الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

المخابرات الاقتصادية

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









" كل إنسان محاط بجيران يتطوعون للتجسس عليه"
جين أوستن أديبة بريطانية




محمد كركوتـي


رغم أن الوقت ليس وقتها، فهي موجودة. ورغم أنها تسبب وبالاً لا حصر لتداعياته، فهي حاضرة على الساحة العالمية. ورغم أنها يجب أن تكون خارج "اللعبة"، وخارج الحراك الاقتصادي الهش، فهي آخذة بالازدهار والانتشار في كل الأرجاء، وتتخذ أشكالاً مختلفة، ولكن بهدف واحد محدد. إنها آفة في أوقات النمو، ومصيبة في أزمنة المحن والكوارث. إنها ليست جديدة على الساحة، بل قديمة قِدم الاقتصاد نفسه، واستمرارها وتجددها، لا يعرض الاقتصاد العالمي إلى الخسائر (الخسائر أحاطت به من كل جانب، وأصابت كل قطاع فيه)، ولكن يصيب التحرك الدولي، لتأسيس منظومة اقتصادية خالية من الشوائب و"الجراثيم"، في مقتل، أو على الأقل، يُبطئ الخطوات باتجاه الوصول إلى مثل هذه المنظومة التي يحتاج العالم وجودها، بأسرع وقت ممكن، وبأعلى درجات الشفافية والنزاهة، وبأقل قدر من المكاسب المحلية الآنية. فقد نال الاقتصاد العالمي ما يكفي من المصائب، نتيجة لممارسات تعاطت مع النزاهة كـ "مرض"، وأساليب كانت النزاهة معها، مجرد شوائب تم التخلص منها بقوة، وأفكار هدامة كانت على مدى سنوات طويلة، محل تقديس!.

إن المرض المتجدد، ليس سوى ما يمكن تسميته بـ "المخابرات الاقتصادية"، أو " التجسس الاقتصادي"، بكل قطاعاته وميادينه. إنه مرض كان ينبغي أن ينتهي مع انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، لأنها – وإن جلبت المصائب – فقد أتت بمحفزات جديدة، في مقدمتها، ضرورة التعاون الدولي للوقوف بوجهها، والتخلص من آثارها، والقضاء على "الثقافة" التي ولدتها، وقبل هذا وذاك، إنشاء نظام اقتصادي جديد، لن تستوي أحوال العالم يستكمل بناؤه، ولن تتوقف المصائب المتوقعة بعيداً عنه، ولن نشهد أياماً مزدهرة، إذا ما ظل خارج الساحة. نحن نعلم أنه في كل أزمة، هناك أشياء إيجابية ليست كثيرة، ولكنها كافية – على الأقل – لتمنح الواقعين فيها مساحة لمعالجتها (ومراجعة ما كان من أجل مستقبل أفضل سيكون)، لكي لا نقول: مواجهتها. ومعالجة هذه الأزمة بالذات، لن تحقق النجاح، إذا لم يتم التخلص نهائياً من "السلوك الاقتصادي" المشين، الذي صبغ العالم بصبغته لمدة تزيد عن عقدين من الزمن، وكان نتاجاً طبيعياً لمبادئ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بظلمها وفوضويتها وتسيبها.. وحتى "فجورها".

إن "المخابرات الاقتصادية" ليست حكراً على طرف دون الآخر. فالكل مارسها ويمارسها، وإن بدرجات متفاوتة، وآليات متباينة القوة، وسلوكيات مختلفة. فالغرب يمارسها والشرق أيضاً. والمؤسسات الكبرى والصغرى تمارسها أيضاً. هذه " المخابرات"، أفرزت – بصورة طبيعية – عمليات تجسس نالت من كل شيء، تجارياً وصناعياً وخدماتياً وسوقياً، وبالطبع مصرفياً. فجواسيس الحروب والنزاعات العسكرية، ليسوا لوحدهم الآن، تماماً مثلما لم يكونوا لوحدهم في السابق. فزملائهم الاقتصاديون ينشروا على الساحة. وكما للمخابرات التقليدية فروع وأقسام، لـ "المخابرات الاقتصادية" شركات ومؤسسات، تقدم خدماتها لمن يدفع، بصرف النظر عن شرعية جلب "المنتج" الاستخباراتي!. فالعاملون – الجواسيس – فيها، لا يعتبرون عملهم مشين أو غير شرعي. بل هناك – في الولايات المتحدة الأميركية – من تحدث علناً، بأن ما يقوم به، هو واجب وطني، للدفاع عن "المصالح الاقتصادية" لبلاده!. فقد استوى عنده التجسس بهدف الأمن القومي، مع التجسس بهدف تدمير شركة أو مؤسسة، أو على الأقل سرقة معلومات تشكل أساساً لإنتاج هذه الشركة أو تلك!. وقد توازت عنده أيضاً، معايير التنافسية القائمة على الإبداع والابتكار وبالتالي النجاح، وسرقة الآخرين من أجل خوض التنافسية!. لا مكان للأخلاق هنا. إنها قضية أصغر من أن تحظى بأدنى اهتمام!.

