الاثنين، 27 ديسمبر 2010

هل تشتري الصين أوروبا؟

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" إذا لم تُغير وجهتك، سوف تنتهي في الوجهة التي تسير نحوها"
ليو توز فيلسوف صيني

 
 
محمد كركوتـي
 
أحسب أنه لو كانت ألمانيا تُدار في القرن الحادي والعشرين بمبادئ وذهنية النازية، وسلوكياتها العنيفة، لقامت مستشارة البلاد أنجيلا ميركل، باحتلال كل دولة أوروبية، تطلب معونات مالية إنقاذية، لتفادي الانهيار الاقتصادي، بسبب الديون الحكومية التاريخية. فوفق المفهوم النازي، يكون الاحتلال "أرخص" من تقديم المساعدات، ويكون إلغاء الهويات الوطنية، أسهل من العمل الجماعي وصيانة الأمم، وتكون العنجهية الرخيصة، أوفر من التسامح الغالي والرفيع. لكن النازية، لم تعد في ألمانيا منهجاً، ولهذا السبب استبدلت ميركل ( تلك المرأة الآتية من شرق ألمانيا، أو ألمانيا الشرقية سابقاً) السلوك النازي، بتوجيه اللعنات والإهانات والذل.. مع الأموال، إلى الدول الأوروبية الغارقة في الديون، على اعتبار أن ألمانيا هي الممول الأكبر لصندوق الإنقاذ الأوروبي، الذي يشبه صندوق الإنقاذ الأميركي ( بعد الأزمة الاقتصادية العالمية) مع فارق وحيد، هو أن هذا الأخير موجه لإنقاذ المؤسسات والشركات والمصارف، بينما "الأوروبي" مخصص لإنقاذ الدول، ومعها حكوماتها الهشة، سياسياً وشعبياً.

في قلب هذا المشهد، يظهر بطل على الساحة، يمكن أن يقوم بدور ( أو يحتل دور) المنقذين الأوروبيين للأوروبيين، ولكن من دون إهانات ولا إذلال ولا تهديد ولا وعيد. بطل – في الواقع – يقوم بنفس الدور في الولايات المتحدة الأميركية. بطل يمكنه أن يسدد الديون ( ليس مجاناً بالطبع ) بأعلى درجة من المعايير الاقتصادية العالمية. إنه الصين، ذلك المارد القادم من الشرق باتجاه الغرب، والذي استطاع – حتى في عز الأزمة العالمية – من تحويل مجرى الاقتصاد العالمي، من الغرب إلى الشرق. تَمكن هذا المارد الاقتصادي والبشري الهائل، من تحويل الأستاذة التقليديين للاقتصاد العالمي، إلى مجرد تلاميذ في مدارسه!. لماذا؟ لأن الصين استطاعت احتواء الأزمة بسرعة، وحققت نمواً كبيراً بلغ 10 في المائة، حتى في ذروة الركود. لقد باتت السرعة التي يخرج بها اقتصاد ما في هذا العالم من مطبات الأزمة، مؤشراً واضحاً لمدى قوة هذا الاقتصاد، وقابليته على الاستدامة، ومرونته في أوقات المحن والمصاعب. وعلى العكس تماماً أصبح البطء في خروج اقتصاد آخر منها، علامة أكثر من واضحة، على أنه ليس ضعيفاً فحسب، بل يعاني "موروثات" اقتصادية، كانت حتى وقت قريب، جزءاً أساسياً من عظمته.

بصرف النظر عن الجهود التي تبذلها الدول الأوروبية الكبرى – وتحديداً ألمانيا – لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدول الأوروبية السابحة بالديون، فإن الصين تبرز على الساحة، كمنقذة محتملة لهذه الدول، ليس نظرياً بل عملياً. أما لماذا عملياً؟ فلأن للصين تجربة تاريخية مستمرة مع الولايات المتحدة، كأكبر دولة دائنة لها ( يقول الخبير الاقتصادي الأميركي توم وينيفريث: إن أميركا في الواقع مملوكة للصين)، ولأنها تمتلك احتياطي هائل من العملات ( بلغ 2684 مليار دولار أميركي في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي)، ولأن الإنقاذ الصيني يصب في مصلحة بكين نفسها. فالدفاع عن اليورو يخدمها، على اعتبار أن الاتحاد الأوروبي هو في الواقع شريك الصين التجاري الأول، وبذلك تضمن مواصلة شراء الأوروبيين للسلع والمنتجات الصينية، أو عدم اضطراب صادراتها إلى دول الاتحاد. ولأن الأمر في مصلحتها، فلا تخفي بكين توجهاتها في هذا الصدد، فقد أعلنت وزارة الخارجية الصينية رسمياً: " أن أوروبا ستكون في المستقبل سوقاً رئيسة لاستثمار احتياطينا من القطع، وأننا مستعدون لمساعدة دول منطقة اليورو على تجاوز الأزمة المالية، والنجاح في انتعاشها الاقتصادي". ولأن الأمر كذلك، أبدت الصين رغبة معلنة وقوية، في أن تساهم بصندوق النقد الدولي من أجل أوروبا.

إذن.. يمكن للصين أن "تشتري" أوروبا، بما تملك من احتياطيات مالية ضخمة، حتى وإن كانت هناك مخاطر. فالمخاطر الكبيرة تجلب عوائد كبيرة. وفي النهاية، فالضمانات الأوروبية هي من أجود الضمانات على الصعيد العالمي، وبالتالي فإن المخاطر – إن وجدت – لن تتحول إلى مصيبة للدائن. وقد وجد أستاذ الاقتصاد في جامعة "تسنغوا" الصينية باتريك شوفانيك، أن الدور الجديد الذي يلعبه الصينيون، يوفر لهم فائدة على الصعيد السياسي، كما أن هذا الدور يتفق مع خطط بكين للتنويع. ويقصد هنا أن الصينيين سيصبحون أقل ارتباطاً بالدولار الأميركي. وهذا صحيح إلى أبعد الحدود. فالتدخل الصيني في إنقاذ أوروبا من آثار ديونها، سيمنح بكين حصانة تسعى إليها، من الانتقادات الغربية ( بل والهجوم الغربي في بعض الأحيان)، الموجهة لها، على عدة أصعدة، في مقدمتها، حقوق الإنسان والحريات، وطبيعة ومفهوم اقتصاد السوق في الصين. فنحن نعرف – وخبرنا ذلك في أكثر من منطقة في العالم – بأن المعايير الأخلاقية والإنسانية، تنزوي أمام المصالح الاقتصادية. وإذا كانت الصين ستقوم بدور المنقذ لأوروبا، فلا مانع من الاعتراف الأوروبي المطلوب، بطبيعة الحراك الاقتصادي الصيني، ولا مانع أيضاً أن " تغضب" الولايات المتحدة قليلاً - أو حتى كثيراً – من هذا الاعتراف، مع الإشارة إلى أن الصين اشترت في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي سندات خزينة أميركية بقيمة 907 مليار دولار، رغم أن عائداتها ضعيفة. وليسمح لنا المسؤولون في المفوضية الأوروبية، أن نتجاهل تصريحاتهم، التي يمررون من خلالها " الأكليشيه" الممل، بأن التدخل المالي الصيني، لن يكون مقابل موضوعات أخرى قابلة للتفاوض.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تدخلت الولايات المتحدة بمشروعها الشهير "مشروع مارشال" لإعادة إعمار أوروبا، ومع هذا المشروع احتلت مكانة الإمبراطوريتين الكبريين البريطانية والفرنسية، وإن تقاسمت النفوذ على العالم مع " الإمبراطورية" السوفيتية آنذاك. وفي خضم الحرب على الأزمة الاقتصادية العالمية، احتلت الصين بهدوء مركز ألمانيا كثالث أكبر اقتصاد عالمي، وبعدها بقليل احتلت – بهدوء أشد – مركز اليابان كثاني أكبر اقتصاد. وحسب دراسة لمؤسسة " كونفرس بورد" الكندية، التي وصفتها صحيفة "الديلي تلجراف" البريطانية الرصينة، بأنها تحظى باحترام كبير، فإنه يمكن للصين أن تتخطى الولايات المتحدة خلال عامين فقط، لتحل محلها كأكبر قوة اقتصادية في العالم، ليس من ناحية القيمة الدولارية، بل من جهة القدرة الشرائية. ومضت الدراسة أبعد من ذلك، حين حددت العام 2020 ليشهد تفوق الناتج الإجمالي الصيني على الناتج الأميركي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار العوائد الضئيلة لشراء السندات (الديون)، أو المخاطر الناجمة عنها، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل حقيقة أن للصين دوافع سياسية وإستراتيجية على الساحتين الأوروبية والعالمية، أكثر منها دوافع مالية.

لنضع المفارقات جانباً، خصوصاً فيما يرتبط بتدخل دولة نامية لإنقاذ دول متقدمة من الإفلاس. فالصين تسير بقوة لتكريس نفسها كقطب اقتصادي يناطح الولايات المتحدة، ويجني الكثير من "الثمار" السياسية والإستراتيجية. قطب يُغير – حباً أو كرهاً – المفاهيم الاقتصادية العالمية، التي كان الغرب حتى وقت قريب، "يرجم" كل من يمسها. هذا القطب هو الذي سيكون "اقتطاعي" النظام الاقتصادي الجديد المتُشكل عنوة. سيكون " اقتطاعي"، بلا عنجهية أو تكبر، وبلا أحكام مسبقة. سيتعاطى من السوق كسوق، لا كمكان لـ "العبادة" الاقتصادية، أو كساحة لـ " كهنوت" اقتصادي مريب، كان يجرم المُستفسر عما يحدث، تماماً كما كان يجرم من يحاول الإصلاح!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق