الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

الفيلم الأوروبي الطويل: من أجل مئات المليارات من الدولارات ؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")









" الديون والأكاذيب، غالباً ما تتماهى مع بعضها البعض "
فرانكوس رابيليس مؤلف وكاتب فرنسي


محمد كركوتـي


المشهد الأول من الفصل الثاني للقصة الحقيقية التي تحمل عنواناً مخيفاً هو "ديون الاتحاد الأوروبي" أو " من أجل مئات المليارات من الدولارات" ( عرض الفصل الأول مستمر!).. يقف رئيس الاتحاد هيرمان فان رومبوي، معلناً بصوت درامي أن "منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي بأسره لن يبقيا، إذا لم تُحل أزمة ديون الدول الأعضاء". في المشهد نفسه، تظهر واحدة من أبطال القصة -الحقيقية جداً- هي أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، لتقول بصوت جهوري "إن الاتحاد الأوروبي سينهار، إذا قُدر لليورو أن ينهار". في الفصل الأول من القصة ذاتها، تتواصل مشاهده، بغرق اليونان في بحار من الديون السيادية، والأفضل أن أقول "الديون الحكومية" ( لا أزال أجد صعوبة في قبول توصيفها. فهل هناك سيادة وكرامة مع الديون؟!)، مع تدافع "فرق الإنقاذ" لانتشالها، ومع موجة من التأنيب والإذلال والتحذير، من جانب عدد من الدول المُنقِذة، خصوصاً ألمانيا. المادة "الاقتصادية الدرامية" – إن جاز التعبير – تنتقل من الفصل الأول إلى الثاني، مع بقاء "الأبطال" أنفسهم في قلب القصة، بينما الضحايا يتبادلون الأدوار!. ولأن الأزمة الاقتصادية العالمية، قدمت بحراً من القصص التي لا تنتهي، فلا خوف من شح "النصوص"، ولا خشية من نقص في عدد الأبطال و"الكومبارس" معاً. سيكون دائماً على الساحة "أبطال اقتصاديون"، مثل كلينت إيستوود ( ليكن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي) ومارلون براندو (ليكن رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون) وروبرت دي نيرو ( ليكن رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو بريلسكوني) وجوليا روبرتس ( لتكن مستشارة ألمانية ميركل)، وسيكون هناك العشرات - بل المئات - من الكومبارس على نفس الساحة الدرامية.

ولعل هذه القصة هي الوحيدة في هذا العالم، التي يمكن متابعة فصولها وأحداثها في نفس الوقت. أي لا فواصل بينها!. فأحداث الفصل الأول المستمرة، تتواصل مع قدوم وفد ثلاثي من المفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي إلى اليونان، لمواجهة احتمالات عدم قدرة هذا البلد على تسديد الديون التي مُنحت له، والبالغة 110 مليار يورو!. فعذراً من "الجمهور"، لا وقت للاستراحة، ولا فرصة لتحريك المفاصل. الأحداث مستمرة، والدراما متفاعلة، والقصة بلا نهاية!.

عودة إلى المشهد الأول من الفصل الثاني، ليكن عنوانه مقولة للمؤلف اللاتيني ببليليوس " الديون الصغيرة تنتج دائناً، والديون الكبيرة تنتج عدواً". أيرلندا.. تُكابر وتمتنع عن طلب العون، رغم معرفتها بأن اقتصادها مهدد بالانهيار، بل شارف عليه!. أيرلندا تُجري مباحثات سرية مع صندوق الإنقاذ الأوروبي، وتعلن في الوقت نفسه، أنها لا تقوم بأي مباحثات!. أيرلندا نفسها تتراجع وتعترف بوجود مباحثات حقيقية في هذا الشأن!. بعثة تضم ممثلين عن المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي ( مكرر من الفصل الأول!)، تصل إلى دبلن علناً، من أجل درس المشكلات البنيوية للمصارف الايرلندية. بريطانيا تعلن رسمياً، أنها ستساعد أيرلندا في محنتها الاقتصادية، بينما تعيش المملكة المتحدة حالة غرق في ديونها!. أيرلندا تطلب عوناً لمصارفها، ولكن ليس لموازنتها العامة، الغارقة بالديون والعجز!. هذا أمر ليس مهماً، سوف ترضخ في النهاية إلى معايير وشروط المُنقذين، فهي تعلم أن الغريق لا يمتلك الحق ولا حتى الوقت، لفرض شروطه على مُنقذه. وربما من "سكرة" الانهيار، لم يقرأ المسؤولون الأيرلنديون، إعلان فرنسا وألمانيا (الدولتان الأكثر إنقاذاً في منطقة اليورو) المشترك، بفرض عقوبات رادعة بحق كل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، تفشل في خفض العجز في موازنتها العامة في غضون ستة أشهر. ولم يسمع هؤلاء ما قاله ساركوزي علانية: "إن الدولة التي تسجل نسب عجز كبيرة، ولا تتخذ الإجراءات الكافية لخفضها، يجب أن تتعرض لعقوبات سريعة وفعالة". مهلاً، هناك لوحة في المشهد. ألمانيا تريد إشراك المصارف ومؤسسات القطاع الخاص في إدارة أزمة الديون. سيداتي سادتي.. مازال المشهد الأول من الفصل الثاني مستمراً.

المشهد الأول من الفصل الثالث. ليكن عنوانه مقولة للشاعر الأميركي أوجدين ناش "الديون تشعرك بالسعادة عندما تكسبها، وتشعرك بعكس ذلك عندما يتوجب عليك إعادتها". وزير الخارجية البرتغالي لويس أماديو يلوح للمرة الأولى، بإمكانية خروج بلاده طواعية من منطقة اليورو، لماذا؟ لأن البرتغال، تواجه متاعب داخلية شرسة، في تمرير حزمة التقشف التي فُرضت عليها من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. زميله وزير المالية فرناندو سانتوس، يعلن أن حكومته لا تخطط لطلب المساعدة من المجتمع الدولي، بل ستواصل القيام بالحصول على التمويل من خلال سوق السندات الدولية. ولأن أحداث القصة متشابهة –بل متطابقة - فقد تقمص البرتغاليون، الدور الأيرلندي الرافض للحصول على مساعدة. لكن الأحداث تسير في نفس السياق، فلا يمكن للشبونة الاستمرار في الرفض، أو مواصلة التهديد بالخروج الطوعي من منطقة اليورو، عندما يستكمل الخراب تسيده لحالة البلاد الاقتصادية. وقتها تنزوي الكرامة ومعها الكبرياء، ولا غرابة في رؤية ممثلي الإنقاذ، يفتحون ملفات الديون البرتغالية، ومعها أضابير العجز في الموازنة العامة، الذي يقترب من 10 في المائة من مجموع الناتج المحلي.

في العام 1965 أنتجت السينما العالمية واحداً من أشهر أفلام "الوسترن" حمل اسمه الشهير" من أجل حفنة من الدولارات" أو For a Few Dollars More ، من بطولة كلينت إيستوود. وفي العام 2008 أنتجت الأزمة الاقتصادية العالمية، واحداً من أطول " الأفلام" الأوروبية، لا يستحق اسماً سوى " من أجل مئات المليارات من الدولارات" أو For a hundreds billion dollars more . في فيلم إيستوود، كان القتل هو الطريقة الوحيدة للحصول على حفنة من الدولارات. وفي "فيلم" الأزمة، هناك مجموعة من الطرق ينبغي إتباعها للحصول على مئات المليارات من الدولارات. الخنوع والاستجداء والتذلل وفتح الملفات مهما كانت سرية والاعتراف بالحقائق.. منها، وقبل هذا وذاك، الانكشاف الاقتصادي الكامل. باختصار.. لا مكان للسيادة الوطنية أو المحلية، ولا مجال للكرامة مهما كانت هشة وضئيلة.

بالأمس كانت اليونان، واليوم حلت أيرلندا، وغداًً يأتي دور البرتغال، وبعد غدٍ ربما أسبانيا ولا غرابة إن كانت بعد بعد غدٍ إيطاليا. لن نتحدث هنا عن الدول الأوروبية خارج منطقة اليورو. فقد غمرت الديون صروحها، قبل شعوبها ومسؤوليها. وهذه وحدها مصيبة عالمية أخرى، ستتطلب مُنقذين، هم أنفسهم يسبحون في بحار من الديون!. كما أن دول اليورو لا وقت لديها ( ولا حتى مالاً) للتعاطي مع هذه القضية المتفاقمة. وبالعودة إلى المشهد الأول من الفصل الثاني، نجد أن الحبكة، ليس في إنقاذ هذا البلد أو ذاك، أو عجز هذه الدولة أو تلك، بل في محاولات حماية الاتحاد الأوروبي نفسه من الانهيار. فمع اندلاع الأزمة العالمية، واستفحال كارثة الديون الأوروبية، كانوا يتحدثون عن مصير منطقة اليورو، وكيفية حماية المنطقة من التفكك. اليوم يتحدثون عن مصير اتحاد، بُني على أسس متينة لا ارتجالية، وأقيم على قواعد ثابتة متأنية، لا هشة ومتسرعة. اتحاد صار رمزاً عالمياً للنجاح، وتحقيق الأهداف.

سينجو الاتحاد الأوروبي، لكنه سيكون مثل ذلك الملك الذي انتصر في الحرب، وعاد إلى بلاده لوحده. لقد فقد كل جيشه!.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق