الاثنين، 28 سبتمبر 2009

قمة القرار غير الحصري

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )






"غزو النفس.. هو أعظم الانتصارات"
الفيلسوف اليوناني أفلاطون

محمد كركوتــي

لنبتعد قليلا عن الخلافات التي دبت (وكانت متوقعة) في قمة مجموعة العشرين في الولايات المتحدة، حول رواتب ومكافآت وحوافز مديري المصارف والمؤسسات المالية، وحول بعض القضايا الأخرى، بما في ذلك حجم النفوذ (عدد الأصوات) لبعض الدول الناشئة في المؤسسات الدولية وفي مقدمتها بالطبع صندوق النقد الدولي. ولنبتعد بعض الشيء عن مناقشة كيفية تطبيق قواعد جديدة مع نهاية عام 2012 لتحسين وضع وحجم رأسمال المصارف. فلا أحد ينتظر من القمم – أي قمم – أن تخرج برؤى متطابقة 100 في المائة، أو أن تتخذ القرارات – لاسيما المصيرية منها – بالتزكية. فهذا عادة أسلوب ''البرلمانات'' التي لا تحمل من القيم البرلمانية- التشريعية، سوى اسمها. ولندع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني جوردون براون وإلى جانبهما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في خضم تناطحهم حول بعض القضايا (رواتب مديري المصارف على رأسها). فهذا التناطح أصبح سمة من سمات العلاقات بين أكبر وأقوى دول الاتحاد الأوروبي قاطبة، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. ومن المفارقات أن هذا التناطح يجري، في ظل وجود إدارة أمريكية ترغب في التعاون، وتفهم ما جرى ويجري على الساحة العالمية!. ولنترك قضية الاضطرابات والمظاهرات والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي التي صاحبت القمة في بيتسبرج حيث عقدت. فهذه المظاهرات، هي أيضا سمة من سمات هذا النوع من القمم، ولذلك فالخبر لا يكمن في انطلاقها، بل في عدم اندلاعها!.
في المحن الشاملة، لا مكان للنخبة، ولا مساحة لمتسيد، ولا فسحة لكبير. هناك ساحة للجميع من أجل مواجهة مصائب هذه المحن، وهمومها وإشكالياتها وحممها المتقاذفة في كل الأرجاء. ساحة يقف فيها الكبير إلى جانب الصغير (وأحيانا الصغير هو من يقف إلى جانب الكبير)، خصوصا عندما يكون الكل على مركب واحد، فقد قبطانه الخبير - العتيق الاتجاه، بعدما خسر البوصلة!. في هذه الساحة، يجري ''فرز'' الحكمة عند الجميع، ليس وفق تجاربهم، بل على قدر استيعابهم لهذه التجارب. وعلى الرغم من هول الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أنها – للمفارقة – ليست عصية على الفهم. فمقدماتها.. دلت عليها، ومصائبها ملكت أدوات حلها، وعنفها احتوى على بعض من آليات ''تلطيفها''، بعد ما فضحت ''الإلهام'' الاقتصادي لدى الأفراد الذين كانوا يدعون المناعة من الأخطاء، والدول التي كانت ''تتبختر'' بأن قوة لم توجد بعد، يمكن أن تهزها!.
اللافت في قمة مجموعة العشرين الثالثة بعد الأزمة، أنها حققت شيئا تاريخيا، كانت تحتاج إليه هي أولا كمجموعة دول، ويحتاج إليه العالم أجمع في آن معا. لقد قامت بأولى خطواتها الثابتة نحو ''المأسسة'' – إن جاز التعبير- بمعنى أن القمة دعمت خطوات تكريس المجموعة، ككيان دولي هو الأكبر والأقوى على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، مهمته الأساسية مراقبة أداء الاقتصاد العالمي، والعمل على تنفيذ الاتفاقات والاتفاقيات، التي لم تعد حكرا على ''نوادي النخبة''. فالقرار الاقتصادي العالمي، لم يعد في أيدي الأمريكيين أو البريطانيين أو الفرنسيين أو الألمان، أو غيرهم من الأمم التقليدية التي ملكت زمام المبادرة والقرار الدولي، قبل وبعد الحرب الثانية. هذه القمة أوجدت آلية يمكن وصفها بـ ''آلية صنع القرار غير الحصري''. صحيح أن البعض بدأ ينظر إليها كـ ''كيان نخبوي''، لكن الصحيح أيضا، أنها تضم دولا أبعدها النخبويون عن ''ماكينة'' صنع القرار العالمي، لعقود طويلة من الزمن. واللافت أيضا.. أن النخبويين السابقين اقتنعوا بحقيقة أنهم لا يملكون الحق المطلق في المعرفة والحل، وفي المصلحة العالمية وأدواتها، وفي البناء والنمو. وهذا أيضا من الجوانب الأكثر ترشيحا لدخول التاريخ، مقارنة ببقية الجوانب الأخرى في قمة بيتسبرج. وبسبب ذلك، تراجعت الطروحات – وستتراجع أكثر في المستقبل – الخاصة بالتوصل إلى صيغة نهائية لمجموعة دولية، تتسلم زمام الأمور والمبادرة، ليس فقط خلال الأزمة، بل أيضا بعدها، بما في ذلك الطرح الفرنسي المؤيد الصلب لصيغة '' الـ 14''، المكونة من مجموعة الثماني، إضافة إلى كل من جنوب إفريقيا والصين والبرازيل والهند والمكسيك ومصر.
والواقع أن مجموعة العشرين التي تسيطر على ما بين 85 و90 في المائة من الناتج العالمي، تمتلك حق صناعة القرار الاقتصادي الدولي، لا الإشراف على تنفيذه فقط، وإذا استطاعت المجموعة في القمة الأخيرة، أن تُدعم خطوات ''مأسستها''، عليها أيضا أن تعمل من أجل تكريس دورها كمشرع دولي. فما يريده الفرنسيون – على سبيل المثال – أن تقوم المجموعة بمهام الإشراف، في وقت تمتلك فيه أدوات تشريعية وتنفيذية وروحا من التعاون لم تكن موجودة أصلا على الساحة الدولية حتى وقت قريب، وقبل هذا وذاك.. ''أزمة'' عززت لديها مكامن الخبرة أشواطا طويلة في زمن قصير. هذه الخبرة تمكنها من ''صناعة المستقبل''.. من معطيات المستقبل، لا من مخلفات الماضي. فقد عانى العالم لعقود طويلة من الزمن، من صناعة مستقبله وفق ماضيه، ماذا حدث بعد ذلك؟ مجموعة من الأزمات، شكلت الأزمة الاقتصادية الراهنة أبرز ''نجماتها''.
إن عزل المجموعات الأخرى عن عملية صنع القرار العالمي يجب ألا يكون هدفا. بل على العكس تماما ينبغي إشراكها في هذه ''الصناعة''، لكن المشكلة أن '' الطبخة'' معرضة للاحتراق من فرط تعدد الطباخين – كما يقولون -، ومجموعة العشرين تمثل الصيغة الأمثل المطروحة على المسرح الاقتصادي. فهي خليط بين دول كبرى وأخرى ناشئة. بين دول فهمت أن التفرد (وأحيانا العنجهية)، لا يحقق في عالم متداخل.. المصلحة الملحة المرجوة حتى لها، وبين دول انتظرت طويلا من أجل أن تلعب دورها وفق إطار منطقي، إن لم نقل ''وفق حق شرعي''. كيف يمكن لغير مجموعة العشرين – على سبيل المثال – في هذا الوقت بالذات، أن تقرر موعدا لإلغاء الحوافز التي وفرتها الحكومات المختلفة للإنعاش الاقتصادي؟. وكيف يمكن لغير هذه المجموعة، أن تضع القوانين النهائية لإصلاح القطاع المالي العالمي؟. وكيف يمكن لغيرها أيضا.. أن يحدد الصيغ الكفيلة بمنع حدوث أزمة اقتصادية عالمية مشابهة لهذه التي لا نزال نعيش في ظلها؟. فالكل يعرف أن الطريق لا يزال طويلا أمام العالم للخروج من أزمته، وقد اعترف بذلك وزير الخزانة الأمريكي نفسه تيموثي جاذنر، حين قال: ''إن الركود لا يزال حادا، والطريق ما زال طويلا''.
لقد صنعت الأزمة الاقتصادية، مستجدات لم تكن في الحسبان، فرضت على العالم أجمع ضرورة أن يحسب لكل شيء مهما كان صغيرا. فرضت عليه أن يسعى لوجود مُشرع متحرر من الماضي ومن العنجهية والفوقية ومن المصالح الذاتية. مُشرع يتكون من ''متقدم وناشئ ونام''، ومجموعة العشرين قامت أساسا على هذه المعادلة. الأزمة وسعت أيضا مدارك البشر، وإن ضيقت عليهم معيشتهم، وكرست حقيقة أن المشاركة في الهموم، هي أقصر الطرق لتخفيف حدتها.


الخميس، 24 سبتمبر 2009

مجموعة غيرت ثقافة "الكاوبوي الاقتصادي"!



( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )

محمد كركوتــي

إنها القمة.. الثالثة لـ "مجموعة العشرين"، بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، والثانية بعد خروج إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن من البيت الأبيض (الإدارة لم تفهم المكانة التاريخية والإستراتيجية للمجموعة). إنها القمة.. التي تكرس حقيقة أن هذه المجموعة أخذت بالفعل زمام المبادرة والأمور على الساحة الاقتصادية العالمية. إنها القمة.. التي ستعزز "صيغة العشرين"، بدلا من صيغ " السبع " أو "الثماني" أو حتى "الـ 14"، رغم إعجاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بهذه الأخيرة. إنها القمة.. التي تختصر أكبر نسبة من المجاملات، وتضخ أكبر "كمية" من الصراحة. إنها القمة.. التي تجعل العالم أقل توترا في ظل الأزمة الاقتصادية التاريخية، وأكثر تناغما مع طروحاتها. إنها القمة التي تستطيع الدول المنضوية تحت لوائها ( بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية في ظل إدارتها السياسية الحالية)، أن تفخر بأنها سنت ( وتسن) قوانين غيرت معالم ثقافة "الكاوبوي الاقتصادي" الذي سيطر على أسواق المال في العالم على مدى عقدين من الزمن، ولم يأت "برأس واحد من البقر" إلى الحظيرة، بل على العكس نفقت الرؤوس التي كانت موجودة أصلا!. إنها القمة.. التي ستتضح معها علامات مواجهة الأزمة الاقتصادية أكثر فأكثر. فـ "مجموعة العشرين"، هي المجموعة الوحيدة في التاريخ الحديث، التي نضجت في زمن قياسي قصير، من جراء أزمة تركت هموما لسنوات طويلة.
إنها القمة التي يجب أن تستكمل - أو تقترب من استكمال- عملية إنهاء وجود "نوادي النخبة" التقليدية، لماذا؟.. لأن "مجموعة العشرين" (مرة أخرى، خصوصا مع زوال إدارة بوش الأخيرة)، تعمل بمفهوم "الإشراك"، لا بذهنية "الإقصاء". ولأنها كذلك، فهي المجموعة العالمية الوحيدة، التي يمكن وصفها بـ "التكنوقراطية". بمعنى أنها المجموعة ( أوالهيئة) القادرة على العمل بأقل حد من "التسييس"، وأعلى مستوى من الواقعية، مستفيدة من جانب إيجابي، طرحته الأزمة العالمية، وهو أن المصائب التي أتت بها الأزمة، دحرت التكتلات التقليدية وسياسات المحاور وحتى المجاملات، كما أنها وضعت العالم ليس فقط أمام مسؤولية إيجاد الحلول لهذه الأزمة، بل أيضا أمام "استحقاق" إعادة صياغة نفسه، بصورة لا تشبه الصياغة التي كانت، ولا المفاهيم التي سادت، ولا المسلًمات التي "حكمت" الأسواق والمجتمع.. بل والدول. فما كان ينفع في "اصطياد البقر"، لم يعد يصلح حتى لاصطياد الفراشات!.
أمام قمة العشرين الثالثة بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى، ملف يمكن وصفه بـ " مأسسة" مجموعة العشرين، إلى جانب الملفات الأخرى التي طرحتها الأزمة. وإذا أراد قادة المجموعة أن يحققوا إنجازات واقعية وعملية من خلال هذه القمة ( وغيرها من القمم المقبلة)، عليهم أن يتعاطوا مع هذا الملف بنفس الأهمية التي يتعاملون فيها مع الملفات الأخرى. إن الانخراط في معارك – وحتى مناوشات- حول أي المجموعات أفضل للعالم ( "السبع" أم "الثماني" أم " الـ 14" أم " العشرين").. لا يخرج عن نطاق المعارك "الصبيانية" و"خناقات" الأزقة، في ظل أزمة "يشيب لها الولدان"!. فالعالم يحتاج إلى "مرجع" لا يشبه المراجع التقليدية التي أثبتت فشلها "بجدارة"، عندما وقفت عاجزة عن إيقاف ضربات الأزمة، بل عجزت حتى عن التقليل من قسوة هذه الضربات. ويحتاج العالم أيضا – وبنفس الوتيرة- حلولا واضحة المعالم، لا تستند إلى أي اعتبارات وطنية ( خصوصا السياسية – الحزبية )، أو حتى إقليمية. فالانكماش الاقتصادي العالمي، لن يتحول إلى "ازدهار اقتصادي"، إذا ما أراد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي شيئا، وأراد رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون شيئا آخر. والأمر نفسه ينطبق على كل قادة دول مجموعة العشرين، لاسيما قادة الدول الكبرى. فعلى سبيل المثال يرى براون ضرورة للعمل من أجل منع حدوث انهيار اقتصادي عالمي آخر. حسنا.. إنه طرح مثير للإعجاب والتقدير، لكن رئيس الوزراء البريطاني سيخوض بذلك معركة جديدة، قبل أن تنتهي المعركة الحالية!.
وفي الوقت الذي نشهد فيه وجود إدارة أميركية شابة ومتعاونة ومتفهمة لما جري ويجري وسيجري، ومؤمنة بأهمية الإشراك لا الإقصاء، نرى حكومات أوروبية راسخة خبرة وتجربة، تناوش بعضها البعض، حول مشاريع الحلول للأزمة أولا، وحول حجم الخطوط التي يجب أن ترسم بها خريطة الاقتصاد العالمية. فعلى الأوروبيين أن يستغلوا الحكمة التي تتحلى بها الإدارة الأميركية الحالية، لاسيما وأنهم – والعالم معهم – عانوا الأمرين من الإدارة الأميركية السابقة، ليس فقط في مجال التفاهم حول الحلول، بل في نطاق جهل هذه الإدارة لحقيقة ما يجري. إن القضية لن تنتهي باستكمال تنفيذ اتفاق قمة مجموعة العشرين الأخيرة في لندن، بضخ 5000 مليار دولار أميركي في هيكلية الاقتصاد العالمي، لإعادة الأمور إلى نصابها. ولن تنتهي بالاتفاق على حد أقصى لرواتب ومكافآت مدراء المصارف والمؤسسات المالية الكبرى، ولن تنتهي بشراء ديون المؤسسات أو تأميمها، أو تغطية عجز المقرضين والمقترضين، ولن تنتهي بضخ المزيد من الأموال في المؤسسات الدولية ( مثل البنك وصندوق النقد الدوليين)، ولن تنتهي بـ "مسح" الملاذات الضريبية الآمنة، ولا بـ " القضاء" على المتهربين الكبار من الضرائب. ولن تنتهي بتحديد سقف لأسعار البترول في الأسواق العالمية، ولن تنتهي بوقف "الغزو" التجاري الصيني للدول الكبرى.
إن القضية تحتاج إلى شيء أكبر وأقوى وأكثر فاعلية من ذلك. تحتاج إلى مجموعة دولية، تعرف احتياج الكبير ومتطلبات الصغير، وتعي أن العالم لم يعد كما كان قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، ولن يعود إلى ما كان عليه، وأن ما كان يفيد دولة كفرنسا بالأمس، لن يفيدها في الغد، وما كان يعتبر نصرا وطنيا وقوميا ألمانيا في السابق، لن يكون كذلك الآن، وأن "المسلًمات الأميركية" التي كانت تسود العالم قبل الأزمة، تحولت إلى " مضحكات" بعدها.
إن "مجموعة العشرين" – بمفهوم الإشراك- وبوجود دول فيها ( مثل المملكة العربية السعودية والبرازيل والهند واندونيسيا وغيرها) إلى جانب "دول النخبة" السابقة، تمثل أفضل هيئة دولية موجودة على الساحة، ليس من أجل وضع الحلول والإشراف على جودة تنفيذها فقط، بل من أجل "صناعة" خريطة اقتصادية عالمية، لا "مسلًمات" بين خطوطها، ولا "نجوم اقتصادية" أنتجت أكثر "الأفلام" فشلا، وأشدها تدميرا.

الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

فقر الأثرياء!



( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )

«إنه الآن يصعد من النعمة إلى الفقر»
الأديب الأمريكي مارك توين

محمد كركوتــي
الاقتصاديون الواقعيون، أو لنقل: «الاقتصاديون غير الملهمين»، يبدون حرصا واضحا على عدم التفاؤل بالإشارات الإيجابية حول مستقبل الاقتصاد العالمي بعد عام تقريبا على اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية. فهم - على عكس «الملهمين»- يعرفون أن أحد أسباب الأزمة الكبرى، كان الإفراط في التفاؤل، والامتناع عن المساس بالسوق، التي حولوها إلى «مقدسة».. ولأنها كذلك فهي لا تخطئ، وإن فعلت ذلك فهي قادرة على تصحيح أخطائها على الفور، وعلى الجميع أن يقف بعيدا دون تدخل!. وفي الأشهر التي حفلت بمقدمات الأزمة العالمية، كان «الملهمون» يسخرون من أولئك الاقتصاديين الذين كانوا يطلبون من صناع القرار الاقتصادي، التخفيف من تفاؤلهم، والنظر إلى الأمور، بعين مختلفة عن تلك «العمياء»، وأن يتابعوا الإشارات السلبية التي كانت تظهر على مدار الساعة. لكن صناع القرار، التزموا تطمينات «الملهمين»، ولم يلتفتوا إلى آراء أولئك المتشائمين، الذين كانوا يريدون « تعكير» حركة الأداء الاقتصادي!.
الأزمة اندلعت، ولم تمنح لحظة واحدة لـ «الملهمين» حتى لاستيعاب الضربة الأولى. فلا السوق صححت نفسها، ولا التفاؤل جلب قوارب النجاة. وقد قدم رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق (البنك المركزي) آلان جرينسبان، أبلغ توصيف لحالة أصحاب «دعوا السوق تعمل» – وهو منهم – عندما قال: «إن هذه الأزمة غير مسبوقة، ولا أصدق ما يجري»!. فإذا كان هذا الرجل الذي جلس على كرسي أهم صانع للقرارات الاقتصادية الأمريكية – ومتعلقاتها الدولية – لمدة تزيد على 18 عاما، لم يستطع فهم ما يجري، نستطيع أن نتخيل مستوى استيعاب «الملهمين» لما جرى ويجري.
هذا المفارقة في «المصيبة» الاقتصادية العالمية، جلبت معها مفارقات لا حدود لها. نحن لا نتحدث هنا عن المصائب التي أحدثتها الأزمة في الدول النامية، من جراء تراجع مستوى مساعدات الدول المانحة لها، ولا عن توقف العديد من المشاريع التنموية والإعمارية والصحية، ولا عن تراجع الإنفاق على التعليم وبرامج محو الأمية، ولا عن ضياع الأموال «الغلابة وغير الغلابة» على أيدي المحتالين الذين ظهروا في كل الأمكنة، ولا عن ارتفاع عدد الجياع 100 مليون ليصل العدد الإجمالي العالمي إلى 1.02 مليار نسمة، ولا عن عدد العاطلين الذين سيضاف إليهم مع نهاية العام الحالي أكثر من 59 مليون عاطل.. لا نتحدث عن هذه المصائب، بل عن مشكلة انفجرت في العالم الغربي، من جراء الأزمة العالمية. مشكلة.. لم تكن مطروحة للنقاش حتى في عز الأزمات. مشكلة.. كانت حتى عام مضى تخص الدول الفقيرة والنامية بل وحتى الدول التي اصطلح على تسميتها بالناشئة. هذه المشكلة تتلخص في ارتفاع عدد الفقراء، أين؟ في الدول الأوروبية الغنية!. فقد انضمت هذه الدول إلى الولايات المتحدة في هذا النطاق. فعدد الأشخاص الذين يعيشون عن طريق « كوبونات الإعاشة» في الولايات المتحدة، وصل حدا يقترب من عددهم أيام الحروب الكبرى ( 2.5 مليون أمريكي غاصوا خلال العام الجاري دون خط الفقر)، وكذلك الأمر في بعض الدول الغربية الغنية الأخرى، التي ارتفع فيها عدد المتاجر الخيرية وشبه الخيرية، التي تبيع المنتجات الضرورية بأسعار رمزية، لتمكين الأسر من الاستمرار في حياتهم، بأدنى حد من الكرامة.
فقد وجدت بعض الدول ومن بينها النمسا – رابع أغنى دولة في الاتحاد الأوروبي – أن الأزمة التي نالت من أغنيائها بصورة بشعة، تمكنت أيضا بصورة أبشع من غير الأغنياء فيها. فالقضية لم تعد تحسب بعدد العاطلين عن العمل ( في الاتحاد الأوروبي وصلت البطالة إلى 9.4 في المائة)، ولم تعد محصورة بمعدلات التضخم والإخفاق في تسديد القروض السكنية والمعيشية الأخرى، بل أيضا بلقمة العيش اليومية. وفي الوقت الذي بلغ فيه عدد المتاجر التي أغلقت في بريطانيا منذ بداية العام الجاري أكثر من 12 ألف متجر بسبب الأزمة، ارتفع فيها في المقابل عدد المتاجر الخيرية التي تبيع بضائعها بأسعار رمزية جدا، وفي بعض الأحيان مجانا، حسب حالة المشتري المعيشية. وفي فرنسا تجري الأمور في هذا الاتجاه. فعلى الرغم من أن مثل هذه الخطوات تصب ضمن النطاق الاجتماعي والإنساني، إلا أنها تترك أثرا بالغا في هالة وهامة هذه الدولة أو تلك. فعل يعقل – على سبيل المثال – أن بلدا كالنمسا يحتل المرتبة الرابعة في قائمة أغنى دول الاتحاد الأوروبي، أن يشهد انطلاق مجموعة من المتاجر الاجتماعية – الخيرية، من أجل «سد رمق الفقراء»؟!. نعم إن هذا يحدث وسيحدث بصورة أكثر درامية – ربما - في الأشهر القليلة المقبلة، في عدد آخر من البلدان الغنية. ويكفي الإشارة هنا، إلى أنه يعيش في العاصمة النمساوية فيينا أكثر من 200 ألف نسمة تحت خط الفقر، بينما لا يتعدى عدد سكانها أكثر من 1.6 مليون نسمة.
ومن ضمن المشاكل التي تواجهها الحركة الخيرية في الاتحاد الأوروبي ككل، أن جمعياتها تواجه أيضا شحا في التمويل والتبرعات، لأن الأزمة ابتلعت أموال جهات كبرى كانت تمثل مصدرا ماليا كبيرا لهذه الجمعيات، فضلا عن تراجع قدرة الأفراد في التبرع. لكن هذا لم يعرقل تحرك الكثير من المؤسسات الخيرية، لتأسيس « المتاجر الاجتماعية»، التي تشبه إلى حد بعيد «الجمعيات التعاونية» التي كانت منتشرة في دول الكتلة الأوروبية الشيوعية السابقة. صحيح أن «المتاجر الاجتماعية – الخيرية» لن تحل مكان المتاجر الأخرى العادية أو الفاخرة، لكن الصحيح أيضا، أنها دخلت السوق، التي كان «الاقتصاديون الملهمون» يعتقدون – بل ويؤمنون – بأنها لا تخطئ ولا تجلب إلا الازدهار والنمو!. لكن الذي جلبته – السوق وأزمتها العالمية – «استعارة» اجتماعية – غير مرغوبة – من كتلة بلدان سابقة، كان العالم ينظر إليها، على أنها تعيش في كوكب آخر.

