الجمعة، 5 ديسمبر 2014

المصارف للمرة «الألف».. التلاعب بالمعادن

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





« كلما زاد حجم المعلومات عنا لدى المصارف، قل وجودنا»
 مارشال ماك لوهان فيلسوف كندي

كتب: محمد كركوتــــي

يبدو أن المخالفات (وأحيانا الجرائم) التي ترتكبها المصارف لا حدود لها، ليس فقط من حيث حجم الأموال العائدة من هذه المخالفات، ولكن أيضاً من جهة تنوعها. وهي تراوح ما بين الجنح والجرائم، ولنا أن نتخيل الأضرار الناجمة عن مثل هذه الممارسات. كانت المصارف على مدى سنوات طويلة تعتقد، أنها عصية على الوقوع في أيدي العدالة. ولولا الأزمة الاقتصادية العالمية، لاستمرت المصارف بسلوكياتها، لاسيما تلك التي تمثل جزءا أصيلا من الهيبة الاقتصادية لبلدانها. والحق، أن كل ما كتب عن مخالفات وجرائم المصارف، لم يحط بما يكفي من الحقائق، والممارسات خلف الخزائن، وسياسات القفز فوق اللوائح والمعايير. وسينقضي وقت طويل، حتى يمكن اعتبار أن المصارف تعرت بما يوازي مخالفاتها وآثارها في الناس والنظام المصرفي نفسه. حتى إدجار هوفر أول مدير لمكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية يقول: “المصارف لا تقاوم. لماذا؟ لأنها مغرية لأولئك الذين يسعون إلى صنع أموال لا يستحقونها”. وهو يعتقد أن المصارف غير المنضبطة، أو غير الخاضعة لرقابة حقيقية لا اسمية، يمكنها أن توفر العوائد المالية الهائلة، دون الحاجة إلى أن تسبقها رؤوس أموال. وهذه حقيقة بالفعل، تجلت بوضوح في أعقاب الأزمة العالمية، التي تحولت إلى آلية لا شبيهة لها من حيث القوة، لتعرية كل شيء. المصارف والحكومات والمؤسسات المالية بكل أنواعها. والأهم عرت المبدأ المروع الذي يقول: “السوق لا تخطئ. وإن أخطأت فإنها تصحح نفسها”. الذي حدث، أن السوق بمؤسساتها المالية المحركة الأولى لها، لم تصحح نفسها، بل لجأت قسرا وطوعاً للحكومات لإنقاذها. لتتم عملية الإنقاذ هذه من أموال المتضررين أنفسهم،
بعد تبييض الأموال، وتضليل المودعين والمتعاملين، وحماية المتهربين من الضرائب، والتلاعب بأسعار الصرف وسعر الفائدة الدولي، وفتح حسابات لمنظمات إرهابية إجرامية، وتخزين الأموال المنهوبة من الشعوب، تواجه المصارف حالياً قضايا جديدة تتعلق بالتلاعب في أسعار المعادن، وهذا التلاعب تم على مدى سنوات طويلة، أي أنها كما المخالفات والجرائم الأخرى، حققت مكاسب هائلة من جراء هذا التلاعب. والحق، أن أحداً من المتابعين لم يفكر في مثل هذه المخالفة الجديدة القديمة. بل إن نسبة من هؤلاء اعتبروا أنه ظهر ما يكفي من المخالفات، ليس فقط لكي تجبر المصارف على الاستقامة، بل أيضاً لكي تبدأ عملية تنظيف واسعة في القطاع المصرفي على الساحة الغربية على وجه التحديد. ويبدو أنه كلما ظننا أن عملية التنظيف سائرة بصورة مستحقة، تظهر حقائق ومعلومات جديدة لتعيد تقييمنا لهذه العملية.
الأسماء المتهمة بالتلاعب بأسعار المعادن هي نفسها التي اتهمت في كل شيء تقريباً. يتقدمها مصرف “إتش إس بي سي هولدينجز” و”جولدمان ساكس” و”ستاندارد تشارترد”. ومن أيضاً؟ وحدة المعادن التابعة لـ “بي إيه إس إف” وهي شركة تعد من أكبر مؤسسات الكيماويات في العالم. وتأتي القضية الجديدة، بعد أقل من عام على قضية رفعت ضد المصارف أيضاً تتعلق بتلاعبها بالذهب. ومن يدري ربما وجدت هذه المصارف مدانة في التلاعب بأسعار علب الصفيح؟ والمعادن في القضية الجديدة تنحصر بصورة أساسية في البلاديوم والبلاتين. وهي صادرات تأتي نسبة كبيرة منها من دول إفريقية فقيرة. وعلى الرغم من أن القضية لا تزال في بداياتها، فلن يكون غريباً ثبوت تورط مسؤولين أفارقة في عمليات التلاعب هذه. وكل شيء يعود في النهاية إلى حيثيات القضية.
تقول جهات الاتهام: إن المصارف المشار إليها قامت باستخدام معلومات داخلية حول مشتريات العملاء وطلبات البيع، للتربح من تحركات أسعار المعادن المستخدمة في منتجات تراوح بين المجوهرات والسيارات. أي أن هذه المعادن (إلى جانب البلاديوم والبلاتين) تدخل في كل شيء تقريباً على صعيد الإنتاج، وهذا يعطي مؤشراً على حجم الأموال التي حققتها المصارف المتهمة من جراء هذه العمليات المشينة. ولا غرابة أن تصل الغرامات إلى مئات الملايين من الدولارات. والحق أن هذه المصارف اعتادت منذ ثلاثة أعوام تقريباً على القبول بدفع الغرامات الهائلة، بل أعلنت بسرعة قبولها الغرامات بدلاً من المضي قدماً في طريق القضاء. بعض الغرامات وصلت إلى 16 مليار دولار، وبعضها الآخر إلى 15 مليارا. هل تكفي الحرب الراهنة التي تشن على المصارف؟ لا، لا تكفي إلا إذا خضعت أدواتها للتطور المستمر. والأهم، إلا إذا استطاعت السلطات المختصة الوصول إلى الحقائق الكاملة حول عمل المصارف على مدى قرابة ثلاثة عقود. صحيح أن العصر الذهبي للمصارف المنفلتة انتهى، لكن الصحيح أيضا أن من حق الأمم التي اكتوت بسلوكيات المصارف لفترة طويلة، التعويض. دون أن ننسى أن الأموال التي أنقذت المصارف المعنية كانت عامة، وبعضها لا يزال يضخ في خزائنها خوفاً من انهيارها. ولا شك أن الأهم من التعويضات، معاقبة المسؤولين على المصارف الذين مارسوا كل الموبقات المالية. ليس فقط لتحقيق أرباح غير مستحقة لمصارفهم، بل أيضا لجني أموال ومكافآت مشينة، وأحيانا تدعو إلى السخرية.

الأربعاء، 26 نوفمبر 2014

مصارف تكفكف دموع مساهميها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«النظام المصرفي الحديث يصنع المال من لا شيء»
جوزيف ستامب اقتصادي إنجليزي



كتب: محمد كركوتــــي

يستحق المساهمون في الشركات والمؤسسات الغربية الكبرى والصغرى التعاطف، من جراء الخسائر الفادحة التي أصيبت بها شركاتهم، كنتيجة طبيعية للأزمة الاقتصادية العالمية. فالخسائر نالت في الواقع من كل البنى التحتية والفوقية للاقتصاد العالمي. ولذلك شملت مستثمرين بملايين الدولارات، وفي الوقت نفسه أصحاب بقالات يستثمرون بألف دولار فقط. الخسائر واحدة، فمصيبة الخاسر لمئات الملايين من الدولارات هي نفسها الواقعة على الخاسر لبضعة آلاف من الدولارات. وفي كل الأحوال، يستحق الجميع التعاطف، ولاسيما أولئك الذين لا علاقة لهم بألعاب الاقتصاد المفتوح على كل شيء وأي شيء، دون ضوابط ومعايير. وبالطبع مع انعدام الأخلاق التي تمثل حصانة للسوق، بصرف النظر عن مكانها. لقد سخر المتلاعبون على مدى أكثر من عقدين من "أخلاق السوق"، بل كانوا يعتبرونها وهمية!
اليوم يندب المساهمون في المصارف حظهم، لأنهم يدفعون غرامات ضخمة تفرضها الحكومات الغربية على مصارفهم، عقاباً على سلسلة من المخالفات، بل ومن الجنح التي يرقى بعضها إلى الجرائم الاقتصادية التغرير بالمودعين، والتلاعب بأسعار الصرف، الغش الواضح في القروض السكنية، إلى جانب تبييض الأموال العائدة لمنظمات وعصابات إرهابية وإجرامية، وتوفير الحصانة لأموال المتهربين من الضرائب في بلدانهم. ولكن، هل يستحق مساهمو المصارف "النادبون" التعاطف على غرار غيرهم من المساهمين في الشركات غير المصرفية؟ هذا السؤال طرح أخيرا في أكثر من ساحة إعلامية عالمية، من بينها جريدة "الفاينانشيال تايمز"، خصوصا في أعقاب الإعلان عن حقيقة الغرامات الهائلة التي فرضت على هذه المصارف. مع قبول إدارات المصرف تلو الآخر بهذه الغرامات دون اعتراض ذي قيمة، خوفاً من محاكمات قد تؤدي إلى انهيار بعض المصارف بالفعل.
يقول توماس جيفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة "أؤمن تماما، بأن المؤسسات المصرفية أشد خطرا من الجيوش الجرارة". وهو بذلك لخص حقيقة الخراب الذي يمكن أن تتسبب فيه هذه المؤسسات. ويبقى الجواب المباشر على السؤال العريض، هو أن مساهمي المصارف المعنية لا يستحقون أي تعاطف، بل على العكس تماما، عليهم الإجابة عن تساؤلات عديدة، تخص أداء مصارفهم في السنوات التي سبقت الأزمة العالمية. لماذا لم تعترضوا على أرباحكم الهائلة غير المبررة؟ لماذا لم توقفوا الإدارات التي قامت بكل الأعمال الموبوءة على مدى سنوات طويلة؟ لم قبلتم صمتا مروعا أدى إلى ما آلت إليه أحوال مصارفكم والاقتصاد العالمي كله؟ لماذا لم تطرحوا (حتى ملاحظات) عن مصادر الأرباح؟ حسنا، لم تكونوا على علم بالحقائق، ألم تسمعوا بالتحذيرات المتكررة عن فقاعة مصرفية تتشكل؟!
هناك أسئلة أخرى عديدة يمكن أن توجه للمساهمين، لكن أحدا منهم لم يجب عنها، بل لا يجرؤ على الإجابة حقا. ولعل ذلك ما يتوافق مع ما قاله يوما الصناعي الأمريكي الشهير هنري فورد "من الأفضل أن الناس لا يعرفون نظامنا المصرفي والمالي. لو عرفوا بالفعل، أعتقد أن ثورة ستندلع قبل صباح اليوم التالي". هذا بالنسبة للناس العاديين الذين لا يرقون لمستوى المساهمين، وحتى المساهمين الذين لا يعرفون التفاصيل حقا، ألم تثر الأرباح الهائلة غير المبررة التي تلقوها أي شبهة أو حتى استغرابا عابرا؟! بالطبع لا يمكن تحميل المساهمين المسؤولية وحدهم فيما وصلت إليها أحوال المؤسسات المالية، ولكنهم يبقون جهة رئيسة توفر التمويل اللازم للأعمال المريبة لإدارات المصارف التي يتهمونها بالمخالفات والتجاوزات وحدها.
والحق أن الحكومات نفسها التي تفرض الغرامات الهائلة حاليا، تتحمل الجانب الأكبر من المسؤولية. لماذا؟ لأنها تركت "الحبل على الغارب"، رغم علمها بأن الكارثة قادمة لا محالة، وأن التحذيرات التي تصدر من هنا وهناك حقيقية، وأن الظلام آت في عز النهار، وأنها (الحكومات) ستتحمل مسؤولية ما بعد الانهيار، من خلال إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المؤسسات المالية، ولاسيما تلك التي تمثل جزءا أساسيا (وأحيانا وحيدا) من السمعة الاقتصادية والمالية للبلاد كلها. على الجميع المسؤولية، ولا حجة لدى مساهمي المصارف في التهرب، عليهم أن يدفعوا الآن "ضرائب" لأرباح لم يكونوا يستحقونها بأي حال من الأحوال. والحق أنهم يعيدون حالياً ما حصلوا عليه، ليس بالغش فقط، بل بالمخالفات الخطيرة. والمثير، أن إدارات المصارف التي تمكنت من البقاء حتى بعد الانهيار، لم تتوقف نهائيا عن ممارساتها المريبة، إلا بعد أن تضافرت الجهود في البلدان الغربية من أجل كبح جماحها. وحتى الإجراءات ضدها أخذت وقتاً طويلاً قبل أن تنفذ بصورة قطعية. بعض المصرفيين يعتقدون أنه بمجرد شعور إدارات المصارف بالذنب وتأنيب الضمير والاعتذار، يكفي لإنهاء الحملة المتواصلة عليها. ولكن لم يثبت التاريخ الحديث حالة واحدة، أظهرت أن "مشاعر" هذه الإدارات صادقة. ففي عز الانهيار، منح المديرون التنفيذيون أنفسهم مكافآت صادمة من حيث حجمها الهائل. تم ذلك في وقت كانت الحكومات تضخ الأموال فيها للإبقاء عليها! ومن السخرية، أنه يتم إنقاذ المصارف من قبل أموال الناس الذين خسروا بسببها!

قتل السوريين لكيلا يموتوا جوعا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«عندما يكون الطغيان حقيقة،  تكون الثورة محقة»
فيكتور هوجو أديب فرنسي راحل




كتب: محمد كركوتــــي

بعد تصدير اللاجئين والنازحين بحيث وصل عددهم إلى المستوى الثاني بعد اللاجئين الذين خلفتهم الحرب العالمية الثانية، يقوم سفاح سورية بشار الأسد بتصدير غذاء السوريين. إلى من؟ إلى روسيا. والحق يمكن لأتباع الأسد (الذي يستوي عنده قتل مسلح وقتل رضيع) يمكنهم القول، إن عدد سكان سورية بلغ النصف منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، وبالتالي هناك مبرر لتصدير المنتجات الزراعية بأنواعها! بالطبع لا يقولون ذلك علانية؛ لأنهم يعترفون رسميا بأن هذا النظام الوحشي إلى لا حدود، قلص عدد البشر في سورية إلى النصف في مدة زمنية صادمة من حيث قصرها، ومفجعة من جهة ما حفلت بالفظائع والخراب، إلى جانب الأكاذيب والمشاعر الطائفية الصادقة التي أظهرها الأسد وأعوانه ضد كل فرد صادف أن يكون سوريًّا.
رهن أسوأ نظام عربي على الإطلاق، مستقبل سورية للخراب المستدام حتى بعد أن يأتي اليوم المؤكد لزواله. ليس فقط عن طريق الديون التي اقترضها باسم السوريين لقتل السوريين أنفسهم بناتجها، وليس من خلال تملك جهات أجنبية حكومية إيرانية وروسية حقوقا طويلة الأجل في البلاد، وليس أيضاً بإفراغ كل خزائن البلاد للإنفاق على السلاح الذي يضمن استمراريته في الحكم ليوم إضافي آخر، وليس عبر السرقة التاريخية لمقدرات البلاد، وفي مقدمتها النفط. هناك دائما أدوات جديدة للخراب الآني والمستقبلي. والأسد الأب والابن تخصصا في ابتكار الجديد في الخراب، لا الجديد في النمو والانتعاش، والأهم لا الجديد في الوطنية والتسامح. لقد أثبتا طائفية دنيئة متجددة، من تلك التي تبرر قتل الرضيع، وبقر بطن المرأة الحامل. بل من تلك التي تستسهل ضرب الأطفال بالسلاح الكيماوي.
اليوم، غذاء السوريين يصدره الأسد لروسيا. ولا غرابة في أن تقبل موسكو هذا النوع من الصادرات، لسبب واحد فقط، أن من يحكمها هو نظام مارق، يمارس سياسة قطاع الطرق، بدلا من سياسة الدول، وهذا النوع من الأنظمة يمثل الوقود الحيوي والعضوي والاصطناعي لأنظمة مشابهة لنظام الأسد، رغم أنه لا يوجد له نظير، على الأقل منذ أعقاب الحرب الثانية. والأهم من هذا، أن روسيا (كما إيران) شريكة في الحرب على الشعب السوري. وغذاء السوريين الذي يصل إليها، هو في الواقع مرسل من حليف إلى حليف في هذه الحرب. دون أن ننسى أن روسيا الهشة اقتصاديا وإنتاجيا منذ الأزل، تعرضت إلى ضغوطات غذائية حقيقية، بمجرد إعلان العقوبات الغربية عليها. وهي الآن تئن ماليا واستثماريا، فضلا عن أنينها الناتج عن التراجع الكبير في أسعار النفط. فهي في النهاية بلد لا يرتزق إلا على النفط وتصدير السلاح حتى إلى العصابات. والقمح (مثلا)، لا يشكل شيئاً أمام عوائد النفط والسلاح.
يصدر الأسد غذاء السوريين إلى روسيا، بعد أن زادت أسعار الغذاء في كل أنحاء سورية إلى أكثر من 300 في المائة. وحتى في المناطق التي يحاول الأسد وعصاباته تسويق "هدوئها"، يعاني سكانها مشاكل معيشية لا تتوقف عند حد، بسبب الغلاء الناجم أيضا عن التراجع "الماراثوني" لسعر صرف الليرة. أي أن ما تبقى من السوريين في سورية، يواجهون شح الغذاء بسبب تصديره إلى الحليف المارق، وارتفاع أسعار المتوافر منه لشح المعروض وانخفاض العملة التي تتآكل قيمتها كل يوم. ويتم تصدير كل شيء تقريبا، ولو أراد فلاديمير بوتين استيراد القمح من سورية! لما تردد الأسد في التصدير، حتى لو كان هذا القمح روسيا أصلا. لقد وصل الأمر (وفق مسؤولين في النظام نفسه) لتصدير منتجات زراعية معلبة! فالأمر ليس مقتصرا على منتجات زراعية فقط!
يتم كل هذا في الوقت الذي أعلنت فيه أكثر من جهة دولية، بما فيها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، أن عدد محتاجي المساعدات الماسة للغذاء في سورية ارتفع بنسبة 50 في المائة منذ يونيو 2013 وحتى مطلع العام الحالي. وهناك مساحة زمنية لم تغطها (الفاو) بعد فاصلة بين الربع الأول من العام الجاري والربع الأخير منه. واستنادا إلى المنظمة نفسها، فإن ما يزيد على 6.3 مليون نسمة بحاجة ماسة إلى الغذاء، وإلى ماذا أيضا؟ إلى المساعدة الزراعية. وترى (الفاو)، أن الأسباب الرئيسة لهذه الوضعية الخطيرة، تتمثل في محدودية الغذاء، وعدم قدرة الناس على الوصول إليه أو تحمل تكلفته، وتقول "فالحقول والأصول الزراعية تركت أو دمرت بسبب العنف والتشريد، وزيادة تكاليف الإنتاج ونقص الإمدادات الزراعية الأساسية".
التقديرات الأكثر محافظة، تشير إلى أن عدد النازحين السوريين ضمن بلادهم بلغ سبعة ملايين نسمة، إلى جانب ما يقرب من 5 ملايين باتوا في عداد اللاجئين. ونظام وحشي طائفي كنظام الأسد، لن يتردد في خفض عدد النازحين لتحويلهم إلى لاجئين، إذا ما وجد أن ذلك يتوافق من الناحية الاقتصادية مع جدوى تصدير غذاء سورية إلى روسيا. بل لن يتردد على الإطلاق في قتل هؤلاء، ربما بحجة عدم تعريضهم للموت جوعا.

الغذاء .. في دائرة الصراعات والمناخ والهدر

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«سيأتي يوم سيكون فيه الزمن المطلوب لإنتاج الغذاء، موازيا للزمن المطلوب لجني المال من أجل شراء الغذاء»
فرانك كلارك، سياسي أمريكي راحل



كتب: محمد كركوتـــي

الفارق بين دولة نفطية كفنزويلا باتت مضطرة لاستيراد الوقود وبين مجموعة من الدول الزراعية تواجه نقصا في الغذاء أن الأولى وصلت إلى هذه الوضعية نتيجة سياسة تخريبية خرقاء نفذها رئيسها الراحل هوغو تشافيز على مدى سنوات، أما بلوغ الدول الزراعية حالة نقصان الغذاء فهو مسؤولية جماعية تشترك فيها حكومات الدول نفسها إلى جانب حكومات دول أخرى في العالم. إنها نتاج سياسة محلية إقليمية عالمية. بينما حالة فنزويلا محلية خالصة. والعجب يبقى موجودا في الحالتين وربما اختصرته بأفضل بلاغة إحدى قصائد طرفة بن العبد "كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول". دولة نفطية تستورد النفط، ودول زراعية مهددة في الواقع بمجاعات!
الأضرار الزراعية التي تحذر منها أكثر من جهة دولية لا تشمل فقط نقص الغذاء بتراجع مستويات المنتج الزراعي، بل تنال مباشرة من سكان البلدان المهددة عن طريق إخراج أعداد هائلة منهم من العمل وانضمامهم إلى صفوف المتعطلين. وبحسب شركة "مابلكروفت" الاستشارية البريطانية فإن ما يقرب من 65 في المائة من سكان 32 دولة يعملون في الزراعة، التي تمثل ما بين 28 و30 في المائة ناتجها المحلي. أي أن الكارثة غذائية واجتماعية أيضا. وهذه الدول تتعرض لصراعات واضطرابات منذ سنوات بأشكال مختلفة، وأطراف متعددة (منها خارجي). ولا يبدو في الأفق أي مؤشر على تراجع حدة هذه الصراعات، بل إن المختصين يتوقعون استمرارها لـ 30 عاما مقبلة. مما يعني، أن نقص الغذاء الآن سيتحول تدريجيا إلى مجاعة لاحقا، الأمر الذي يزيد من مسؤولية العالم عن كوارث محققة، أو في أفضل الأحوال شبه مؤكدة.
إن غالبية هذه البلدان تقبع في إفريقيا والبقية في القارة الآسيوية. علما بأن آثار المجاعة التي عمت القارة الإفريقية في ثمانينيات القرن الماضي لا تزال ماثلة على النسيج الاجتماعي في غير بلد إفريقي. والصور المؤلمة لأطفال ببطون منفوخة وأطراف مثل أعواد الكبريت لم تغب على الأقل عن أولئك الذين يشعرون حقا بالهم الإنساني لا السياسي.. بهمّ البشر لا بهموم الأحزاب والتيارات والقبائل وغيرها. وبصرف النظر عن تحسن أوضاع الغذاء بشكل عام في السنوات القليلة الماضية في المناطق التي شهدت الكوارث الغذائية إلا أن هذا لا يخفف من الحقيقة القادمة في الطريق. بنجلادش وسيراليون وجنوب السودان ونيجيريا وتشاد وهاييتي وإثيوبيا والفلبين وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا كلها عرضة للخطر الماحق، يضاف إليها دول سريعة النمو حقا، لكنها مهددة بلقمتها مثل كمبوديا والهند وميانمار وباكستان وموزامبيق.
 
وإنصافا للحالة التي تعيشها البلدان المذكورة لا بد من الإشارة إلى أن عوامل المناخ تسهم هي أيضا في المأساة المتعاظمة. ويؤكد المختصون أنهم لم يتوقعوا هذا القدر من الصلة بين الأمن الغذائي وتغير المناخ. وهنا تزداد مسؤولية المنظمات الدولية ليس فقط في توصيف المشهد المأساوي العام، بل أيضا في التثقيف المطلوب لمواجهة استحقاقات البيئة وتوفير الأدوات السريعة واللازمة لذلك. في مقابلة أجريتها مطلع تسعينيات القرن الماضي مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران قال: "كيف يمكن أن نطلب من امرأة في قرية إفريقية نائية التوقف عن قطع شجرة للطبخ لأطفالها إذا لم نوفر لها نحن الوقود؟!". أي أن حماية البيئة وحماية البشر منها أيضا لا تتم نظريا وتخويفيا، بل بأدوات فاعلة وذات جدوى. والمسؤولية لا تختص بتلك المرأة الإفريقية، بل بالمجتمع الدولي كله.. بالدول القادرة على إحداث التغيير وليس فقط التحذير من الأسوأ القادم.
والأمر هنا لا يتعلق فقط بالصراعات المحلية والإقليمية وبالتغير المناخي، بل يشمل أيضا وبصورة مرعبة كميات الغذاء التي تهدر حول العالم. ففي آخر إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة جاء أن العالم يهدر 30 في المائة من الغذاء. وهذه الكميات الهائلة تكفي لإطعام 800 مليون جائع! وطبقا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) فإن ما يقدر بنحو 1.3 مليار طن من الإنتاج العالمي للغذاء تفقد أو تهدر سنويا. وبحسب التفاصيل، فإن أكثر من 40 في المائة من المحاصيل الجذرية والفواكه والخضراوات و20 في المائة من البذور الزيتية و35 في المائة من الأسماك لا تصل لأفواه الجائعين في العالم. والحقيقة، أن هذه الكميات المهدرة، تكفي البلدان الـ 32 المهددة بنقص الغذاء ومعها بلدان أخرى أيضا.
يقول العالم البيولوجي الأمريكي الراحل نورمان بورلوج: "الإنسانية كما نراها اليوم ما كانت لتتطور وتنجو بلا إمدادات غذائية كافية". وكما تهددت الإنسانية في السابق في بعض مناطق هذا العالم فإنها معرضة للمزيد من التهديد في المناطق نفسها تقريبا على الرغم من بعض الإنجازات التي تحققت في العقود الثلاثة الماضية. مع التأكيد على أنه حتى هذه الإنجازات دخلت دائرة الخطر وتنتظر منقذين لا سياسيين.. منقذون يتعاملون مع حالة بشرية متفاقمة.

الخميس، 6 نوفمبر 2014

قانون «فاتكا» أوروبي أيضا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


«الفارق بين الضرائب والموت أن الموت لا يمكن أن يصير أسوأ عندما يجتمع الكونجرس».
ويل روجرز كوميدي أمريكي




كتب: محمد كركوتــي

سيكون لعام 2017 محور خاص في التاريخ من جهة الحرب المستعرة على المتهربين من الضرائب. وهو العام الذي تبدأ به 51 دولة غالبيتها أوروبية، بتبادل المعلومات حول الأرصدة المصرفية لرعاياها خارج نطاق حدود دولهم. الذي يرفع من أهمية هذه النقلة، أن بلدانا مثل سويسرا وإمارة ليختنشتاين وجزر العذراء البريطانية وجزر كايمان. وبعض من أشباه الدول الأخرى. فهذه البلدان لم تعد قادرة على المقاومة ضد الهجمة الغربية على وجه التحديد، لفتح الحسابات، سواء للبحث عن ضرائب أو للعثور على أموال قذرة بصور مختلفة. لقد استسلمت، ليس حبا في القوانين والإجراءات الجديدة، بل خوفا من عقوبات لا تقوى عليها، عقوبات قد تؤدي إلى "إغلاق" أبواب البلدان المشار إليها نفسها، ومعها مصارفها ومؤسساتها المالية المارقة.
ولعل اللافت أيضا، أن الولايات المتحدة لم تنضم إلى الدول الموقعة على اتفاق تبادل المعلومات المصرفية الخاصة بالأفراد، على الرغم من أن واشنطن، هي التي بدأت الحرب على التهرب من الضرائب، وأقرت في عام 2010 قانون "فاتكا" المعروف، وهو يماثل في حيثياته ومعاييره وقواعده طبيعة اتفاق الدول الإحدى والخمسين، بل إن قانون "فاتكا" نفسه، بات معتمدا من الدول الأوروبية وبعض أشباه الدول الأخرى. المسؤولون الأوروبيون يرون، أن للأمريكيين مناقشاتهم وطروحاتهم الخاصة بهذا الأمر، لكنهم يؤكدون في الوقت نفسه أنه لن يحدث تعارض على الإطلاق على طرفي الأطلسي، بل على العكس، فالاتفاق يصب في صميم "فاتكا" والعكس صحيح. فإذا كانت واشنطن تبحث في مصارف الدول الأخرى عن حسابات مواطنيها، فإن العواصم الأخرى تستعد للبحث عن حسابات مواطنيها أيضا في الولايات المتحدة.
ولا شك أن التأخر الأمريكي في الانضمام إلى الاتفاق الـ (51)، يعود إلى أسباب إجرائية، خصوصا أن الاتفاق نفسه لن يدخل حيز التنفيذ قبل أيلول (سبتمبر) من عام 2017، وهناك ثلاث سنوات على الأقل، للوصول إلى صيغة مشتركة. فقد أثبتت الأحداث ومعها التطورات، أن إدارة باراك أوباما، أكثر الإدارات الأمريكية ملاحقة للمتهربين من الضرائب، بل استخدمت ما يعرف بسياسة "العصا والجزرة" منذ البداية مع البلدان التي أبدت ترددا في التعاون مع "فاتكا". وسرعان ما استبدلت "الجزرة" بـ "العصا"، عندما وجدت مقاومة من الطرف الآخر، وهذا يعني أن الولايات المتحدة بإدارتها الراهنة، لن تتوانى عن أي تعاون في مجال التهرب الضريبي، فهي (كغيرها من البلدان الغربية الأخرى)، تعتقد أن الأموال الهاربة من الضرائب، تمثل محورا ماليا مهما لمواصلة محو آثار الأزمة الاقتصادية العالمية على اقتصاداتها.
المنتدى الكبير الذي عقد في برلين أخيرا، وأنتج الاتفاق المذكور، حظي بتأييد 80 دولة، والدول التي لم توقع على الاتفاق ولكنها تؤيده، تعمل على تمهيد الطريق للتوقيع عليه في الوقت المناسب. هناك الكثير من القضايا القانونية والإجرائية وحتى السيادية تتعلق بتنفيذ الاتفاق كما هو، يتطلب بعضها اللجوء إلى البرلمان في بعض البلدان. وفي كل الأحوال، لا عودة عن الاتفاق، تماما مثلما لا عودة عن "فاتكا". وكما قبلت بعض الدول العربية معايير القانون الأمريكي، فإنها قبلت القانون الأوروبي بهذا الخصوص، الأمر الذي يُدخل هذه الدول في صلب حراك الحرب على المتهربين من الضرائب، وهم في غالبيتهم من الرعايا الغربيين، كما أنهم ليسوا بالضرورة من أصحاب الملايين. فالقوانين الجديدة تلاحق حتى الموظفين ذوي الدخل المحدود.
يقول كالفين كوليدج الرئيس الثلاثون للولايات المتحدة: "جني الضرائب بصورة تفوق الحاجة، ليس إلا عملية سطو قانونية". والحق أن العالم الغربي بملاحقته المتهربين من الضرائب، لا يتقاضى أموالا زائدة، بل يحتاج إلى المزيد من الأموال لسد العجز في الموازنات العامة، والوصول بالإصلاحات الاقتصادية إلى المستوى المقبول، والأموال المتوقعة من الضرائب المفقودة هائلة بالفعل، ويمكن ببساطة أن تحدث فرقا في الموازنات المشار إليها. في تقديرات لمنظمة التعاون والتنمية الدولية المعروفة بـ OECD، حصلت 25 دولة على 47 مليار دولار من أموال الضرائب التي قام أصحابها بدفعها للسلطات المالية المختصة طواعية. وكلها تقريبا أموال جاءت من مصارف تتخذ من بلدان "الأوفشور" مقرات لها. ورغم أنه تم تحديد سبتمبر من عام 2017 موعدا لتنفيذ الاتفاق الأوروبي- الدولة، فقد سمح لبعض البلدان (ومنها سويسرا والإمارات وأستراليا) أن تبدأ بالتنفيذ في عام 2018. فقد أثبت الأوروبيون أنهم أكثر مرونة من الأمريكيين بهذا الصدد.
قبل نهاية العقد الجاري، لن تكون هناك ملاذات آمنة للمتهربين من الضرائب من الرعايا الغربيين. ولا يبقى أمام هؤلاء إلا البحث عن جنسيات أخرى والتخلي عن جنسياتهم الأصلية أو المكتسبة، وقد تكون وظائف شرائح من هؤلاء في بلدان لا تفرض ضرائب بلا مكاسب حقيقية، وربما وجدوا أن أعمالهم في بلدانهم الأصلية تقدم المزايا نفسها التي يحصلون عليها خارجها. من أهم الأشياء في قضايا "فاتكا" الأمريكية والأوروبية، أن البلدان "المتمردة ماليا"، لم تعد كذلك إلى الأبد.

 

المهاجرون الأوروبيون أقوى من كاميرون

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"الأمة التي لا تستطيع السيطرة على حدودها، ليست أمة"
رونالد ريجان، رئيس أمريكي راحل


كتب: محمد كركوتـــي


يجهد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون نفسه منذ أشهر، لإقناع البريطانيين الخائفين من المهاجرين، بأنه حازم في هذه المسألة، وأنه سيتخذ سلسلة من الإجراءات للحد من الهجرة، وقبل أقل من عام على الانتخابات البريطانية العامة، يتجه كاميرون نحو اليمين أكثر وأكثر، بحجج عديدة، لعل أبرزها، أنه لا يريد للحزب القومي البريطاني أن يحصل على مكاسب انتخابية. وهذه حجة فيها من المكر أكثر مما فيها من الحقيقة. مع التأكيد أن الحزب القومي المشار إليه، كغيره من الأحزاب القومية الأخرى، التي لا تنظر للأمور (مهما بلغ تشعبها) إلا من خلال عينها الخاصة، والخاصة جدا. ولذلك، فهي توفر الحجة الأقوى لكاميرون، خصوصا بعد أن حقق الحزب القومي بالفعل، مكاسب محلية في الآونة الأخيرة.
لكن الأمور لا تجري كما يشتهي رئيس الوزراء البريطاني. فهو لا يستهدف فقط المهاجرين القادمين من خارج الاتحاد الأوروبي، بل يضع المهاجرين الأوروبيين أنفسهم في دائرة "الحرب" على الهجرة بصورة عامة. وهنا تكمن مشكلته. فأي تغيير في القوانين الخاصة برعايا الاتحاد الأوروبي، لا يمكن أن يتحقق إلا بموافقة الاتحاد نفسه. فمثل هذه التغييرات تنال مباشرة من القوانين التي اتفقت عليها كل دول الاتحاد. يضاف إلى ذلك، أنه لو سار بالفعل في طريقه نحو التغيير، فالأمر يتطلب وقتا طويلا جدا، لحسمه. ولن يحسم مثل هذا الأمر إلا بشيء واحد فقط، وهو خروج المملكة المتحدة نفسها من الاتحاد الأوروبي. وقد وعد كاميرون بالفعل البريطانيين، أنه سيطرح موضوع عضوية بلاده في الاتحاد على استفتاء شعبي عام، في حال نجح حزب المحافظين الذي يتزعمه في الانتخابات العامة المقبلة.
قبل أيام، تلقى كاميرون الضربة الكبرى حتى الآن في سعيه لوقف تدفق المهاجرين الأوروبيين إلى بلاده. لقد قالت له المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بوضوح، إنها لن تؤيد فرض قيود على حرية تنقل العمال داخل الاتحاد الأوروبي. وكانت أوضح من ذلك حين قالت "ألمانيا لن تعبث بالمبادئ الأساسية لحركة التنقل في الاتحاد الأوروبي". والموقف هو نفسه لدى بقية قادة الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم أولئك الذين لا يحبون المهاجرين. فالنظام الأوروبي اكتسب قوة متزايدة على عقود، بحيث سحب الكثير من الصلاحيات وبعض أدوات صنع القرار من الدول المنضوية تحت لوائه. ورغم أن مساعي كاميرون، لا تستهدف منع المهاجرين الأوروبيين من دخول بلاده، بل العمل على وضع حد أقصى لأعدادهم (ولاسيما أولئك الذين يصنفون بـ "محدودي المهارة")، إلا أن الفكرة مرفوضة من أساسها من مؤسسات الاتحاد. فهذا الأخير أقيم لضمان حرية التنقل بين دوله. وحرية التنقل هذه ترتبط مباشرة بالاقتصاد والتنمية.
في عام 2004، وصلت نسبة المقيمين في بريطانيا الذين ولدوا خارجها إلى 9 في المائة. وهذا العام بلغت النسبة 12 في المائة. وقبل 20 عاما، كان أغلب هؤلاء من أصول هندية وباكستانية وكاريبية. لكن الأزمنة تتغير، وتتغير معها الأوضاع. اليوم، يصل عدد الأوروبيين المقيمين في المملكة المتحدة إلى أكثر من 2.5 مليون نسمة، أغلبهم (بالطبع) من دول أوروبا الشرقية، والعدد الأكبر من هؤلاء جاؤوا من بولندا، وتقدم عدد البولنديين حتى على عدد الباكستانيين الذين يشكلون النسبة العليا من المهاجرين في البلاد. وإذا كانت هناك مصاعب أمام الآسيويين بشكل عام للوصول إلى بريطانيا، فإن الأمر ليس كذلك على الإطلاق بالنسبة للقادمين من أوروبا.
وبعيدا عن حسابات كاميرون الانتخابية، التي يعتبرها البعض خرقاء، لأنه لا يستهدف الناخبين المترددين، بل الناخبين المتطرفين. فإن وعوده حول مسألة المهاجرين الأوروبيين لا قيمة لها. لماذا؟ لأن تحقيقها يتطلب إصلاحا شاملا لقواعد وقوانين الاتحاد الأوروبية، وهذا يعتبر من المستحيلات السياسية الأوروبية. ليس لأن القوانين لا تعدل، بل لأن الدافع لها يستهدف كينونة الاتحاد نفسه. ظلت بريطانيا خارج اتفاقية "شنجن"، لكن وضعيتها هذه لم توفر لها حصانة من مهاجري أوروبا على وجه الخصوص. والحق، أن معظم المهاجرين الأوروبيين الذين قدموا إلى بريطانيا تحتاج إليهم البلاد من ناحية الخدمات والمهن المختلفة. وليس هناك توصيف واضح للمهاجر الذي يتمتع بالمهارة. لقد استخدم حزب المحافظين الحاكم هذا لدعم توجهاته المشار إليها فقط.
سيمضي ديفيد كاميرون إلى النهاية في حربه على مهاجري أوروبا. لكن لن يصل إلى غاياته على الإطلاق، على الأقل قبل الانتخابات العامة التي ستجري في أيار (مايو) من العام المقبل. وكما كاد يغرق بالاستفتاء الذي وعد به ونفذه حول استقلال اسكتلندا، ربما سيغرق في الاستفتاء الشعبي الذي وعد به حول وجود بريطانيا نفسها في الاتحاد الأوروبي، متجاهلا تحذيرات قادة الأعمال في المملكة المتحدة، بأنها خطوة خطيرة ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل والاقتصادي في الدرجة الأولى. لقد أثبت تاريخ الاتحاد الأوروبي، ومخرجاته الاقتصادية، أن بريطانيا الأوروبية، أفضل بكثير من بريطانيا البريطانية.
 

الاثنين، 27 أكتوبر 2014

أزمة جديدة أم متجددة؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"ما نعرفه عن الأزمة الاقتصادية العالمية، أننا لا نعرف شيئا"
بول سامويلسون - اقتصادي أمريكي حائز على "نوبل" في الاقتصاد



كتب: محمد كركوتـــي

يتحدثون عن أزمة اقتصادية جديدة. بعض الجهات تتوقع أن تكون "الأزمة" أسوأ من تلك التي انفجرت في عام 2008، وجرفت العالم معها. البعض الآخر يراها أقل من ذلك، وهناك من يعتقد، أن الأزمة "المقبلة" هي خليط بين الركود وضعف النمو. وأيا كانت التعريفات والتوقعات (وهي لا تتوقف)، فالأمر ببساطة لا يتعلق بأزمة جديدة، بقدر ما يرتبط بأزمة لا تزال موجودة، غير أنه ما زال منها على مدى ست سنوات قد يعود. بمعنى آخر، الأزمة المتوقعة يمكن تسميتها "أزمة متجددة"، مع الأخذ في الاعتبار بالطبع، التحولات الإيجابية التي طرأت على الساحة العالمية في الفترة الفاصلة بين انفجار أزمة 2008، وتخبط الاقتصاد العالمي حاليا.
لا تزال هناك الكثير من الملفات التي فتحتها الأزمة الكبرى، قيد الحلول، بل إن بعضها تعمق هنا، واستفحل. هناك ملفات الإفلاس، الفساد المالي، الديون المتعثرة، التضخم، حالات الإنقاذ المستمرة، والنظام المالي العالمي، كلها ملفات لا تزال مفتوحة، بصرف النظر عن تصريحات بعض الجهات الدولية، التي تحاول من خلالها التخفيف من المخاوف، والتقليل من الاضطراب المصاحب لها. إنها قضايا لم تستطع الحكومات (بعد الأزمة) الادعاء بأنها نجحت في حلها تماماً، وأنها باتت من ملفات التاريخ. وتحسن الوضعية الاقتصادية لدولة ما مؤثرة، لا يعني بالضرورة أن أمور الاقتصاد العالمي بخير. هناك عوامل طبيعية لا دخل للإصلاحات فيها، تساهم في إضافة تحسن ما في هذا القطاع أو ذاك، وغالبا لا يكون تحسنا مستداما.
ترى بعض الجهات الدولية، أن الاقتصاد العالمي يواجه حاليا اختبار ثقة. والحق أن هذا الاقتصاد لا يواجه هذا الاختبار، بل الإجراءات الإصلاحية هي التي تواجهه. ورغم أن الدول الكبرى، قطعت شوطا لا بأس به على صعيد إصلاح الأنظمة المالية فيها، إلا أن المفاهيم القديمة لا تزال موجودة بصورة أو بأخرى. ومبدأ الإنقاذ الحكومي للمؤسسات التي "يجب ألا تنهار"، موجود وبقوة. يضاف إلى ذلك، أن الإجراءات الإصلاحية التي اتخذت تحتاج إلى وقت ليس بالقصير، سواء للتنفيذ أو لجني ثمارها. الحكومات (ولاسيما في العالم الغربي)، اتخذت بالفعل الكثير من الإصلاحات، ولكنها دخلت في نفق الإجرائي الطويل، وهو نفق فيه من الثغرات الكثير أيضا.
في كتلة مصابة ككتلة منطقة اليورو، يحذر البنك المركزي الأوروبي حكومات دول المنطقة من مخاطر التباطؤ، والأهم يحذر من عدم التوسع في خطط دعم اقتصاداتهم. ورغم تحسن الأوضاع الاقتصادية على الساحة الأمريكية، إلا أن الثغرات لا تزال موجودة. فالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نفسه، الذي يحاول بين الحين والآخر تمرير "معزوفة" الانتعاش، بات أكثر صراحة مما كان عليه في السابق. وهذه المؤسسة بالتحديد، عليها أن تكون حذرة جدا في مسألة تلوين" الاقتصاد الأمريكي باللون الوردي. والسبب يعرفه الجميع. لقد سوق الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أسوأ مرحلة اقتصادية في الولايات المتحدة، التي كانت مخرجاتها، ليس أقل من أزمة اقتصادية عالمية غير مسبوقة على الإطلاق.
وعلى رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد أن تكون حذرة جدا في تصريحاتها وتوقعاتها. فهذه المؤسسة أيضا ساهمت في مرحلة التضليل التي سبقت الأزمة الكبرى. ولذلك يبدو غريباً ما قالته أخيرا "إن الأسواق العالمية تشهد عملية تصحيح، وربما تبالغ في رد الفعل". الأسواق في الواقع لا تبالغ في ذلك، لأن المعطيات الاقتصادية العالمية الضعيفة واضحة، ليست فقط على صعيد ديون منطقة اليورو، أو عدم اليقين الاقتصادي الأمريكي فقط، بل بتقهقر النمو في الأسواق الناشئة، التي تشكل محركا محوريا لاقتصاد العالم. هذه الحيوية الصينبة (كما يقولون) متلاشية، وهذا هو الأداء الضعيف لدول أوروبا الشرقية، ناهيك عن التباطؤ المخيف في أمريكا اللاتينية. مهلا.. مهلا، هذه ألمانيا التي تتغنى بالنمو حتى في وسط الأزمات، تعاني تراجعا فيه في الوقت الراهن.
ولعل من المفيد الإشارة، إلى بيانات 19 اقتصادا ناشئا، جمعتها شركة الأبحاث "كابيتال إيكونوميكس"، التي أظهرت أن الناتج الصناعي في آب (أغسطس)، والإنفاق الاستهلاكي في الربع الثاني، انخفضا إلى أدنى مستوياتهما منذ عام 2009. كذلك انخفض نمو الصادرات في الشهر نفسه. ويرى نيل شيرينج، كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة الشركة المذكورة، أن هذا هو الوضع الطبيعي الجديد، بالنسبة لبقية العقد هذا هو الوضع. ويقول: "إنه أفضل وضع يمكن أن يحصل". وإذا كان هذا حال دول يفترض أنها المحرك الأنشط للاقتصاد العالمي، علينا أن نتخيل أوضاع الدول الأقل نشاطا في ذلك، وآثارها في الساحة عالميا!
إن العالم، لا يزال يمر بمرحلة الخروج من الأزمة العالمية الكبرى. فالأزمات الشاملة لا تنتهي آثارها بسرعة. بل تحمل معها مناعة في بعض القطاعات، تحتاج إلى مزيد من المقاومة للقضاء عليها. والمستقبل ليس مشرقا. ولعل أفضل شيء في الوقت الراهن، أن رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ألان جرينسبان، أصبح سابقا، لا حاليا.

آلية بيانات مصرفية أوروبية .. أين المفر؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







كتب: محمد كركوتـــي
 
ها هي أوروبا، تتعلم من الحملة الأمريكية الهائلة ضد المتهربين من الضرائب. إنها تستعد لرص صفوفها، ضد المتهربين الأوروبيين من الضرائب. لا ملاذ أوروبيا آمنا لأموال أوروبية في هذه القارة، التي تعيش واحدة من أسوأ أوضاعها الاقتصادية قاطبة. إلى درجة أن أقوى وأكبر اقتصاد فيها (الألماني) بدأت بوضوح يعاني التباطؤ. في حين ترتفع الأصوات في أروقة المفوضية الأوروبية، بضرورة عدم منح فرنسا مزيدا من الامتيازات والمهل، لتسوية أوضاع ميزانيتها المتعثرة جدا. لا يوجد في الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، بلد يمكن أن يعتبر نفسه خاليا من المشكلات المالية. وفي عز المشكلات الاقتصادية، تبحث الحكومات عادة عن مصادر دخل إضافية، أو تبحث في دفاترها القديمة. تماما مثلما يحدث مع تجارة تواجه أزمة، أو حتى بقال، يتعرض لكساد في حانوته.
تبقى الضرائب المصدر الأهم بالنسبة لكل الدول القائمة على اقتصاد السوق. وهي أموال هائلة للغاية، خصوصا، أنها تصل في بعض البلدان إلى 50 في المائة من الدخل السنوي، وهناك بالطبع ضرائب متعددة المستويات. وتبقى في النهاية، المصدر المشروع الحاسم بالنسبة للموازنات العامة. الضرائب المرتفعة، تدفع جانباً من الأعمال، وحتى المشاريع الكبيرة، إلى النزوح باتجاه بلدان تفرض ضرائب أقل، أو في أفضل الأحوال، ضرائب رحيمة أكثر. وحتى ضمن نطاق الاتحاد الأوروبي، هناك تفاوت في الضرائب، ليس كبيرا، ولكنه يوفر على الأقل بعضا من الأموال التي تذهب للموازنة العامة. لكن الأمر لا يختص بهذا الجانب فحسب، بل يشمل أيضا الحسابات المصرفية التي يفتحها أوروبيون في بلدان أوروبية أخرى.
ستنتهي هذه الميزة قريبا، لأن وزراء مالية الاتحاد الأوروبي، وافقوا مبدئيا على التبادل الآلي للبيانات المصرفية. والأهم، أنه لا توجد دولة واحدة ضمن الاتحاد سجلت اعتراضا ما على هذه الخطوة، أو حتى قدمت ملاحظات. فكل الحكومات تريد أن تكشف عما يملكه مواطنوها في مصارف أوروبا، وإذا ما كانت الأرصدة خاضعة للضرائب المحلية أم لا؟ بعض المتحمسين لهذه الخطوة، اعتبر أن الاتحاد الأوروبي تأخر كثيراً، وكان عليه أن يتقدم الولايات المتحدة في هذا الخصوص، خصوصا في ظل تنامي التشابك بين مؤسسات الدول المنضوية تحت لوائه، فضلا عن فتح الحدود على مصراعيها بين 24 دولة ضمن هذا الاتحاد. فلا معنى (بحسب هؤلاء) لأي تأخير لفرض هذه الآلية المصرفية المهمة والحساسة.
في ظل الآلية المرتقبة، إذا فتح شخص يعيش في إحدى دول الاتحاد الأوروبي حسابا مصرفيا في دولة أخرى عضو في الاتحاد، فإن سلطات الضرائب في بلده الأصلي، سيجري إبلاغها بشكل تلقائي. أي أن الأمر لا يحتاج إلى مراسلات أو طلبات قانونية وغير ذلك. لا تزال هناك فرصة للباحثين عن هروب جديد من مصالح الضرائب في بلدانهم. لماذا؟ لأن القانون الجديد، لن يقر بصور شاملة قبل بداية عام 2017، وهذه المدة وضعت أساسا، لإتمام إجراءات الربط، وتفادي أي تضارب في الأداء المصرفي بين هذه الجهة أو تلك. والذين يبحثون عن ملاذات آمنة لأموالهم، سيقومون بالتأكيد بالبحث عن ملاذات جديدة، بعيدا عن أعين أو أدوات المشرعين الأوروبيين. فحتى سويسرا، لم تعد ملاذا ضريبيا آمنا، لقد فتحت حسابات مودعيها الأمريكيين، أمام السلطات الأمريكية، وهناك تعاون كبير بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي.
لا شك في أن آلية الربط المصرفية الأوروبية، ستسهل الأعمال فضلا عن تسهيلات لحركة الأفراد المالية، هذا لا ينطبق على أولئك الذين يقومون بالأعمال، للتهرب من الضرائب، أو لدفع أقل ما يمكن منها. هذه شركة "أبل" الأمريكية العملاقة، تقوم بالتحايل على الضرائب منذ سنوات، وغيرها مؤسسات عديدة أمريكية وأوروبية. الاتحاد الأوروبي، يبدأ الآن بالمصارف على ساحاته، وسيكون الأمر طبيعيا بعد ذلك، في عقد اتفاقات مع دول خارج الاتحاد، لدفع المصارف فيها على فتح حسابات الأوروبيين أمام سلطات بلدانهم الضريبية. هذا ما تفعله الآن الولايات المتحدة، وحققت إنجازات كبيرة في هذا المجال، في أقصر مدة.
وقد أعرب مسؤولون أوروبيون بالفعل عن إعجابهم بالحملة الأمريكية على المتهربين الأمريكيين من الضرائب، وأكدوا في أكثر من مناسبة، أنه يمكن أن يتبع الأوروبيون الخطوات نفسها للوصول إلى الاتفاقات المطلوبة. وبالفعل تحتاج هذه الاتفاقات إلى زمن طويل، نظرا لمعاناة العدد الأكبر من المصارف في مسألة الكشف عن أرصدة عملائها ومودعيها. لقد مانعت المصارف السويسرية كثيرا، ولكنها رضخت في النهاية تحت التهديد، وليس لقناعتها بالأمر. ومن المتوقع، أن تتحرك دول الاتحاد الأوروبي في هذه الحدود بصورة فردية في البداية، ولكن لن يكون غريبا، إذا ما طرح الأمر كخطة أوروبية شاملة، خصوصاً بعد أن يدخل موضوع الآلية المصرفية الأوروبية الموحدة، موضع التنفيذ.
حاول بعض المسؤولين في المفوضية الأوروبية تمرير معلومات عبر الإعلام، بأن مسؤولين أوروبيين اجتمعوا مع الأمريكيين، للاطلاع على الخطة الأمريكية التي تنفذ حالياً. وهم (أي الأوروبيين)، بدأوا الحملة إقليمياً، تمهيداً لتحويلها إلى حملة عالمية لا تستثني أحداً.

منتهكون مصرفيون أم لصوص؟

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

 
"السرقة عن طريق إنشاء مصرف ما، أسهل من القبض على مدير مصرف"
برتولت بريخت، شاعر وكاتب مسرحي ألماني



كتب: محمد كركوتـــي


تمضي حملة فرض غرامات هائلة على المصارف إلى الأمام. ولا سيما تلك التي أدينت أو اتهمت بانتهاكات هائلة أيضا، لأموال المودعين وللقوانين المصرفية المرعية. وهي ليست كتلك الغرامات (العالية أيضا) التي فُرضت على المصارف المدانة بتبييض الأموال، وخرق العقوبات الدولية المفروضة على حكومات مارقة حول العالم. علما بأنه قد تجد مصرفا متورطا بكل بالانتهاكات جميعها، وهي مصارف ذات أسماء رنانة "موسيقية" في سماء عالم المصارف والمال. "إتش إس بي سي"، "مورجان ستانلي"، "بنك أوف أمريكا"، "ستي بنك"، وغيرها من تلك التي وصلت موجوداتها في يوم من الأيام، إلى مستويات فاقت ميزانيات بلدان مجتمعة، بل بلغت حدا فرضت معه معاييرها على الحكومات المنتخبة في بلدانها!
ومع مضي الحملة على المصارف التي تلاعبت بأموال مودعيها، وبسوق العملات، وبقطاع الإسكان، وبأفخاخ صناديق التحوط، وعملت "البحر طحينة"، يظهر سؤال كبير في المشهد العام، على الشكل التالي: هل تتعلم المصارف من الغرامات أم من القوانين؟ وقد يكون السؤال مناسبا أكثر بهذا الشكل: هل تعلمت المصارف حقا؟ لا شك في أن الهجمات الحكومية عليها - ولاسيما في الولايات المتحدة - كبيرة ومتصاعدة، وهناك حكومات بدأت بالانضمام إلى هذه الحملة في بلدانها، وعددها يتزايد أيضا، خصوصا على الساحة الأوروبية التي تشهد يوما بعد يوم، تخلي مصرفها المركزي عن لغته الدبلوماسية، فيما يرتبط بالسؤال الذي تطوعت الحكومات بتوجيهه لأنفسها، لحل معضلة مقولة تاريخية مروعة، تُطرح عادة بهذه الصيغة "يجب عدم السماح للمصارف الضخمة بالانهيار".
حسنا، ولكن كيف يمكن عدم السماح بانهيارها؟ والأهم، كيف يمكن إبقاء الأموال العامة بعيدا عن عمليات الإنقاذ؟ بمعنى آخر، هل يمكن إنقاذ المصارف الضخمة، دون أن يُجبر المتضرر منها على إنقاذها؟! الحكومات الغربية وجدت "الحل"، وهو يستند إلى إجبار هذه المصارف على احتياطي رأسمالي على شكل سندات وأدوات مكافئة، بما يعادل نسبة معينة من أصولها التي تستهدفها المخاطر. لكن الأمر ليس بهذه السهولة. فبعض بلدان مجموعة العشرين (على سبيل المثال)، طالب بمرونة في القوانين الجديدة، خصوصا بعدما تحولت قضية المصارف الكبرى وحتى المتوسطة، إلى مسألة عالمية، تنال في الدرجة الأولى من البلدان التي اتخذت زمام المبادرة الاقتصادية، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008.
الأوروبيون يعتقدون أن الاحتياطي الرأسمالي للمصارف المعنية الذي يصل إلى 16 في المائة، لا بأس به. غير أن ذلك لا يقلل من صعوبة وصول المصارف إلى هذا المستوى من الاحتياطي. ولهذا فإن الأمر لم يحسم بعد، وترك لما أطلق عليه "محاكاة" ستتم في نهاية العام المقبل. وإلى أن يتم ذلك، فإن دافعي الضرائب سيظلون المنقذين الحقيقيين للمصارف التي ترتكب الأخطاء، والأهم، تلك التي ترتكب الانتهاكات والتجاوزات والسرقة والتلاعب، وتضع أموال المودعين فيها في دائرة الخطر، عن طريق ممارسات استثمارية عالية المخاطر. يضاف إليها، "الاستشارات" المضللة التي تقدمها المصارف للمستثمرين، على أمل في إقناع هؤلاء بموافقات سريعة، على عمليات استثمارية تهدد ما يملكونه من أموال.
وعلى الرغم من كل الفضائح، بل والعمليات الاستثمارية السافرة جدا، لا يزال بعض المصارف مستمرا في مواصلة بعض السياسات المالية التي أدت إلى كوارث. هم يقولون عنها "سياسات"، ولكنها في الواقع مصائب تنال من المودعين مرتين. في الأولى، عندما تتبخر أموالهم في عمليات خطيرة وأحيانا غير مشروعة، والثانية، عندما يضطرون إلى إنقاذ مدمرهم المالي، عبر الضرائب التي يدفعونها للموازنات العامة في بلدانهم. فعلى سبيل المثال، لم تنفع في بعض المصارف، "استغاثات" صندوق النقد الدولي، بحتمية وقف التلاعب بالعملات. والصندوق يعرف أكثر من غيره، أن هذا التلاعب ينال في الدرجة الأولى من الانتعاش الاقتصادي العالمي الهش. لقد عثر أخيراً على عشرة مصارف (مثل باركليز، ودوتشيه بنك، كريدي سويس، جي بي مورجان بي إن بي باريبا.. وغيرها)، لا تزال في خضم التلاعب بالعملات!
المفزع، أن هذه المصارف بدأت بعقد صفقات مع الحكومات لدفع غرامات مقابل عدم تقديمها للقضاء. واللافت، أن هذه الحكومات تفضل الغرامات عن أي شيء آخر، مما يجعل جهودها في تطبيق قوانين مصرفية جديدة مشددة عرضة للتآكل، وفي أفضل الأحوال، عرضة للالتفاف حولها. لا شك أن الحملة ضد المنتهكين المصرفيين جدية. فالحكومات نفسها لم تعد قادرة ماليا على إنقاذ المصارف بسلاسة. وإذا ما تعاطت السلطات المختصة مع بعض المسؤولين عن المصارف كلصوص، فإنها تستطيع أن تحقق قفزات نوعية في حملتها الشاملة، وتكسبها زخما قويا على الساحة العالمية. لقد أثبتت التجارب، أنه ليس من السهل تطويع المصارف بالغرامات. فحتى في أعقاب انهيار آلاف المصارف حول العالم، وجد القائمون عليها منافذ لتحقيق المكاسب غير المشروعة. وإذا لم تتحول الحملة إلى حرب، ستبقى أبواب هذه المنافذ مشرعة، أو على الأقل مواربة.
 

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

«فاتكا» يفتك فتكا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





“في هذا العالم لا شيء مؤكدا، إلا الموت والضرائب”
بنجامين فرانكلين كبير مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
وصل قانون الامتثال الضريبي الأمريكي (فاتكا) إلى شركات التأمين، بعد أن شمل في غضون أشهر المصارف والشركات والمؤسسات خارج نطاق الولايات المتحدة. (فاتكا) يفتك بلا رحمة، بأموال الأمريكيين في كل مكان. ليس مهما أن تكون بعيدا عن الأراضي الأمريكية، (فاتكا) سيصل إليك، بل سيتمكن من كل سنت في حسابك، إنها الضريبة التي تدفعها كونك أمريكيا سواء كنت في عقر دارك، أم في دور الآخرين. ولهذا السبب بالتحديد، ارتفع في الأشهر الماضية عدد الأمريكيين الباحثين عن جنسية أخرى، والأهم التخلص السريع من جنسيتهم الأمريكية. بصرف النظر عن الإجراءات التي تكفل ذلك، سواء عبر شراء الجنسية بالمال، أم الحصول عليها بالإقامة الطويلة، أو عن طريق الزواج، وغير ذلك. (فاتكا) بالنسبة لهؤلاء ليس إعصارا عابرا أو زوبعة آنية، بل مصيبة دائمة.
وإذا ما كان هناك إنجاز ما، مهم وراسخ لإدارة باراك أوباما منذ وصولها إلى السلطة، فهو تجاوب العالم معها في (فاتكا). وهو تجاوب يعود أساسا إلى خوف المؤسسات الأجنبية المعنية، من العقوبات التي قد تفرض عليها، إذا ما واصلت التمسك بسرية الحسابات المصرفية العائدة للأمريكيين. وهذه عقوبات قاصمة، تبدأ بحظر تعاملات الولايات المتحدة معها، ولا تنتهي بالغرامات الخرافية التي قد يفرضها القضاء الأمريكي عليها. ولذلك، فإن القطاعات التي استهدفها (فاتكا) وصلت إلى شركات التأمين. فالقانون يفرض على هذه الشركات تحقيق ما جاء في القانون، فيما يتعلق بالملكيات والأصول الخاصة بمواطنين أمريكيين فيها. ويتضمن القانون أيضا، ضرورة الكشف عن كيانات تجارية أجنبية في شركات التأمين، وأن الجهات المختصة التي تعمل فيها هذه الشركات، عليها واجب المساعدة في ذلك.
 
منذ أن صدر (فاتكا)، كان التركيز على المصارف الأجنبية التي تتلقى مداخيل الأمريكيين، على اعتبار أنها النقطة الأخيرة التي تصب فيها هذه المداخيل. إلا أن هذا القانون لن يتوقف عند حدود معينة، وهو قابل للتطوير والتعديل في أية لحظة، الأمر الذي يترك الباب مفتوحا لاستهداف حتى الشركات المتوسطة والصغيرة مستقبلا. وحتى الشركات التي لا ترتبط بمصالح مباشرة أو غير مباشرة مع الولايات المتحدة، فإنها ستخضع في النهاية إلى اللوائح الحكومية المحلية، المنبثقة عن اتفاقات بهذا الشأن مع السلطات الأمريكية. أي أن الكماشة تحوط كل الجهات. ويلزم القانون المصارف الأجنبية، إضافة إلى المؤسسات المالية الأخرى مثل شركات الضمان وصناديق الائتمان ومؤسسات الصرافة وصناديق الاستثمار، بالتصريح عن أي عملاء لهم علاقة بالولايات المتحدة ويخضعون للضرائب الأمريكية وتزيد أرصدة حساباتهم على 50 ألف دولار للأفراد و250 ألف دولار للشركات. وحين يكون الحد الأدنى للأرصدة بهذا المستوى، علينا أن نتخيل عدد الأمريكيين الذين ينطبق عليهم (فاتكا).
ليس هناك مجال للسرية المصرفية بعد الآن. ليس فقط وفق معايير (فاتكا)، بل أيضا من اللوائح التي تستهدف بنسبة لا بأس بها من الأموال غير المشروعة، فضلا عن العقوبات على العمليات التي تقوم بها المصارف وتضع أموال المودعين في مكامن الخطر. وهذه قضية كلفت لوحدها عشرات المصارف غرامات خيالية وصلت إلى أكثر من 17 مليار دولار في حالة “بنك أوف أمريكا”، وغرامة ليست أقل ضد “مورجان ستانلي”، وعدد متعاظم من المصارف الأخرى. لكن لقانون (فاتكا) تبعات وطنية مختلفة، لأنه يستهدف المواطنين الأمريكيين فقط. الأمر الذي عزز لدى شرائح من أولئك الذين يعملون في الخارج، مشاعر التخارج من الجنسية. وليس مهما هنا، إقدام السلطات الأمريكية على رفع رسوم التخلص من الجنسية. فالذي يريد أن يحمي عشرات الآلاف، لا ينظر إلى رسوم لا تزيد على خمسة آلاف.
الجانب الأهم في (فاتكا)، أنه “متوالد” الطروحات. وعلى الشركات والمؤسسات غير الأمريكية في الخارج، أن تستعد لهذه الطروحات. بالأمس كانت المصارف واليوم جاء دور شركات التأمين، وبعد ذلك ربما “بقالة” يستثمرها أمريكي في إحدى القرى الأوروبية أو في أي قارة كانت. لقد وقعت أغلب شركات التأمين في العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط على اتفاقية (فاتكا) بمجرد طرحها من قبل واشنطن. وهذه الشركات اختصرت الطريق، واتبعت أسلوب التعاون بدلا من طرق التحايل. فحتى مساحات التحايل باتت ضيقة للغاية، ومخاطر العقوبات باتت أوسع مما كانت عليه في السابق. بعض المصارف حاول التمسك بمبادئ السرية المصرفية. ما حصل، أنها تلقت تهديدات معلنة من الولايات المتحدة، بأن أمر السرية لا معنى له، وأن عليها الامتثال للقوانين.
(فاتكا) سيواصل الفتك بالأرصدة الأمريكية أينما وجدت، والجنسية الأمريكية التي كانت عند البعض ميزة مهمة، باتت عبئا كبيرا، بل خطيرا على الثروات، حتى على المداخيل الشهرية للموظف الأمريكي. إن العالم يعيش عصر (فاتكا) الآن. والقانون الأمريكي، بات مغريا لعديد من حكومات العالم، ولاسيما تلك التي في القارة الأوروبية. فإذا نجح (فاتكا) الأمريكي بصورة مذهلة، لماذا لا ينجح (فاتكا) الأوروبي أو الآسيوي أو الإفريقي أو حتى العربي؟

الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

الذي ينقص استقلال إنجلترا عن المملكة المتحدة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







"أسرة يحكمها الفرد الخطأ فيها، شبيهة بوضعية إنجلترا".
جورج أورويل - أديب وكاتب بريطاني




كتب: محمد كركوتـــي

قبل أيام من الاستفتاء التاريخي حول استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، الذي أدى إلى رفض الاستقلال، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون "لا أريد أن أكون رئيساً لوزراء إنجلترا، أريد أن أظل رئيسا لوزراء المملكة المتحدة كلها". وقبله بسنوات، وجه ديكتاتور زمبابوي روبرت موجابي خطابا لرئيس وزراء بريطانيا آنذاك توني بلير قال فيه: "حسنا بلير، احتفظ بإنجلترا، ودعني أحتفظ بزمبابوي". نجت المملكة، ونجا معها كاميرون، بل الأحزاب الرئيسة التي اتحدت جميعها في مقاومة شرسة ضد الانفصاليين الاسكتلنديين، الذين تقدمهم الاتحاديون في الاستفتاء بـ 10 في المائة فقط، وهي نسبة ليست قليلة، فيما لو كان الإقبال على الاستفتاء منخفضا، إلا أنه كان مرتفعا بصورة تاريخية حقا. وصل إلى 86 في المائة. وفي النهاية هذا الأمر ليس مهما وفق حسابات اتُفق عليها، على مبدأ النصف زائد واحد.
الخاسرون في الاستفتاء، لم يخسروا بصورة ماحقة كاسحة. حصلوا في الواقع على تعهدات حتى قبل الاستفتاء بمزيد من السلطات تنقل من الحكومة المركزية في لندن، إلى الحكومة المحلية في إدنبرة. وبصيغة أخرى، مزيد من الصلاحيات لبرلمان اسكتلندا. هذه التعهدات حولت في الحقيقة نتيجة الاستفتاء الحاسمة، إلى بداية وليس نهاية. بداية لسلسلة من الجدل والمناقشات حول طبيعة الصلاحيات الموعودة وزمنها وطريقة نقلها، لكن البداية الأخطر جاءت من إنجلترا نفسها، من أولئك الذين بدأوا يشعرون أنهم مواطنون يقتربون من الدرجة الثانية قادمين من الأولى، وفق التشريعات التي اعتُمدت في منح أقاليم المملكة الأخرى (ويلز، واسكتلندا، وإيرلندا الشمالية) الصلاحيات تلو الأخرى. وهي أقاليم تشكل مع إنجلترا المملكة المتحدة، وليس بريطانيا "العظمى" التي لا تشمل إيرلندا.
كما على الجانب الاسكتلندي في الشمال قوميون، على الجهة الإنجليزية يوجد مقابلون لهم. وهؤلاء يطرحون نقطة خطيرة تتمثل في أنه لا يجوز أن تكون لنواب اسكتلندا أصوات في مجلس العموم في لندن، بينما يتمتعون بأصوات مستقلة في برلمانهم في إدنبرة. كيف يمكن أن تكون لهم قوة التشريع في منطقتين ضمن المملكة المتحدة؟ المتشددون الإنجليز بدأوا يطالبون علانية بإنشاء برلمان إنجليزي، ليس بالضرورة أن يكون مقره في العاصمة، بل في أي مدينة أخرى في إنجلترا. إنها وصفة بطيئة لأولئك الذين يتحينون الفرصة للإعلان عن رغبتهم في انفصال مَنْ؟ إنجلترا! عمن؟ عن المملكة المتحدة! هذا الطرح ليس سوى فانتازيا قومية (غير وطنية اتحادية)، لكن التاريخ شهد "فانتازيات" كثيرة غدت حقائق، بعضها أنتج خراباً، وبعضها الآخر أحدث اضطرابا شبه مستدام.
الاستفتاء الذي حسم موضوع استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، أحدث زلزالا دستوريا، ليس محصورا فقط بوعود لندن لإدنبرة بمزيد من السلطات، بل أيضا بصلاحيات يطلبها الويلزيون والإيرلنديون والإنجليز أنفسهم. هذا الزلزال وصلت تردداته إلى مناطق شتى في العالم، بدءاً من الجار الأوروبي (في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وقبرص وغيرها) وليس انتهاء بالكردي السوري أو العراقي. كثير من القوميين الاسكتلنديين ظهروا على الملأ ليؤكدوا أنهم يرغبون في الانفصال ويسعون إليه، ليس لأسباب قومية، وإنما لأسباب سياسية واقتصادية، إلا أنهم لا يقولون الحقيقة في ذلك. فعلى الجانب السياسي يحصلون على المزيد من الصلاحيات والسلطات، بل إنهم تلقوا وعوداً رسمية معلنة بزيادتها. واقتصادياً، تثبت كل المعطيات أنهم لن ينعموا بالرخاء الذي يحلمون به. فالاستقلال لا يوفر حلولا للمشاكل أو المصاعب الاقتصادية.
كل تحرك في هذا المجال يأتي بدافع قومي. فهذا الأخير ما زال يدغدغ المشاعر في كل مكان، حتى الإنجليز الذين يفترض أنهم الطرف الأقوى في الاتحاد، باتوا ينظرون للأمر من ناحية قومية بحتة. ولديهم الكثير من المبررات. صحيح أنها ليست مقبولة في الوقت الراهن من الأحزاب السياسية الرئيسة، ولكن لننظر فقط إلى ارتفاع شعبية القوميين الإنجليز في السنوات الأخيرة، وكذلك الأمر بالنسبة للفرنسيين والكاتالونيين في إسبانيا وغيرهما. القوميون الذين لا يزالون يخشون الاعتراف الصريح بهذه الحقيقة، لأسباب تتعلق بتجنب اتهامهم بعدم الوطنية، سيتخلصون من خشيتهم هذه لاحقا. ولا شك في أن الأداة الوحيدة للإبقاء على وحشية القومية خامدة، أن تتعزز اللامركزية، ليس في أقاليم بريطانيا، بل حتى في مدن الأقاليم نفسها.
لقد صرخ الاسكتلندي جوردون براون رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق في وجه السياسيين طالبا منهم (بعد الاستفتاء) الإيفاء بوعودهم وزيادة مستوى وحجم السلطات لبرلمان وحكومة اسكتلندا. فهو المؤيد الصلب للاتحاد لا للانفصال يعرف أكثر من غيره، أن المشاعر القومية جاهزة للتأجج في كل الأوقات. وإن الذين رفضوا الانفصال اليوم، قد ينضمون إلى معسكر الإنفصاليين لاحقا. دون أن ننسى أن اسكتلندا منحت لأول مرة في التاريخ المراهقين، اعتبارا من سن السادسة عشرة حق التصويت. إن أهم ما يحمي المملكة المتحدة حاليا، ليس استفتاءات (بصرف النظر عن نتائجها) بل وطنية عادلة، ولا مركزية أكثر عدلا.

الاستقلال والاتحاد في «مهب» الخميس

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"اسكتلندا والاسكتلنديون جعلوا من بريطانيا ناجحة. بالنسبة لي لا مجال للسؤال حول جدوى استقلال اسكتلندا".
ديفيد كاميرون - رئيس وزراء بريطانيا


كتب: محمد كركوتـــي

بعد غد (الخميس)، سيدخل ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا التاريخ، إما كمدمر لجسم وكيان المملكة المتحدة، أو كـ "مقاتل" سياسي شرس تمكن من الحفاظ على ما تبقى من كيان الإمبراطورية البريطانية ككل، بصرف النظر عما سيحققه الاستقلاليون نفسيا من آثار سلبية، حتى لو خسروا التصويت التاريخي على استقلال الإقليم الذي ظل متحدا منذ 307 سنوات. بعد يومين، قد تخسر بريطانيا ثلث مساحتها، وأكثر من 8 في المائة من عدد سكانها، وقد يخسر الجنيه الاسترليني ما بين 10 و15 في المائة من قيمته، وسيتم تطبيق نظام الجمارك لاحقا على ما يزيد على 280 مليار استرليني هي عبارة عن منتجات اسكتلندية لإنجلترا وويلز. بعد يومين، سيعرف البريطانيون بكل انتماءاتهم، إذا ما كانت وحدة الكلمة بين الأحزاب البريطانية أنقذت الوحدة، أم لم يكن لها معنى.
هناك الكثير من التحولات والمتغيرات والمفارقات ستتحدد بعد يومين في اسكتلندا أو من خلالها. فقضية الاستقلال عن المملكة المتحدة ليست جديدة، ولكن الجديد أن مشاعر القومية الاسكتلندية وصلت إلى أعلى مستوى لها في السنوات الماضية، وأثبتت أن هناك دائما، من يرى أن "مضار" الاتحاد أكبر من منافعه، وأن أي تحرك سياسي "حتى لو كان لا يستهدف الانفصاليين من جانب الحكومة المركزية في لندن"، هو في الواقع تحرك مهين للاستقلاليين. إن الانفصاليين لا يستعيدون ذكريات الأمس، بل يضعون أمامهم الآن ذكريات ما قبل الأمس، ذكريات حملت إليهم المشاعر القومية العنيفة قبل مئات السنين. لا يهم بالنسبة للانفصاليين، الاضطراب والارتباك وعدم اليقين الذي سيلي الانفصال فيما لو تم. المهم الانفصال، وبعد ذلك تفاصيل يمكن تحملها أو السيطرة عليها. مهلا، مهلا.. لا يهم بالنسبة لهم، حتى تلميحات الاتحاد الأوروبي، بأنه ليس من السهل على اسكتلندا الانضمام إلى هذا الاتحاد.
يوم الخميس المقبل، سيعرف العالم مدى أهمية وقدرة التاج البريطاني، في الحفاظ على وحدة عمرها أكثر من ثلاثة قرون. وهل تمكن هذا التاج من المواءمة بين الوطنية والقومية، أو في أفضل الأحوال، هل استطاع حقا، أن يقلل من نسبة القوميين الاسكتلنديين والإنجليز. سيعرف العالم في غضون الساعات المقبلة، ما إذا كانت اسكتلندا ستمضي ضمن المملكة المتحدة، قرنا آخر أو أكثر، بل ما إذا كانت إنجلترا نفسها تفضل بقاء المملكة بعد عقود من الآن. الأوقات تتغير، والمشاعر القومية الإنجليزية ليست أقل حدة من الاسكتلندية، لكن الفارق أن الأخيرة أعلى صوتا من فرط الشعور بفوقية الأولى. وهذه ليست مشاعر الوحدويين، ويكفي هؤلاء أن الأحزاب البريطانية المختلفة "باستثناء الحزب القومي الاسكتلندي وبعض السياسيين القليلين المعروفين بنزعتهم الطائفية" اتحدت سياسيا من أجل دعم حملة "البقاء معا أفضل".
يوم الخميس المقبل، سيكون لكل صوت أهمية. فالقضية هنا لا ترتبط بحزب سيحكم ثم يخسر لاحقا ليعود إلى صفوف المعارضة. بل تتعلق بمصير وهوية دولة كبرى، و"دولة" أصغر ضمنها. أليكس سالموند رئيس الحكومة المحلية في اسكتلندا وزعيم معسكر الانفصاليين، إنه ببساطة في نظر هؤلاء "وليام ووليس" الذي خاض حرب الاستقلال ضد إنجلترا في القرن الثاني عشر، ولكن الفارق أن سالموند لا يقطع الرؤوس ولا يعلقها على بوابات المدن. إنه يسعى لقطع صلة، ليست مقتصرة على الجغرافيا، بل على المجتمع والاقتصاد، وأوروبا، وبقية أقاليم المملكة المتحدة. إنها عملية قد تكون معقدة إجرائيا ولكنها ليست كذلك عند أولئك الذين ينظرون إلى اسكتلندا بلدا مستقلا، يمتلك مقومات الدولة، ليس فقط اقتصاديا بل تاريخيا وجغرافيا وما يرتبط بهما.
قد تصبح بريطانيا "العظمى" في خلال الساعات المقبلة، صغرى أكثر وأكثر ضمن سياق "التقلص" الذي أصاب هذه الإمبراطورية قبل عشرات السنين. وربما أشعل الاستقلال المحتمل لاسكتلندا المشاعر المتأججة دوما عند أقرانهم الإيرلنديين. لكن مهلا، هنا الأمر سيكون مختلفا بعض الشيء. الذي يحرك الإيرلنديين ليس عوامل قومية فقط، بل دينية طائفية بحتة، أنتجت واحدة من أسوأ وأبشع مراحل الصراع بين الطرفين. المهم الآن، أن اسكتلندا في حالة الاستقلال، ستكون مسيطرة على 10 في المائة من الناتج المحلي للمملكة المتحدة البالغ 2.5 تريليون دولار. والانفصاليون يتوقعون أن يرتفع دخل الفرد 15 في المائة في غضون خمس سنوات بعد الاستقلال. كما أن الإقليم لن يكون ملزما بدين يصل إلى 200 مليار دولار من نصيبها في الدين البريطاني العام.
المستقبل في نظر هؤلاء وردي، جميل ينساب ضمن المشاعر القومية الهائمة في كثير من الأحلام وبعض الواقع. الأمور لن تجري بسهولة وانسياب كما يتوقعون. فحتى الأوروبيون حذروا الاستقلاليين من أن خطوتهم لا تضمن لهم عضوية أوتوماتيكية في الاتحاد الأوروبي. دون أن ننسى، أن بإمكان أولئك الذين قاتلوا من أجل بقاء الاتحاد، "التنغيص" اللا محدود على اسكتلندا المستقلة. إنها عملية تاريخية بكل معنى الكلمة، سيشهد العالم مشهدها الحاسم الخميس المقبل.

ضرائب مقابل الجنسية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



 
«أن تحب بلداً واحداً شيء رائع. لكن لماذا يقف حبك عند حدوده؟»
بابلو كاسالاس - موسيقي إسباني شهير



كتب: محمد كركوتـــي

لا أعرف طبيعة مشاعر أولئك الذين يتخلون عن جنسياتهم طواعية. فهي في النهاية تتبع أوطانا لا حكومات. وأياً كانت الأسباب، أحسب أن قراراً كهذا ليس سهلاً على من يتخذه. ولا شك في أن تخلصهم من أوراق الجنسية وروابطها، لا يزيل عندهم المشاعر العاطفية الصادقة تجاه أوطانهم. والأمر يبقى أسهل عندما تتعدد الخيارات أمام الراغب في التحول عن جنسيته. وهو ليس كذلك بالنسبة لمن لا يكون له خيار آخر. وفي كل الأحوال، إنها مسألة معقدة، تنساب في سياقها عوامل كثيرة، بعضها عاطفي وبعضها الآخر مادي، وشيء من الجغرافيا، وشيء آخر من الضرورات. وإذا ما كان الجانب المادي الأقوى، فإن الأمر يبدو أسهل على أولئك الذين أرادوا العيش بجنسيات أخرى غير تلك الأصلية التي حملوها منذ الولادة، أو اكتسبوها لاحقاً.
لم يسبق أن شهدت الولايات المتحدة هجوماً شرساً على مواطنيها المتهربين من الضرائب. فإدارة باراك أوباما أعلنت الحرب فعلاً على هؤلاء، على الساحتين المحلية والخارجية. وهي ماضية حتى النهاية للحصول على آخر دولار ممكن من أي أمريكي على وجه الأرض، يحصل على دخل مالي يستوجب الضريبة. الحرب، شملت كل المصارف الأجنبية في المرحلة الراهنة، في وقت يبحث فيه المشرعون الأمريكيون أفكاراً لملاحقة مواطنيهم حتى خارج المصارف، أي عبر أماكن عملهم. ورغم صعوبة ذلك، فإن التشريعات يمكن أن تظهر على السطح في مرحلة لاحقة، ويمكن أن تلقى قبولاً من المؤسسات المستهدفة نفسها. فالمصارف رضخت (بعد مقاومة شديدة) لمشيئة المشرعين الأمريكيين، وفتحت ملفاتها السرية أمامهم، خوفاً من عقوبات وغرامات لا تقوى عليها.
أن تكون أمريكياً وتعمل في الخارج، عليك أن تدفع الضرائب، حتى لو كنت لا تستفيد من الخدمات التي توفرها بلادك. فمجرد الانتماء يستوجب الضريبة. كان الأمريكيون العاملون في الخارج يجدون في المصارف الأجنبية ملاذاً آمناً لثرواتهم، بصرف النظر عن حجمها. لكن البنوك المركزية في غالبية بلدان العالم، وافقت على طلبات الإدارة الأمريكية، بفرض قوانين على المصارف بفتح ملفاتها وجداولها لواشنطن. في أوروبا في أمريكا اللاتينية في الخليج العربي، في غالبية المناطق حول العالم، باتت نسخة من حساب الأمريكي في حوزة مصلحة الضرائب الأمريكية، وعليه أن يدفع الضريبة، وغالبية هؤلاء الأمريكيين يتمتعون بمداخيل مرتفعة في الخارج. وبعيداً عن تفاصيل الإجراءات، فإن أي أمريكي يحصل على دخل سنوي يصل إلى 50 ألف دولار خارج البلاد، عليه أن يدفع الضرائب، حتى لو كان يعمل في كوكب آخر.
لا مجال للفرار من هذه الاستحقاقات الشرسة، سوى بالتخلي عن الجنسية الأمريكية. غير أن هذا الأمر ليس سهلاً، لأن من يرغب في ذلك، عليه أن يكون ضامناً لنفسه جنسية بلد آخر. وقد نشط في الآونة الأخيرة حراك ما يمكن تسميته "بيع الجنسيات". فنظام منح الإقامات الذي اتبعته بعض الدول (بما في ذلك عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي)، لا يعفي الأمريكي من الضريبة. كما أن الحصول على إقامة دائمة يتطلب إدخال أموال تراوح بين 250 ألف ومليون دولار. ولا حل أمام الراغب في الهرب من الضريبة سوى الحصول على جنسية أخرى، وهذه الأخيرة ليست عالية التكلفة، كما قد يظن البعض للوهلة الأولى. هناك بلدان تمنحها بعدة آلاف من الدولارات فقط. 
السلطات الأمريكية أسرعت لسن قانون جديد يرفع رسوم التخلي عن الجنسية بمعدل خمسة أضعاف عما كانت عليه في السابق. من 450 إلى 2350 دولاراً. وهو في النهاية مبلغ مالي بسيط بالنسبة لمن يخطط للهروب من ضرائب بلاده. وبحسب السجلات الأمريكية، فقد ارتفع عدد الذين تقدموا بطلبات للتخلي عن جنسياتهم بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة، وهو مرشح للارتفاع في المرحلة المقبلة. فحماية الثروات الشخصية، أهم بالنسبة لهؤلاء من انتماء وطني رسمي. وهم يعتبرون أنفسهم وطنيين، وغير متهربين من الضرائب، طالما أنهم يعيشون ويجنون أموالهم في الخارج. وهذه نقطة قابلة للجدل. لأن الوطنية أيضاً، أن تكون مساهماً في دعم الموازنة العامة لبلادك. فالمسألة لا تتعلق فقط بالضرائب مقابل خدمات تحصل عليها، بل تشمل أيضاً خدمات تقدم لشرائح أخرى مستحقة من مواطنيك.
لقد ساهمت "حرب أوباما" على صعيد الضرائب ببعض النتائج السلبية. في مقدمتها حرمان البلاد من أموال أولئك الأمريكيين الأفراد، بعد أن اعتمدت شركات عديدة من المستويين الكبير والمتوسط، أسلوباً خطيراً للهروب من ضرائب أوباما. لقد قامت هذه الشركات بالاندماج بمؤسسات أجنبية، وجعلت مداخيلها خارجية مرتبطة بمؤسسات غير أمريكية. إنها عملية احتيال واضحة لكل الأطراف، ولكن أحداً لا يستطيع إيقافها. وإذا كانت مثل هذه العمليات تجارية منفعية بحتة، فإن الأمر ليس كذلك تماماً في حالة الأفراد. فخطوات هؤلاء بالتخلي عن جنسياتهم لها شقها العاطفي المباشر، وهي تؤثر بصورة أو بأخرى في حياتهم الأسرية، وفي مرحلة لاحقة، تؤثر في مشاعر الانتماء عند أطفالهم.

لو قررتم الانفصال .. اتركوا الاسترليني

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"أنا وليام ووليس، هيا انتشروا، عودوا إلى إنجلترا، وأبلغوهم هناك، أن اسكتلندا باتت حرة".
وليام ووليس - قائد حرب الاستقلال الاسكتلندي


كتب: محمد كركوتـــي

هذا الشهر يحمل للمملكة المتحدة تحولا تاريخيا قد يحدث وقد لا يحدث. ولكنه في النهاية يهز هيكلية هذه المملكة التي كانت يوماً أعظم الممالك وأقواها. هذا التحول سيندرج في التاريخ بصرف النظر عن نتائجه. وهي نتائج ستكون إيجابية لفريق وسلبية لآخر. في الثامن عشر من هذا الشهر، سيصوت سكان مقاطعة اسكتلندا، إما لبقاء المقاطعة ضمن جسم المملكة المتحدة، أو الانفصال عنها، بعد أكثر من ثلاثة قرون على معاهدة الاتحاد التي ضمت مملكة إنجلترا (التي تشمل ويلز) في اسكتلندا في العام 1707. وقتها، صادق برلمانا إنجلترا واسكتلندا على هذه المعاهدة، لتقوم مملكة بريطانيا العظمى، التي أضحت لاحقاً المملكة المتحدة بضم أيرلندا الشمالية إليها.
وعلى الرغم من أن اسكتلندا حصلت في العقدين الماضيين على مزيد من الاستقلالية في صنع القرار المحلي، بما في ذلك إنشاء حكومة محلية فيها، إلا أن التيار الانفصالي الذي يقوده أليكس سالموند حصل على دفعة لافتة، إن لم تكن قوية، للمضي قدماً باتجاه الانفصال الكلي عن المملكة. فالمشاعر القومية تبقى محركاً فاعلاً في هذه المقاطعة الشمالية، تماماً مثلما هو الحال في أيرلندا الشمالية، التي خاضت حرباً دائماً على مدى قرن من الزمن مع إنجلترا من أجل الاستقلال، أو بالأحرى من أجل الاتحاد مع جمهورية أيرلندا. والأمر ليس بهذه القوة على صعيد مقاطعة ويلز، التي أثبتت على مر القرون، أن قوميتها ليست متطرفة حيال إنجلترا، ربما لأن التداخل بين المقاطعتين ظل أكبر منه بين اسكتلندا وأيرلندا الشمالية.
لكن ليس كل الاسكتلنديين يؤيدون الانفصال، الذين يؤدون البقاء يعتقدون أن ما حصلت عليها إدنبرة من استقلالية سياسية، يكفي لإرضاء المشاعر القومية. وأكثر من ذلك يكون الأمر صعباً بل ومرفوضاً. الحكومة المركزية في لندن، لم تتوقف عن التحرك من أجل توجيه الاستفتاء المنتظر نحو البقاء، وهي تعدد المغريات الكثيرة، لاسيما الاقتصادية منها. الوظائف، الجنيه الاسترليني، الدفاع، الاستفادة من مؤثرات وجود بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، كلها مزايا تسوقها حكومة ديفيد كاميرون، وتمد بها حملة "البقاء معاً أفضل" التي يقودها وزير المالية البريطاني - الاسكتلندي السابق ألستر دارلينج. الانفصاليون يؤكدون، أن الانفصال أفضل، ليس فقط لوجود النفط في المناطق البحرية الاسكتلندية، بل أيضاً لأن اسكتلندا المنفصلة تستطيع أن تلعب دورها على الساحة الأوروبية، حتى في ظل إشارات من الاتحاد الأوروبي بجدوى البقاء لا الانفصال.
ومع أن أحداً لا يستطيع أن يجزم في أي الاتجاهين سيذهب الاستفتاء، فالتنازع بين الطرفين بدأ على الممتلكات بين لندن وإدنبرة. العاصمة البريطانية تصرخ، بأن الجنيه الاسترليني لن يكون عملة اسكتلندا المستقلة، في محاولة أخرى للضغط على الناخبين، بينما يرد رئيس الوزراء الاسكتلندي سالموند، بأنه يرغب ببقاء الاسترليني عملة لـ "اسكتلندا المستقلة"، ولكن إذا فشل في ذلك، فلا خوف. لأنه يعتقد، أنه بإمكان بلاده تولي سياستها الاقتصادية والمالية بنفسها. ومع تزايد نشاط الانفصاليين دعائياً قبل أيام من موعد الاستفتاء، بدأ المناوئون يرددون "تريدون الانفصال؟ انفصلوا واتركوا الجنيه الاسترليني". والحق أن العملة البريطانية تمثل حالة رمزية عميقة، مثلما تمثل حالة اقتصادية مالية محورية. وتبقى بالنسبة لأولئك الذين يريدون أن يبقى التاج البريطاني على رأس اسكتلندا، وسيلة ضغط أو مناكفة أو عقابا.
ورابط الجنيه يتعلق بصورة أهم وهي مسألة الديون. فقد تعهدت وزارة المالية البريطانية بضمان قروض التاج البريطاني، والحصول من اسكتلندا "المستقلة" على حصتها في مدة يتفق عليها لاحقاً. غير أن عدم وجود وحدة نقدية، دفع القوميين الاسكتلنديين للتهديد بعدم تسديد حصتهم من هذه الديون. دون أن ننسى، أن عوائد النفط الاسكتلندي ليست كبيرة بما يكفي، لتوفير الموارد اللازمة لسد الدين العام. ورغم أن إجمالي الناتج المحلي لاسكتلندا، يماثل بصورة أو بأخرى مستويات دول مثل فنلندا وجمهورية أيرلندا واليونان، إلا أن الروابط التاريخية الاقتصادية والمالية التي تجمع لندن وإدنبرة، تجعل الأمور أكثر صعوبة على صعيد الاستقلال الاقتصادي التام. إنها مسألة معقدة، وتحمل مخاطر عديدة. فحتى الأوروبيون، سربوا أنه ليس من الضروري أن تمتع اسكتلندا المستقلة بعضوية سهلة في الاتحاد الأوروبي.
الانفصاليون يعون بالفعل المخاطر الناجمة عن التنازع المالي مع لندن، ولهذا السبب اقترحوا ما يمكن أن يعتبر نوعاً من الوحدة النقدية مع المقاطعات المتبقية تحت التاج البريطاني، بإشراف بنك إنجلترا المركزي، وتحديداً على صيغة مشابهة للبنك المركزي الأوروبي. غير أن هذا لم يلق قبولاً (ولو نظرياً) من جانب الاتحاديين، الذين يصرون على أن يبقى الجنيه الاسترليني خارج جيوب الانفصاليين، كنوع من العقاب، إذا ما نجحوا فعلاً في الاستفتاء التاريخي هذا الشهر. لقد ضمن ديفيد كاميرون مكاناً بارزاً في التاريخ البريطاني، سواء انتصر الانفصاليون أم هزموا. وشكل البروز هنا يحدده البريق أو الظلام.

عندما تكون صناعة الدواء بلا أخلاق

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«لا تقلل أبداً من تأثير المال الذي يذهب رأساً على شكل رشوة»
كلود كوكبورن - صحافي ومؤلف أيرلندي


كتب: محمد كركوتـــي

يبدو أن لا شيء في السوق محميا من الرشوة والاحتيال والفساد والتهريب والسمسرة السوداء. ها هي شركات الأدوية المعروفة وغير المعروفة، تدخل منذ سنوات في بؤرة الفساد والاحتيال، بحيث أصبحت أخبار التجاوزات فيها أكثر من أنباء الاكتشافات الدوائية الجديدة. وبدلاً من قيام هذه الشركات بين الفترة والأخرى، بطرح منتج دوائي حقيقي رخيص، يقوم ممثلوها في عدد كبير من البلدان، بعقد الصفقات المريبة، التي تستند في الدرجة الأولى، إلى تمرير ما أمكن من المنتجات الدوائية ضمن الأنظمة الطبية والصيدلانية، بصرف النظر عن الاحتياج لها. وهي عمليات احتيال تنال من المنافسة الشريفة التي تضمن في النهاية حقوق المنتج والمستهلك. والمروع أن شركات أدوية شهيرة حتى عند العامة، دخلت في نطاق السوق السوداء المتجددة. بصرف النظر عن مواقفها المعلنة المستنكرة لما يحدث.
والاستنكار لا يعفي هذه الشركات من المسؤولية عن تجاوز ممثليها في البلدان المستهدفة للأنظمة التجارية والطبية الشرعية، بل إن هناك عشرات الأسئلة تتعلق بمدى اطلاع مجالس إدارة شركات الدواء على عمليات الاحتيال والرشوة التي تجري في هذا البلد أو ذاك. بعض المعلومات تفيد بأن قرارات تتخذ على مستوى مجالس الإدارة، تدعم عمليات الرشوة لتسويق المنتجات. ولهذا السبب خضعت (ولا تزال) عديد من الشركات للتحقيقات من قبل السلطات في بلدانها (وكلها بلدان غربية)، بينما وجدت بعض الشركات أنه من الضروري التوصل إلى تسويات مع السلطات المشار إليها، وحصر القضايا ضمن تفاهم يحل عبر غرامات مالية، على طريقة المصارف الملوثة التي فضلت دفع الغرامات الهائلة بدلاً من ساحة القضاء.
وفي السنوات الماضية، خضعت شركات منتجة للدواء للتحقيقات السرية. من بينها "ميرك"، و"باكستر"، و"بريستول – مايرز سكويب"، و"إلي ليلي"، و"أسترازنيكا"، و"سميث آندنيفيو". وكلها أسماء رنانة في نطاق اختصاصها. وتوصلت شركة "فايزر" الأمريكية في سياق هذه التحقيقات إلى تسوية مع وزارة العدل، حول اتهامات تتعلق بتقديمها دفعات وصفها القانونيون الأمريكيون بأنها "غير لائقة" خارج الولايات المتحدة. ولأن القضايا حساسة، والأدلة قوية لا لبس فيها، أسرع القائمون على هذه الشركات لتسويات مالية. غير أن ذلك لم يوقف عمليات الرشوة والاحتيال وتقديم دفعات "غير لائقة". وطبقاً للمعلومات التي ظهرت على الساحة أخيراً، فإن هناك شركات قامت بتسويات مع حكوماتها بالفعل، لكنها عادت إلى الأسلوب القديم المكرر في الاحتيال. سواء بشكل مباشر، أو عن طريق ممثلين لها في بلدان تفتقر إلى الرقابة الحكومية الصارمة في قطاع مؤثر وحساس مثل قطاع الدواء والعلاج.
وفي مطلع العام الجاري، لم يغب اسم شركة الأدوية البريطانية "جالاكسو سميث كلاين" الشهيرة، عن الأخبار الآتية من أنحاء مختلفة في هذا العالم. وفي كل مرة يتم تداول هذا الاسم، يربط برشا هائلة يقدمها وكلاؤها من أجل تمرير صفقات من الأدوية، بما في ذلك عقاقير لعلاج السرطان ومنع جلطات الدم. كان آخر هذه الفضائح من سورية. وجاء في الاتهامات أن الشركة عن طريق ممثليها في المنطقة، قدمت رشا للأطباء ومسؤولين في النظام السوري، من أجل تمرير الصفقات، بما في ذلك منتجات ليست مطلوبة بصورة ملحة في البلاد. هذه القضية جاءت بعد أن افتضح أمر قضايا مماثلة للشركة في كل من الصين ولبنان وبولندا والعراق والأردن. في حين يعتقد محققون أن الشركة متورطة أيضاً في بلدان أخرى.
أسرعت الشركة البريطانية بالفعل إلى فتح تحقيقات مع ممثليها في الدول المذكورة، لكن أحداً لم يسمع بنتائج هذه التحقيقات حتى الآن. فهي تؤكد أن إدارتها في المقر الرئيس، لا علاقة لها بقضايا الرشا والفضائح الملازمة لها، وأن التسيب يمكن أن يحصل هنا وهناك، وأنها عازمة على إيقاف هذا النوع من الفساد في مكاتبها ووكالاتها حول العالم. ولكن في النهاية، لا تكفي تحقيقات الشركة ذاتياً، خصوصاً أن الأطراف الأجنبية المتورطة، لا تتمتع قوانين بلدانها بالحد الأدنى المطلوب من النزاهة. فقد أثبتت تحقيقات السلطات الأمريكية مع عدد من شركات الأدوية في الولايات المتحدة أهميتها بل نجاعتها. فلا يمكن ترك الأمور لتحقيقات داخلية، لا يمكن ضمان نتائج نزيهة لها. بل رغم ذلك، فقد رشحت معلومات تفيد بأن الشركات التي خضعت للتحقيقات والغرامات فعلاً، ترتكب مخالفات مشابهة. تحقق شركات الأدوية حول العالم، والمتمركزة بصورة أساسية في البلدان الغربية، أرباحاً طائلة من عملياتها المشروعة. فشركة "جالاكسو سميث كلاين" تحظى بعوائد سنوية تصل إلى أكثر من 26 مليار جنيه استرليني. ويبدو أن هذه الأموال الطائلة، هي أقل مما تسعى إليه الشركة. في حين أن طبيعة إنتاجها ينبغي أن يخضع أيضاً إلى المعايير الأخلاقية، فهي لا تنتج الساعات المرصعة بالألماس، ولا السيارات المطلية بالذهب. إنها تصنع الدواء، بل لنقل إنها تصنع الأمل. وهذا وحده يفرض عليها قيما تخضع لمعايير السوق، بلا شك، ولكن بمستويات أخلاقية مقبولة.

السلاح والحليب بين بريطانيا وإسرائيل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



 
"إذا هاجمك كلب، فاقتص ممن يرعاه. لا تلوموا إسرائيل، وجهوا اللوم والمحاسبة إلى الإدارات الأمريكية المتعاقبة الراعية لها"
روبرت دي نيرو ممثل ومخرج ومنتج أمريكي
 
 
 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
أيا كان مستوى الحظر العسكري الذي تفرضه بريطانيا على إسرائيل، فسيكون رمزيا أكثر منه عمليا. وحتى بتوصيفه هذا، أحدث خلافا بين طرفي الحكومة الائتلافية الحاكمة في المملكة المتحدة، بين المحافظين، وبين الليبراليين الديمقراطيين، الذين لولاهم لما تمكن المحافظون من تشكيل حكومة. الليبيراليون يؤمنون أن الجانب الأخلاقي في هذه المسألة بات قضية ملحة، بينما يرى المحافظون التريث أو الإقدام على هذه الخطوة بأقل سرعة ممكنة. وفي ظل هذا المفهوم المحافظ، دب الخلاف بين طرفي الحكومة. صحيح أن الغلبة في السلطة حاليا للمحافظين، ولكن الصحيح أيضا، أن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، لا يمكن أن يغامر بأي خلاف يخرج عن السيطرة. فقبل أيام فقط استقالت الليدي وارسي وزيرة دولة بوزارة الخارجية، لأنها كما قالت "لا تستطيع أن تدافع عن سياسة حكومتها حيال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة".
رضخ كاميرون في النهاية للضغوط من نواب شركائه الليبراليين، إلى جانب نواب حزب العمال المعارض، في فرض حظر على تصدير السلاح (ولو مرحليا) لإسرائيل. وكانت النتيجة، إيقاف الصفقات المخصصة لسلاح البحرية الإسرائيلي، على اعتبار أنه قام بعمليات عسكرية أوقعت عددا كبيرا من الضحايا المدنيين في صفوف الفلسطينيين. لقد تم فحص 182 ترخيصا بتصدير أسلحة من بينها 35 ترخيصا يتعلق بتصدير وسائل قتالية لسلاح البحرية الإسرائيلي. وفي نهاية الفحص تقرر إلغاء خمسة تراخيص خاصة بتصدير معدات ووسائل قتالية للسفن التي يمتلكها سلاح البحرية الإسرائيلي. وقد وجدت الحكومة البريطانية (بعد الضغوط) أن "العمليات التي قامت بها سفن سلاح البحرية الإسرائيلي خلال عملية - الرصاص المنصهر - تتنافى والاتفاقيات الأمنية المبرمة بين إسرائيل وبريطانيا.
مثل هذه النوع من العقوبات، هو في الواقع سياسي رمزي، لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على قدرات جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي حظي في عز العدوان على غزة بإمدادات أمريكية عسكرية مختلفة، بصرف النظر عن "الخلافات" السياسية بين إدارة الرئيس باراك أوباما وحكومة بنيامين نتنياهو. ومن المصائب، أن هناك جهات عربية تعتقد بأن مجرد وجود خلاف سياسي بين تل أبيب وواشنطن، هو "انتصار" عربي! وبعيدا عن هذا المفهوم الملتبس، تبقى الخطوات التي اتخذتها بريطانيا ضد إسرائيل (قبل العدوان على غزة)، أهم وأكبر أثر على الساحة الإسرائيلية. فتل أبيب التي تنتج السلاح، لم تعتمد على السلاح البريطاني من قبل، باستثناء المرحلة المباشرة التي أعقبت اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية المعروفة. وكان زخم السلاح الفرنسي لإسرائيل، أكبر من البريطاني لها.
في الأشهر الماضية، تركت المقاطعة التي فرضتها بريطانيا على منتجات المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة أثرا، وإن لم يكن كبيرا. وفي الحقيقة، كانت هذه العقوبات جزءا أصيلا من سلسلة عقوبات فرضها الاتحاد الأوروبي على تل أبيب، كنوع من الضغط على وقف بناء المستوطنات، والحد من عمليات التهويد التي تتعرض لها مدينة القدس منذ عقود. ومع ذلك لم يتوقف النشاط الاستيطاني، الذي يعتبره الإسرائيليون ضمانة لهم لاستمرار إحكام سيطرتهم على المناطق المحتلة، وإيجاد حالة من الأمر الواقع، تدعمهم في "المفاوضات" المترنحة مع الجانب الفلسطيني. وانحصرت العقوبات البريطانية في هذا المجال، في نطاق بعض المنتجات الزراعية، والألبان وما يتصل بها. والأثر السلبي الواضح على هذه المنتجات، لا يعود فقط للعقوبات البريطانية، بل لمجمل العقوبات الأوروبية.
ورغم أن المقاطعة الأوروبية انعكست بصورة خطيرة على عدد المصانع وجهات الإنتاج الإسرائيلية، إلا أنها من حيث القيمة تبقى متواضعة. وطبقا لآخر تقدير إسرائيلي، فإن ما يقرب من 80 مصنعا إسرائيليا متخصصا في إنتاج الحليب والألبان مهددة بالإغلاق بشكل نهائي. ومنتجات هذه المصانع تأتي كلها من المستوطنات. لكن بالنظر إلى القيمة، فإن إجمالي الخسائر لا تتعدى 30 مليون دولار. وما يخيف الإسرائيليين، ليس هذا الحجم من الخسائر، ولكن القرارات الأوروبية الإضافية المتوقعة التي ستتضمن فرض المزيد من العقوبات على أكبر نسبة من منتجات المستوطنات. وهذا يشكل رعبا حقيقيا على المدى المتوسط في تل أبيب. وسيكون الرعب أكبر، لو قام الاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات أكثر اتساعا مرة واحدة، وليس على مراحل.
ورغم حالة الرعب هذه، فإن إسرائيل تضمن لنفسها الاستمرار في احتلالها المتواصل وعدوانها المتكرر. فالجانب الأمريكي حيالها يبقى آمنا، بصرف النظر عن "مسرحيات" الخلافات مع الولايات المتحدة. ويبقى المصدر الأهم للإمدادات العسكرية وللعلاقات الاقتصادية، التي تحتاج إليها تل أبيب. ولتفرض بريطانيا ما تشاء من العقوبات العسكرية، حتى إن انتقل ديفيد كاميرون من حالة التردد إلى وضعية الإقدام على مثل هذه الخطوات. فالبريطانيون الذين يضغطون لمزيد من حظر السلاح لإسرائيل، قد يشعرون أنه من الواجب القيام بذلك، لكنهم يشعرون بصورة أكبر وأهم بأن الحظر يخفف عليهم وطأة المسؤولية الأخلاقية، المتمثلة في إنتاج إسرائيل مزيدا من أشلاء الأبرياء.

العمل 3 أيام في الأسبوع ليس ترفا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





 
"اختر العمل الذي تحبه، فلن تعمل يوماً واحداً في حياتك"
كونفوشيوس فيلسوف الصين



كتب: محمد كركوتـــي

لم يحظ الاقتراح الذي طرح منذ سنوات، بتحويل أيام العمل إلى ثلاثة بدلاً من خمسة أسبوعياً، بتأييد فاعل من جهات مؤثرة حول العالم. وبقي ضمن نطاق الطرح في المناسبات، ولا بأس من محاضرة داعمة له هنا، ومنتدى مؤيد هناك. وتصريح بين الحين والآخر من رجل أعمال على شاكلة المكسيكي ـــ اللبناني كارلوس سليم "أغنى رجل في العالم"، الذي حمل لواء الاقتراح أخيراً، مؤكدا نجاعة تحويله إلى حقيقة عملية. وسليم ليس اقتصادياً مُنظراً، ولا أكاديمياً باحثاً، ولا كاتباً يقدم أفكارا ويمضي إلى أخرى. إنه رجل أعمال عصامي النشأة، حقق نجاحات مختلفة "ولا يزال"، ليصبح في النهاية الأغنى في العالم على الإطلاق. وعندما يبنى هذا الطرح، فإنه يقدمه من مفهوم عملي وواقعي. فهو ليس من أولئك المغرمين بالنقابات وطروحاتها التعجيزية.
وكارلوس سليم في النهاية ليس صاحب المقترح، ولكنه من داعميه. وفي مطلع عشرينيات القرن الماضي، وصف الصناعي التاريخي الشهير هنري فورد بالجنون. لماذا؟ لأنه حول دوام العمل في مصانعه ومؤسساته وقتها لخمسة أيام في الأسبوع. كان العالم الغربي آنذاك يعمل ستة أيام باستثناء أيام الآحاد. وفي بعض البلدان الغربية، كان بعض الموظفين والعمال يعملون ساعات قصيرة عصر الآحاد نفسها. وفي العالم العربي "حتى وقت قريب"، كانت أيام العمل ستة في الأسبوع. وفي دول العالم حالياً، لا يزال "الصيغة المقدسة" التي تستند أولاً على الدوام الكامل، أما مسألة الإنتاج والإنجاز فتأتي في الدرجة الثانية! وفي بعض البلدان، يُنظر إلى المدير الناجح، على أنه ضابط مثالي للدوام! وهذه المفاهيم لم تعد تتماشى مع التطورات في ساحة العمل، بل واستحقاقات التحولات في هذا المجال.
وتشير الدراسات المختلفة، إلى أن نسبة متعاظمة من الموظفين، لم تعد مضطرة حتى للحضور إلى مقر العمل، ولا سيما أولئك الذين يستطيعون الإنتاج خارجه، مع وجود التسهيلات التكنولوجية التي باتت متاحة للجميع في غالبية دول العالم. وفي إحصائية أجريت في الولايات المتحدة مطلع العام الجاري، تبين أن أعداد الموظفين الذين يعملون من المنزل ارتفع من 9.5 مليون موظف في عام 1999 إلى 13.4 مليون موظف في 2010، وذلك بسبب إقبال المزيد من الشركات على تعيين موظفين يعملون من منازلهم بشرط الكفاءة والخبرة. وبلغت نسبة العاملين بوظائف يمكن ممارستها من المنزل في الولايات المتحدة إلى 50 في المائة. ومع تطور التكنولوجيا، فإن عدد الموظفين الذين سيتجهون من غرف نومهم إلى صالون المنزل لمزاولة وظائفهم سيزداد. فحتى الرئيس التنفيذي للشركة يمكنه ببساطة عقد اجتماع مهم ومحوري وهو بملابس المنزل وربما داخل غرفة نومه.
وبعيداً عن فكرة العمل والترفيه في الوقت نفسه التي يطرحها العديد من أصحاب الأعمال الأكثر تطوراً في مفاهيم الوظيفية، فإن دول العالم تتجه بصورة سريعة، إلى رفع سن التقاعد، ولا سيما مع ارتفاع معدلات الأعمار، حتى في البلدان الأقل تطوراً. ويرى مؤيدو اختصار الأسبوع لثلاثة أيام عمل، أن هذه الشريحة من العمال والموظفين تقبل بأجور أقل وساعات دوام أقل. وحتى بالنسبة للعمال الأقل سناً، فإن بعض الدراسات أثبتت أن الإنتاج يكون أكبر في الأيام الثلاثة الأولى التي تعقب العطلة الأسبوعية. وهذا يعني أن أربعة أيام عطلة أسبوعية، تشكل حافزاً للعمل المنتج، وتقلل من التكاسل الذي يسود أوساط الموظفين عادة في الساعات الأخيرة من اليوم، وبصورة أكبر في الأيام الأخرى من الأسبوع نفسه.
وعلى هذا الأساس، يعتبر المؤيدون، أن العمل ثلاثة أيام في الأسبوع ليس ترفاً، طالما أنه لن يؤثر في الإنتاج، بل بالعكس في مجالات كثيرة سيزيد من جودة وحجم الإنتاج. والاختلاف حول هذه القضية لا ينحصر في الوقت الراهن، بل يعود لعقود خلت. فالصناعي الأمريكي الراحل هنري كيسير يقول "عندما يتحدث عملك عن نفسه، لا تتدخل". ويدعم ذلك بصورة مختلفة المؤلف الأمريكي توماس فولير بقوله "كل الأشياء صعبة قبل أن تصبح سهلة". ويختلف معهما الشاعر الأمريكي الراحل روبرت فروست الذي قال "عملك بإخلاص ثماني ساعات في اليوم، ربما يرقى بك إلى منصب مدير، وقتها ستعمل 12 ساعة يومياً. وكذلك الأمر مع المؤلف الأمريكي جاكسون براون الذي يقول "اعثر على العمل الذي تحبه، بعد ذلك عليك أن تضيف خمسة أيام أخرى لأيام الأسبوع".
إن المسألة برمتها، لا تتعلق بالالتزام الأوتوماتيكي بدوام رسمي فقط. بل بحجم الإنتاج، ومستوى الإبداع الناتج عن العمل نفسه. في حالات كثيرة، من الأفضل أن يعود الموظفون غير المنتجين إلى منازلهم، توفيراً لما يستهلكونه ضمن ساعات الدوام، خصوصاً أولئك الذين لا أمل من جعلهم يعملون حتى بالحد الأدنى. الطرح المتجدد للعمل ثلاثة أيام في الأسبوع، سيظل مثار بحث وتأييد واعتراض. لكن الأوقات تتغير، والمعايير العملية نفسها قيد التغيير المستمر. والذين وصفوا هنري فورد بالجنون، لأنه جعل دوام موظفيه خمسة أيام في الأسبوع، وجدوا في النهاية، أن خطوة فورد أكثر من عاقلة.

 

 
 

«مباريات» السياسة لا تشبه «مباريات» الاقتصاد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"يعتبرون الرجل كائنا بشريا، ويعتبرون المرأة أنثى. عندما تمارس سلوكيات كائن بشري، يقولون عنها، إنها تقلد الرجل"
سيمون دي بيفوار كاتبة وناشطة سياسية فرنسية

كتب: محمد كركوتـــي


لا تزال المؤشرات الإيجابية غائبة، فيما يتعلق بتعزيز وجود المرأة بين القيادات، وفي مراكز صنع القرار، بما في ذلك (بالطبع) مجالس الإدارة والهيئات التنفيذية العليا. في بعض الحالات يتساوى مستوى الغبن في هذا المجال بين دولة متقدمة جدا، وأخرى متخلفة جدا، بينما تستمر التحركات من الهيئات الداعية إلى التحركات في جميع البلدان. وقد نجحت هذه الهيئات بالفعل في تحقيق إنجازات لافتة، سواء عن طريق فرض "كوتا"، أو من خلال دفع السلطات التشريعية لإبقاء القضية مثارة، أملا في تحقيق جزء من الأهداف. وتعمل الجهات الضاغطة بصدق وحماس كبيرين، إلا أنها تواجه في بعض المواقع مقاومة مختلفة المستويات. بعضها عنيف، والآخر أقل عنفا. وتتعرض أيضا إلى التعطيل المنهجي، خصوصا عندما يكون أمر إيقافها صعبا، ولا يتناسب مع الحالة العامة على الساحة.
وجود قيادات سياسية نسائية في بعض البلدان الكبرى، لا يعطي مؤشرا إيجابيا على صعيد الوجود النسائي بين القيادات. فالمعايير السياسية لا تشبه المعايير الاقتصادية، ولا سيما عندما يكون على الساحة اقتصاد السوق، لا اقتصادا حكوميا مغلقا جامدا. وحتى مارجريت ثاتشر التي لقبت بـ "المرأة الحديدية"، جاءت إلى الحكم كحل وسط بين كبار قادة حزبها الرجال، وكذلك الأمر في الهند مع أنديرا غاندي. بل إن أنجيلا ميركل المستشارة الحالية لألمانيا، تحكم بصيغة الائتلاف السياسي. ولثاتشر تصريح تاريخي قبل عام فقط من وصولها الحكم. ماذا قالت؟ "لا أعتقد أني سأشهد امرأة في رئاسة الوزراء في حياتي". كانت تقصد، أن الوقت لم يحن بعد لمثل هذه الخطوة، وربما حان بعد عدة أجيال أخرى! "المباريات" في ملاعب السياسة، لا تتشابه مع "المباريات" في ملاعب "البزنس".
ولأن الأمر كذلك، ما زالت نسبة النساء اللواتي يشغلن مواقع قيادية ضمن مؤسساتهن منخفضة في جميع أنحاء العالم. هي ترتفع هنا وتنقص هناك، لكنها تبقى منخفضة في النطاق الإجمالي. ولا يزال التلاعب في هذا المجال حاضرا في غالبية المؤسسات بقلب الدول الراشدة، التي حققت تقدما كبيرا على صعيد التشريعات ذات الصلة. هناك دائما ثغرات يمكن التسرب من خلالها، لكن المشكلة أن هذه الثغرات باتت مكشوفة للعيان منذ سنوات. وطبقا لبحث أصدرته أخيرا "هارفرد بزنس ريفيو" الأمريكية، فإن نسبة تمثيل النساء في مجالس الإدارة تتراوح بين 1 و2 في المائة في اليابان، و17 في المائة في الولايات المتحدة، بينما هي أعلى بكثير في دولة مثل النرويج "في حدود 40 في المائة". وتصل المناصب القيادية للمرأة في باكستان إلى 3 في المائة، وتبلغ 38 في المائة في أوكرانيا.
وللقضية جوانب ثقافية أيضا، ولا تتعلق فقط ببعض المفاهيم الاقتصادية المادية التقليدية الصرفة، بأن الرجل يكون عادة أكثر إنتاجا من المرأة في معترك العمل. ويرى البحث المذكور، أن التفاوت بين الدول مرتبط جزئيا بالاختلافات في درجات التشدد الثقافي ما بين الأمم، وتحديدا مدى وضوح المعايير ضمن ثقافة معينة، ودرجة استعداد السلطات لتطبيق تلك المعايير عبر استعمال العقوبات. ومن هنا نرى، أن القوانين الخاصة في تعديل مستوى تمثيل المرأة في القيادات، بما في ذلك "الكوتا" تطبق بحزم في دول، وبتراخ في دول أخرى، خصوصا عندما يكون العقاب دون مستوى التجاوز. بل إن بعض المؤسسات في العديد من البلدان، تحتال على مثل هذه القوانين، بالتعيين الصوري للنساء في مواقع القيادة. فهي بذلك، تحصل على الشكل المطلوب، ولكن لا علاقة له بالمضمون!
البلدان التي تنتشر فيها الثقافات الأكثر تشددا، تضم عددا أقل من النساء اللواتي يشغلن مناصب تشريعية أو تنفيذية أو إدارية أو قيادية. وهذا أمر طبيعي. ولكن اللافت هنا يثير الاهتمام حقا. فقد ثبت أن هذه البلدان تكون أكثر جدارة وجودة في تنفيذ قوانين المساواة في العمل، إذا ما فرضت هذه القوانين بالفعل، مقارنة بغيرها من البلدان التي تنتشر فيها الثقافات الأقل تشددا. فالنرويج الذي يعتبر بلدا متشددا نسبيا، وضع قوانين بلغت حد حل الشركات والمؤسسات المدرجة في البورصة، إذا ما انخفض تمثيل المرأة في قياداتها عن 40 في المائة. والأمر ليس كذلك في بلد كالولايات المتحدة التي تعتبر متساهلة في هذا الأمر. ولا شك أن العقاب القاسي، يوفر أفضل حالة تنفيذية للقانون المربوط به. ونظام الحصص "الكوتا"، يمكن أن تشكل خطوة كبيرة ومهمة على صعيد المساواة في قيادة المؤسسات في دول متشددة، ولكنها لن تكون مجدية بما يكفي في بلدان أقل تشددا.
ستظل هذه المسألة مطروحة على الساحة في جميع بلدان العالم. وستأخذ وقتا طويلا لكي تحقق انفراجات ذات قيمة من حيث المضمون لا الشكل. ولا شك في أن القوانين الصارمة تبقى الصيغة المثلي أو المتاحة، خصوصا أن القوانين "أي قوانين" ليست محركا فوريا.