الجمعة، 26 أبريل 2013

القنوات الفضائية الأجنبية.. قيم مفقودة بنسخها العربية

(المقال خاص بمجلة جهاز إذاعة وتلفزيون الخليج)




"علي أن أقول: إني أجد التلفزيون تعليمياً. في اللحظة التي يفتح أحدهم جهاز التلفزيون، أذهب إلى المكتبة وأقرأ كتاباً جيداً"
جروشو ماركس، كوميدي أميركي، ونجم سينمائي وتلفزيوني



كتب: محمد كركوتـــي


على مدى عدة سنوات متلاحقة، تلاحقت انطلاقات القنوات الأجنبية بنسخها العربية. بعد سلسلة طويلة من استنساخ القنوات العربية لعدد كبير من البرامج الأجنبية، دون أي شكل من المساهمة الإبداعية من الجانب العربي. وهذا النوع من الاستنساخ، أتى في الواقع بعد مجموعة أخرى من "الاستنساخات" لمطبوعات أجنبية، بعضها صمد بهشاشة بالغة (حتى الآن)، وبعضها الآخر توقف، لأسباب مختلفة في مقدمتها المالية. ولولا الحكومات التي تقف وراء الفضائيات المستنسخة، لتوقفت هي الأخرى، بسرعات مختلفة وإن كانت متقاربة. خصوصاً أنها ليست "بقالات فضائية" يقيم عليها فرد أو إثنان، تقدم "النفايات" الإعلامية. هذه "البقالات" يمكنها الاستمرار بمرتب موظف من الدرجة العاشرة. قبل ثلاث سنوات، زرت مركز "نايل سات" لخدمات البث الفضائي في القاهرة، ووجدت قنوات فضائية يشغلها "فراش"، مهمته تلقيم أجهزة البث بالأشرطة في الوقت المناسب! أما المساحة المخصصة للقناة، فهي لا تزيد عن مترين مربعين!

بعد قرابة عقد من الزمن على انطلاق الفضائيات الأجنبية المستنسخة عربياً، مع الأخذ في الاعتبار، المساحة الزمنية لكل واحدة منها. يمكن تقييمها بصورة علمية وعملية، ومقارنتها، ليس مع غيرها من الفضائيات العربية الخالصة، بل مع الفضائيات الأجنبية المتوالدة منها. وبالإمكان طرح كل الأسئلة، وفي مقدمتها السؤال الكبير: هل تتساوى قيمة الأصل مع نسخته؟ وهذا الأمر يرتبط بالمحتوى والشكل أيضاً. ففي دنيا التلفزيون، توازى الشكل والمحتوى أهمية. بل في كثير من الأحيان بات يفوقه، بصرف النظر عن الاختلاف والتوافق حول هذه النقطة. في بعض الأحيان، يسيطر الشكل على المحتوى، وغالباً ما يكون الناتج سطحياً، أو بلا معنى. لكن علينا أن نعترف، بأن لهذا الناتج مستهلكون يتزايدون، ليس لأنهم أقل إدراكاً، بل لكونهم يتلقون سيل "النفايات" الإعلامية، حتى من بعض الفضائيات العربية المحسوبة على قيد المؤسسات لا "البقالات".

لا يمكن الجزم، بأن الفضائيات الأجنبية المستنسخة عربياً، حققت تقارباً مطلوباً بين الأصل والنسخة. والأسباب كثيرة، من بينها، أن الجودة المهنية في النسخة العربية، بقيت أقل منها في النسخة الأصلية. وهذا يتضح، من خلال متابعة نشرات الأخبار والبرامج المنتجة عربياً. وينطبق على كل مناحي الإنتاج، إلى درجة شملت حتى جودة اختيار ضيوف البرامج والنشرات الإخبارية!  وهذا أمر لا يتطلب، خبرات ضاربة، بل متابعات بسيطة يمكن من خلالها الوصول إلى الجودة المفقودة في هذا المجال. وقد يمر برنامج ضعيف الإعداد والتقديم، على شرائح متعددة من المتابعين لهذه الفضائيات، دون الاهتمام بتحديد مستواه المهني، لكن باتت النسبة الأكبر من هؤلاء المتابعين، تولي اهتماماً كبيراً في مستوى النشرات الإخبارية في الفضائيات المستنسخة، وذلك لسهولة تحديد مكامن الضعف في الإعداد والمحتوى والتقديم، يضاف إلى ذلك، أن دائرة المقارنة بين الفضائيات في المجال الإخباري، تبقى أوسع منها في النطاق البرامجي. وهذا كله لا دخل له في الرقابة، التي تقهقرت (بالفعل) إلى مستويات متدنية في العشرين  سنة الماضية. قبل ذلك، كان الفشل الإعلامي المهني العربي، يُعلق على الرقابة. وهذه الأخيرة كانت تعيق (بلاشك)، لكنها فشلت هي نفسها، في طمس القدرات المهنية الإعلامية العربية النادرة. فالمهني الناجح، لابد له من أن يمر، حتى من "الأسلاك الشائكة" للرقابة.

ومع أنه من المفروض أن يكون العمل في الفضائيات المستنسخة، أكثر سهولة من غيرها، على اعتبار أنها تعمل وفق مخطط يُطبق قبل وجودها على الأرض بالفعل، وفي نطاق استراتيجية وضعت لها من قِبَل الغير ويجري تنفيذها أيضاً، إلا أن الثغرات تبدو جلية في التنفيذ العربي. مما يعزز الاعتقاد، بأن الفضائيات الأجنبية الأصلية، لا تتابع بصورة محكمة نسخها العربية، وإن فعلت، فإن متابعاتها لها، لا تشمل العمق بقدر السطح. ومن الواضح أيضاً، أن "الأصلية" تواجه مصاعب في العثور على الإدارات المثلى في الجانب العربي، وأنها تكتفي بما يُنتَج، طالما أن ذلك لا يؤثر على سمعتها في ساحاتها الأصلية. هذا لا يعني (بالضرورة) أن ما تقدمه الفضائيات الأصلية، هو الأفضل دائماً. وما أعنيه هنا، أن الفضائيات المستنسخة أخفقت في كثير من الأحيان، في الاستفادة مما لدى "الأصلية" من جودة. وهنا، لا دخل للتباين الثقافي بين الأصلي والتقليد. الموجود حقاً هو التباين المهني بين الطرفين، إلى جانب الفروقات الشاسعة في مستويات الإدارة بين الجانبين. وللإنصاف، هذه النقطة الأخيرة ، تخضع (في زحمة ما تخضع)، إلى وجود الاستدامة في الأصل، وغيابها في الفرع.

لكن هذا لا يبرر (بأي حال من الأحوال)، الفارق الكبير في الجودة بين الجهتين. واللافت أن الفارق ينسحب حتى على شكل الأداء على عدد من الفضائيات المستنسخة. وهذا الجانب ليس صعب التنفيذ، إذا ما تم الالتزام بالمعايير "الشكلية" المطبقة أصلاً في مكان آخر. لكن الفجوة هنا، ليست ناتجة عن ثغرات في الإطار، بل عن غياب الروح المطلوبة لدى أولئك الذين يملؤن الإطار. وهذا بحد ذاته، لا يخضع للتدريب أو التمرين فقط، بل إلى الموهبة. وإذا ما نظرنا إلى بعض الفضائيات الأجنبية، التي تعتمد على الشكل أكثر قليلاً من المضمون (سكاي نيوز مثلاً)، نستطيع بسهولة أن نلمس الروح المفقودة في نسخها العربية. دون أن ننسى، أن الرشاقة التلفزيونية الطبيعية المرغوبة لا الاصطناعية الفجة، لا تزال بعيدة عن سوق الإعلام العربي كله الأصلي والمستنسخ. وهذه الرشاقة، غالباً ما تغطي الكثير من العيوب في الطروحات. هناك محطات تلفزيونية أجنبية كبيرة، أخذت مكانها المتعاظم على الساحة من هذه الناحية فقط، قبل أن تعمل على تحسين أدائها من جهة المحتوى.                                            

الخميس، 25 أبريل 2013

قرض .. «بركة».. مسؤولون لا يفهمون

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«مصر تعود. إنها عادت. وسوف تكون مركز الامتياز في المنطقة وربما في العالم أجمع»
هشام قنديل - رئيس وزراء مصر



كتب: محمد كركوتـــي


طالما ظل الإخوان المسلمون في مصر، يتمسكون بحكومة هشام قنديل، على الرغم من أنها أثبتت ''جدارة'' لا حدود لها في ارتكاب الفشل تلو الآخر، عليهم أن يفكروا بإخضاع رئيس الوزراء لدورات تدريبية ومعه (على الأقل) أركان حكومته المكلفين برعاية الشؤون الاقتصادية في البلاد. لقد انضم الوزراء في هذه الحكومة إلى ''البطالة المقَنَّعة''. وعلى الرغم من أن قرار المرشد بإجراء تعديل وزاري وصل إلى الرئيس المؤمن جدًّا محمد مرسي، وأسرع هذا الأخير بالإعلان عنه، إلا أنه لم يشر بأي شكل من الأشكال، إلى أن هذا التعديل سيشمل المسؤولين عن السياسة الاقتصادية (إن وجدت أصلًا) في مصر. ربما أراد المرشد، أن يدخل التاريخ بأي طريقة كانت، فأمر بأسرع تعديل وزاري، ويعزز دخوله أكثر، بالإبقاء على الفريق الاقتصادي، كمكافأة على فشله.
أتى وفد صندوق النقد الدولي إلى مصر، وغادرها دون اتفاق على القرض الذي يعلق عليه مرسي آمالًا كبيرة، في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد البلاد، أو في أحسن الأحوال في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. بعد 12 يومًا من المفاوضات والمباحثات، وجد أعضاء وفد ''الصندوق''، أن أحدًا من الجانب المصري، ليس مؤهلًا لخوض هذا النوع من المفاوضات، بل ليس مؤهلًا حتى لعرض خطة اقتصادية متماسكة. وباستثناء محافظ البنك المركزي، الذي يتمتع بالحد المطلوب في نطاق اختصاصاته، فإن باقي أعضاء الفريق المصري، لا يملكون الحد الأدنى من الخبرات. وقد نُسب إلى أحد المسؤولين في ''الصندوق'' قوله: ''إن صندوق النقد، لم يصادف مثل هذا النوع من المفاوضين، منذ تأسيسه وحتى الآن''. لقد أثبت كل واحد من المسؤولين المصريين المفاوضين، بأنه بلا وزن، ليس على صعيد التفاوض فحسب، بل من جهة الخبرة وفهم ما يجري على ساحتهم الاقتصادية الداخلية أيضًا.
أمام هذا الواقع المخيف، ليس أمام ''صندوق النقد'' إلا أن يقترح على مرسي، أن يرسل مفاوضيه إلى إحدى الدورات التدريبية التي تطلقها منظمة العمل الدولية، قبل أن تعود المفاوضات إلى الدوران من جديد، هذا إن كان هناك أمل في عودتها. لا يعقل بأي حال من الأحوال، ألا يوجد في مصر كلها اقتصادي يفهم ما يقول، إلا محافظ البنك المركزي! وبالفعل تواجه الجهات الدولية المعنية بالقرض وبغيره من القضايا الاقتصادية المرتبطة، أزمة حقيقية في التواصل، للوصول إلى استنتاجات واقعية. وهذا جانب من الجوانب التي تعطل الوصول إلى اتفاق ما بين الطرفين، إضافة إلى أن الخطة التي قدمتها حكومة قنديل، لم تكن واقعية، بل إنها تكاد تكون خطة لبلد آخر غير مصر، كما قال أحد المقربين من وفد ''صندوق النقد''. وأيضًا لا تتوقف القضية عند هذا الحد. فـ''الصندوق'' يخشى أساسًا من ضعف حكومة مرسي، ومن تخبطها، ومن عدم الاستقرار السياسي، ومن الفوضى في اتخاذ القرارات. وهذا يجعلها غير قادرة على إجراء إصلاحات بسيطة طلبها ''الصندوق''، ولا سيما بعد أن خفض المفاوضون من حجم مطالبهم من الحكومة المصرية.
مصر تحتاج لقرض ''الصندوق''، ليس فقط من ناحية قيمته المالية البالغة 4,8 مليار دولار أمريكي؛ بل لأنه أيضًا يفتح أمام البلاد آفاقًا استثمارية جديدة. فالقرض في النهاية هو إشارة واضحة إلى وجود ثقة بالاقتصاد المصري، الأمر الذي تحتاج إليه مصر في هذا الوقت بالذات. فالاحتياطي من القطع الأجنبي في تدهور مستمر، والسياحة تتراجع، وكذلك الاستثمارات. ولو أضفنا إلى هذا المشهد، ريبة مفاوضي ''الصندوق'' من قدرة المسؤولين في حكومة مرسي على فهم ما يجري، نستطيع أن نتصور الناتج النهائي، لكل هذه المفاوضات. تستطيع مصر حاليًّا تدبُّر أمرها بدون القرض المنشود، ولكن ليس لوقت طويل. فكل التقديرات تجمع على أن البلاد يمكنها أن تتحمل النقص في كل شيء تقريبًا، كما أنها تستطيع أن تتجنب أزمة في ميزان المدفوعات، حتى نهاية العام الحالي فقط. وبعد ذلك، سيصل اقتصاد البلاد إلى حافة الهاوية، مما سيرفع حجم الاحتياجات المطلوبة أكثر.
ما تحتاج إليه مصر الآن، ليس فقط قرضًا دوليًّا يوفر لها بعض الثقة، بل فهم عملي من القائمين على صنع القرار لما يجري على الساحة. هل يعقل أن يسوق الإخوان المسلمون في وسائل إعلامهم، أن ''البركة'' طُرحت في محصول القمح حتى قبل جَنْيِهِ! بينما الرئيس مرسي ''المبارك'' يستجدي زيادة في صادرات القمح الروسي إلى مصر؟! كان وفد صندوق النقد الدولي على حق، عندما غادر القاهرة مصدومًا من نظرائه، الذين يفترض أن تكون لهم القدرة على إقناع الطرف الآخر بما يطرحونه من أفكار ومخططات ومشاريع تخص مستقبل أمة بأكملها. المصيبة، أن رئيس وفد ''الصندوق'' أندرياس باور قالها بوضوح وبصورة معلنة: ''ليس لديهم خطط واضحة على الصعيدين المالي والاقتصادي''. دون أن يقول طبعًا، إنه لا يعترف بـ ''بركة'' الرئيس مرسي.

الثلاثاء، 16 أبريل 2013

آثام تاتشر الاقتصادية لن تموت معها

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«لا يوجد شيء اسمه مجتمع»
مارجريت تاتشر - رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة


كتب: محمد كركوتـــي


تموت مارجريت ثاتشر، دون أن تموت معها "الآثام" الاقتصادية التي ارتكبتها. طبعاً هناك من يرى، أن رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، قدمت نموذجاً اقتصادياً متطورا وعالي الجودة. ويعتقد هؤلاء، أن فترتها في الحكم، أعادت إلى بريطانيا زخمها، سياسياً واقتصادياً، وأنها انتشلتها من بؤرة الاضرابات، وتحكم نقابات العمال بالقرار العمالي، وأنها وضعت الاقتصاد البريطاني في مكانه الصحيح، وأنها شكلت مع زميلها (آنذاك) الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، ثنائياً كان "ضرورياً" على الساحة العالمية. وعند كارهي أوروبا بأشكالها الوحدودية، كان هذا الثنائي مطلوب، من أجل "التوازن"، ولكي لا يتضخم الأوروبيون بصورة لا يمكن الحد منها. أما عند أولئك، الذين "عبدوا" السوق، في سياق كراهيتهم للمجتمع، كانت ثاتشر حتمية، مع التمنيات (التي انتهت بموت ثاتشر) أن يظهر من يستطيع استنساخها، وصنع "ثاتشرات" إلى الأبد، ولا بأس بأن تكون بجنسيات مختلفة، لـ "ينعم" العالم بعطاءاتها وأفكارها وسلوكياتها ومبادئها.
لولا التحالف الوثيق بين ثاتشر مع إدارة ريجان، لما كان لآثامها الاقتصادية إلا بُعدها المحلي. مع ضرورة الاعتراف بأن بريطانيا كانت تحتاج بالفعل (حين أتت إلى الحكم)، إلى تغيير في أدائها الاقتصادي، وإلى إعادة صياغة المشهد الاقتصادي بصورة أكثر من إصلاحية. فالمعايير تتغير، والمعطيات كذلك، والاستحقاقات تظهر على السطح، لا يمكن بأي حال من الأحوال، القفز فوقها، أو تجنبها. لقد تجاوزت ثاتشر في عملية التغيير كل الحدود والخطوط والمبادىء، بما في ذلك بعض المبادىء التي أطلقها المفكر الاسكوتلندي الشهير آدام سميث. فهذا الأخير يرى أن مصلحة الفرد أهم من مصلحة المجتمع. ورغم هذا الخلل الفظيع في الطرح، وجدت ثاتشر أن سميث، كان "معتدلاً"  أكثر من اللازم في مسألة الفرد والمجتمع، لتطرح "نظريتها" الخاصة، التي تستند على ماذا؟ على عدم وجود المجتمع أصلاً!

ومع القوة السياسية التي كانت تتمتع بها في السنوات الأولى لحكمها (ثاتشر طُردت طرداً من زعامة حزبها ورئاسة الوزراء)، فرضت "نظريتها" المشينة، التي لاقت الصدى المطلوب على الجانب الآخر من الأطلسي، لينشأ مايمكن تسميته "حلف ثاتشر-ريجان"، الذي فرض أدبياته الاقتصادية الاجتماعية في بلدين محوريين على الساحة العالمية، لتنتقل عدواه شيئاً فشيئاً إلى بلدان محورية أيضاً. قبل ثاتشر-ريجان، كانت السلعة تبحث عن الإنسان، بعدهما أصبح الإنسان يبحث عن السلعة، وهذه نتيجة طبيعية لإلغاء دور المجتمع ليس فقط في الإنتاج، بل في أخلاقيات السوق. فالسوق التي تسيطر على المجتمع (أو تصنعه)، تكون متجردة من الضمانات والمعايير الأخلاقية. لقد ظل هذا "الحلف" يسوق هذه الأفكار بل ويفرضها بما يملك من قوة سياسية، لتكريس المفهوم المريع "السوق تصنع المجتمع"! وهذا يعني ببساطة أن "السلعة تصنع الإنسان"!!

رسمت ثاتشر (ومعها ريجان) الخطوط الأولى للأزمة الاقتصادية العالمية. فهذه الأزمة انفجرت أساساً بسبب ارتفاع معدلات تحكم السوق في نفسها، لا تحكم المجتمع بها، وهذا موروث ساهمت الحكومات التي أعقبت ثاتشر في الحفاظ عليه، وإن بإسلوب أكثر إنسانية وأخلاقية. فحتى جون ميجور الذي خلف ثاتشر مباشرة، والذي يعتبر من أتباعها المخلصين، لم يستطع فور وصوله إلى الحكم، إلا أن يرفع شعاراً كان ضرورياً لبقاء المحافظين في السلطة. الشعار "العودة إلى الأصول". وهذا الشعار، كان بمنزلة اعتذار غير مباشرة عن الأضرار التي ألحقتها ثاتشر في المجتمع، بصرف النظر عن "الأضواء الجميلة" الآتية من السوق. والحقيقة أن هذا الشعار لم يوفر لميجور مساحة زمنية طويلة في الحكم، سواء على الصعيد الحزبي أو الشعبي. لقد هبطت ثاتشر بشعبية حزبها، لدرجة أن رئيس الوزراء الحالي(ديفيد كاميرون)، لم يستطع أن يشكل حكومة محافظة خالصة، فاضطر إلى التحالف مع حزب يتعارض (في الواقع) مع المحافظين في الكثير من المبادىء الرئيسة.

لا يمكن إعفاء ثاتشر من آثام الأزمة الاقتصادية. لقد وضعت "المتفجرات" اللازمة، وانتظرت تشكُل الفتيل شيئاً فشيئاً، إلى أن جاء من يشعله. كما لا يمكن إعفائها من الأزمات الاجتماعية التي تسببت بها، من جراء اقتصاد مادي خالص، بعيد عن أي روح إنسانية. ففي عهدها انفجرت أزمة عقارات فادحة، أدت إلى خسارة أعداد كبيرة من البريطانيين منازلهم إلى الأبد. وفي عهدها ظهرت طبقة اجتماعية، المؤهل الوحيد للمنضمين إليها هو "الفهلوة". وهؤلاء في الواقع كان يؤسسون الأعمال في كل الاتجاهات، ليهربوا لاحقاً في كل الاتجاهات، بعد أن يكونوا قد نهبوا ما تيسر لهم من أموال غيرهم. لقد عانت بريطانيا من طبقة المحتالين في كل شيء. ألا ينبغي أن تكون مفتوحة بدون ضوابط؟! وأن تكون للسوق الكلمة الأولى والأخيرة على المجتمع؟!

كانت مارجريت ثاتشر تقول: "لا يهمني مدى ثرثرة وزرائي، المهم أنهم يقومون بما آمرهم به". لقد ماتت وانتهت ثرثرة وزرائها منذ خروجها من الحكم مجبرة. التاريخ لا يثرثر، إنه يروي الأحداث، وقد روى بالفعل حتى قبل موت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، أن هذه الأخيرة كانت حديدية بقوتها وإرادتها، وفولاذية في معاندة المجتمع. إنها مرحلة بالفعل، لكن آثارها وبعضاً من آثامها ستبقى في الأجواء.

التسلل الاقتصادي الإيراني باتجاه المتسللين في مصر

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



«قطع العلاقات مع إيران كان خطأ، ولا بد من الاستعانة بخبراتها»
جمال حشمت قيادي في جماعة الإخوان المسلمين المصرية

كتب: محمد كركوتـــي

تخسر إيران تدريجيًّا سفاح سورية بشار الأسد. ''واقعيو'' النظام الإيراني– إن وجدوا- يعرفون ذلك، ويدركون أيضًا أن الأسد حالة زائلة، وأن الإمدادات الإيرانية، من المرتزقة والقتلة، إلى الإمدادات المالية والعسكرية، إلى تشغيل العراق وعصابة ''حزب الله''، لن تساهم في منع حتمية الزوال، وإن أخَّرتها. الإيرانيون يخسرون جيوبهم الإقليمية. وهذه الجيوب ليست لها ''أزرار''؛ لأن متانة ''البطانة'' أضعف من أن تشبك ''زرًّا'' واحدًا. علي خامنئي يحتاج إلى جيب بديل. وهل هناك أهم من مصر (بعد الأسد) من جيب؟ خصوصًا أن الرئيس ''المؤمن جدًّا'' محمد مرسي، يرى في إيران ما لا يراه العرب أو العالم أجمع! بينما لم يحاول– منذ وصوله إلى السلطة فرحًا بشرعية طفيفة- أن يُحسن البيئة التاريخية الحاضنة للعلاقات بين مصر والغالبية العظمى من البلدان العربية، وفي مقدمتها دول الخليج.
هناك تشابه استراتيجي تاريخي بين تسلل إيران وتسلل الإخوان، يوفر أرضية سهلة للتناغم بين الطرفين. ليس مهمًّا الخلاف الطائفي المحوري بينهما، طالما أنه لا ينال من أهدافهما. فالنظام الإيراني يتحالف مع الشر، والنظام الإخواني يتحالف مع الشيطان، والفتاوى جاهزة. ولا بأس أن يسمح خامنئي لمرسي بالترضي على الخلفاء الراشدين في طهران، ليعيش هذا الأخير نشوة نصر وهمي، وأيضًا لا بأس لمرسي أن يسمح لمساعديه، بإطلاق توصيف الأشقاء على المسؤولين الإيرانيين. في الواقع لقد فعلها الأسد ونظامه قبله بعقود، وكانت النتيجة ''الإيرانيون الأشقاء.. العرب الأعداء''! حسنًا.. ألم يعلن علي أكبر ولايتي مستشار خامنئي ''إننا ندعم الإخوان؛ لأنهم الأقرب إلينا عقائديًّا بين كل الجماعات الإسلامية''؟!
إيران لم تتسلل إلى مصر سياسيًّا. فالمواقف المعلنة المتبادلة للطرفين، واضحة لا تحتاج لتفسير، والعروض الإيرانية في هذا المجال كثيرة وفاضحة، بما في ذلك إعلان نظام الملالي، عن استعداده لنقل التجربة الإيرانية في ماذا؟ في أسلمة الدولة. ولا أعرف إذا ما كان ''الخبراء'' الإيرانيون سينقلون معهم المادة 12 من دستورهم، التي تنص على ''أن المذهب الجعفري الإنثي عشري يبقى إلى الأبد المذهب الرسمي لإيران وغير قابل للتغير''. التسلل الإيراني ينحصر في الجانب الاقتصادي، إضافة (طبعًا) إلى التسلل الطائفي المتواصل لنشر التشيع في مصر. ورغم المصائب الاقتصادية التي تواجهها إيران منذ سنوات، بما في ذلك، الانهيار المستمر لعملتها، وارتفاع تاريخي للتضخم، وتراجع مخيف لاحتياطيها من النقد الأجنبي، وعجزها حتى عن صيانة منشآتها النفطية، بل تخلفها عن سداد مرتبات العاملين في منشآتها النووية نفسها! غير أنها مستعدة اقتصاديًّا لمساعدة مصر. فاحتواء هذا البلد يبرر كل شيء، ولا سيما أن للتسلل.. متسللين محليين يسهلون.
لكن السؤال الأهم، هل يستطيع نظام خامنئي أن يقدم ما يمكن أن يحمي الاقتصاد المصري المتداعي؟ علمًا بأن مصر ليست بحاجة إلى خبراء لأسلمة المؤسسات. فالأسلمة (الأخونة) المحلية تسير بسرعة أوليمبية. والسؤال الآخر، هل ستتمكن طهران من تمويل الأسد ومرسي في آن معًا؟ لقد استنزف الأول (ومعه العقوبات الدولية المفروضة على إيران) الأموال والقدرات الإيرانية. الوعود انهالت على مرسي سواء بشكل مباشر، أو عن طريق المرشد الحاكم الفعلي للبلاد، وهي تدور حول الدعم الاقتصادي والتجاري والمالي. تحتاج مصر لأموال ضامنة هائلة، لا تنفع في حالتها الوعود. فحتى القرض الذي يمني مرسي النفس به من صندوق النقد الدولي، لن يكفي البلاد إلا أشهر، رغم مخاطره التي باتت معروفة حتى في أوساط ''صبيان'' المقاهي.
تستطيع إيران التسلل. هذا في صلب استراتيجيتها. وتستطيع أن تنشر الوعود في الأرجاء، وتستطيع أيضًا أن تتعانق أطول فترة ممكنة مع المتسللين المحليين. لكنها لن تتمكن من تقديم ما يفيد مصر وشعبها. بل على العكس تمامًا، لن تقدم إلا الشر. لننظر فقط إلى سورية والعراق ولبنان واليمن وقطاع غزة والبحرين. لقد بدأ الإيرانيون دعمهم لمرسي (لا لمصر) بماذا؟ بتصدير وفود ''سياحية''، وهذا أسلوب قديم مفضوح للتغلغل وللتخريب الاجتماعي. بالتأكيد لن تنفع هذه الوفود في دفع عجلة الاقتصاد أو حل مشكلة من مشاكله الكبيرة، إلا أنها تمثل (في النهاية) جزءًا أصيلًا من أدوات أساسية إلى بلد، سمح حكامه لخامنئي بالإنفاق على مزارات آل البيت فيه! وهذه أولى خطوات التغلغل بعد التسلل. اليوم سياح، وغدًا حجاج، وبعد غد حقوق الشيعة في مصر، وبعده (ربما) حزب الله المصري.
إنها استراتيجية تقليدية، ليس من المتوقع أن يعرفها مرسي، ولا أي مسؤول عند المرشد. فهؤلاء مشغولون الآن (وغدًا) بـ ''الأخونة''؛ لأنها هي الاستراتيجية المحورية لديهم، ولا وقت عندهم للانشغال لا بالاستثمارات ولا الإصلاحات ولا السياسات الاقتصادية التي تحاكي الكارثة، وتقلل معاناة الشعب المصري المعيشية. كما أنهم لا يريدون أن يفهموا حقيقة وعود اقتصادية إيرانية، لا تأتي (إن أتت) إلا تسللًا، تجر معها برنامج الشر، بحثًا عن جيب آخر، لن يستهدف إلا العرب قبل غيرهم.

الثلاثاء، 2 أبريل 2013

أوروبا من المصيبة الفاخرة إلى المصيبة السافرة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«المجتمع الحر الذي لا يستطيع مساعدة الفقراء، لا يمكن أن يحمي الأغنياء»
جون كيندي - رئيس الولايات المتحدة الراحل


كتب: محمد كركوتـــي


قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، كان الاتحاد الأوروبي يعاني مصيبة اجتماعية - اقتصادية كبيرة، وصفتها في مقال لي نُشر قبل أربع سنوات بـ ''المصيبة الفاخرة''. مُلخصها، أن الحكومات الأوروبية تنفق أمولاً طائلة، لعلاج نسبة متصاعدة من سكانها من الأمراض الناجمة عن سوء التغذية. وهذا ''السوء'' لم يأت من قلة المواد الغذائية، أو صعوبة الوصول إليها، بل من فقدان الشهية! والمثير (وقتها)، أن الكلفة الناتجة عن سوء التغذية، تصل إلى ثلاثة أضعاف تكاليف مواجهة الأزمات الصحية الناجمة عن البدانة. وقد توصلت الجهات المختصة (آنذاك) إلى معدلات رسمية، من بينها أن ما بين 5 إلى 15 في المائة من مجموع سكان أوروبا، و40 في المائة من المرضى الذين يعالجون في المستشفيات، و60 في المائة من نزلاء دور العجزة، يعانون سوء التغذية (بإرادتهم) أو معرضون لذلك. ودول الاتحاد تخسر ما يقرب من 170 مليار يورو سنوياً في مواجهة هذه الأزمة.
المشهد تغير الآن.. تغير بصورة معاكسة متطرفة، إلى درجة تختلط أحياناً فيها الأمور، وتدفع لسؤال لا يدخل في حسبان أحد. هل أصبح مشهدا إفريقيا أم آسيويا أم أمريكيا لاتينيا؟! وربما يظهر متطرف ليطرح سؤاله الخاص، هل سنرى في أوروبا صورة طفل منتفخ البطن يستند إلى ساقين كأعواد الكبريت؟! وقد يلقي آخر سؤالاً أقل تطرفاً، هل المشهد الجديد، هو نتاج ظهور ما يمكن أن نطلق عليه ''الأثرياء المدينين''؟ أو ''الأثرياء السابقين''؟ أو ''الأثرياء الضائعين''؟ إلى آخر التوصيفات التي نزعت منها غرابة المشهد.
في أوروبا الآن، تقوم منظمة الصليب الأحمر الدولي، بتوزيع مواد غذائية على الفقراء فيها! لأنهم ببساطة غير قادرين على شراء حتى بعض الأساسيات المعيشية، بسبب تأثير الأزمة الاقتصادية في عدد من البلدان. وقد أدى ذلك، حسب المسؤولين في المنظمة الدولية، إلى انزلاق الكثير من الأسر في دوامة الفقر. هذه المساعدات دخلت التاريخ فوراً مرتين. الأولى: أنها تجري في القارة الأوروبية الغنية المانحة، والثانية: أن حجم هذه المساعدات، لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية. أي أن أوروبا استرجعت أحداثا، من المفترض أنها انتهت مع نهاية تلك الحرب الكبرى مع مصائبها وخرابها. الحدث (بالفعل) كبير، ليس من ناحية طبيعته فقط، بل لأنه يشمل عشرين بلداً عضواً في الاتحاد الأوروبي.. لا الإفريقي ولا الآسيوي! ومن أهم الدلالات الخطيرة، أنه من بين المستفيدين من المساعدات الغذائية، أفراد ينتمون إلى الطبقة الوسطى، فقدوا وظائفهم في سياق المحنة الاقتصادية العامة في القارة. وطبقاً لإحصائية صادرة عن الصليب الأحمر، فإن أكثر من ثلاثة ملايين شخص في إسبانيا وحدها، يعتمدون على هذه المساعدات. وهؤلاء يفتقرون إلى المواد الغذائية الأساسية، بل حتى إلى الدعم المادي للسكن والفواتير المعروفة المرتبطة به!
وعندما يعاني سكان في 20 بلداً من أصل 27 بلدا (من بينها بلاد استمدت القارة نفسها تاريخها منها) من عدم القدرة على الوصول إلى المواد الغذائية، فإن القضية لم تعد هامشية، ويستدعي الأمر أن توضع على رأس جداول أعمال القمم الأوروبية نفسها. في بلد كاليونان، يتزايد عدد المواطنين فيها الذين يعجزون عن زيارة الأطباء، لأنهم ببساطة فقدوا بوالص التأمين الصحي! أي أن القضية لم تعد مرتبطة حتى بالعجز الغذائي للفرد فقط، بل بمصيره الصحي أيضاً. ولذلك لم يكن غريباً تعاظم حراك منظمات الإغاثة في قلب أوروبا. فالفقر يدهم بصورة مخيفة شرائح اجتماعية أوسع. دون أن ننسى أن دول أوروبا الشرقية، تبقى الأكثر في هذا المجال، ولا سيما أن معظم سكانها لا يملكون مدخرات، ولا حتى أنظمة تأمين صحي. ولأن المصيبة نالت حتى من الطبقة الوسطى، فعلينا أن نتخيل آثارها على المهاجرين واللاجئين في أوروبا.
في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، نشأت في أوروبا كلها حركات يمكن وصفها بـ ''القومية المحلية''. وهي نوع مخيف من انتماء- اعتقاد ينال من المصير الأوروبي لدول الاتحاد. وهذه الحركات كانت تعادي المهاجرين واللاجئين في زمن الازدهار، فكيف الحال الآن في زمن المحن الاقتصادية- المعيشية؟ خصوصاً إذا ما عرفنا، أن خطر الفقر انتشر (بالفعل) في نحو نصف مجموع بلدان الاتحاد الأوروبي، الأغلبية العظمى منها في شرق القارة. إنها أزمة في قلب أزمة، لكنها تحمل معها مخاطر جمة على صعيد الانتماء، خصوصاً في الدول الأقل معاناة منها. كما أنها تقوي التيار الانفصالي (في بعض البلدان الأوروبية) الذي يرى أن مصلحته الداخلية الخاصة، لا تقارن بمصلحة بلاده على الساحة الأوروبية. ورغم الخلل الواضح في هذه الرؤية، إلا أنها قابلة للازدهار والانتشار، في وقت ينشغل فيه الاتحاد الأوروبي، بحماية دول معرضة للانهيار الاقتصادي. فالبيئة اللازمة لـ ''القومية المحلية'' باتت متوافرة، ومخاطر هذه ''القومية'' لن تنحصر في زمن المحنة، بل ستنتقل إلى زمن ما بعدها.