الجمعة، 18 سبتمبر 2009

سنة ليست حلوة يا قبيح!





( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")


" كانت الحياة أكثر سهولة عندما كنا نحترم آباءنا وأمهاتنا، وليس بطاقات الائتمان"
الكاتب الأميركي الساخر روبرت أوربن

محمد كركوتــي

وقف وزير المالية الأميركي السابق هنري بولسون قبل عام، أمام مجموعة من الصحافيين في واشنطن، محمر العينين – ليس من فرط البكاء بل من زخم السهر- ليعلن للعالم أجمع، عن انهيار مصرف " ليمان برزرز" الأميركي، وليعزز دخول الإدارة الأميركية آنذاك التاريخ من الباب الخلفي، كأسوأ إدارة ابتلت بها البلاد، ليس سياسيا فحسب بل اقتصاديا. فقد كان هذا الإعلان شبيها بإعلان رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل عن اندلاع الحرب العالمية الثانية، مع الفروقات في الحالتين. فالأول "بشر" بتفجر أزمة اقتصادية عالمية، تحول أمامها "الكساد العظيم" في العام 1929 إلى مجرد "نزهة غير سعيدة"!، ووقف عاجزا أمام تحديد أفق ما لها. والثاني، وضع العالم أمام مسؤولياته ومصيريه، مع تحديد آفاق عامة لهذه الحرب. ولعل هذا ما تسبب في زيادة حجم المصيبة التي نشرتها الأزمة. فأدوات الحل كانت مبعثرة، وحتى لو كانت متجمعة، لم تكن إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن، مؤهلة لاستخدامها. كانت هذه الإدارة تعيش فوضى القرار السياسي – الاقتصادي، أو لنقل كانت غارقة بما يمكن تسميته بـ "تزاحم القرارات"، وهي العدوى التي أصيبت بها من رئيسها "البطل" في "تزاحم الأفكار"، فهو الرئيس الوحيد في هذا العالم، الذي "شرح" ميزانية بلاده في أحد الأعوام بأنها "ميزانية.. لأنها تحتوي على أرقام كثيرة"!!.
لم يكن آلان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق ( البنك المركزي)، أفضل حال من "متزاحمي القرارات والأفكار". فهذا الرجل الذي يتحمل المسؤولية الأولى على اندلاع الأزمة الاقتصادية المريعة (لقد سيطر على صناعة القرار الاقتصادي الأميركي لمدة تزيد عن 18 عاما)، وقف عاجزا أمام آليات فهمها!. فـ "كلينت ايستوود الاقتصاد" (الرجل تحول مع الأيام إلى نجم اقتصادي، لا إلى رجل اقتصاد)، اعترف بفشله في فهم ما جرى ويجري. ولم يجد غضاضة في القول: "إن هذه الأزمة لا تحدث إلا مرة كل قرن من الزمن"، وبالطبع لم يشر إلى دوره في جعل كل الأجيال يشهدون أزمة بهذه القباحة!، وبهذه الصورة التي لم تغير المعالم فحسب، بل أوجدت معالم اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية جديدة، وأثارت قضايا، كان العالم يدعو الله كل صباح أن تبقى في قبرها. ولكي لا أظلم كلينت ايستوود الممثل والمخرج، يجب علي الاعتراف بأن هذا الأخير كان بارعا في مجال تخصصه، بينما قدم "ايستوود الاقتصاد" أبشع صورة للفشل، وأكثرها أذى.
المولودة (الأزمة)، بلغت سنة من "خريفها" لا ربيعها!، ومن حق الأجيال التي اكتوت بنارها، أن تنشد وتقول: "سنة ليست حلوة يا قبيحة". بل من واجب الجميع العمل على وئدها. فهذه الأزمة حملت من "الذنوب" ما يكفي لعدم سؤالها عن أسباب وئدها. نشرت خرابا ومهدت الطريق أمامه. تركت القطار يمضي من دون محطات ولا مكابح، بل أنها تركت السائق في نقطة الانطلاق. دمرت التسامح الذي كان بحده الأدنى. أيقظت المشاعر العدوانية. ضيقت الساحات – الضيقة أصلا -، وسدت الأنفاق التي قد توفر ممرات للخلاص. أوقعت ضحايا بات متخصصوا الإحصاء عاجزين عن حصرهم، فـ "العداد" أصبح أسرع من أن يُقرأ. إنها أزمة حولت العالم إلى ساحة حرب لا قادة فيها.. جنودها إما مهزومين أو مستسلمين!.
لقد ضخت الدول – لاسيما الكبرى منها – في عام واحد أكثر من 3000 مليار دولار أميركي في اقتصاداتها، ليس من أجل حل الأزمة – الحل لا يزال بعيدا – ولكن لحماية مؤسساتها ومصارفها، خصوصا تلك التي ترتبط بصورة غير مباشرة بـ " كرامة " و"وجاهة" حكومات الدول نفسها. وعلى الرغم من عمليات الضخ هذه، ما يزال الخراب منتشرا في كل الأرجاء، ولا تزال المخاوف مسيطرة حتى على أولئك الذين "يحبون" التفاؤل. فهؤلاء يعرفون أن غياب التشاؤم عن الساحة الاقتصادية العالمية في الأعوام التي سبقت الأزمة، ساهم بصورة أساسية في اندلاعها. ولكي تزيد الصورة قاتمة وقباحة، فقد كان "الاقتصاديون الملهمون" يسخرون من الاقتصاديين المتشائمين الذين حذروا من أن الخراب سيأتي، وطالبوا الحكومات – خصوصا التي كانت تمتلك زمام القرار الاقتصادي العالمي – أن تعيد النظر بمبدأ " دعوا السوق تعمل بدون ضوابط، ولا خوف من المشاكل التي قد تحدث فيها، لأن السوق قادرة على تصحيح نفسها"!. ماذا كانت النتيجة؟. لقد انهارت السوق والمصارف والمؤسسات التي كانت تتبجح طوال عقود بأنها لا تقهر، وبأنها أقوى من حكومات كثيرة في هذا العالم. والجواب البليغ جاء في الربع الأول من العام 2009 عندما سجلت الشركات المتعددة الجنسيات التي يبلغ عددها 368 مؤسسة متنوعة، تدهورا في أرباحها بلغت 75 في المئة!.. أين القوة إذن؟!.
ولمزيد من الحقائق عن "الحصون المنيعة".. أغلقت السلطات الأميركية في غضون ستة أشهر فقط 88 مصرفا، وهذا العدد يساوي ثلاثة أضعاف المصارف التي أغلقت في العام 2008. وفي مجال المصارف أيضا.. وأيضا، أغلق "بنك أوف أميركا" 10 في المئة من فروعه البالغة 6100 فرعا. ومن أكبر "الحصون" شركة " جنرال موتورز" التي لم تستطع الصمود في عين عاصفة الأزمة، فـ"سلمت" نفسها للحكومة.. والحكومة التي أخذت تؤمم ما أمكن تأميمه من الشركات، تواجه عجزا في ميزانيتها العامة يصل إلى 1800 مليار دولار، بعد أن فقدت 1300 مليار دولار من ثروتها الوطنية، في الثلاثة أشهر الأولى من العام 2009، مع وصول نسبة البطالة إلى 10 في المئة تقريبا، وارتفاع عدد الأميركيين الذين يعتمدون على "كوبونات الإعاشة" إلى شخص واحد من كل عشرة أشخاص ( بلغ عددهم 34 مليون).، في حين دخل أكثر من 2,5 مليون أميركي دائرة الفقر رسميا، وذلك طبقا لمكتب الإحصاء السكاني!.
هذه الصورة المصغرة للوضع الاقتصادي الأميركي تحت رحى الأزمة، هي نفس " اللوحة" في بعض بلدان العالم المتناغمة اقتصاديا مع الولايات المتحدة، ولكنها حلت بوقع أشد على بقية الدول التي لا تمتلك مقدرات القرارات الاقتصادية الكاملة. فقد "ارتكبت" الأزمة جريمة وصول عدد الذين يعانون من الجوع – لا الفقر – حول العالم إلى 1,02 مليار جائع. وعلى الرغم من الزيادة المتواضعة لمستوى الدعم المقدم لصندوق النقد والبنك الدوليين، إلا أن مساعدات الدول المانحة تراجعت بصورة مخيفة، ودمرت الكثير من مخططات التنمية. بل أن الأزمة ضربت ما يعرف بـ "أهداف الألفية" التي وضعتها الأمم المتحدة في العام 2000 لخفض عدد الجياع والأميين إلى النصف بحلول العام 2015. كيف يمكن تحقيق هذه الأهداف، وستضيف الأزمة بحلول العام 2009 أكثر من 59 مليون عاطلا عن العمل حول العالم، بعد أن تراجع حجم الاستثمارات الخارجية في الدول النامية بحدود 30 في المئة، وانخفضت التحويلات للدول نفسها بنسبة 20 في المئة!. ماذا ارتفع في المقابل؟. حجم "صناعة البغاء"، وعمليات تشغيل الأطفال حتى في الدول المتقدمة ( الراشدة)!.. بل ارتفع معدل "الاتجار بالبويضات الأنثوية"!، وعدد العائدين إلى بلدانهم الأصلية، من البلدان التي كانوا يعملون فيها. مهلا.. مهلا، في "قطاع الارتفاع" – إن جاز الوصف - انضم المحتالون بدءا بالأميركي برنارد مادوف، ولكن من دون نهاية لهم. فقد أخذوا بالظهور في كل الأرجاء، بما في ذلك في المنطقة العربية، إنهم مثل السرطان، الكل يعرف أن يظهر، لكنهم لا يعرفون كيفية القضاء عليه.
يقول الرئيس الأميركي باراك أوباما:" لقد أطفأنا الحريق، لكن الاقتصاديين – لاسيما أولئك العاملين في وول ستريت – لم يبدوا ندما على ما حدث، بل أنهم لم يتعلموا من الأزمة".
وليس لدي تعليقا على كلام أوباما، سوى : يا إلهي.. هل يخططون لارتكاب أزمة جديدة، بينما لا تزال "جثث" ضحايا الأزمة الراهنة في مسرح الجريمة؟!!.

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

أخلاق مصرفية .. لا تُصرف!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )
«العالم يحترق بنار الرغبة في الجشع والغطرسة والأنانية»
الفيلسوف الهندي سري جورو جرانث
محمد كركوتــي
للشاعر الأمريكي روبرت فروست تعريف بليغ للمصرف (البنك). فهو يقول: ''إن المصرف هو المكان الذي يقرضك مظلة في الطقس الصافي، ويطالب باسترجاعها عندما يبدأ المطر بالهطول''!. وإذا كان هذا التعريف ينطبق على عملاء المصرف – ولا سيما المقترضين من أجل الضروريات لا الكماليات - إلا أنه لم يكن قابلا للتطبيق على مديريه، فهؤلاء هم الذين يقررون استعادة المظلة في اليوم الماطر. من الصعب أن تجد عميلا لمصرف ما ''هائما في حبه''، وفي المقابل.. من السهل العثور على عميل، يمكنه أن يستعرض أمامك جملة من السلبيات عن مصرفه، مع مسحة ''كراهية'' توازي هذه السلبيات حجما. وبسبب تغير الآليات - بل والثقافة المصرفية - التي كانت سائدة منذ 20 عاما، وحتى اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية في أيلول (سبتمبر) من عام 2008، تغيرت مسببات الجفاء المعهود بين العميل ومصرفه، من التشدد في منح القروض، إلى توريط العميل في الحصول عليها، دون - طبعا - إغفال ''شهوانية'' العميل للاقتراض، وجشعه في الحصول على الأموال التي يعرف - والمصرف يعرف معه أيضا - أنه لا يستطيع إعادتها!.
وبعيدا عن هذه العلاقة المريضة، التي تراجع حراكها، مع تقدم الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن حالة مديري المصارف – ولا سيما الكبرى منها - أصبحت شبيه بحالة عملائهم. فالمظلات التي استعادوها في اليوم الماطر، سيتخلون عنها عنوة في اليوم الماطر والعاصف أيضا، الذي اختفت فيه حتى الملاجئ!. ولأن الوضع كذلك، فإني أستطيع أن ألمح ''ابتسامات'' العملاء المكبلين بالقروض - غير الميسرة - وأولئك الذين تُركوا على قارعة الطريق، يحاولون العثور على ملاجئ تقيهم الأمطار الرعدية والبرقية وزوابعها. فـ ''الإنفلونزا'' المؤكدة التي سيصابون بها، سيتابعونها في تحركها لإصابة المديرين أنفسهم. لماذا؟.. لأن ''المظلات'' آخذة في التجمع بأيدي الحكومات، التي أصبحت شريكة في بعض المصارف، وصاحبة رأس المال الأكبر - والكلي - في بعضها الآخر، عندما تدخلت - وتتدخل - لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المؤسسات المالية.
لقد انتقل ميدان ''الأخلاقيات المصرفية'' التي لا تُصرف، من ساحة المصارف والعملاء، إلى ساحة المصارف والحكومات. فالتدخل الحكومي الذي كان مُحرما في مصارف الدول الغربية بشكل عام، بات ضروريا في الوقت الراهن. ليس فقط بسبب الأموال الحكومية - أموال دافعي الضرائب - التي ضخت في هذه المؤسسات، بل أيضا من أجل أن يتوصل العالم أجمع - وليس الدول الغربية فقط - إلى وضع نظام مالي عالمي جديد، على رأس أولوياته، التعلم من عِبر الأزمة التي فاقت كل الجامعات في زخم دروسها. ومن ضمن الملفات التي وضعت على الطاولة، ملف لا يوجد مدير مصرف واحد يريد فتحه، وإن تمكن من حرقه لن يتردد لحظة واحدة. ملف يعج بوثائق الجشع والغطرسة والأنانية، من المستحيل العثور فيه على ورقة واحدة ترتبط بالأخلاق. إنه ملف مكافآت ورواتب مديري ورؤساء المصارف. فهذا الملف دخل التاريخ مرتين. في المرة الأولى: من هول المكافآت والرواتب الضخمة التي يصرفها المديرون لأنفسهم. وفي المرة الثانية: لأنه وُضع لأول مرة، ضمن نطاق مباحثات ومفاوضات، الدول التي أخذت زمام المبادرة الاقتصادية العالمية، من خلال ''مجموعة العشرين''. فحتى المجموعات والكيانات الدولية التاريخية المعروفة الأخرى ( مجموعة السبع والثماني، والاتحاد الأوروبي وغيرها)، لم تُقدم في السابق على مثل هذه الخطوة. لقد كانت الحصانة المريعة التي تمتعت بها هذه المصارف والمؤسسات المالية، على مدى عقود من الزمن، سببا رئيسيا في الدمار الاقتصادي الذي يعيش فيه العالم الآن.
