الثلاثاء، 27 يناير 2015

تيسير كمي في مواجهة تعسير كلي

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية)



"اليورو مصير مشترك، وأوروبا مستقبل مشترك"
أنجيلا ميركل - مستشارة ألمانيا



كتب: محمد كركوتـــي

عارضت ألمانيا برنامج التيسير الكمي التاريخي الأوروبي بشراء سندات حكومية وخاصة بقيمة 60 مليار يورو كمرحلة أولى. لكن البرنامج أُعلن بالفعل وسيدخل حيز التنفيذ في آذار (مارس) المقبل. كان لا بد لألمانيا أن تعارض الخطوة كما كان لابد للبنك المركزي الأوروبي أن يمضي قدما في هذا البرنامج. معارضة حكومة ميركل صوتية ضرورية للسياسة المحلية الألمانية، وإصرار البنك المركزي ضروري أيضا لأن منطقة اليورو لم تعد قادرة (فعلا) على المضي قدما في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعيشها بدءا بالديون وليس انتهاء بالنمو القريب من الصفر للمنطقة بأسرها. إلى جانب تخلف عديد من دول اليورو عن تنفيذ البرامج الخاصة بخفض مستويات العجز لديها بما في ذلك فرنسا البلد "القوي" الثاني في المنطقة المذكورة.
الـ 60 مليار يورو ليس سوى المبلغ الأول لبرنامج قد يصل إلى ألف مليار يورو في غضون عامين. مرة أخرى لم يعد مهما تحذير ميركل لمنطقة اليورو بالابتعاد عن مسار الإصلاحات في أعقاب الإعلان عن البرنامج المشار إليه. لكن كان عليها أن تحذر لسبب بسيط آخر هو أن الحجم الأكبر من الأموال التي سيتم ضخها في البرنامج ستأتي من ألمانيا، تماما كما هو الحال بالأموال التي ضخت لإنقاذ اقتصادات متهاوية في المنطقة، وعلى رأسها الاقتصاد اليوناني. وإذا كان لا بد من هذه الخطوة فلماذا تتم دون التحذير الألماني التقليدي بل وحتى "الإهانات" الألمانية المعهودة. ومع استفحال الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو تعرف ميركل وكل السياسيين الألمان أن الإصلاحات التي تنادي بها لن تتم بمعزل عن برنامج التيسير الكمي، في منطقة بلغ سعر الفائدة فيها حد الصفر.
لا أحد أحسن من أحد. الولايات المتحدة اعتمدت مثل هذا البرنامج طوال السنوات الماضية لدعم اقتصادها وكذلك فعلت اليابان أخيرا. وعندما يزداد الحديث عن إمكانية خروج دولة مثل اليونان من اليورو، بل وحتى إثارة الشكوك على بقاء اليورو نفسه كعملة موحدة، لا يوجد أمام واضعي السياسة المالية الأوروبية غير التيسير الكمي الذي اكتسب أخيرا الصفة الأمريكية في حين أن بريطانيا اعتمدته مرات عدة في السابق. الحقائق كثيرة على تردي أوضاع اقتصاد اليورو لكن المخارج من هذه الأوضاع قليلة جدا. ورغم أن التيسير الكمي ليس علاجا دائما، لكنه يظل الأفضل عندما تصل الخيارات والبرامج المتاحة إلى الصفر ولم تعد هناك حتى حلول وسط. لقد غابت الحلول الحاسمة عن الساحة الأوروبية منذ انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، ولم تعد حتى الآن.
الأزمة التي تواجهها منطقة اليورو معروفة وواضحة: فائدة قرب الصفر، تراجع التضخم بصورة تاريخية، هبوط مستوى الاستثمارات. وهي عوامل مفجعة إذا ما استمرت فترة طويلة. وهذ الفترة طالت بالفعل مقارنة بالأوضاع المشابهة التي سادت دولا أخرى خارجها وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي تعتقد الجهات الدولية الأكثر حيادية أنها ستتمتع باقتصاد في السنوات القليلة المقبلة سيشكل المنارة الوحيدة للاقتصاد العالمي ككل. وهناك ميزة إيجابية لبرنامج التيسير الكمي الأوروبي مقارنة بمثيله الأمريكي. فمخاطر البرنامج في منطقة اليورو ستوزع على جميع الدول الأعضاء فيها في حين أن الأمر عكس ذلك في الحالة الأمريكية. وهذا يعني أن امتصاص المخاطر عن طريق تشتيتها سيوفر حصانة للبرنامج بصرف النظر عن المساحة الزمنية التي سينفذ فيها.
إنه مخرج واقعي مطلوب. بل بعض الجهات تعتقد أن البنك المركزي الأوروبي تأخر في طرحه. وبصرف النظر عن هذه النقطة فإنه مخرج لم يلحظه وزير الخارجية البريطاني السابق وليام هيج الذي قال يوما "إن اليورو مثل مبنى يحترق ولا توجد فيه مخارج". بالطبع يستطيع أي سياسي بريطاني أن يتحدث بهذه الصيغة طالما أن بلاده لا تزال خارج هذا "المبنى". غير أن الحقيقة ليست كذلك على الإطلاق. فحتى البلدان الأكثر تضررا من عمليات الإنقاذ التي تشهدها منطقة اليورو (وبالتحديد ألمانيا) باتت متمسكة باليورو ومنطقه أكثر من أي وقت مضى. فميركل (الرداحة) نفسها تعتبر اليورو "مصيرا مشتركا". والبرنامج يستطيع أن يحقق مجموعة من الأشياء في زمن قياسي. في مقدمتها دعم الصادرات الأوروبية وزيادة الإنتاج، إضافة طبعا إلى رفع التضخم لتحريك النمو أكثر.
كل هذه عوامل يحتاج إليها اليورو الآن حيث أثبتت أنه عملة باقية رغم الشكوك حولها من جهات بعينها، وأن المنطقة التي نشأت على "حسه" لن تتفكك. وكل السياسيين على الساحة الأوروبية بمن فيهم البريطانيين أنفسهم، يعرفون أن هذه المنطقة تستحق "التضحية" المالية فهي لم تقم على أساس مرحلي بل نشأت وفق قواعد المصير. ستكون هناك مصاعب كثيرة حتى في تنفيذ برنامج التسيير الكمي، ولن يتوقف "ردح" ميركل لإرضاء معارضيها الألمان في الداخل، لكن إطلاق هذا البرنامج أثبت أن الأوربيين يختلفون وربما يتبادلون الاتهامات، لكنهم متفقون على أن عملاتهم الوطنية السابقة التي محاها اليورو لن تعود إلى الساحة مجددا. وليس مهما هنا أيضا "شماتة" البريطانيين الذين لا يزالون يتخبطون في مسألة الانتماء للاتحاد الأوروبي.

مصارف هشة بنفط صخري

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



 
"السوق النفطية حساسة بإفراط، حتى بمجرد التلميح لانكماش أو توسع في العرض"
جيمس سورويكي ـــ كاتب وصحافي أمريكي

كتب: محمد كركوتـــي
 
أسئلة كثيرة تطرح على الساحة فيما يخص المصارف الكبرى والمتوسطة. هذه المرة لا ترتبط الأسئلة بعمليات، احتيال أو غسل أموال، أو التهرب من الضرائب، أو حماية أموال منهوبة، أو تضليل العملاء بطرق مختلفة، إنها تتعلق بمشكلة متصاعدة، البعض يعتبرها كارثة من الآن، والبعض الآخر ينظر إليها ككارثة مستقبلية. إنها باختصار، الأموال التي أقرضتها هذه المصارف إلى شركات التنقيب عن النفط الصخري في الولايات المتحدة طوال السنوات الماضية، بما في ذلك القروض التي منحت إلى شركات التنقيب عن النفط في مناطق، تتطلب إنفاقاً على استخراج البترول أكثر من غيرها من المناطق الأخرى. وهذا النوع الأخير من التكاليف، لا يترك مجالاً للشركات المعنية بأي حركة مرنة، في ضوء انخفاض أسعار النفط.
ويمكن وضع كل الأسئلة التي تُطرح حول مصير قروض شركات النفط الصخري تحديداً، ضمن سؤال كبير واحد، هو، هل العالم على أعتاب كارثة مالية جديدة، في حال عجز الشركات النفطية المعنية عن سداد ديونها؟ وهذا يختصر كثيرا من التساؤلات بما في ذلك تلك المحيرة. ولا شك في أن المصارف المتورطة بهذه القروض، تعيش اليوم أحلك أيامها، لأنها تمر أساساً بأسوأ مرحلة من تاريخها، في ظل الهجمة الحكومية الأمريكية على وجه التحديد، الخاصة بفرض غرامات، أو التوصل إلى تسويات مع المصارف المشار إليها، على مخالفات أو تجاوزات سابقة. بعض الغرامات وصلت إلى 16 مليار دولار، وبعضها الآخر في حدود 12 مليار دولار. ومئات الغرامات أو التسويات التي تحسب بعشرات الملايين من الدولارات.
ولا حصانة لمصرف عن آخر في موضوع المخالفات والغرامات والتسويات خارج المحاكم، كما هو الأمر بالنسبة لهذه المصارف حيال القروض التي أغدقتها على شركات التنقيب عن النفط. كما أن المصارف الأمريكية متورطة ومعها الأوروبية الكبرى على وجه التحديد. وبحسب التقديرات المحافظة، تصل القروض التي حصلت عليها شركات التنقيب عن الغاز الصخري (تحديداً) إلى تريليوني دولار، ومع توقف أعداد متزايدة من مناطق الحفر عن العمل في الأشهر القليلة الماضية، دخلت القروض في دائرة الخطر الكبير، خصوصاً مع إعلان مجموعة من الشركات عن عدم إمكانية العودة مجدداً إلى نشاطها الاستخراجي، أو على الأقل عدم استئناف العمل مجدداً قبل سنوات. ورغم تفاوت تقديرات الخسائر الناجمة لشركات النفط الصخري، من جراء تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، إلا أن سعر 45 دولارا للبرميل، يعتبر الحد الذي ينبغي أن يتوقف فيه الإنتاج نهائياً. البعض يرى أن توقف الإنتاج ضروري حتى لو استقر البرميل عند ما بين 60 و70 دولاراً.
وفي كل الأحوال، فإن المخاطر التي تحدق بالمصارف المقرضة لـ "شركات الصخري"، تتزايد يوماً بعد يوم، وإذا ما تبخرت هذه أموال القروض فعلاً، أو على الأقل تأخر سدادها، فإن النظام المصرفي العالمي ينبغي أن يستعد لأزمة جديدة، خصوصاً في ظل سياسات ومتغيرات حكومية فُرضت على المصارف في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، بما في ذلك، توافر احتياطي مالي آمن في كل مصرف، لتمكنه من مواجهة أي أزمة قد تحدث له أو للقطاع بشكل عام. وطبعاً تم فرض المعايير الجديدة، من أجل تجنيب الخزائن العامة مسؤولية التدخل لإنقاذ هذا المصرف أو ذاك. بمعنى آخر لكيلا تكون الأموال العامة سنداً وحيداً لها. العالم لا يحتمل في هذا الوقت بالذات أي هزة مالية جديدة، فكيف الحال بإمكانية اندلاع أزمة مرتبط بديون الشركات النفطية؟
والذي يزيد الأمر تعقيداً، أن القيم السوقية للشركات المشار إليها تراجعت بصورة خطيرة في الأشهر القليلة الماضية. بعضها تراجعت قيمته حتى 22 في المائة، أي أن عددا من الشركات تقترب من دائرة مهب الريح، كما تقترب المصارف من نطاق العاصفة. وما يعرف من حدة المخاطر، أن الشركات النفطية الكبرى التي تستطيع أن تقاوم الوضع السعري النفطي بنفس طويل، لن تخاطر في استحواذات أو اندماجات في هذا الوقت بالذات، وبالتالي يترك عدد كبير من شركات النفط الصخري متعثرة، وعاجزة في المستقبل القريب عن تسديد ديونها، بل حتى فوائدها. فالتوقف عن العمل نهائياً يعني عدم إنتاج حتى الحد الأدنى من هذا النفط. مع ضرورة الإشارة إلى أن شركات النفط التقليدية نفسها، أقدمت على إغلاق عدد من آبارها في الأسابيع الماضية، التي تتطلب تمويلاً أكثر من غيرها.
العالم لا ينقصه أزمة أخرى بالتأكيد. في حين لم يخرج من تلك التي ضربته في عام 2008. والمصارف (على وجه التحديد) التي كانت شرارة القنبلة المفجرة للأزمة، هي الآن في دائرة الخطر، وبالطبع في دائرة الضوء، بينما لا تزال الآليات والمعايير الجديدة التي فرضتها الحكومات قيد التطبيق، ولم تتكرس بعد. إنها أزمة لن تتحملها حتى الحكومات، في وقت تسعى فيه هذه الأخيرة إلى التخلص من أي التزامات إنقاذية لمصارف تم إنقاذها مرة من قبل الغارقين أنفسهم.
 

عام 2014 نفطي

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




 
«لسنا مدمنين على النفط. سيارتنا هي المدمنة»
جيمس وولسي رئيس جهاز الاستخبارات الأمريكية السابق


كتب: محمد كركوتـــي

أيا كانت طبيعة وأهمية الأحداث الاقتصادية التي مرت على العالم في النصف الثاني من العام المنصرم، كان النفط "سيدها" غطى حتى على أزمة الديون في منطقة اليورو والنمو الاقتصادي الخجول في الولايات المتحدة وتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني. فرض مسبباته على الأسهم العالمية في الأخبار الاقتصادية كان الخبر الأول، وفي التحليلات شغل مساحات واسعة النفط صبغ عام 2014 بألوان عدة، مشتقة أساسا من لونه الأساسي لتستمر هذه الألوان في العام الجديد وربما إلى ما بعده. فاق الحدث النفطي مستواه الذي كان عليه في عام 2008 عندما تعرضت الأسعار للنزيف، ونسي البعض "في زحمة تلاحق الحدث" ما حدث في أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما وصل سعر برميل النفط إلى أدنى مستوى له وفي كل الأحوال يبقى النفط تلك السلعة التي تخشى منها وتخاف عليها.
يقول المؤلف والأديب الاسكتلندي جيمس بوتشان "قبل قرن من الزمن، كان النفط مجرد سلعة. اليوم، توازي أهميته بالنسبة للجنس البشري، أهمية الماء نفسها". وهو بالفعل كذلك. في أحد الأيام قالت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير الراحلة كفرا بهذا الصدد. ماذا قالت؟ "دعوني أقول لكم ما لدى الإسرائيليين ضد النبي موسى. سار بنا 40 عاما عبر الصحراء، لكي يأتي يجلبنا إلى بقعة في الشرق الأوسط بلا نفط". لقد نسيت مائير لوهلة، ادعاءاتها الباطلة ومعها قادة إسرائيل بـ "الأرض الموعودة"، من فرط حاجات كيانها للنفط. فلا غرابة أن تتصدر هذه السلعة المشهد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في أي لحظة. وعندما تكون التحولات النفطية أكثر دراماتيكية، يكون معها المشهد العام كله أكثر محورية.
وأيا كانت التحولات أيضا، تبقى السعودية اللاعب الأهم على الساحة النفطية. حاولت بعض الجهات في السنوات الماضية التقليل من هذه الحقيقة. ولكنها نسيت أنها حقيقة، تُحسب كما هي، لا كما تشاء التمنيات. واستراتيجية المملكة عززت من قوتها. البعض اعتبرها مخاطرة، لكن التطورات أظهرت أنها ليست كذلك بأي صورة من الصور. وعندما توضع الاستراتيجيات وفق معايير وحقائق السوق، لا مخاطر تظهر، خصوصا عندما يكون واضع الاستراتيجية محوري المكانة في السوق، لا هامشيا أو موسميا. وهذه الاستراتيجية هي التي عززت صبغة عام 2014 كـ "عام النفط". العام الذي سجل في التاريخ، لا لكونه شهد تراجعا بلغ أكثر من 50 في المائة في أسعار النفط في غضون ستة أشهر، بل لأنه عام السياسة الجديدة لهذه السلعة. عام تغيير "الثقافة" التي تخصها. عام الحفاظ على الكبير النفطي الحقيقي، لا ذاك الذي يدخل ويخرج من السوق، على مبدأ "اضرب واهرب". إن السلعة الاستراتيجية ليست قابلة لهذا النوع من الإنتاج والتجارة.
التحولات كثيرة تلك التي انطلقت في عام 2014 على الصعيد النفطي. من بدء نجاح استراتيجية محاصرة النفط الصخري، إلى خسارة شركات النفط العالمية الكبرى جزءا من قيمها السوقية، إلى ازدهار ما يمكن وصفه بـ "التخزين العائم". ففي الأسابيع الستة الأخيرة من العام المنصرم، انخفضت أعمال حفر النفط الصخري في الولايات المتحدة بمعدل 17 في المائة. وهناك عديد من الآبار الصخرية تتوقف أسبوعيا. بل تراجعت حتى أنشطة التنقيب التقليدية في أمريكا الشمالية، وهي مرشحة للتراجع بمعدلات عالية جدا في العام الجديد تصل إلى 14.1 في المائة. بعض الجهات الأمريكية، تعتبر أنها لا تستطيع المضي قدما في الإنتاج إذا بقي سعر برميل النفط في حدود 50 دولارا للبرميل. البعض الآخر تحدث عن 60 دولارا.
إنها تحولات تاريخية على الصعيد النفطي بكل معنى الكلمة. فحتى النصف الأول من العام المنصرم، لم تكن مثل هذه التطورات مطروحة للنقاش أصلا، خصوصا مع ارتفاع التوتر في أكثر من منطقة حول العالم تنتج النفط والغاز. لن تمر هذه المرحلة بالطبع دون خسائر، فعلى سبيل المثال تراجعت أسهم 22 شركة تنتج النفط والغاز من أصل 24 شركة كبرى تعمل في هذا المجال. وبلغت خسائر "شيفرون" و"إكسون موبيل" معا "وفق آخر البيانات" 95 مليار دولار. بعض الشركات خفض رواتب العاملين فيها، والبعض الآخر بدأ في تنفيذ خطة تسريحات. وسينخفض الإنفاق العالمي في مجال الطاقة في العام الجديد في حدود 6.7 في المائة. ويرى بنك "باركليز" البريطاني في تقرير أخير له، أن الشرق الأوسط سيكون مصدر القوة الوحيد في العالم حيث يتوقع أن يزيد الإنفاق 14.5 في المائة مع تمسك الشركات بخطط الحفر.
لقد انطلقت شرارة التغيير في عام 2014، وستستمر إلى العام الجديد وما بعده، إلا أن الحالة الطبيعية للسوق لم تكن طبيعية تماما في السنوات القليلة الماضية. سيكون هناك المزيد من الخاسرين وأيضا المزيد من الرابحين وستتبدل قناعات كثيرة، كما ستتكرس حقائق عديدة موجودة أصلا على الساحة لكل تغيير ثمنه وعام 2014 كان عام النفط المتغير نحو الثبات.

«فاتكا» ليس سياسيا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





"الناس جائعون، لأن السلطة تأكل من الضرائب بإفراط"
لاوتزه - فيلسوف صيني

كتب: محمد كركوتـــي

هناك سلسلة من المشكلات المرتبطة بقانون الامتثال الضريبي الأمريكي للحسابات الأجنبية المعروف اختصارا بـ "فاتكا". فهذا القانون يلاحق المتهربين الأمريكيين "وحتى الذين يتمتعون بالإقامة الدائمة الأمريكية" من الضرائب، ولكنه يطرح قضايا أخرى أشد، توازي الضرائب وأحقيتها حساسية، خصوصا في البلدان التي تمنع ازدواج الجنسية، فضلا عن أولئك الذين يتمتعون بالإقامة الدائمة في الولايات المتحدة، ولكنهم في الواقع لا يعيشون فيها، والآخرين الذين حصلوا عليها أوتوماتيكيا بحكم الولادة. هذا القانون فتح في الواقع كل شيء على كل شيء. يكشف عن الأموال المستورة، والجنسيات المستورة أيضا، وتحديدا في البلدان الأصلية لحامليها. ولكنه في النهاية لا يمثل معيارا للوطنية، بدليل أن الأمريكيين الأصليين يتهربون من الضرائب، وهناك مؤسسات أمريكية بأسماء رنانة إلى الأبد "أبل ومايكروسوفت وغيرهما" تتهرب من الضرائب.
في المملكة بدأ تنفيذ القانون مطلع العام الميلادي الجديد، وفق النموذج الذي اختارته السعودية الذي تم الاتفاق عليه مع الأطراف المعنية. والدول الخليجية الأخرى وافقت على تطبيق القانون بالتعاون مع السلطات الأمريكية، وهناك بلدان في كل أنحاء العالم، امتثلت لقانون "الامتثال"، وذلك خوفا على مؤسساتها المالية والمصرفية من عقوبات أمريكية ستكون فادحة بكل المقاييس. ومن الواضح أن إدارة أوباما، تسعى بكل ما لديها من نشاط وما تبقى لها من زمن في البيت الأبيض، إلى تعميم القانون على جميع بلدان العالم، التي ترتبط معها بعلاقات طبيعية. وقد نجد بعد فترة من الآن، أن كوبا نفسها العدو اللدود للولايات المتحدة، امتثلت للقانون الأمريكي، مع التقارب المتسارع بين واشنطن وهافانا.
راسلني أحد الأصدقاء حول موضوع "فاتكا"، ملمحا بأن هناك بعدا سياسيا لهذا القانون، وهو أولا: "تطفيش" الناس من الحصول على الجنسية الأمريكية، على اعتبار أن أصوات المجنسين الأمريكيين كانت تحمل وزنا في الانتخابات الرئاسية السابقة التي فاز بها باراك أوباما في المرة الأولى. وثانيا- ولا أجد أي رابط سياسي في هذا الأمر- أن اعتماد الدول الغربية على الضرائب ليس جديدا، بل يزداد يوما بعد يوما ويصل إلى أوجه في أزمنة الأزمات. كما أنه يشكل في النهاية "كما هو معروف" حجز الزاوية في الدخل الوطني. وهذا الأمر يدفع إلى تطوير قوانين الضرائب، بل وسن قوانين جديدة، دون أن ننسى أن الأزمة الاقتصادية العالمية، دفعت العالم أجمع للبحث عن مصادر مالية، حتى تلك التي كانت جزءا من أموال عصابات منظمة.
ومن الأسباب الأخرى التي لا تجعل من "فاتكا" سياسيا، أنه تم الاتفاق عليه من قبل الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه أوباما الملون، أكثر من الجمهوريين الذين أشاروا إلى أصوات المجنسين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فضلا عن أنه بدأ تطبيق القانون فعليا في عام 2010، أي بعد وصول أوباما إلى البيت الأبيض بعامين تقريبا. وهناك نقطة أساسية أخرى، أن أغلب المجنسين "وفق الجداول الرسمية الأمريكية" ليسوا من مرتفعي المداخيل، بل إن نسبة كبيرة منهم تعيش على المعونة الحكومية، وهؤلاء لا يشكلون هدفا على الإطلاق لقانون "فاتكا" أو غيره. في الواقع هذه الشريحة تدعم تقليديا قوانين الضرائب المشددة، لأن ذلك سينعكس عليها بصورة إيجابية على صعيد المعونات الحكومية الاجتماعية.
أما بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا التهرب من الضرائب، فهم تقليديا من أصحاب المداخيل المرتفعة جدا، وهؤلاء "أيضا تقليديا" من الناخبين للحزب الجمهوري، على اعتبار أن هذا الأخير أقل فرضا للضرائب، كحال الأحزاب اليمينية الغربية الأخرى التي لا تتعجل فرض ضرائب عالية، بل إن بعض هذه الأحزاب، يخفض الضرائب ضمن برامجها الانتخابية لجذب أصحاب رؤوس الأموال. وهؤلاء اعتادوا على منح الأحزاب اليمينية تبرعات سخية جدا. وفي كل الأحوال، قانون "فاتكا" لم ينطلق سياسيا، ولا يطبق كذلك. فحتى التخلي عن الجنسية الأمريكية لا يتم بقرار واحد ونهائي من حامل الجنسية، الأمر قد يستغرق سنوات، فضلا عن دفع رسوم حكومية تم رفعها في الواقع في الأشهر القليلة الماضية.
يريد أوباما وإدارته أن ينتهوا من تنفيذ هذا القانون بصورة شاملة، لأنهم بذلك يسجلون نقطة تاريخية في مصلحتهم "حسب اعتقادهم"، فهذا الرئيس ركز منذ البداية على القضايا الداخلية في بلاده، ولم يهتم بما يوازي أهمية بلاده بالقضايا الخارجية. وكأنه أراد أن يقول "فهمت استراتيجية سلفي جورج بوش الابن، وأنا أقوم باستراتيجية عكسية". وقوانين الضرائب المحلية وتلك التي لها صلات خارجية، جزء أساسي من القضايا الداخلية. وقانون "فاتكا" الذي شمل أغلب بلدان العالم، بدا مغريا حتى لبلدان غربية أخرى، ولا سيما الأوروبية منها. فهذه الأخيرة تفكر بالفعل في قانون مماثل يستهدف مواطنيها وحاملي جنسياتها، في غضون سنوات قليلة جدا. وقد بدأ المختصون بوضع الخطوط العريضة لقانون جذاب لكل الدول، خصوصا في أوقات الأزمات والمحن الاقتصادية.
الضرائب في البلدان الغربية الراشدة، أكثر أهمية حتى من الصناعات والتجارة. إنها الدخل الوطني المحلي المضمون الذي لا يخضع كثيرا لعوامل خارجية أو حتى داخلية.
 

التنويع .. وقود الاقتصاد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




«أساس الاقتصاد القوي لا يقوم على قرارات وزير المالية وبرنامج الإنفاق الحكومي»
جورج أوزبورن وزير مالية بريطانيا


كتب: محمد كركوتـــي

لا يحتاج الخطأ (أي خطأ) لأزمة كي يتم إصلاحه. كما لا تحتاج أي حالة مهما تفاقمت إلى أي شكل من أشكال الأزمة أو الضرر لإدخال إصلاحات محورية عليها. في الأزمات تكمن الفرص (بصرف النظر عن أشكالها)، ولكنها لا توفر أدوات فاعلة أو مطلوبة لإنهائها وأولئك الذين يعتقدون غير ذلك، هم في الواقع يسعون إلى تبرير الخطأ ومرتكبه، ويحاولون (بحسن أو سوء نيات) توفير حماية ما للجهة أو الجهات التي تقف وراء هذا الخطأ، لا أزال أتذكر مقولة ساذجة ومروعة في آن معا للممثل المصري محمد صبحي، خلال لقائه بطاغية العراق السابق صدام حسين في أعقاب العقوبات التي فرضت على العراق. ماذا قال لهذا الأخير؟ "سيدي الرئيس، علينا أن نشكر العقوبات لأنها تحض على العمل المحلي والإنتاج"! مثل هذا الكلام، ليس أقل من مبرر للخراب والمخرب.
القضية المطروحة الآن لا تتعلق بصدام ولا صبحي، إنها خاصة بالبلدان النفطية (لا على وجه الخصوص) التي لا تزال تفكر في تنويع اقتصاداتها أو أنها تسير نحو التنويع بعربة بلا محرك. فتراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية خلال أقل من ستة أشهر ما بين 40 و50 في المائة لم يكن ضروريا لكي تعرف هذه البلدان أنها تأخرت بل إنها تعيش باقتصاداتها فيها من المخاطر أكثر مما فيها من المكامن الآمنة. إن المسألة واضحة منذ عشرات السنين. فإما اقتصاد أكثر تنوعا أو الارتهان إلى "مزاج" السوق النفطية وألاعيبها والسوق وإن شكلت المحور الأول للاقتصاد إلا أنها تخضع لمعايير متغيرة غير ثابتة. بل حتى الممارسات غير الأخلاقية وعلى هذا الأساس لا يمكن الاستناد عليها (بمفردها) كرافد مستدام بوتيرته لحماية الاقتصادات الوطنية المختلفة. ويكون الأمر مفجعا عندما تكون أحادية السلعة.
البدهيات لا تحتاج إلى أزمات أو حتى تفسيرات وشروحات والاعتماد على السلعة الواحدة يعني إبقاء الأمة أسرى لها، يقول هنري روس رجل الأعمال والمرشح السابق للرئاسة في الولايات المتحدة: "العملة الضعيفة تكون مؤشرا لاقتصاد ضعيف والاقتصاد الضعيف يقود إلى أمة ضعيفة" ويمكن ببساطة المقاربة هنا بالقول "السلعة الوحيدة لا توفر اقتصادا قويا وبالتالي لا تجعل الأمة قوية" والأمم الكبرى القوية هي كذلك بقوتها الاقتصادية وليست العسكرية، هذه روسيا بترسانتها العسكرية الهائلة تئن تحت وطأة تراجع أسعار النفط حتى لو لم تكن تحت العقوبات الغربية الراهنة المفروضة عليها والأمر نفسه (مع اختلاف مكامن القوة العسكرية) في بلدان مثل فنزويلا ونيجيريا وإيران وغيرها وهي في حالة سيئة مضاعفة لأنها تفتقر إلى الفوائض المالية.
ولكن الفوائض المالية التي تنعم بها غالبية بلدان الخليج العربية لا تشكل ضمانات مستدامة هي الأخرى فهذه الفوائض (مهما عظمت) لا بد أن تنتهي طالما أنها تتراجع ولا توجد آليات أخرى للإبقاء على زخمها فهي بلا شك محورية في الأزمات لكنها لا توفر حلولا دائمة لمشكلات الاقتصاد الكلي كما أنها تجمعت نتيجة فورة في أسعار النفط يعتقد البعض أنها انتهت إلى غير رجعة وإذا كان هذا الاعتقاد سلميا فإن الفوائض المشار إليها ستتآكل طالما ظل الرافد النفطي الوحيد للاقتصاد. وليس غريبا (على سبيل المثال) أن تتصدر بورصات البلدان غير النفطية قائمة أفضل الأسواق المالية في 2014 وفقا لوكالة "سي إن إن موني" الأمريكية وفي المقابل لم يكن غريبا تصدر بورصات بعض البلدان النفطية (وفي مقدمتها روسيا) قائمة الأسواق المالية الأسوأ في العام المذكور. في الأفضل كانت الأرجنتين والصين والهند وفي الأسوأ كانت روسيا والكويت.
هناك مشكلات مفصلية تعانيها البلدان النفطية في مجال تنويع اقتصاداتها في مقدمتها التخلص من ذهنية الإنفاق الحكومي والتحذيرات لا تتوقف من جانب المؤسسات المالية الدولية لهذه البلدان بأنها ستواجه مشكلات أعمق فيما لو لم تتقدم بخطوات فاعلة على صعيد إصلاح استراتيجية الإنفاق المتصلة مباشرة بمشاريع الدعم إلى جانب طبعا الارتباك الذي لا يزال موجودا في العلاقة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق وعدم الاستثمار في تطوير الصناعات (في حالة روسيا) فهذه الأخيرة لا تستطيع (مثلا) أن تجعل مصانعها تعمل دون التكنولوجيا الغربية أما بالنسبة للبلدان النفطية الأخرى (وتحديدا الخليجية العربية) فإن عجلة التنويع البطيئة تجعلها في حالة الاستماع فقط لمطالب الحد من الإنفاق الاستهلاكي وخفض الدعم.
صحيح أن بلدان الخليج تمضي قدما نحو تغيير "ثقافتها الاقتصادية" ولكن تداعيات السوق تسير بوتيرة أسرع منها وإذا كان من المرجح ألا يعود سعر برميل النفط إلى مستوى 100 دولار فليس أمام هذه البلدان إلا التحرك بسرعة أكبر نحو التنويع. فحتى الـ80 دولارا للبرميل لا توفر مساحة آمنة. بل يمكن القول حتى 200 دولار للبرميل لا توفر أمانا مستداما لأن المسألة تبقى هي.. هي "الأمان الاقتصادي" يكفله التنويع فقط وثقافة اقتصادية متغيرة بسرعة أيضاً دون خوف.
 

خسائر خراب سورية على الجوار

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"يمكن دائما العثور على الخراب، إذا كنت تبحث عنه"
توم كيتي - أكبر لاعبي الجولف في الولايات المتحدة



كتب: محمد كركوتــي

لا يتطلب الأمر نحو أربع سنوات فأكثر، وقوع 300 ألف قتيل، و18 مليون نازح ولاجئ (من أصل 22 مليونا)، وانهيار كامل للاقتصاد، وإفساح المجال أمام المخربين والمجرمين والإرهابيين للعب أدوارهم، وتفتيت كيان عربي راسخ، لا يتطلب الأمر كل هذا لمعرفة أن إزالة نظام سفاح سورية بشار الأسد إلى الأبد، أرخص بما لا يترك مجالا للمقارنة، من إبقائه يوما واحدا في حكم لا يستحقه، وفي سلطة اغتصبها ابنا عن أب. ليس صعبا منذ اليوم الأول للثورة السورية الشعبية ضد هذا الحكم البربري، قراءة الحقيقية كاملة وبلمح البصر. وهي تتلخص في التالي. بقاء الأسد وعصاباته في حكم سورية، لا يعني فحسب حدوث كل ما تقدم، بل يقود بالتأكيد إلى انتشار الخراب في محيط سورية، بل في مناطق مختلفة من العالم.
كان بشار الأسد صادقا عندما هدد بتحويل ما يحدث في سورية بفعل الثورة، إلى أزمة إقليمية بروابط عالمية. لكن الغرب لم "ينتبه". كان مشغولا برسم الخطوط الحمراء للأسد، بل لم "ينتبه" أساسا إلى أن هذا الأخير كان يقفز على الخط الأحمر تلو الآخر، دون أن يدفع الثمن الوهمي الباهظ الذي فرض من قبل الغرب نفسه. كل هذا الكلام لا معنى له الآن. فالخطوط، أزالها نظام ينظر إلى الإنسانية باحتقار متصاعد. فالهدف المشروع له، هو رجل مسلح ورضيع، أو امرأة تعلك كسرة الخبز اليابسة لإطعام أطفالها، أو مسن يدعو الله أن يميته قبل أن يهبط عليه برميل متفجر. أيضا هذا الكلام ليس مهما الآن. فالصورة الآتية من سورية لا تتكلم، بل تصرخ بملء محتواها.
يقول المؤلف الأمريكي جويل أوستين "أحيانا، إذا تمكنت من التملص مما يتطلب منك القيام به، فإنك تصنع الخراب". وهذا ينطبق على البلدان التي كان بإمكانها أن توفر الصيغة النهائية الأقل ضررا للحالة السورية، شرط أن تقوم بذلك منذ البدايات لا النهايات، ومنذ الشرارة الأولى لا الحرب الماحقة، ومنذ مقتل أول طفل، لا المرحلة التي ضاعت معها أرقام القتلى. ومن هنا، لا غرابة في أن ينتقل وبسرعة قياسية الخراب السوري إلى الجوار. وغرابة أيضا، من تقرير البنك الدولي، الذي توصل إلى أن خسائر دول شرق المتوسط من الأزمة السورية بلغت 35 مليار دولار. وهذه الخسائر تعادل في الواقع حجم الاقتصاد السوري الذي سجل في عام 2007. خسائر مرحلية في حجم اقتصاد كامل؟ يا له من عنوان مروع. مع ضرورة الإشارة إلى أن مثل هذه التقديرات تبقى في الحدود الدنيا، لأن مؤسسة مثل البنك الدولي، تفضل عادة مثل هذه الحدود، حرصا على التحرك في الحدود الآمنة للتقديرات.
كل البلدان الإقليمية تأثرت سلبا بل بصورة خطيرة من تداعيات الخراب السوري، سواء اقتصاديا أو على الصعيد الأمني. صحيح أن الأضرار متفاوتة بين كل بلد وآخر، ولكنها في النهاية شاملة لكل الأطراف. تقول تركيا -على سبيل المثال-: إنها أنفقت ما يقرب من خمسة مليارات دولار لمواجهة أمواج اللاجئين السوريين إليها. وعلى الرغم من بعض السلبيات في تعاطي الأردن مع أزمة اللاجئين السوريين، نال ضرره الاقتصادي منها. وعلى الرغم من بشاعة تعامل لبنان في نواحٍ كثيرة ومتعددة الأشكال مع هؤلاء اللاجئين، إلا أنه يتصدر قائمة البلدان الأكثر ضررا، وذلك وفقا للبنك الدولي نفسه. أما في العراق، فهو حالة متداخلة بصورة أكبر بكثير مع الأزمة السورية مقارنة بالتداخلات مع بقية بلدان المنطقة، لاسيما في أعقاب زوال الحدود على أيدي تنظيم "داعش" الإجرامي.
لا مجال للحديث هنا عن التعاطي الطائفي الفاضح للحكومة العراقية السابقة مع اللاجئين السوريين. المهم أن الخسائر التي نالت جميع دول المنطقة كبيرة، وتأتي في ظروف اقتصادية هي الأسوأ في هذه البلدان. وعلى هذا الأساس، فإن البنك الدولي يعتبر أن تكلفة الحرب تتوزع بشكل غير متساو في المنطقة، حيث تتحمل (بالطبع) سورية والعراق عبء التكلفة المباشرة للحرب، فتراجع الإنفاق على الرفاهية لكل فرد في سورية بنسبة 14 في المائة، وفي العراق 16 في المائة، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي السوري بنسبة 30 في المائة بسبب الحظر على التجارة. كما هبط نصيب الفرد من الدخل في الدول المجاورة، حيث كانت أكبر نسبة في لبنان وبلغت 11 في المائة، بينما لم يتجاوز التراجع في تركيا ومصر والأردن 1.5 في المائة.
أمام هذا المشهد المروع، يظهر السؤال بصورة ملحة. ألم يكن من الأفضل اقتصاديا لكل الأطراف (عدا إسرائيل وإيران وروسيا على وجه التحديد) إزالة نظام الأسد نهائيا؟ لا نتحدث هنا عن الخسائر البشرية (لاسيما السورية) التي لا يمكن بأي حال أن تخضع لمعايير الربح والخسارة. كما لا نتحدث عن الخسائر المتواصلة التي تسببها التنظيمات الإجرامية التي اخترعها سفاح سورية وعصاباته على مدى السنوات الأربع الماضية، لا لشيء، إلا لرفع معدلات الخراب، وإبقاء آثاره أطول زمن ممكن، وبقائه يوما إضافيا آخر.
 

«التشبيح» في مواجهة العقوبات

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"ليس هناك ضريبة دخل في روسيا، لأنه لا يوجد دخل أصلا"
ويل روجرز - كوميدي أمريكي راحل


كتب: محمد كركوتـــي

بالطبع، هناك ضرائب دخل في روسيا الآن. وما قاله الكوميدي روجرز بهذا الصدد، كان يخص المرحلة التي كانت فيها الشيوعية بروسيا هي السياسة والاقتصاد والتعليم والمجتمع والفن والأدب، بل حتى الزواج والعلاقات العاطفية والسجائر والخمور. لكن روسيا اليوم، تئن من عقوبات غربية متعاظمة وتطورات اقتصادية عالمية تختص بالدرجة الأولى بوضعية السوق النفطية. لم يستغرق أنين روسيا طويلا كي يظهر بوضوح وبصوت عال، الأمر الذي يطرح سؤالا عن طبيعة معايير الدولة العظمى. لقد أثبتت الأشهر القليلة الماضية، أن روسيا دولة عظمى فقط بما تملكه من سلاح (ولا سيما النووي)، وليست كذلك وفق أي معايير أخرى بما فيها المعايير السياسية. وأي قوة سياسية يتمتع بها هذا البلد حاليا، هي في الواقع آتية نتيجة ضعف السياسة الأمريكية على الساحة الدولية، وتشتت قوة السياسة الغربية بشكل عام نتيجة لهذا الضعف.
وما يقوم به فلاديمير بوتين منذ وصوله الثاني إلى حكم روسيا، ليس إلا "تشبيح" سياسي، وجد البيئة الملائمة عالميا له. وقع هذا الأخير في المصيدة، ليس من فرط قوة العقوبات الغربية التي تفرض عليها تباعا، بل من وهم وضعية الاقتصاد الروسي نفسه. كان الواهمون يعتقدون أن هذا الاقتصاد يمكنه أن يصمد طويلا أمام أي عقوبات، دون أن يطرحوا أي مبررات لهذا الاعتقاد. ولم يعرفوا، أن اقتصادا بمصدرين أو ثلاثة مصادر للدخل، ينكسر بفعل أول عاصفة تمر به، سواء كانت عاتية أو متواضعة. والذي يحب أن يلعب بالاستقرار العالمي وقلب الحقائق، عليه أن يمتلك أدوات فاعلة تكفل له اللعب المستدام، أو اللعب بأطول مدة ممكنة. أراد أن يحتل جزيرة القرم، ويحاصر أوكرانيا، لكن روسيا الآن وبعد أربعة أشهر فقط أصبحت محاصرة اقتصاديا، بل عسكريا أيضا.
كان رئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرشل يقول "إن روسيا لغز ملفوف بالغموض داخل أحجية". كان يراها غامضة، لكنها اليوم مفضوحة، تعرت ذاتيا دون أي عوامل خارجية. يريد بوتين أن يحقق "أمجادا" ما، لكنه سرعان ما وجد نفسه عاجزا حتى عن استعادة النسبة الدنيا من هيبة بلاده. تحول بفعل عقوبات الغرب والتطورات المتلاحقة في السوق النفطية، إلى أكثر من رئيس غرفة تجارة وأقل من وزير اقتصاد. صار مسؤولا مباشرا عن ملفات البنك المركزي والاستثمارات الداخلية، وعن لوائح شركات النفط الروسية. وربما بات يشرف على حركة أرصفة الموانئ التي تنطلق منها الشحنات النفطية إلى الخارج. وأكبر خطوة على مستوى رئيس دولة قام بها بعد العقوبات، أنه حاول (دون نجاح) ابتكار اتفاقات تجارية مع بلد كإيران يعاني الحصار والأنين الاقتصادي أيضا، والصين التي استفاقت "فجأة" على شبح تراجع النمو الاقتصادي فيها. ولا بأس باتفاقات ليست قابلة للتنفيذ الفوري مع الهند أو البرازيل وفنزويلا!
وسط هذا المشهد، تخسر العملة الروسية 65 في المائة من قيمتها، وتهرب أموال من البلاد وصلت في عام واحد إلى 100 مليار دولار، والبنك المركزي يستنزف نفسه بـ 110 مليارات دولار من الاحتياطي النقدي. وماذا أيضا؟ تراجعت عوائد روسيا النفطية بنسبة وصلت إلى 45 في المائة. هذه التطورات الدراماتيكية حدثت في الواقع قبل تغليظ العقوبات الغربية على موسكو. وعلينا أن نتخيل طبيعة المشهد نفسه في العام المقبل، بعد أن تكون هذه العقوبات قد فعلت فعلها بصورة أكبر وأشد وأعنف. حاول بوتين الحريص حتى في هذه المصيبة على إجراء الصيانة الدورية لوجهه "البوتكسي"، أن يغير شيئا ما من الصورة - المشهد، لكنه كان على موعد مؤكد مع الفشل. لم ينفع تسويقه لخفض الضرائب أو حتى إلغائها بالنسبة لبعض مصادر التمويل، في حين لم يقتنع أصحاب رؤوس الأموال بأنه قادر على الصمود وتغيير الأوضاع.
لقد أثبتت الأزمة الروسية الغربية، أن روسيا "نمر اقتصادي ورقي"، وأن "استراتيجية التشبيح" سلاح ذو حد واحد فقط ينال من "الشبيح"، وليس من الجهة المستهدفة بالتشبيح. كما أثبتت أن الاتفاقات المهزوزة مع دول هي نفسها تواجه أزمات، سرعان مع تتحول إلى فقاعات لا ينتبه إليها أحد. عندما اشتدت الأزمة الاقتصادية على روسيا، نشر بوتين أعوانه في الأرجاء للترويج بأن الغرب يريد تغيير النظام الحاكم في روسيا. وهذه في الواقع حجة كل الطغاة الذين عملوا ضد المجتمع الدولي، بل ضد شعوبهم. أراد رئيس روسيا أن يسوق الترويج الخارجي داخليا، تجنبا لتمرد داخلي قد يظهر بفعل تردي الأوضاع الاقتصادية. إن القوة الاقتصادية الوحيدة، التي يتمتع بها بوتين هي النفط والغاز، لكن هذه القوة باتت تشكل عبئا كبيرا عليه، في ظل تدني عوائدها. روسيا لم تكن دولة عظمى على الإطلاق، وفق المنظور الكلي للدولة العظمى، ربما هي دولة كبرى بحكم حجمها، لكنها ليست كذلك من ناحية عوائدها. لقد سمى سفاح ليبيا السابق معمر القذافي بلاده الجماهيرية العظمى، لكن "جماهيريته" انهارت في أيام.

 

حظوظ البلدان «المعطوبة»

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«الدول الثرية ترسل المساعدات للبلدان الفقيرة منذ أكثر من 60 عاماً. معظم هذه المساعدات فشلت».
إقبال قادر رجل أعمال وأكاديمي من بنجلادش

كتب: محمد كركوتـــي

لنلق نظرة على هذه النتيجة. معظم الدول الأكثر فقرا "الـ 48" لم تتمكن من تحقيق "أهداف الألفية" الإنمائية، على الرغم من تسجيلها نموا قويا! النتيجة توصلت إليها الأمم المتحدة أخيرا، والعالم يقترب من الموعد الحاسم لأهداف الألفية وهو عام 2015. والنتيجة مثيرة، ليس ببقاء حال هذه البلدان على ما هي عليها، بل إنها ستراوح مكانها، رغم أنها حققت نموا قويا بالفعل في السنوات الماضية. وهذا يعني أن هناك خللا فظيعا يشترك فيه كل الأطراف المحلية والدولية. فنحن نعرف أن النمو يحقق أهداف الازدهار، وفي أسوأ الأحوال بعض أهداف التنمية، الأمر الذي ينبغي أن يشكل قوة دافعة للحراك نحو تحقيق أهداف الألفية. لكن الواضح، أن حظوظ البلدان "المعطوبة"، ليست أفضل كثيرا من أقدار البلدان المنكوبة.
من أهم أهداف الألفية، خفض معدلات الفقر في البلدان التي تعانيه عقودا طويلة. ويتبع هذا، توفير التعليم الابتدائي لجميع الأطفال، ووقف انتشار الأوبئة والأمراض ولاسيما "الإيدز"، وحتى المواءمة بين التغير المناخي الخطير والحقائق الماثلة في هذه البلدان. إنها أهداف شاملة، تضع الإنسان في المقدمة، لكن آليات التنفيذ لا تتوافق مع المعطيات على الأرض. يضاف إلى ذلك، وجود ثغرات لم تسد في هيكلية المساعدات التي تقدمها الدول المانحة للبلدان الفقيرة، رغم أن العالم أجمع بات، منذ سنوات، يعرف حقائق هذه الثغرات ومكامن الضعف في المساعدات، بل والفوضى التي تعم بعضها. لقد أصبحت المساعدات في بعض الأحيان عبئا على البلدان المتلقية لها. ومع ذلك لم تتطور آلياتها بما يتطلبه الحال.
والمشكلة الكبرى هنا، لا ترتبط فقط بالمساعدات "الفالتة" أو غير المجدية بما يكفي، بل تشمل في الدرجة الأولى وقبل كل شيء تلك المعادلة الغريبة. هل يعقل أن تحقق البلدان الفقيرة حتى في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية نموا وصل في بعضها إلى 7 في المائة، بينما لا ينعكس هذا النمو على الحد من الفقر فيها؟! لا يمكن قراءة هذه المعادلة، إلا من خلال الفساد الذي يعم البلدان المذكورة، إضافة طبعا إلى المخططات المستقبلية التي لا تتلاءم مع المتطلبات المحلية والعالمية في آن واحد. كل هذه البلدان ظهرت في المراتب الدنيا من تقرير الشفافية الدولية الذي صدر أخيرا. والذي يزيد من مصداقية هذا التقرير، أن البلدان الأقل تقدما في القارة الآسيوية، حققت تقدما على صعيد محاربة الفقر، أكثر من البلدان الأقل تقدما في القارة الإفريقية. لقد وضع تقرير الشفافية البلدان الإفريقية في ذيل القائمة.
ومن المشكلات التي تواجه البلدان الفقيرة، أن الدول المانحة قللت من حجم مساهماتها في السنوات الماضية، بحجة واهية. بل إن بعض الدول أوقفت المساعدات كليا للحجة نفسها. فالمانحون الذين أوقفوا مساعداتهم يقولون، إنهم قاموا بذلك، لأن حكوماتهم وافقت على شطب ديون البلدان الفقيرة المستحقة لها! لكنّ المانحين لم يقولوا، إن هذه الديون لم تصل في الواقع إلى مستحقيها في العقود الماضية، بل إن بعضها استخدم ضد الشعوب نفسها. يضاف إلى ذلك، أنها لم تشر أيضا إلى مسألة أن حال المساعدات لم تكن أفضل كثيرا من وضعية الديون. فأغلب هذه الأموال كانت تذهب في الطرق الملتوية. صحيح أن أوضاع الدول المانحة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية ليست جيدة بما يكفي، لكن الصحيح أيضا أنها مشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تراجع قيمة استنفاع المستحقين لمساعداتها.
يقول الكاتب الأمريكي جميس بولدوين "أي إنسان عانى الفقر يعرف تماما حجم تكاليف هذا الفقر على الفقراء". لكن يبدو أن بعض البلدان المانحة نسيت المعاناة التي مرت بها في مرحلة الفقر. ولعل السبب في ذلك أن هذه المعاناة وقعت قبل قرون، وليس بالأمس. ومسؤولية البلدان الكبرى لا تقل أهمية عن مسؤولية البلدان الفقيرة المعنية بأهداف الألفية مباشرة. ولكي تحقق بالفعل أهداف الألفية، حتى بعد الوقت المحدد لها، فعليها أن تكون أكثر اندماجا بمشكلات ومصاعب البلدان الفقيرة، ليس فقط من خلال مساعدات مجدية، بل عن طريق استراتيجية تستند إلى رقابة مشددة لأموال الشعوب. وعليها أن تكون جزءا من إدارة الأموال الممنوحة، إلى جانب توفيرها المخططات المثلى لتحقيق الأهداف الموضوعة. سيمضي عام 2015 دون أن تتحقق أهداف الألفية كلها. وهذا لا يمثل كارثة. كم من المخططات والاستراتيجيات الدولية حتى في البلدان الراشدة تجاوزت مواعيدها المحددة؟ المهم أن تكون هناك استراتيجية تقوم على الشراكة بين البلدان الفقيرة وتلك القادرة على القيام بمهام المساعدة في تحقيق أهداف الألفية. وهذا أفضل ضامن لحقوق الشعوب الفقيرة المستهدفة، بل وحقوق شعوب الدول المانحة نفسها. وهي شعوب تريد أن ترى عائدا إنسانيا تنمويا ناجحا حقيقيا لما تقدمه.