على أمل حدوث معجزة ما تكرسها زعيمة للحزب ورئيسة للوزراء حتى موعد الانتخابات العامة المقبلة بعد خمس سنوات تقريبا! غير أن الحقائق على الأرض لا تشير إلى إمكانية حدوث ذلك، بينما المرجح ألا تبقى في هذا الموقع في العام المقبل. فوضى "بريسكت" أكملت دائرة "الحرب الأهلية" الناعمة. إنها "حرب" انتخابية استفتائية سياسية. ويمكن القول أيضا، إنها "حرب الزعامات" كما هي "حرب" الرأي العام. لكن المشكلة تكمن أيضا في عدم وجود زعامات بديلة قوية، فيما لو استثنينا وزير المالية هاموند، علما بأن هذا الأخير قد لا يصمد طويلا أمام الحرب التي يشنها الانفصاليون عن أوروبا ضده. غير أن الأهم من كل هذا، هو المشهد العام في المملكة المتحدة، وآفاق التغيير في هذا البلد على المديين المتوسط والبعيد. فالهم لا ينحصر في انسحاب سلس أو قاس من الاتحاد الأوروبي، بل يشمل أيضا "انسحابات" بريطانية داخلية محتملة ترتبط بالموقف الاسكتلندي والإيرلندي الشمالي. وهذه الانسحابات ما كانت لتطرح على الساحة، لولا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي أساسا. ليس هناك بارقة أمل واحدة بأن تعيش بريطانيا استقرارا سياسيا في السنوات المقبلة. ليس فقط بسبب وجود حكومة ائتلافية هشة، بل أيضا من جهة التحولات الخطيرة التي سيتركها الانسحاب من أوروبا في الساحة البريطانية. خصوصا، بعد أن تكشفت أكاذيب معسكر "بريسكت" بشأن الوفر المالي البريطاني الذي "سيتحقق" بمجرد الانسحاب! يضاف إلى ذلك التركيبة البنيوية التي تركتها المعايير الأوروبية والتراكم الذي خلفته عضوية بريطانيا في الاتحاد على الساحة في المملكة المتحدة. ومن الآن حتى عام 2019 "موعد الخروج الفعلي البريطاني"، ستشهد بريطانيا مزيدا من التخبط السياسي الداخلي، وكثيرا من التشتت في المفاوضات التاريخية الخاصة بالانسحاب. كل شيء مرهون بطبيعة اتفاق الخروج. دعك من شعارات تيريزا ماي، ولا سيما تلك التي اعتبرت فيها أن الخروج بلا اتفاق أفضل من اتفاق سيئ.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

«الرشاقة» تخفض أقساط التأمين




"هناك ما هو أسوأ من الموت في هذه الحياة. هل قضيت أمسية مع سمسار تأمين؟" 
وودي ألان ممثل ومخرج وكوميدي أمريكي