والحقيقة أن المخابرات التقليدية في الدول المتقدمة والناشئة، انضمت هي الأخرى إلى زميلاتها "الاقتصادية"، تحت المسمى العريض والفضفاض والهلامي، وهو " الأمن القومي"!. ولا نعرف – في هذا العالم السري – من يعطي الدروس لمن؟. المعروف أن الأدوات الاستخباراتية، قد تختلف بعض الشيء، لكن في النهاية تصل أو تقترب من الهدف المشين نفسه. قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كانت المخابرات الألمانية واضحة حين نشرت تقريراً، عن التجسس الاقتصادي الهادف إلى جمع المعلومات التكنولوجية والعلمية والابتكارية، أكدت فيه وجود مئات من الجواسيس الإسرائيليين والصينيين والأميركيين والسلوفاك والتشيك والبولنديين وغيرهم، فضلاً عن جواسيس (عملاء) لأجهزة المخابرات الغربية كلها، منتشرين في كل الدول المتقدمة منها والنامية. وطبقاً لهذا التقرير، فإن الكل يتجسس على الكل، في جميع المجالات الاقتصادية، بما في ذلك، الأسواق القديمة، وفتح أسواق أخرى جديدة!. وفي العام 1993، جاء في تقرير للأمن القومي الكندي، أن الأسرار العلمية والأبحاث التقنية الكندية، التي استغرق إعدادها سنوات، وكلفت أموالاً طائلة، سُرقت ونُقلت إلى شركات ومصانع خارج البلاد. واستناداً إلى التقرير نفسه، فجواسيس الاقتصاد في 25 دولة على الأقل، يقودون حرباً خفية ومدمرة، دون أن يهتموا بأدنى معايير النزاهة الاقتصادية!.

والمصيبة التي تواجه العالم الآن، أن هذه الحرب لم تتوقف في أعقاب الأزمة، التي يُفترض أن تكون هدفاً لحرب عالمياً شاملة، يشترك فيها القوي والضعيف. ويقول ألستر نيوتون المسؤول السابق لـ " الحرب الإلكترونية" في وزارة الخارجية البريطانية: " مادامت التكنولوجيا متاحة، فمن الإنصاف القول إن الحكومات استخدمتها على الأقل أحياناً لأغراض تجارية. في الماضي اتهم الفرنسيون البريطانيين بالتجسس على صناعتهم الدفاعية والعكس صحيح. وكانت اتهاماتهما مبررة". وقد اعتاد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون على الإعلان في بعض المناسبات، بأنه يجب على الدبلوماسيين البريطانيين أن يقوموا بالمزيد من الجهد، من أجل الترويج لأنشطة الأعمال البريطانية في الخارج، لكنه – بالتأكيد - لم يكن – ولن يكون – واضحاً حول ما إذا كان ذلك يعني، أن على الجواسيس البريطانيين أن يقوموا بنفس المهمة.

وبعيداً عن الاشتباه التاريخي – والحالي أيضاً – للدول الأوروبية تجاه الشبكة البريطانية – الأميركية أو "الأنجلو سكسونية"، بأن هذه الأخيرة قد تستخدم أحياناً ضدها. وبعيداً أيضاً عن فحوى تقرير برلماني أوروبي خطيرة صدر في العام 2000، وتحدث عن شبكة عالمية قوية تابعة لواشنطن ولندن، مخصصة لرصد إشارات المخابرات، من أجل التجسس الصناعي، فإن العالم لن يخرج من أزمته الراهنة، إذا ما استمر هذا السلوك المريع والمشين. كيف يمكن لـ "متضامنين" في حرب واحدة ضد "عدو" محدد ومعروف، أن يتجسسوا على بعضهم البعض؟!. كيف يمكن لهؤلاء، أن يتفقوا على منهجية اقتصادية عالمية جديدة، تقي دولهم والعالم ومعها، من أزمات كبرى مقبلة، إذا ما ظل التوجس بينهم قائم؟!. وهل ينجح حليفان في تحقيق أهدافهما، إذا ما كانت الريبة هي التي تسود العلاقات بينهما؟!.

يقول بيتر رايت رجل المخابرات البريطاني السابق، وصاحب الكتاب الشهير "صياد الجواسيس" الذي نشره في منتصف ثمانيات القرن الماضي، ومنعته حكومة مارجريت تاتشر من التوزيع في بريطانيا: "عندما أردت الانضمام للعمل كجاسوس لصالح المخابرات البريطانية، قيل لي عليك أن تتجرد من أخلاقك، إن وجدت لديك". ولمن نسي، فقد كان غياب الأخلاق، العامل الأكبر في انفجار أزمة صرعت العالم أجمع.


هناك تعليق واحد: