الثلاثاء، 25 يوليو 2017




الديون السيئة اليوم .. ديون أسوأ غدا





"لا يمكن أن تكون مدينا وتنتصر" 
ديف رامزي رجل أعمال ومؤلف أمريكي


كتب: محمد كركوتي 

      لا أحد في هذا العالم منيع عن الديون، سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات. وهذه حقيقة تكرست في الواقع في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت الديون مبررة في أعقاب الحروب والاضطرابات، ولا سيما تلك التي تنال من البنى التحتية للاقتصاد (أي اقتصاد)، فإن استمرارها في فترات الاستقرار والازدهار أو الهدوء يبدو غريبا، خصوصا تلك الديون الاستهلاكية مرتفعة المخاطر، علما بأن هناك ديونا ذات قيمة إيجابية بالفعل، وهي تلك التي تصب في التنمية المستدامة، غير أن التاريخ يحتضن تجارب مخيفة في هذا المجال. فغالبية الأزمات الاقتصادية الكبرى تستند في الواقع إلى انفجار قنبلة الديون. ولكيلا نذهب بعيدا، هذه الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في عام 2008، تؤكد هذه الحقيقة. 
      السبب (كما يعرف الجميع) كان واضحا في الأزمة المشار إليها، وهي تراكم الديون العقارية السيئة والاستهلاكية القاتلة على الأفراد، وكذلك ارتفاع العجز المالي للحكومات في غالبية بلدان العالم، بما فيها تلك التي تتسيد المشهد الاقتصادي العالمي. ورغم نجاح "حرب" ما بعد الأزمة على مثل هذه الديون، من خلال تشريعات وتطبيقات إجرائية، وإلغاء بعض المشتقات المالية، وفرض رقابة شديدة على ما بقي من مشتقات، رغم هذا استمرت الحكومات في الاقتراض. 
      وإذا كانت القروض الشخصية تمس الفرد مباشرة، فإن القروض الحكومية تمسه أيضا بصورة غير مباشرة، بل تنال في بعض حالاتها من مستقبل الأجيال القادمة. وكل قرض لا يتم سداده هو في الواقع دين على أجيال من البشر لم تولد بعد! يقول بول كروجمان البروفيسور والعالم الاقتصادي الأمريكي "الدين هو مسؤولية شخص، لكنه أصل من أصول شخص آخر". وهو اختصر بالفعل المشهد العام للدين بصرف النظر عن طبيعته وحجمه وأهدافه. في عشر سنوات فقط زاد حجم الدين العالمي 75 تريليون دولار، ليصل (وفق المؤسسات المالية العالمية) إلى 217 تريليون دولار. 
      وهذا الدين يعني أن كل إنسان على سطح الأرض، أكان رجلا أم امرأة أم طفلاـ مدين بنحو 29 ألف دولار، بحسب المنظمات الدولية المعنية. وإذا لم يتم حل مشكلة هذه الديون الهائلة، فهي في الواقع ستتضاعف ليتحملها الجيل القادم وهكذا. بعض أصحاب الآراء المتطرفة يشرحون الأمر بالصيغة التالية "الجيل الحالي يسرق الجيل الذي لم يولد بعد". أي أن الأعباء على هذا الأخير ستكون "جاهزة" عندما يفتح عينه على هذه الحياة. المروع في الأمر، أنه خلال الأزمة الاقتصادية العالمية بلغ حجم الدين 142 تريليون دولار منها 16 تريليون دولار هي مجموع ديون البلدان الناشئة، قبل أن يصل المجموع الكلي إلى 217 تريليونا. 
      واستنادا إلى آخر الإحصاءات، فقد بلغت ديون الاتحاد الأوروبي 97.7 تريليون دولار، ودين الولايات المتحدة نحو 63 تريليون دولار، وبريطانيا 2.2 تريليون دولار. أما ديون الأسواق الناشئة منها فبلغت 56 تريليون دولار، منها 33 تريليون دولار حجم الدين العام الصيني و3.6 تريليون دولار حجم الدين البرازيلي، و2.9 تريليون دولار حجم الدين الهندي، و500 مليون دولار فقط حجم الدين العام الروسي. وللمقارنة فقط، فقد بلغ حجم الدين العام العالمي في عام 1996 نحو 63.4 تريليون دولار. 
      صحيح أن البلدان المتقدمة يمكنها السيطرة على ديونها من خلال قوة وارتفاع حجم إنتاجها، إضافة إلى الثقة المالية العالمية بها، لكن الصحيح أيضا أنه لا توجد ضمانات دائمة في هذا المجال. فعندما يتجاوز حجم الدين في بعض البلدان الناتج الإجمالي المحلي مرة، وأحيانا مرتين، ترتفع معدلات المخاطر أكثر. في حين أن أسواق السندات والأذونات ظلت منتعشة في مراحل الازدهار والكساد أيضاّ! بالطبع لا أحد يشكك (على الأقل الآن) في قدرة دولة كالولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا على الوفاء بديونها. غير أن ما يمكن وصفه بـ"الانفلات" المالي بدأ يظهر على الساحة بعد سنتين فقط من انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية. دون أن ننسى مخاطر ديون الصين (ثاني أكبر اقتصاد في العالم)، التي ستضرب الاقتصاد العالمي، لمجرد حدوث تباطؤ اقتصادي قوي فيها. 
      لا توجد في الأفق أي إشارات على تراجع وتيرة الدين العالمي. في الواقع تستهل كثير من الحكومات الاقتراض الخطير أحيانا، بدلا من البحث عن مصادر مالية أخرى تعزز التنمية المستدامة. والمؤكد هنا يبقى حاضرا دائما، ويرتبط مباشرة بحقيقة أن الديون السيئة اليوم، هي ديون أسوأ غدا، وهي عبء على "أبرياء" لا دخل لهم بفوضى الاقتصاد العالمي، سواء قبل الأزمة العالمية أو بعدها. كما أنه لا علاقة لهم باستسهال الحلول المالية عن طريق الاقتراض. إنها مصيبة تختص بكل فرد يعيش الآن وسيعيش في الغد. أي أنها من تلك المآسي المتجددة، خصوصا عندما تخرج عن السيطرة هنا وهناك.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الثلاثاء، 18 يوليو 2017




التجارة «الاستثنائية» من أجل التنمية



"أنا مدافع قوي عن التجارة الحرة" 
نجيب رزاق، رئيس وزراء ماليزيا 


كتب: محمد كركوتي

      أبرزت عملية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، جانبا مهما من العلاقات المستقبلية للمملكة المتحدة مع البلدان النامية. وهذا الجانب ليس عابرا، بل هو في صلب عملية التنمية والبناء في البلدان المشار إليها، ويتعلق بالتسهيلات والإعفاءات الجمركية التي توفرها البلدان المتقدمة للدول النامية. وهذه النقطة على وجه الخصوص، تعد في المفهوم الجديد للتنمية في الدول الفقيرة حجر الزاوية، وهي تفوق المساعدات المالية والعينية والمعونات بأشكالها المختلفة أهمية على صعيد بناء اقتصادات ذات صفة مستدامة في هذه الدول. والحق، أن حكومات البلدان المتقدمة تأخرت كثيرا في الوصول إلى النتيجة النهائية، بأن المساعدات الحقيقية هي تلك التي توفر تسهيلات لواردات الدول النامية، فهي بذلك توفر عوائد مالية من العملات الصعبة، وفي الوقت نفسه تعزز الإنتاج المحلي. طمأنت بريطانيا منذ الأيام الأولى لبدء مفاوضات خروجها من الاتحاد الأوروبي، الدول النامية بأنها ستواصل تطبيق دخول السلع الواردة من نحو 50 دولة نامية إلى أسواق المملكة المتحدة بلا جمارك بعد خروجها الفعلي من الاتحاد. وهذا موقف مهم للغاية، ليس فقط للبلدان النامية المعنية، بل أيضا لالتزامات لندن الدولية. وهي بذلك تسعى إلى تأكيد دورها عالميا، في الوقت الذي تشكك فيه بعض الجهات (بما في ذلك جهات بريطانية) بمصير هذا الدور. 
      ويحاول الحريصون على مكانة بريطانيا بعد الخروج، أن يؤكدوا (بصور مختلفة) هذه المكانة، خصوصا في ظل عامين من المفاوضات الشاقة التي لا أحد يعرف نتائجها الحقيقية بالفعل، بمن فيهم المفاوضون أنفسهم. تقوم بلدان الاتحاد الأوروبي منذ عدة سنوات باتباع سياسة تسهيل الواردات من البلدان النامية، كنوع من التنمية، بعد أن ثبت أن المساعدات المباشرة لعدد ليس قليلا من الدول النامية لم تحقق الأهداف المرجوة منها، بفعل الفساد المحلي أولا، وعدم وجود مشاريع تنموية طويلة المدى، يضاف إلى ذلك الاستثمارات العقيمة التي تذهب في غالبيتها هباء جراء القوانين والإجراءات والممارسات غير المعقولة في كثير من الأحيان في البلدان النامية المستهدفة. وفي الأعوام الماضية، حققت سياسة تسهيل الواردات نتائج باهرة، خصوصا في مجال الزراعة، وقطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة. ووفرت هذه السياسة عملات صعبة ضرورية لهذه البلدان، في الوقت الذي دأبت فيه البلدان المتقدمة على رفع مستويات التسهيلات بل والترويج للمنتجات المشار إليها. 
      وباستثناء الأسلحة والذخائر والنفط، فإن كل المنتجات (تقريبا) في البلدان النامية تحظى بالمعاملة التجارية الخاصة، وفي مقدمتها بالطبع الإعفاءات الجمركية. ووجدت السياسة المشار إليها دعما بلا حدود من جانب منظمات الأمم المتحدة المعنية بالتنمية في البلدان النامية والفقيرة. وأصدرت هذه المنظمات سلسلة من الدراسات والتحقيقات الاستقصائية أظهرت جميعها نجاعة ما يمكن تسميته "التجارة من أجل التنمية". والحق أن بريطانيا كانت من أوائل الدول التي تمضي قدما في هذا الطريق، ووفرت الأرضية اللازمة، حتى إن منتجات البلدان النامية تحظى على أرفف المحال التجارية في المملكة المتحدة بامتيازات الترويج، مقارنة بغيرها من المنتجات المشابهة القادمة من بلدان أكثر تقدما أو تلك من البلدان المتقدمة. وتمكنت حكومات الدول المتقدمة في الفترة الأخيرة من الوقوف في وجه الحملات الوطنية المحلية فيها ضد تسهيل وترويج البضائع القادمة من الدول النامية. واستطاعت أن تطرح معادلة فيها جوانب اقتصادية وخيرية في آن معا، ما دعم موقفها، خصوصا أن بعض المنتجات المحلية في البلدان المتقدمة تلقى دعما مباشرا أو غير مباشر هي الأخرى من حكوماتها. وفي فترة ليست طويلة، بات واضحا القبول بمبدأ "التجارة من أجل التنمية" على الصعيد المحلي. وعلى الساحات الأخرى في المقابل، نشأ حراك اقتصادي تنموي حقيقي، مع ضمان وصول المنتجات إلى الأسواق المتقدمة، بل إن مشاريع خاصة بالأمم المتحدة (ولا سيما تلك التي تستهدف القطاع الزراعي) وفرت مساعدات عملية مباشرة أيضا لنقل الحراك من مرحلته الأولى، إلى مرحلة التمكين. 
      في النصف الأخير من القرن الماضي، أبدى عدد من المسؤولين المخلصين حقا في بعض البلدان النامية الرغبة الجامحة من أجل الوصول إلى "التنمية عبر التجارة"، وقد فشلت محاولاتهم بالفعل لأسباب كثيرة في مقدمتها أن البلدان المتقدمة وتلك التي تقدم المساعدات المباشرة لم تكن لديها في الواقع مشاريع تنموية محددة، وكانت تستسهل تقديم المساعدات على توفير المعونة عن طريق التجارة وفق مخططات طويلة الأمد. ناهيك عن المشاكل التي واجهتها الحكومات من المنتجين الوطنيين في بلادها، الذين اعتبروا أنها تعمل ضد مصالحهم. لكن الأمر تغير مع إقدام كثير من الدول المانحة باتجاه السياسة التي تمت المطالبة بها حقا قبل عقود. ومن هنا، لم يعد غريبا أن ترى منتجات البلدان النامية متقدمة من حيث العرض على منتجات الدول الأخرى، كما أنها تتسم بميزة انخفاض أسعارها. 
      ستقوم بريطانيا بدورها في هذا المجال خارج الاتحاد الأوروبي، فالالتزام كان وطنيا قبل أن يكون أوروبيا. ودول الاتحاد لا نية لها في مراجعة هذه السياسة، بل على العكس تماما تمضي بخطوات جديدة من أجل التمكين الذي يسهم مباشرة في بناء اقتصادات مستدامة في الدول النامية والفقيرة.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الثلاثاء، 11 يوليو 2017



دبلوماسية اقتصادية في «قمة العشرين»



"أشعر بالرضا لأن مجموعة العشرين ـــ عدا الولايات المتحدة ـــ اتفقت على اتفاقية باريس للمناخ" 
أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية 

كتب: محمد كركوتي

لا أحد كان يتوقع نتائج حاسمة أو تاريخية أو فارقة، لقمة مجموعة العشرين، التي انعقدت في ألمانيا. كما لا أحد كان ينتظر إزالة الخلافات أو تباين الموقف، ولا سيما بين الولايات المتحدة بإدارتها الحالية وعدد من بلدان المجموعة. المواقف واضحة لكل الأطراف، والأوضح أن أيا منها لا يرغب في التراجع عنها مستندا إلى أحقيتها من وجهة نظره بالطبع. وهذا أيضا مفهوم ولكن ليس إلى حد أن بيان القمة الختامي خلا من أي موقف عملي واقعي، وأي قرار يمكن على الأقل أن يزيل عدم اليقين في الاقتصاد العالمي ككل، وبالتالي استمرار التخبط في صنع القرار الاقتصادي على الساحة الدولية، هذا إذا كان هناك قرار عالمي فاعل في هذه المرحلة. دون أن ننسى دائما، التأثيرات السلبية "بصور مختلفة" لبؤر الصراعات والمواجهات الموجودة فعلا هنا وهناك. أحب المسؤولون الغربيون قبل وبعد قمة مجموعة العشرين أن يؤطروا المشهد العام في خلاف بين بلدانهم وبين الولايات المتحدة في ظل الرئيس دونالد ترمب حول اتفاقية باريس للمناخ، وذلك لأن الأخير انسحب منها في أعقاب وصوله إلى البيت الأبيض. ورغم أهمية هذا الخلاف وهو موجود بقوة بالفعل، إلا أنه يبقى ثانويا مقارنة بتضارب مفاهيم التجارة العالمية بين إدارة ترمب وبقية بلدان العالم، بمن فيها (بالطبع) الحلفاء التاريخيون للولايات المتحدة. تبعات انسحاب واشنطن من اتفاقية المناخ لا شك ستكون خطيرة ولها روابطها السلبية وتأثيراتها المستقبلية غير الإيجابية، لكن تبعات تطبيق المفهوم التجاري "الترمبي" على العلاقات مع العالم ستكون أخطر بكل المقاييس، لأنها ببساطة تقف عائقا أمام مبدأ التجارة الحرة، وهو ما تسعى إليه المنظومة الدولية بكل مستوياتها الاقتصادية، بل تعده الوسيلة الأنجع للتنمية في البلدان النامية. ومن هنا يمكن فهم دعوة قمة المجموعة "إلى تجارة حرة ونزيهة"، وهذا توجه واضح المعالم، يهدف في الدرجة الأولى إلى استيعاب الموقف التجاري الأمريكي، وإطلاق صيغة مقبولة لكل الأطراف. من في هذا العالم لا يريد تجارة حرة ونزيهة؟ ولذلك يمكن النظر إلى هذا التوصيف في أعقاب قمة مجموعة العشرين، كنوع من المهادنة بين أكبر اقتصادات العالم، وبين اقتصاد الولايات المتحدة. وهذا الأمر بالتأكيد مطلوب في مثل هذه الظروف التي يمر بها العالم. لم تتحمل الساحة الدولية خلافا جديدا أو تفعيل خلاف قديم بصورة خطيرة أو معطلة. المهم الآن مواءمة المواقف بأكبر قدر ممكن، من أجل إبقاء الوضع على ما هو عليه. وهذا في