كتب: محمد كركوتي

 أكثر المؤسسات تدقيقا في تاريخ وحاضر ومستقبل عملائها هي المصارف وشركات التأمين. الأولى، لكي تضمن قروضها خوفا من أن تتحول لاحقا إلى معدومة أو سيئة أو مشكوك في تحصيلها. والثانية، من أجل تقليل أكبر للمخاطر، بصورة تحفظ أرباحها أو على الأقل تحد من تراجع هذه الأرباح. أسئلة هذه المؤسسات للعملاء تشمل تقريبا كل شيء، من تاريخ الأمراض القاتلة في الأسرة، إلى عدد السجائر التي يدخنها العميل إن كان مدخنا، إلى شرب الكحول، والهوايات الخطيرة التي ربما يمارسها. هناك أسئلة من شركات التأمين مثلا، حول عمر السيارة التي يقودها، وأخرى من المصارف بخصوص مستوى "كرم" العميل مع أهله أو أصدقائه، وليس الإنفاق فقط. "تحريات" تنال مباشرة من صميم الخصوصيات الشخصية. بعض الأسئلة يمكن اعتبارها مهينة، وبعضها الآخر بشع وغير قابلة للإجابة. في إحدى المرات تمادى أحد المصارف البريطانية وتحرى عن مستوى الحب بين زوجين يطلبان قرضا كبيرا! وما لا شك فيه أن لهذه المؤسسات طرقها السرية في التحري، ولجانها النفسية في صناعة الأسئلة. والهدف طبعا، يبقى ضمان أرباحها وعدم تعرضها للخسائر. في السنوات التي أعقبت الأزمة الاقتصادية العالمية، غرقت غالبية هذه المؤسسات، بحيث طلبت العشرات منها (ولاسيما الكبيرة) الحماية من الحكومات. بعيدا عن هذا الجو "الاستخباراتي" و"الجيمس بوندي" الذي يتعرض له العميل، بدأت شركات التأمين (خصوصا في الولايات المتحدة)، صيغة جديدة في إطار الحفاظ على أرباحها. وهي من النوع الذي يصعب حقا الهجوم عليه أو تعريته. وتتلخص في تشجيع هذه الشركات لعملائها على ممارسة الرياضة بصورة منتظمة، مقابل تخفيض أقساط التأمين الشهرية عليهم! وبالطبع لا تكتفي هذه الشركات بـ "كلمة شرف" من العميل بأنه يمارس الرياضة، وأنه لا يمكنه أساسا بدء يومه إلا بها. هذا لا قيمة له. فلا شك في أن الجميع سيقولون ذلك إذا ما كان الأمر يتعلق بتخفيف الأعباء المادية، وربما ذهبوا "متعرقين" ولاهثين إلى موظف شركة التأمين للتأكيد على صدقهم! أو قد يجلبون بطاقات اشتراك في أحد النوادي الرياضية، وحتى شهادات من مدرب. ولأن الأمر بالقطع مشكوك فيه، فقد اعتمدت الشركة صيغة متطورة ولكنها قد تبدو مهينة بعض الشيء. ماذا فعلت؟ عرضت على عملائها لبس أساور إلكترونية تقيس عدد الأمتار التي يقطعونها، بل عدد السعرات الحرارية التي يحرقونها! وبالطبع هذه إشارة واضحة على مدى إيجابية صحة العميل المستهدف. بالتأكيد هي صيغة جيدة من الناحية الشخصية المباشرة للشخص المعني. بعض الناس باتوا يستخدمون هذه الأساور طواعية ودون ربطها أساسا بالتأمين أو غيره، والبعض الآخر يلجأ للهواتف الذكية التي توفر هذه الخدمات الصحية المتطورة جدا. وهي ببساطة، آلية مراقبة للجسم وحراكه، توفر أرقاما غالبا ما تكون محفزة للقيام بالمزيد، باستثناء أولئك الذين يشعرون بالإحباط السريع من كل شيء. أساور شركات التأمين، لا تعني بالضرورة (مثلا) أن التأمين الصحي على أبطال الجري، أو ألعاب القوى، أو أي رياضات أخرى.. سيكون مجانيا. لا أحد يحلم بذلك. فالتأمين وُجد للربح أولا. المهم في الأمر هو حساب احتمالات الوقوع في الأمراض، ولاسيما تلك الناجمة عن البدانة والغذاء السيئ، وبالطبع عدم ممارسة الرياضة أساسا. ورغم الشكوك التلقائية التي تحيط بشركات التأمين عموما (وهي شكوك باتت بدهية طبيعية)، إلا أن هذه الشركات تتعرض لخسائر بالفعل، أو على الأقل تواجه انخفاضا كبيرا في أرباحها. ففواتير الأدوية ترتفع مع ارتفاع مستويات استهلاكها، وأسعار هذه الأخيرة نفسها لا تتوقف عن القفز إلى الأعلى، رغم كل المطالبات العالمية لشركات الإنتاج بخفض الأسعار و"الرحمة". وقيمة الدواء المرتفعة لا تختص بشركات التأمين فقط، بل تشمل بالدرجة الأولى أولئك الذين لا يستطيعون الحصول على الخدمات التأمينية الصحية أصلا، ويضطرون لشراء أدويتهم من مداخيلهم وغالبيتها محدودة، ما يؤثر سلبا في إنفاق الأسر على أمور أخرى ذات أهمية كبرى أيضا. اللافت في الأمر، أن المؤسسات التي تقوم بالتأمين الصحي على موظفيها انضمت إلى شركات التأمين في عروضها الجديدة. والأمر مفهوم بالطبع، فهذه المؤسسات هي التي تدفع أقساط التأمين الواجبة على الموظفين، وبالتالي فإن الخفض المعروض للأقساط بمجرد وضع "أساور الرشاقة" يعود بالفائدة عليها أيضا. في العام الماضي بلغت نسبة الشركات الأمريكية (وأصحاب العمل) التي زودت موظفيها بهذه الأساور أكثر من 37 في المائة. وهذا معدل مرتفع، ولاسيما أن الفكرة نفسها حديثة الطرح. ما يعني أن شركات أخرى كثيرة ستنضم إلى حملة الرشاقة الجديدة، التي تهدف بالدرجة الأولى لتوفير الأموال على المؤسسات وأصحاب العمل وشركات التأمين، ولا بأس إن كان لها انعكاسات إيجابية على صحة الأفراد المستهدفين. بمعنى أن الهدف مالي- صحي، وليس العكس.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

غرامات لبيع الأوهام




"البنك هو المكان الذي يقدم لك القروض، شرط أن تثبت أنك غير محتاج إليها"
بوب هوب، كوميدي أمريكي راحل

كتب: محمد كركوتي
اعتبر البعض أن الغرامات التي دفعتها المصارف الغربية، على وجه الخصوص، بسبب التلاعب الذي أدى إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، شكلت رقما صادما. في حين يمكن القول، إن الخسائر التي مني بها الاقتصاد العالمي بسبب الأزمة المشار إليها، يزيل الصدمة الناجمة عن قيمة الغرامات. ببساطة الخسائر الهائلة تبرر أي غرامات تفرض على المؤسسات المالية العالمية كلها تقريبا. فإذا اعتبر أن المصارف الأمريكية والأوروبية دفعت ما يقرب من 150 مليار دولار كغرامات للسلطات المختصة، بسبب تلاعبها بالمشتقات المالية، وقيامها بعمليات تضليل، بل هناك مصارف مارست الخداع والكذب بصورة منهجية. إذا اعتبر هذا الرقم صادماً، فكيف هو الحال مع خسائر الاقتصاد العالمي كله أكثر من 45 في المائة من قيمته في غضون أيام؟ في حين يعرف الجميع أن القيمة المكتسبة لهذا الاقتصاد لا تحسب بالأيام بل بالعقود.
بعد مرور عشر سنوات تقريبا على انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، لا يزال الاقتصاد العالمي يعاني مشكلات كثيرة، على الرغم من قيام الحكومات بفرض قيود صارمة على عمل المؤسسات المالية، تأخرت في الواقع بفرضها أكثر من ثلاثة عقود على الأقل. كانت هذه الحكومات تعيش وهم النمو الاقتصادي من خلال تسهيل عمليات الاقتراض، ولا سيما تلك التي لا تستند إلى أي ضمانات مصرفية مقبولة. الحكومات، كما هو معروف، غضت الطرف عن التسيب المالي للمصارف، بهدف تحريك السوق أولا، والحصول على الشعبية الكفيلة بإعادة انتخابها، خصوصا بعد أن شهد العالم الغربي حكومات هشة حكمت في السنوات القليلة التي سبقت انفجار الأزمة الاقتصادية المشار إليها.
على كل حال، وصول مجموع الغرامات على المصارف الغربية بسبب التلاعب "عقابا عن الأزمة بالطبع" إلى 150 مليار دولار ليس كبيرا، والحق أن هذه الغرامات تبدو قليلة، ولا سيما في أعقاب نجاح عدد كبير من المصارف والمؤسسات المالية، بالتوصل إلى تسويات مع الحكومات المعنية، لتقليل حجم الغرامات، مقابل الاعتراف بالأخطاء، والتعهد بعدم تكرارها. فلو فرضت الغرامات بالفعل بتجرد وبعيدا عن الصفقات التي تتم خارج المحاكم، لوصل هذا الرقم إلى مستويات كبيرة، وربما اقترب من ألف مليار دولار. دون أن ننسى، أن مصرفا واحدا أو مؤسسة مالية واحدة على الساحة الغربية لم يكن (أو تكن) بريئا من خطايا الأزمة. فالجميع غرق في وهم القروض، حتى أكبر المصارف وأكثرها عراقة، على أمل أن تحدث معجزة ما! الذي حدث أزمة قال عنها رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق "إنها لا تحدث إلا كل 100 عام".
الحق، أن الغرامات التي تفرضها الحكومات والمحاكم على المصارف والمؤسسات المالية الغربية، لا تختص بالأزمة ومسبباتها. هناك غرامات تفوق تلك الخاصة بالتلاعب المالي قيمة، وتتعلق بتبييض الأموال والدعم المباشر وغير المباشر للإرهاب، وتلك الناتجة عن عمليات غير مشروعة كتجارة المخدرات والبشر وغير ذلك. غير أن بعضها يخضع أيضا للتسويات خارج نطاق القضاء، ما يخفض تلقائيا الغرامة الكلية المستحقة. وفي السنوات العشر الماضية، قررت بعض المؤسسات المالية أن تذهب بنفسها للحكومات والاعتراف بجرائم تبييض الأموال، للحصول على أقل قدر ممكن من الغرامات، التي وصل بعضها على مصرف واحد إلى 18 مليار دولار، وآخر 13 مليار دولار، وهما في الولايات المتحدة. بينما هناك قضايا مماثلة تخص المصارف الأوروبية.
وبعيدا عن غرامات "التبييض" والمخدرات ودعم المنظمات الإرهابية، يمكن القول إن المصارف والمؤسسات المالية الغربية نجت بالفعل من غرامات كبرى بسبب سلسلة من المخالفات المتعلقة بالمشتقات المالية الوهمية أو المبالغ فيها، فضلا عن تضليل المستثمرين في الأوراق المالية، خصوصا تلك المربوطة بالعقارات. دون أن ننسى، أن بعض المؤسسات تم إنقاذها بالفعل من قبل الحكومات، التي اضطرت إلى استخدام الأموال العامة للإبقاء على هذه المؤسسات، أو على الأقل لتقليل الخسائر الناجمة عن الحقائق التي كشفتها الأزمة الاقتصادية نفسها. هذه الأخيرة كانت جيدة من هذه الزاوية. وكشفت الغطاء عن الوهم الذي عاشته الساحة المالية (ومعها الاقتصادية) طوال أكثر من ثلاثة عقود. إن 150 مليار دولار لا تعتبر شيئا كبيرا، لأضرار لن تعوض قبل عدة عقود. نعم قبل عدة عقود.
من المفارقات، أن المصارف والمؤسسات المشار إليها، تم إنقاذها من أموال ضحاياها! وكأن الزمن لا يرضى بمصيبة واحدة لهؤلاء الضحايا بل أرادها مصيبتين. وفي كل الأحوال، كانت التغييرات التشريعية والقانونية التي أحدثتها الحكومات الغربية ذات وقع إيجابي بالفعل، الأمر الذي قاد إلى التحقيقات التاريخية مع المصارف والمؤسسات المالية، ومنها إلى غرامات. لكن المهم هنا ليس العقوبات المالية، بل ضمان عدم عودة المصارف إلى بيع الأوهام، والالتزام بما هو موجود على الأرض فعلا. هذه المصارف دخلت التاريخ كمخرب اجتماعي قبل أن تكون مخربا اقتصاديا.
(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

مناضلو الـ «بريكست»



"وزراء بارزون مقتنعون بالحاجة إلى إجراءات انتقالية لتقليل اضطرابات خروج بريطانيا" 
فيليب هاموند وزير المالية البريطاني

كتب: محمد كركوتي

 في بريطانيا الحدث الذي لا ينتهي، يبقى دائما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما أنه الحدث الأكثر حضورا في كل وسائل الإعلام، سواء تلك التي تعنى بالشأن السياسي الاقتصادي العام، أو التي تتعاطى بالقضايا الاجتماعية الشعبية، فكل شيء بات مرتبطا بالانسحاب من الاتحاد، بما في ذلك مستقبل العلاقات بين مكونات المملكة المتحدة نفسها. وكلما انتهت جولة من مفاوضات الخروج بين لندن والمفوضية الأوروبية، ارتفعت حدة الخلافات الداخلية في بريطانيا، ليس بين أحزاب متعارضة، بل بين مسؤولين منتمين للحزب نفسه، إلى درجة أن اتهمت رئيسة الوزراء تيريزا ماي بأنها لا تستطيع السيطرة على حكومتها، وأن عليها الرحيل في أول فرصة ممكنة. فالفوضى حيال أوروبا لا تأتي من الخارج، بل هي في عمق الداخل أيضا. في ظل هذه الأجواء، أصبحت الاتهامات المتبادلة أكثر عنفا من الناحية اللفظية. لم تعد اللغة السياسية البريطانية التقليدية الهادئة المعروفة حاضرة في بعض الساحات الجدلية. من بينها، على سبيل المثال، ما قاله زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي فينس كيبل عن أولئك المتحمسين لاستكمال عملية انسحاب بريطانيا "بريكست" وفق الخطة الزمنية الموضوعة لها. ماذا قال هذا السياسي المخضرم؟ "إن أولئك الذين يدعمون «بريكست» ليسوا إلا جهاديين"، وهذا تعبير عنيف في ظل المفهوم الإعلامي والسياسي البريطاني في كل الأحوال. الواضح أن كيبل كان يريد استخدام كلمة "إرهابيين" لكنه لا يستطيع ذلك لأسباب تتعلق بتهم كبيرة للغاية، لن يقوى السياسي البريطاني ولا غيره على الدفاع عنها. في الجانب الآخر من الضفة البريطانية، استخدم مؤيدو "بريكست" لغة ليست أقل عنفا من هذه. وبات واضحا أنه كلما انتهت جولة مفاوضات (حتى الآن لم تحقق هذه المفاوضات أي تقدم)، ارتفعت حدة التوتر في كل الأوساط السياسية البريطانية، والأمر بالطبع ليس كذلك على الجانب الأوروبي. الأوروبيون حسموا أمرهم، بل وضعوا استراتيجية لخروج بريطانيا، قد تدفع لندن للخروج من دون اتفاق (كما هددت تيريزا ماي) وبالتالي اندلاع حرب تجارية ونفسية بين الطرفين. وكانت رئيسة الوراء قد أعلنت سابقا "أن الخروج بلا اتفاق، أفضل من الخروج باتفاق سيئ". ولكن لا تتحدث عن فواتير الخروج بلا اتفاق على بريطانيا في الدرجة الأولى. والحق أن ماي لا تمتلك رؤية عملية للخروج حتى الآن، يضاف إلى ذلك الخلافات – الفضيحة بين وزرائها حول كيفية الانسحاب، والعلاقة المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي. وهذه النقطة الأخيرة، دفعت وزراء في الحكومة للطلب علنا بإقالة وزير المالية القوي فيليب هاموند، لا لشيء، إلا لأنه يدعم فكرة بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي لمدة عامين بعد انتهاء مفاوضات الخروج، من أجل ضمان فترة انتقالية أقل اضطرابا بالنسبة للبريطانيين قبل الأوروبيين. وكدفاع غير مباشر من زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي على هاموند المحافظ، أطلق وصفه القوي على "البريكستيين" –إن جاز التعبير- بأنهم جهاديون. فهؤلاء يهددون أي سياسي بالإقالة أو إجباره على الاستقالة لمجرد أنه طرح رأيا أقل حدة حيال الانسحاب، أو عرض رؤية تضمن انسحابا سلسا من منطقة تشكل الأهمية الأكبر بالنسبة للمملكة المتحدة على صعيد الشراكة. بالطبع ليس سهلا أن يستقيل هاموند أو يُقال، فهو الأقوى عمليا داخل الحزب والحكومة، حتى أنه أقوى من رئيسة الوزراء نفسها. "الحرب" في الساحة المحلية البريطانية تتخذ طابعا عنيفا يوما بعد يوم، وهي بالفعل تمزق الشكل العام المعروف للسياسة البريطانية الهادئة. كل الأطراف تدعي أنها تحارب من أجل مصلحة بريطانيا، وكلها تعلن أنها على حق. وكل ذلك يتم في غياب جسم سياسي قوي يمكنه بالفعل أن يقوم بدور مضمون لمصلحة المملكة المتحدة. الحكومة مهزوزة وتحكم عبر ائتلاف هش مع حزب إيرلندي محافظ إلى أبعد الحدود. الحكومة نفسها منقسمة بين أعضاء الحزب الواحد. أحزاب المعارضة الأخرى، مهما حققت من قوة في الانتخابات العامة الأخيرة، لا تزال دون مستوى أن تحكم البلاد. أما على الجانب الأوروبي، فالمفوضية في بروكسل ليست مستعجلة كثيرا على استكمال المفاوضات، لأن بقاء المفاوضات تدور يكلف بريطانيا أكثر مما يكلف الاتحاد. فلندن، مثلا، لا تستطيع عقد أي اتفاق تجاري مع أي جهة في العام قبل نهاية المفاوضات، بل إن الاتفاقات الأخرى ممنوعة عنها قبل ذلك. ستظهر ألفاظ أقوى شيئا فشيئا. فعندما تقترب ساعة الحقيقة، تنتهي في الواقع معايير المنطق. هناك حرب أهلية في الحكومة، ومثلها على مستوى الوطن، وحرب مشابهة من جهة الأقاليم نفسها. والأوروبيون ينظرون إلى هذه الفوضى الخطيرة بالفعل على تركيبة المملكة المتحدة نفسها. ينظرون إليها عبر مياه "القنال"، ليسوا متعجلين لشيء، وليسوا خائفين من شيء. بل لم يكونوا متضامين في السابق كما هم الآن حول الموضوع البريطاني.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

العبودية المتجددة




"الموت أفضل من العبودية"
هاريت آن جاكوب، كاتبة إفريقية أمريكية راحلة

كتب: محمد كركوتي

لا .. ليست العبودية شيئا من الماضي. إنها حاضرة في عدد كبير من البلدان، بما فيها البلدان المتقدمة. ورغم أن انتشار العبودية في منطقتي آسيا والمحيط الهادئ الأكبر مقارنة بغيرهما من مناطق العالم، إلا أن هذه الآفة المشينة موجودة ضمن مجتمعات من المفترض أنها انتهت فيها منذ قرون. والسبب أن هناك دوما من يستطيع التحايل على القوانين، وإخفاء الأعمال المخجلة التي تلوث أصحابها. إلا أن هذا الوضع لا يعني أن الجهود التي بُذلت في القرن الماضي من أجل إنهاء العبودية بكل أشكالها ذهبت هباء، لكن وجود نسبة كبيرة من المستعبدين هنا وهناك، يغطي على النجاحات التي تحققت في السابق. فقضية عبودية واحدة، بصرف النظر عن موقعها، يمكنها أن تمحو كثيرا من الآثار الإيجابية للحرب على العبودية، وتقلل من وهج الحراك العالمي الرسمي وغير الرسمي في هذا المجال.
في العام الماضي توصلت سلسلة من الدراسات والتحقيقات الاستقصائية إلى أن هناك أكثر من 45 مليون شخص يعيشون تحت نير العبودية، بل إن هناك أنواعا مستحدثة لهذه الآفة القبيحة. وتأتي هذه النتيجة بعد أقل من عامين، على دراسة أجرتها مؤسسة "ووك فري" العالمية، أظهرت هي الأخرى ارتفاعا مخيفا في مؤشر العبودية بلغ 28 في المائة. وهذا يعني أن الحملات التاريخية على العبودية لم تحقق أهدافها تماما، وأنه لا بد من العمل سواء في ظل الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية وحتى الجمعيات الخيرية. وهذه الأخيرة تمثل محورا رئيسا على أرض الواقع في هذا المجال، ولاسيما تلك التي ترتبط بعلاقات مباشرة مع الهيئات التابعة للمنظمات الدولية الكبرى.
بالطبع، لم يعد الشكل القديم للعبودية هو السائد، خصوصا ذاك الذي يستند إلى البيع والشراء وتملك العبد وغير ذلك. رغم ضرورة الإشارة إلى وجود هذا النوع فعلا في مناطق نائية جدا وغير متصلة بالعالم بصورة طبيعية. أشكال العبودية الحديثة متنوعة تراوح بين تهريب البشر، والدعارة القسرية، وتجنيد الأطفال، والعمالة القسرية، واستغلال الأطفال في تجارة المخدرات، وغير ذلك من الوسائل والطرق، التي قد تكون غير مكتشفة حتى للجهات المختصة في الحرب على العبودية بشكل عام. والأسباب الرئيسة (بحسب الأمم المتحدة) وراء وجود هذه الأنواع من العبودية الحديثة (أو المتجددة)، يبقى الفقر والتمييز والاستعباد الاجتماعي. وما لا شك فيه أن كثيرا من الحكومات لا تقوم بما يكفي لمنع انتشار العبودية أو الكشف عن أشكالها المستحدثة. ولذلك فإنها تتحمل المسؤولية الأولى عن تفشي هذا العار الإنساني.
صحيح أن "مؤشر العبودية" لا يجري على أساس إحصائيات رسمية، لأن ذلك مستحيل على اعتبار أن الناس الذين يمارسون العبودية لا يمكن أن يفصحوا عن ممارساتهم. غير أن الصحيح أيضا أن البيانات الخاصة بـ 167 بلدا، تم استخلاصها من نحو 43 ألف مقابلة بـ 453 لغة، لتحديد عدد البشر المستعبدين وكيفية تعامل الحكومات مع ذلك. والنتائج التي تم التوصل إليها مروعة في الواقع، خصوصا مع ارتفاع العبودية في بلدان كالهند والصين وباكستان وبنجلادش وأوزبكستان. في هذه الأخيرة وحدها تم إحصاء ما يزيد على 1.23 مليون عبد، في حين يرتفع العدد في الهند إلى 3.4 مليون. مرة أخرى هذه الأرقام تعتبر في حدها الأدنى، لصعوبة الوصول إلى كل الحالات الحقيقية هنا وهناك.
ووفق الإحصاءات الأخيرة، فقد احتلت كوريا الشمالية المركز الأول من حيث انتشار العبودية. فإذا كان مفهوما انتشار هذه الآفة في بلد كهذا مغلق على نفسه، وتمارس حكومته على شعبها أبشع أشكال الممارسات، فكيف نفهم مثلا ارتفاعها في بلد كالهند بات يلعب دورا رئيسا على الصعيد العالمي من حيث الإنتاج، وكذلك الأمر مع الصين التي تحتل المركز الثاني كأكبر اقتصاد على وجه الأرض. وهنا تكمن مشكلة كبيرة، تتعلق بمفهوم العالم للبلد الكبير، أو الدولة العظمى، أو ما شابه من توصيفات يروق لكثير من الحكومات إجهاد نفسها للحصول عليها. لا يعقل (مثلا) أن تكتسب توصيفا ما من هذه التوصيفات، بينما تشهد أراضيها أشكالا مرعبة من العبودية المتجددة! بل حتى توصيف "الناشئة" لا ينطبق عليها.
بالطبع، المسؤولية تقع على عاتق كل الجهات، وفي مقدمتها الأمم المتحدة نفسها، التي ينبغي عليها أن تكون أكثر "عدوانية" مع هذه الدولة أو تلك، من أجل الوصول إلى الهدف السامي بإنهاء العبودية بكل أشكالها (ولا سيما الجديدة)، ووضع تشريعات عالمية جديدة أيضا تتماشى مع التطورات البشعة للعبودية. يضاف إلى ذلك، هناك مناطق كثيرة في بلدان إفريقية وآسيوية وحتى في أمريكا اللاتينية، لا تصل إليها السلطات الحكومية للبلدان نفسها، فكيف الحال بالسلطات الدولية التابعة للأمم المتحدة؟ وهذه أيضا مهمة كبيرة أمام المجتمع الدولي. لأن هذه المناطق تمثل التحدي الخطير المقبل، لكل من يرغب في إيقاف العبودية، ونشر ما أمكن من الإمكانات الخاصة بالتعليم والعمل والصحة فيها.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

مصارف هاربة من مدينة الأموال





"باريس تبقى دائما وأبدا فكرة جيدة" 
أودري هيبورن ممثلة وناشطة اجتماعية بريطانية راحلة 

كتب: محمد كركوتي

وسط الفوضى الحقيقية على الساحة السياسية البريطانية، وهشاشة الحكومة والحزب الأكبر الحاكم فيها، والتناحر بين المسؤولين البريطانيين أنفسهم، وضعف رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على كل المستويات، وتأكيدات تلو الأخرى من الجانب الأوروبي بألا تفكر لندن في مفاوضات خروج سهلة من الاتحاد، في ظل هذه الأجواء المضطربة غير الحاسمة كلها، تفقد لندن شيئا فشيئا وجهها المصرفي التاريخي الكبير. هذه المدينة لا توفر في الواقع إلا الخدمات المالية وعقارات وبعض المعالم التراثية، وتمد المملكة المتحدة بأكثر من 22 في المائة من ناتجها الإجمالي المحلي، ليس عن طريق صناعة السيارات (مثلا) ولا البتروكيماويات ولا تصنيع السفن والناقلات العملاقة، ولا إنتاج الطاقة. لا شيء إلا الخدمات المالية الهائلة المتنوعة، ناهيك عن المقاصة في العاصمة التي يصل حراكها اليومي إلى 2.1 تريليون دولار. بينما تمثل عمليات المقاصة الخاصة باليورو حجر الزاوية. مفاوضات الانفصال الفعلية التي بدأت الشهر الماضي تجري في أجواء من الكآبة وعدم وضوح الرؤية، وتمسك الطرف الأوروبي بصورة قوية بمواقفه، مع اهتزازات واضحة في الموقف البريطاني. لكن ما يجري بصورة واضحة، تبقى العمليات الخاصة بانتقال المصارف الكبرى من لندن إلى وجهات أوروبية مختلفة، وإن كانت باريس هي الوجهة الأكثر احتمالا حتى الآن. صحيح أن أيا من المصارف لم ينتقل بعد، لكن التحضيرات تجري بالفعل على الجوانب الإجرائية واللوجستية وغيرها. فعمليات الانتقال هذه لا تتم بسرعة، وهي تتطلب تحضيرات واسعة، تضمن انتقالات سلسة لا تؤثر في أدائها. وهذا ما تفعله المصارف المشار إليها "بما فيها المصارف الأمريكية"، تدرس الاحتمالات كلها، لكن المؤكد يبقى أنها ستخرج من لندن إلى الأبد. مع وصول إيمانويل ماكرون إلى الحكم في فرنسا، كانت أولى الخطوات التي قام بها، العمل على تعديل القوانين العمالية والإجراءات الضريبية الخاصة بالشركات. والسبب واضح بالطبع، يعود إلى جعل فرنسا بشكل عام وباريس على وجه الخصوص حاضنة للمصارف والمؤسسات المالية والشركات وغيرها من تلك التي ترغب في مغادرة بريطانيا. وتخشى المؤسسات المالية وغيرها في الواقع القوانين الفرنسية الصارمة حيالها التي تصب في مصلحة الموظفين والعمال أكثر، ما يجعلها غير مرغوبة من جانب هذه الجهات. يضاف إلى ذلك، أن ضرائب الشركات في فرنسا تعد الأعلى، مقارنة ببقية البلدان الأوروبية الأخرى، وحتى على المستوى العالمي، وهذا أيضا عامل طارد من الناحية الاستثمارية. الأوقات تغيرت، وتبدلت في الواقع بصورة دراماتيكية بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبحث المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين ومؤسسات إدارة الأصول عن مكان بديل عن لندن. اللافت أن المصارف البريطانية نفسها تبحث عن مركز ثان لها في أعقاب خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي. فقد أعلن مصرف "باركليز" أنه سيؤسس مركزا ثانيا في العاصمة الإيرلندية دبلن، إلى جانب سلسلة من البيانات الصادرة عن مصارف بريطانيا تظهر رغبتها في نقل بعض أعمالها إلى خارج البلاد. رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب كان واضحا بالإعلان عن أن الحكومة "عازمة على جعل باريس أكثر تنافسية وجاذبية". وهذا يعني أن الحكومة ستلغي أعلى فئة من الضرائب على رواتب المؤسسات التي لا تدفع ضريبة القيمة المضافة. فرانكفورت وباريس وأمستردام ودبلن وفيينا ولكسمبورج وغيرها من العواصم والمدن الأوروبية كلها مهيأة لاستقطاب المؤسسات الهاربة من عاصمة المال لندن، بما فيها شركات الطيران وغيرها. لكن تبقى العاصمة الفرنسية الأكثر جاذبية ليس من الناحية التشريعية (التي من المتوقع أن تتغير لمصلحة الشركات والمؤسسات)، بل من ناحية الحياة الاجتماعية العامة. وهي المفضلة قياسا ببقية المدن الأخرى بعد لندن التي تتصدر حتى بمناخها المتقلب (غير الصديق) قائمة المدن التي يتدافع الناس إليها، ويرغبون في العيش فيها. لكن هذه الأخيرة باتت طاردة للأعمال لمجرد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وخسارة ميزات الحدود المفتوحة مع 27 دولة. ليس أمام لندن مساحة زمنية طويلة للحفاظ على ما أمكن لها من هذه المؤسسات. الأعمال لا تهتم بالموقف السياسي بقدر ما تهتم بالمكاسب التي ستحققها في هذه البقعة الجغرافية أو تلك. ويبدو الرئيس الفرنسي القوي ماضيا إلى الأمام لتلقف "الفارين" من بريطانيا، وسن تشريعات جديدة وتلطيف تشريعات أخرى. فالفرصة تاريخية أمام باريس. وهي لا تتنافس اليوم مع لندن، لأن العاصمة البريطانية أضعف من أن تكون منافسا. باريس (وغيرها من المدن الأوروبية الكبرى) تتنافس مع نفسها من أجل "غنائم" لندن. مع الإشارة إلى أن هذه الأخيرة كانت تتلقف "الغنائم" تلو الأخرى حتى وقت قريب، سواء قامت بتسويق نفسها لتحقيق ذلك، أم لم تقم. إنه التاريخ مجددا بين مدينتين. وهو الآن تاريخ يصنع نفسه آنيا، ونتائجه ستبدو في الأفق القريب.. القريب جدا.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")