تتحرك فرنسا ومعها كل دول الاتحاد الأوروبي - ما عدا بريطانيا - لسن قانون دولي من خلال ''مجموعة العشرين'' في قمتها التي تنعقد في الولايات المتحدة أواخر شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، يضع حدا أقصى لرواتب ومكافآت مديري المصارف. والتحرك الفرنسي جاء عمليا في أعقاب إجراءات وضعتها حكومة الرئيس نيكولاي ساركوزي، وقبلتها البنوك الفرنسية لتقليص هذه الرواتب والمكافآت، لا سيما تلك التي تدفعها المصارف لمضاربيها، أو لنقل إلى ''مقامريها''. لكن في بريطانيا وجهة نظر أخرى، وإن تماشت مع التحرك الفرنسي في خط، إلا أنها ليست كذلك في خط آخر. فرئيس الوزراء جوردون براون، تعهد باتخاذ إجراءات صارمة بشأن المكافآت المبالغ فيها في إطار مسعى دولي، ويعتبر أن الرواتب والمكافآت يجب أن تُمنح على أساس النتائج على المدى الطويل، وليس وفق معايير المكاسب عن طريق المضاربات، بل ويمضي أبعد من ذلك بمطالبته بضرورة أن تُسترد المكافآت إذا ما تدهور الأداء في الأعوام اللاحقة. وهذا ''جميل جدا''، لكن الجانب ''غير الجميل''، هو أن براون، لا يرغب في وضع حد أقصى للمكافآت بشكل عام!. ولا شك في أن رئيس الوزراء البريطاني أراد بموقفه المتباين مع موقف الرئيس الفرنسي، أن يحافظ إلى أقصى مدى على وضعية لندن كأهم مركز مالي أوروبي، لكن غاب عنه، أن الأزمة الاقتصادية العالمية، غيرت كثيرا من الأساسيات، وقلبت كثيرا من الثوابت التي كانت قائمة قبلها. والغريب أن الإدارة الأمريكية تقف إلى جانب الحكومة البريطانية في موقفها هذا، على الرغم من أن الولايات المتحدة، كانت من أكثر الدول اكتواء من لهيب هذه المكافآت والرواتب و''بقشيش'' السمسارة!.
والأغرب من هذا، أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه، لم يتوقف عن مهاجمة مديري المصارف، بسبب مكافآتهم الهائلة التي يمنحونها لأنفسهم، ومن عدم تعلمهم من دروس الأزمة. والواقع أن الوقاحة بلغت أعلى مستوى لها عند مديري المصارف والمؤسسات المالية الأمريكية، عندما صرفوا لأنفسهم أكثر من 19 مليار دولار أمريكي كرواتب ومكافآت.. وماذا أيضا؟.. حوافز! عن عام 2008، الذي انفجرت فيه الأزمة الاقتصادية، بل إن حجم هذه الأموال، لم يتراجع حتى في ظل الضخ المالي الحكومي في المصارف والمؤسسات المالية!. فهذه '' القطط'' (المديرون المصرفيون) تسمن في وقت يعاني فيه العالم أجمع ''من سوء التغذية''، وتتضخم في زمن تتقزم فيه مؤسساتها!. والحالة نفسها تقريبا في بلد كبريطانيا. فلا تزال قصة المدير السابق لمصرف ''بنك أوف اسكوتلاند'' فريد جودوين الذي رفض التنازل عن راتبه التقاعدي مدى الحياة البالغ مليون دولار أمريكي سنويا، رغم أن مصرفه مني بخسائر في عام 2008 بلغت أكثر من 34 مليار دولار أمريكي.. لا تزال هذه القصة تدور في الأروقة والساحات. ولمزيد من الدهشة، فإن خسارة هذا المصرف هي الأكبر على الإطلاق في تاريخ المؤسسات المالية البريطانية، يضاف إليها 400 مليار دولار، هي عبارة عن ديون مشكوك في تحصيلها، بل لنقل ''ديون معدومة''.
والذي يزيد من غرابة موقف رئيس الوزراء البريطاني الرافض لوضع حد أقصى لرواتب ومكافآت المصرفيين، أنه هو نفسه قال: ''أنا مستعد لتقليص راتبي ولا أخشى عليه. وإذا ما تم الاتفاق على تطبيق ذلك على الجميع، فسأكون مستعداً بالكامل لهذه الخطوة. فأنا لا أقوم بعملي الحالي في سبيل المال''. مرة أخرى.. إنه كلام جميل، خصوصا وأن جوردون براون، ليس من أولئك السياسيين الماكرين، لكن الكلام سيكون أجمل، لو تعاون هذا الأخير مع قادة الدول الساعية، لوضع حد لجشع مديري المصارف. وخطوة مثل هذه ستخفف آلام الأزمة الاقتصادية في مجتمعات، شهدت تصاعد قوة المصارف الكبرى، لتتوازى في بعض الدول مع قوة الحكومات نفسها. إن تحديد مستوى الرواتب والمكافآت في القطاع المصرفي، لم تعد داخلية أو محلية أو وطنية، لقد أصبحت عالمية، لأنها - أي المصارف والمؤسسات المالية - قدمت أزمة اقتصادية لا شبيه لها في التاريخ الحديث، والذي يرضي الرأي العام حاليا، هو كبح جماح المديرين المصرفيين، بعدما تم كبح جماح الأدوات المصرفية التي كانت محصنة من الضوابط والشكوك والمساءلة. والخلاف البريطاني - الأوروبي حول هذه القضية، سيدفع الرئيس الفرنسي للحديث مجددا، عن الدور المدمر للنظام الاقتصادي ''الأنجلو سكسوني''، الذي ذوبته الأزمة الاقتصادية، ومنحت صنع القرار لـ ''مجموعة العشرين''، ليس فقط لتأسيس نظام مالي عالمي جديد خال من الشوائب والريبة، ومن مبدأ ''دع السوق تصحح نفسها''، بل لتحديد مستوى معاشات مديرين يكافئون أنفسهم حتى على الفشل!!.

السبت، 5 سبتمبر 2009

لا جدار أمام الأخلاق



(هذا المقال خاص بموقع " سي إن بي سي عربية")

* في الصورة: محمد كركوتي أمام الجدار القبيح

"الفلسطينيون وحوش تمشي على قدمين"

رئيس وزراء إسرائيل السابق مناحيم بيجين

محمد كركوتــي

عندما وضع أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل "المغمى عليه"، حجر الأساس لأبشع جدار عرفه التاريخ، بما في ذلك جدار برلين الشهير، لم يكن يسعى فقط للوقاية من الهجمات الفلسطينية، بل كان يعمل على تقسيم الشخصية الفلسطينية نفسها، وتحويل معاناة الفلسطينيين إلى "سلوك" يومي متواصل. فهو يعلم – قبل أن يغيب عن الوجود وهو موجود! – أن الجرح الداخلي أقبح وأكثر ألما وفظاعة من الجرح الخارجي. لقد أقيم الجدار داخل النفس الواحدة معنويا! وداخل المنزل الواحد جغرافيا، وفي حين فشل شارون في فصل النفس الواحدة عن بعضها البعض، نجح في فصل المنزل الذي مر منه الجدار عن مطبخه وعن صالة الجلوس!، مع فشل العالم – بما في ذلك الأمم المتحدة- في الوقوف أمام تمدد الجدار، ومستوى ارتفاعه. فقد تجاوزت "هامة" هذا الجدار العنصري القبيح، هامات دول بأكملها.
نقاط العبور عبر الجدار التي هي عبارة عن مواقع عسكرية كاملة توزع المهانة اليومية، والأسلاك الشائكة على قمته تنشر الذل، وأبراج المراقبة تشبه تلك التي كانت منتشرة في سجن "سان كوانتن" San Quentin الأميركي الرهيب، الذي كتب عنه المغني الأميركي الراحل جوني كاش أغنية قال فيها : "سان كوانتن أنا أكره كل إنش فيك". تصاريح العبور( يلفظها الإسرائيليون: تصاريخ) التي يحتاجها الفلسطينيون يوميا للنفاذ من منطقة "المطبخ" إلى "الصالون"، هي مصيبة يومية، وفي الوقت نفسه هي ساعية ( نسبة للساعة)، لأنها تمنح بالدقائق لا بالأيام!.
هذا الجدار العنصري المذل المريع، شارك في توفير مواده بعض من رجال الأعمال الفلسطينيين، وبعض هذا البعض تبوأ مناصب عالية في السلطة الفلسطينية القاصرة في السنوات القليلة الماضية. وفر هؤلاء الحديد والاسمنت وحتى المياه، لرفع الجدار مدماكا إثر مدماك، ولبناء أبراج المراقبة المطلة على الشعب الفلسطيني السجين. لم يكن شارون يريد أكثر من ذلك. فقد استطاع إشراك السجين في بناء سجنه!.. تماما مثل بعض الاتفاقيات الإسرائيلية – الفلسطينية، التي نصت على " أن يعتقل الفلسطينيون أنفسهم"!. وبذلك حقق هذا "المغمى عليه"، أبشع أنواع التطبيع.
أمام هذا الوضع المشين، تظهر على الساحة مَن؟.. النرويج التي أعلنت حكومتها قبل أيام: أن صندوق ثروة البلاد البالغة قيمته 400 مليار دولار أميركي، استبعد التعامل مع شركة "البيت سيستمز" الإسرائيلية لتوريدها تجهيزات مراقبة للجدار العازل في الضفة الغربية المحتلة. أي أنها رفضت التعامل حتى مع شركة مراقبة، لا شركة بناء!. وقالت وزيرة المالية كريستين هالفورسن: "إننا لا نرغب في تمويل مؤسسات تشارك بهذا الشكل المباشر في انتهاكات للقانون الإنساني الدولي". لقد استندت النرويج إلى قرار محكمة العدل الدولية القاضي بأن هذا الجدار القبيح ينتهك معاهدة جنيف الرابعة. وبذلك عزز "صندوق ثروة النرويج" مبادئه الأخلاقية في التعاطي مع المؤسسات والشركات المختلفة. فهو يلتزم - وأوفى بالتزامه - بمبادئ استرشادية أخلاقية، أصدرتها وزارة المالية. وسبق للصندوق نفسه أن استبعد شركات تنتج أسلحة نووية أو ذخائر عنقودية أو تلحق أضرارا بالبيئة أو تنتهك حقوق الإنسان أو العمال.
لقد قررت أن أخوض شخصيا " رحلة الجدار"، عندما كنت مشاركا في مؤتمر " الاستثمار في فلسطين" الذي عقد في بيت لحم قبل عام ونصف العام. وخبرت المهانة اليومية التي يتعرض لها الفلسطيني كل يوم، في العبور عدة أمتار من طرف الجدار إلى طرفه الآخر. الرشاشات فوق الرؤوس، والكاميرات حول الأجساد، و"التصاريخ" في الأيدي مع أحزمة البنطلونات، بل البنطلونات نفسها تتحول إلى "يدوية" في نقاط العبور. جندية شقراء جميلة، سألت فلسطينيا كان بجانبي، عن سبب "عبوره"، فرد عليها: أنه يريد أن يزور ابنته، التي لم يلتقيها منذ بناء الجدار!، بينما لو كان رفع صوته مناديا عليها من وراء الجدار لسمعته وردت عليه!. لن أتحدث عن آلاف العمال الذين يعبرون أمتارا لا تزيد عن عشرين، في ظرف ثلاث ساعات وأكثر، علما بأن " التصاريخ" ليس من الضروري أن تضمن العبور. ولن أتحدث عن التخريب البيئي الذي ارتكبه الجدار، ولن أتحدث عن الآثار الصحية المدمرة التي يتركها عند الفلسطينيين، ولا عن شح المواد الغذائية الأساسية. فهذه قضايا تحتاج إلى "مجموعة العالم" لتناولها، لا مجموعات السبع ولا الثماني ولا العشرين ولا حركة عدم الانحياز ولا غيرها من مجموعات عالمية.
لكني لا أستطيع إلا أن أنحني أمام الحكومة النرويجية وأخلاقياتها الآتية من أقصى شمال الكرة الأرضية، وأقف بهامتي أمام أولئك الذين حملوا أكياس الاسمنت وقضبان الحديد، ليس من أجل بناء مدرسة أو مستشفى أو حتى متاريس.. بل من أجل بناء سجن ليُعقتلون فيه . إنهم مثل الوثنيين الذي يصنعون الأصنام ليعبدونها!.

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2009

مهاجرون في ظل "قومية إقليمية" مهزوزة!




(هذاالمقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

"علينا أن نتذكر دائما نحن جميعا.. أنت وأنا شخصيا، ننحدر من مهاجرين وثوار"
الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت

محمد كركوتــي

في كتابي الذي صدر في يونيو/ حزيران الماضي تحت عنوان " في الأزمة"، كتبت في أحد فصوله، عن بزوغ ما يمكن تسميته بـ " القومية الاقتصادية"، من جراء الأزمة الاقتصادية العالمية، التي لم تغير آليات الحراك الاقتصادي فحسب، بل أطلقت العنان للمشاعر القومية (والمحلية) بصورتها السلبية، وأعادت التطرف إلى الانتماءات الوطنية في دول، كانت – قبل الأزمة- تفتخر بأن وطنيتها الحقيقية " الجميلة" ، تكمن في عمق الانتماء الإقليمي لها، وكانت تقر أن الانغماس في "وطنية عصبية"، لا يسبب أضرارا للكيان الإقليمي، بل يصيب هذا البلد المتعصب بأضرار فادحة، في مقدمتها، عدم الاستفادة من السوق الكبيرة المفتوحة أمامه، بالصورة التي تستفيد منها البلدان الأخرى، ذات " القومية الإقليمية" – إن جاز الوصف - . في منظومة ضخمة كالاتحاد الأوروبي تنعم بأكبر اقتصاد في العالم ( الناتج الوطني السنوي لدول الاتحاد يبلغ 18,394,115 مليار دولار أميركي، من أصل الناتج الإجمالي العالمي البالغ 60,689,812 مليار دولار) بات الإيطالي– بعد الأزمة – الذي يعمل في شركة فرنسية تزاول نشاطاتها في بريطانيا مقتنصا لفرصة عمل بريطاني. والبرتغالي الموظف في شركة بريطانية في أسبانيا، يبعد أسباني عن وظيفة. والمزارع الروماني الذي يحرث بستانا في اليونان، يضع الفلاح اليوناني في قائمة ملتقي إعانات البطالة. وحتى السمسار البريطاني في بورصة لندن، يصعب عليه تخفيف نظرات الكراهية لكل السماسرة الفرنسيين والبلجيكيين وزملائهم من غير البريطانيين العاملين في هذه البورصة. فهؤلاء قد يحصلون على وظيفته، في خضم التزاحم اليومي في ميدان السوق. فما كان مقبولا قبل الأزمة، أصبح مكروها بعدها، والمشاعر تجاه الجار – وحتى الشريك – لن تكون بمعزل عن ذلك.
وإذا كانت هذه التحولات مشينة في منظومة تنص اتفاقياتها على معاملة البريطاني في فرنسا.. كفرنسي، واليوناني في النمسا.. كنمساوي، واللكسمبورجي في إيطاليا.. كإيطالي، والفنلندي في ألماني.. كألماني، فإنها ليست بهذا الزخم المشين عندما ترتبط بمهاجر قادم من آسيا أو الشرق الأوسط أو أفريقيا، أو حتى من بعض دول الكتلة الشرقية الأوروبية، التي لم تنغمس دستوريا بعد في هيكلية الاتحاد الأوروبي. صحيح أن هناك اتفاقيات دولية تنظم وضعية المهاجرين – بشكل عام – وصحيح أن الدول الراشدة - والأوروبية منها – لن تتجاوز هذه الاتفاقيات، إلا أن الصحيح أيضا، أن الاحتياجات الاقتصادية والبشرية في الدول الحاضنة لأكبر عدد من المهاجرين، تغيرت، بفعل الأزمة العالمية، وبدأت تسن القوانين التي تحد من الهجرة، أو على الأقل التشريعات التي "تغربل" المهاجرين. فالذي تحتاجه الآن، مهاجرون مؤهلون، لا مهاجرين متطفلين يسعون فقط إلى حياة أفضل، من تلك التي يعيشونها في بلدانهم الأصلية. ففي بلد كبريطانيا - معروف بالتسامح والتساهل مع المهاجرين- بدأ صناع القرار فيه، بوضع مخططات جديدة لتشديد شروط الهجرة والجنسية. والشروط التي كانت مطلوبة بالأمس، لم تعد صالحة لليوم وللغد. وبريطانيا التي كانت مصدرة للقوانين والتشريعات على مستوى العالم، قررت استعارة بعض تشريعات الهجرة الأسترالية. والقوانين الجديدة تضع العاملين الأجانب – وحتى الطلاب! - ضمن تصنيفات تتعلق بمؤهلاتهم وأعمارهم، ومدى حاجة البلاد إلى مهاراتهم في إطار السعي لضبط عملية تدفق الأجانب الباحثين عن عمل. وحسب المشرعين البريطانيين، فعندما تشهد البلاد أزمنة اقتصادية عصيبة، ينبغي إعادة النظر في كل شيء، وفي أي شيء، لكي تتمكن الحكومة من الاستجابة بمرونة وفاعلية لتغير الاحتياجات الاقتصادية للبلاد.
في بريطانيا يصل عدد المهاجرين إلى 5 ملايين مهاجر، أي ما يوازي 7,9 في المئة من مجموع عدد السكان البالغ 59 مليون نسمة. ويصل إلى البلاد يوميا أكثر من 1500 مهاجر من مناطق، تعاني غالبيتها من الفقر والتخلف والفساد والحروب والصراعات القبلية. والحق أن بريطانيا وضعت منذ سنوات سياسة متشددة – لا قوانين جديدة واضحة - بشأن الهجرة. فقد اتبعت "سياسة العراقيل" أمام الراغبين بدخول البلاد والعيش فيها، باستثناء من يتمتعون بمهارات عالية من العمالة الأجنبية. والواقع أن السياسة المتشددة هذه، لم تنطلق لأسباب اقتصادية، بل لأسباب أمنية، مع اشتداد خطر الإرهاب البغيض عليها. فالإرهابيون شوهوا الوجه البريطاني المتسامح حيال المهاجرين واللاجئين بشكل عام، تماما كما شوهت الأزمة الاقتصادية العالمية، المشهد الاقتصادي الذي كان سائدا قبلها، وبعثرت مشاعر الإنسان، كما عبثت بإنسانية المكان. وبعيدا عن الإرهاب الذي يجب أن يحارب بكل الوسائل، بصرف النظر عن مبرراته، فإن قوانين أو نظام الهجرة البريطاني الجديد، يتعرض لانتقادات حادة من جانب لجنة من المشرعين. فهذا النظام يركز على المؤهل العلمي فقط، لاستقطاب هذا المهاجر أو ذاك، بينما يعتقد المشرعون المعترضون أن هذا التركيز يأتي على حساب عوامل أخرى، في مقدمتها القدرة على العمل أو الخبرة المكتسبة، إلى جانب طبعا انتقادات أرباب العمل، الذين اعتبروا أن نظام الهجرة الجديد والتعديلات المقترحة عليه، يحول دون تمكنهم من جلب وتوظيف العمالة الماهرة الضرورية، وغير المتوفرة في الساحة المحلية.
من المؤكد أن الصراع التشريعي سيتواصل في بريطانيا، فهذا البلد لا يصدر عادة قوانين وتشريعات ارتجالية سرعان مع يضطر واضعوها إلى إلغائها وإطلاق المبررات المضحكة، خصوصا في البلدان التي لا تعاقب المخطئين – وحتى الفاشلين – بل تمنحهم الترقيات!. والحقيقة أنه حتى قبل إقرار التشريعات الجديدة الخاصة بالهجرة والعمل والتحصيل العلمي، بدأت أعداد من المهاجرين مغادرة بريطانيا طوعا. وطبقا لـ " معهد أبحاث السياسة العامة" البريطاني فإن عدد هؤلاء سيصل إلى مليون مهاجر في غضون السنوات القليلة المقبلة بسبب الأزمة الاقتصادية. وحسب دراسة للمعهد نفسه، سيغادر البلاد كل عام 200 ألف مهاجر على الأقل في غضون الخمس سنوات المقبلة. وإذا ما اعتبرنا أن أبناء دول الكتلة الشرقية الأوروبية السابقة من المهاجرين ( عمليا هم من مواطني الاتحاد الأوروبي) فقد بلغ عددهم في السنوات الماضية في بريطانيا أكثر من 1,1 مليون نسمة، لكنه في أعقاب الأزمة، غادر منهم ما يقرب من 550 مليون نسمة. وهذا يعني أن هذا البلد الذي يتميز بقدرات جاذبة للمهاجرين الوافدين – مقارنة بالبلدان الأوروبية الأخرى – بدأ بالتحول إلى بلد "هجرة معاكسة".
يقول رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل: " الأمم القوية لا تكون عادلة، ولكن عندما تريد أن تصبح عادلة، تكون قد فقدت قوتها"!. ولا شك أن قوة بريطانيا – كغيرها من الدول الكبرى المنكوبة من الأزمة الاقتصادية – لم تعد كما كانت، والمؤشرات كلها تدل على أنها لن تعود إلى وضعيتها ما بين فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والأزمة الاقتصادية الراهنة. بل أن الكبار فقدوا بعضا من "عدة" صنع القرار الاقتصادي العالمي. لماذا؟. لأن الأوقات تتغير.. وتتغير معها المتطلبات والآليات، وحتى المبادئ والمشاعر. وإذا كانت بريطانيا المتسامحة، تمضي في هذا الطريق، يمكننا أن نتصور أشكال التعاطي مع المهاجرين والعمالة الوافدة في بقية بلدان العالم. والدول التي "تستعيد" عمالها ومواطنيها في هذا الوقت بالذات، تحتاج إلى خطط إنقاذ جديدة، ليس فقط من أجل احتواء العاطلين – العائدين، بل من أجل توفير الحصانة للمجتمع بأكمله. فالغالبية العظمى من هؤلاء لا يعودون كمستثمرين، ولا كرجال أو سيدات أعمال.. يعودون باحثين عن فرص عمل، ينتظرها في " الطابور" الملايين من أولئك الذين لم يستطيعوا مغادرة بلادهم.