حد ذاته انتصار للجميع. والحق، أن التفسير الأمريكي لفتح الأسواق ليس واقعيا. حتى إن مسؤولين في إدارة الرئيس ترمب يعتقدون أن هذا التفسير اتجه إلى الجانب المتطرف من الطرح. خصوصا أن أحدا من شركاء وحلفاء الولايات المتحدة لم يعترض على الشعار "الترمبي" الذي لا يزال يتداول "أمريكا أولا"، لكن التباين حيال هذا الشعار، يكمن في الواقع في تطبيقه على العلاقات التجارية. ولا سيما بعد أن استهدفت الإدارة الأمريكية حتى حلفاءها التاريخيين تجاريا، من خلال تهديد ألمانيا (مثلا) بفرض عقوبات تجارية عليها لتخفيف تدفق السلع الألمانية إلى السوق الأمريكية، والأمر ينطبق على عدد آخر من البلدان، وبالطبع تتقدمها الصين. المطلوب بالنسبة لهؤلاء، أن تحتفظ الولايات المتحدة بحقها "أمريكا أولا"، ولكن عليها ألا تتسبب في أضرار لغيرها في مرحلة التطبيق. المشكلة هي في القيود التجارية التي قد لا تقتصر على الولايات المتحدة. بعض البلدان سيقوم بذلك كردة فعل طبيعية لفعل مماثل. ولذلك فإن اللغة الدبلوماسية التي خرج بها بيان قمة مجموعة العشرين، كانت ضرورية في هذا الوقت بالذات. لأن العالم (مرة أخرى) لا يمكنه دخول حروب تجارية متواصلة أو متقطعة. "قمة العشرين"، التزمت بالطبع بكل المبادئ التي طرحتها على مدى سنوات عديدة. و"المجموعة" لا يمكنها إلا أن تتبع هذا السلوك لسبب واحد فقط، هو أنها اتخذت زمام المبادرة العالمية من انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. ومثل هذا التجمع المهم المحوري عالميا لا يمكنه بأي شكل من الأشكال أن يطرح سياسات متناقضة، أو سياسات قابلة بسهولة للانفجار. أولئك الذين يؤيدون ويدعمون التجارة الحرة، يتمسكون بالحفاظ على مبادئ التجارة متعددة الأطراف المفتوحة والمتكافئة ذات المنفعة المتبادلة. بمعنى آخر يصرخون تعبيرا عن تأييدهم لمعايير منظمة التجارة العالمية. وهي معايير أثبتت مع السنوات أنها تصب في المصلحة العامة العالمية، مع بعض التفاصيل السلبية التي يمكن احتواؤها. غير أن التبدلات السياسية على الساحة الأمريكية فرضت حالة جديدة، فيها من "الوطنية" الكثير، لكنها ليست متناغمة مع المتطلبات العالمية المشتركة. ولذلك لا تنفع معها إلا الدبلوماسية الهادئة والتعاون بالصورة الأكثر التزاما. وفي النهاية لا يمكن لمجموعة العشرين إلا أن تمضي قدما بأكبر قدر من الحكمة والواقعية. فمفتاح الاقتصاد العالمي يبقى في حوزتها، والمسؤولية الدولية عليها.. كبيرة.


(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


الممرات «المختنقة» تهدد الغذاء



«الحضارة التي نعيشها اليوم، لم تكن لتتطور أو لتنجو دون إمدادات غذائية كافية» 
نورمان بورلونج مهندس زراعي وناشط إنساني أمريكي راحل 

كتب: محمد كركوتي

أعادت منظمات وجهات دولية مختلفة مسألة الإمدادات الغذائية العالمية إلى الواجهة، وكانت آخرها دراسة لافتة أجراها معهد "تشاتام هاوس" للأبحاث في لندن. وهذه المرة ليس من زاوية الأزمات الزراعية، ولا من التخلف في هذا القطاع الحيوي في بعض المناطق، ولا حتى من جهة نقص المياه اللازمة للإنتاج الزراعي، بل من ناحية الآليات والمعابر المستخدمة لإتمام هذه الإمدادات. وعلى الرغم من أن الإمدادات الغذائية شهدت تحسنا في الأعوام الماضية، من خلال نجاح سلسلة من البرامج العالمية والمحلية في غالبية مناطق العالم، فضلا عن اهتمام الحكومات بهذا الجانب، إلا أن ذلك لم يصنع الأمان التام لإمدادات الغذاء، خصوصا على الجانب الخاص بالنقل والمرور عبر مناطق حساسة أو ملتهبة، إضافة طبعا إلى أن التغير المناخي يسهم بصورة مباشرة في تعطيل أو تأخير الإمدادات الموجودة أصلا! وفي حين تحدد الجهات المهتمة بهذه المسألة 14 نقطة اختناق "كما وصفتها"، إلا أن بعض الجهات المعنية في الأمم المتحدة (مثلا) زادت هذا العدد. ما يعني أن القضية ليست أزمة عابرة، أو مرحلية أو موسمية، بل مشكلة تتعاظم يوما بعد يوم. لماذا؟ لأنه لا يوجد على الساحة تحرك يذكر لمواجهتها أو معالجتها. ويبدو أنها أزمة ستتفاقم في ظل التقاعس الحالي، مثلما تفاقمت أزمات في قطاعات أخرى على مدى عقود، للسبب ذاته. وعلى هذا الأساس تتحرك جهات عدة من أجل وضع القضية على رأس الأولويات، لأنها تختص بالغذاء الذي يشكل محورا رئيسا للاستقرار، خصوصا أن تعاظم نقاط اختناق إمدادات الغذاء، لا يعني النقص في المنتج الغذائي فقط، بل يعني أيضا ارتفاعا تلقائيا للأسعار، وهو أمر لا تتحمله أي حكومة في العالم على المدى البعيد، بصرف النظر عن مدى ملاءتها المالية. مناطق الاختناق هذه متعددة، من بينها نقاط حساسة مثل قناة السويس وموانئ البحر الأسود، وطرق النقل في دولة ضخمة كالبرازيل. وكلها "بحسب تشاتام هاوس" تتعرض لانقطاعات كثيرة الحدوث. والخطير في هذا الأمر، أن البضائع الغذائية التي تمر عبر نقاط الاختناق تشمل مواد أساسية مثل الذرة والأرز وفول الصويا وزيوت الطعام والسكر وغيرها. وارتفاع أسعار هذه المواد يضرب مباشرة الناس العاديين في كل بلدان العالم، بما فيها البلدان المتقدمة. كما أن هذه المواد تعد على نطاق عالمي، مواد "غذائية استراتيجية". وكما هو معروف، تقوم حكومات عديدة بدعمها نظرا لمحوريتها المعيشية لشعوبها. ولذلك، تتعاطى الجهات المهتمة بأمر "الاختناقات" مع هذه القضية من جانب المخاطر القابلة للتفاقم في أي لحظة، مع تداعيات عالية الخطورة أيضا. المثير في الأمر، أن تجارة الأسمدة تمر هي الأخرى بأكثر من نصفها عالميا عبر الممرات "المختنقة". أما الأمر الأكثر إثارة، فإن عددا من البلدان المتقدمة تعاني مشكلات في شبكات النقل المحلية. وعلينا أن نتخيل الأمر في بلدان أقل تقدما أو فقيرة، وكيف تعاني الإمدادات الغذائية ضمن نطاقها الجغرافي تعطيلا واضطرابا حتى أضرارا للأطراف المعنية. بمعنى، أن الأزمة لا تنحصر فقط في نقاط عبور دولية محورية معروفة، بل أيضا في شبكات نقل محلية تزيد من فداحة المشكلة. ومرة أخرى لا توجد استراتيجية واضحة على الصعيد العالمي، لتأمين نقاط العبور، بما في ذلك تلك التي تقع في مناطق مضطربة أصلا، كما أنه لا توجد مساع على مستوى رفيع للوصول إلى اتفاق عالمي بإبعاد النقاط الاستراتيجية المشار إليها عن أي تأثير للصراعات والاضطرابات. لا يمكن التهوين من هذه الأزمة المتفاقمة. فقد حدثت في غير منطقة من هذا العالم اضطرابات بفعل نقص الإمدادات الغذائية الرئيسة، أو من جراء ارتفاع أسعارها، ولا سيما تلك المرتبطة بقطاع الحبوب. ويرى باحثون، أن المخاطر التي تشكلها نقاط الاختناق تتزايد مع تنامي حجم التجارة العالمية، ولكنهم يشيرون في الوقت نفسه إلى نقطة مهمة تتعلق بارتفاع حرارة الأرض أيضا. فالتغير المناخي "كما هو معروف" يسبب مزيدا من العواصف والجفاف ومواسم الحر القاتل. بمعنى، أن المشكلة ناتجة عن مجموعة عوامل، يمكن تلخيصها بالتالي، تخلف شبكات النقل في بعض الدول، ومخاطر تهدد نقاط العبور الدولية، والتغيير المناخي الذي أصاب كل شيء على وجه الأرض. ناهيك عن التعطل الذي يصيب تجارة الأسمدة بين الحين والآخر. في مثل هذه القضية، لا مناص من التحرك السريع، والأهم لا بد من وجود تعاون عالمي على نطاق واسع، بما في ذلك تقديم المساعدات اللازمة لبعض البلدان التي تعاني تخلف شبكات النقل، إضافة طبعا إلى المسألة الأهم، وهي ضمان دولي شامل لنقاط العبور العالمية. ولن يتم هذا إلا بالاعتراف بهذه المصيبة المتفاقمة، والتعاون الحقيقي حتى بين البلدان التي لا تنسجم مع بعضها بعضا.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


الحروب .. والناتج الإجمالي العالمي



"البشرية يجب أن تنهي الحروب، قبل أن تنهي الحروب البشرية" 
جون ف. كيندي رئيس أمريكي راحل 


كتب: محمد كركوتي

تبقى الحروب والنزاعات والمواجهات العنيفة حول العالم السبب الرئيس في انخفاض الناتج الإجمالي العالمي. وهذا الناتج يمثل في الواقع الشكل العام للاقتصاد العالمي، وآفاق حراك هذا الاقتصاد، والآثار السلبية أو الإيجابية التي يتركها في هذه المنطقة أو تلك. وغالبا ما تكون الآثار سلبية بل خطيرة. والمؤكد أن البلدان الأكثر فقرا هي التي تتلقى الضربات الأقسى من سلبية الاقتصاد العالمي، الأمر الذي "يدعم" الأزمات في البلدان المشار إليها، بينما تحتاج الساحة الدولية إلى كل سبب لتهدئة التوترات والمواجهات، وتقليل الاحتقان السياسي الذي يتدرج في بعض المناطق ليصل إلى مرحلة المواجهات الخطيرة. وكل ذلك يؤثر بصور خطيرة ومختلفة في كل المخططات العالمية للتنمية أو تقليل الفقر، أو خفض البطالة، أو حتى محاربة الأمراض والأوبئة، إلى كل المخططات العالمية الهادفة إلى عالم أقل سوءا، بدلا من القول، "إلى عالم أفضل"، لأن النقطة الأخيرة يصعب إدراكها في هذا الزمن. الجميع يتحمل مسؤولية انخفاض الناتج الإجمالي العالمي. سواء أولئك الذين يصنعون الحروب والنزاعات، أو الذين يتحولون في غالب الأحيان إلى أدوات مواجهة، بعضها "مدفوع الأجر"، وبعضها الآخر بجهل وبلاهة وتخلف. ولم تفلح كل الجهات الحكومية وغير الحكومية بما في ذلك تلك المرتبطة بالأمم المتحدة في تحقيق خطوات لافتة على صعيد حل النزاعات، ويعني هذا ببساطة أن خسائر الإنتاج الاقتصادي العالمي ترتفع وتستمر. وفق آخر تقرير لمعهد الاقتصاد والسلام المعروف الذي يتخذ من أستراليا مقرا له، فإن العنف العالمي أثر سلبا في جميع القطاعات في عام 2015، حيث خفض الناتج العالمي في العام المذكور بنسبة 13.3 في المائة، أو ما يعادل 1876 دولارا من كل فرد، واستنادا إلى المعهد المذكور، في السنوات العشر الماضية وصلت تكاليف آثار العنف على الاقتصاد العالمي إلى 137 تريليون دولار، وتشمل هذه التكاليف الأموال التي أنفقت على عمليات عسكرية والتأمين الخاص وقوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة. والمثير في متابعة المشهد العالمي العام، هو حقيقة أن دولا قليلة جدا تنعم بالسلام والأمن. ما يعني أن فرص التخلص من النزاعات والمواجهات والعنف ستكون قليلة جدا، الأمر الذي سيرفع من الخسائر الاقتصادية العالمية في الوقت الذي يحتاج فيه هذا العالم إلى مزيد من التنمية، ليس من أجل الازدهار الآني والرفاهية فحسب، بل أيضا لضمان حقوق الأجيال المقبلة. فهذه النزاعات هي في الواقع عدوان مباشرة الأجيال التي لم تأت بعد، لأن تكاليفها تسحب من حصة هؤلاء في العيش الكريم، وحقوقهم المعيشية لاحقا. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن النزاعات لا تأخذ أموال الأجيال الحالية وتلك المقبلة فقط، بل لا تترك مجالا للتنمية في مرحلة لاحقة، لأنها تدمر الأسس التي يمكن البناء عليها، سواء كان اجتماعيا أو اقتصاديا. في العام الماضي، استمر الوضع على ما هو عليه. بل إن مناطق شهدت تفاقما في النزاعات بمستوى أكبر، ولم يسجل العالم نقطة إيجابية واحدة لافتة تختص بإنهاء نزاع أو وقف حرب. وتعثر الاقتصاد العالمي في عام 2015 انتقل بصورة تلقائية إلى عام 2016، مع مؤشرات أخطر، حيث تراجعت بقوة معدلات النمو في مناطق لم يكن أحد يظن أنها ستتعثر بنموها، ولا سيما دول منطقة آسيا وعلى رأسها بالطبع الصين. مصائب النزاعات غير المتفجرة لها أضرارها أيضا حيث تتوازى في بعض الحالات مع الحالات المتفجرة نفسها. وهناك في المنطقة الآسيوية عدد من الحالات غير المشتعلة فعليا لكن آثارها السلبية كبيرة. وإذا كانت المنطقة التي يعلق عليها العالم آمال النمو بهذه الصورة، علينا أن نتخيل المناطق الأخرى التي لا تدخل أساسا في قائمة البلدان الناشئة. الثابت أن النزاعات أو الحروب أو المواجهات تلقي بظلالها على بلدان ومناطق لا علاقة مباشرة لها بها. ما يؤكد مجددا الحقيقة المرعبة، أن آثارها تشمل الجميع وستستمر طويلا حتى بعد انتهائها على أرض الواقع حقا. فالخسائر الناجمة عنها لا تتعلق فقط بالإنفاق عليها، بل ترتبط ارتباطا مباشرا بتراجع الإنتاج، وارتفاع الديون بسبب الحروب، وبالطبع تزايد معدلات البطالة والجريمة الاجتماعية، وتدهور التعليم، وغير ذلك من الآثار السلبية الخطيرة على الاقتصاد -أي اقتصاد- بشكل عام. إنها مصائب مستمرة، بعضها يعود لعقود طويلة، وكلها -بصرف النظر عن المدد الزمنية- تضرب الاقتصاد العالمي بأشكال مختلفة. هل يعقل أن تكاليف الحروب والنزاعات والمواجهات تعادل إنفاق خمسة دولارات من كل شخص على مستوى العالم وعلى مدار العام؟ في حين تشير أرقام البنك الدولي الأخيرة إلى أن 10.7 في المائة من سكان العالم يعيشون على أقل من دولارين في اليوم الواحد. لا تبدو في الأفق أي مؤشرات على تغيير الأوضاع من سيئ إلى أحسن. في الواقع المؤشر المؤكد أن السيئ ينقل بثبات وقوة إلى الأسوأ.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")