الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

«فاتكا» يفتك فتكا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





“في هذا العالم لا شيء مؤكدا، إلا الموت والضرائب”
بنجامين فرانكلين كبير مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية
 
 
كتب: محمد كركوتـــي
 
وصل قانون الامتثال الضريبي الأمريكي (فاتكا) إلى شركات التأمين، بعد أن شمل في غضون أشهر المصارف والشركات والمؤسسات خارج نطاق الولايات المتحدة. (فاتكا) يفتك بلا رحمة، بأموال الأمريكيين في كل مكان. ليس مهما أن تكون بعيدا عن الأراضي الأمريكية، (فاتكا) سيصل إليك، بل سيتمكن من كل سنت في حسابك، إنها الضريبة التي تدفعها كونك أمريكيا سواء كنت في عقر دارك، أم في دور الآخرين. ولهذا السبب بالتحديد، ارتفع في الأشهر الماضية عدد الأمريكيين الباحثين عن جنسية أخرى، والأهم التخلص السريع من جنسيتهم الأمريكية. بصرف النظر عن الإجراءات التي تكفل ذلك، سواء عبر شراء الجنسية بالمال، أم الحصول عليها بالإقامة الطويلة، أو عن طريق الزواج، وغير ذلك. (فاتكا) بالنسبة لهؤلاء ليس إعصارا عابرا أو زوبعة آنية، بل مصيبة دائمة.
وإذا ما كان هناك إنجاز ما، مهم وراسخ لإدارة باراك أوباما منذ وصولها إلى السلطة، فهو تجاوب العالم معها في (فاتكا). وهو تجاوب يعود أساسا إلى خوف المؤسسات الأجنبية المعنية، من العقوبات التي قد تفرض عليها، إذا ما واصلت التمسك بسرية الحسابات المصرفية العائدة للأمريكيين. وهذه عقوبات قاصمة، تبدأ بحظر تعاملات الولايات المتحدة معها، ولا تنتهي بالغرامات الخرافية التي قد يفرضها القضاء الأمريكي عليها. ولذلك، فإن القطاعات التي استهدفها (فاتكا) وصلت إلى شركات التأمين. فالقانون يفرض على هذه الشركات تحقيق ما جاء في القانون، فيما يتعلق بالملكيات والأصول الخاصة بمواطنين أمريكيين فيها. ويتضمن القانون أيضا، ضرورة الكشف عن كيانات تجارية أجنبية في شركات التأمين، وأن الجهات المختصة التي تعمل فيها هذه الشركات، عليها واجب المساعدة في ذلك.
 
منذ أن صدر (فاتكا)، كان التركيز على المصارف الأجنبية التي تتلقى مداخيل الأمريكيين، على اعتبار أنها النقطة الأخيرة التي تصب فيها هذه المداخيل. إلا أن هذا القانون لن يتوقف عند حدود معينة، وهو قابل للتطوير والتعديل في أية لحظة، الأمر الذي يترك الباب مفتوحا لاستهداف حتى الشركات المتوسطة والصغيرة مستقبلا. وحتى الشركات التي لا ترتبط بمصالح مباشرة أو غير مباشرة مع الولايات المتحدة، فإنها ستخضع في النهاية إلى اللوائح الحكومية المحلية، المنبثقة عن اتفاقات بهذا الشأن مع السلطات الأمريكية. أي أن الكماشة تحوط كل الجهات. ويلزم القانون المصارف الأجنبية، إضافة إلى المؤسسات المالية الأخرى مثل شركات الضمان وصناديق الائتمان ومؤسسات الصرافة وصناديق الاستثمار، بالتصريح عن أي عملاء لهم علاقة بالولايات المتحدة ويخضعون للضرائب الأمريكية وتزيد أرصدة حساباتهم على 50 ألف دولار للأفراد و250 ألف دولار للشركات. وحين يكون الحد الأدنى للأرصدة بهذا المستوى، علينا أن نتخيل عدد الأمريكيين الذين ينطبق عليهم (فاتكا).
ليس هناك مجال للسرية المصرفية بعد الآن. ليس فقط وفق معايير (فاتكا)، بل أيضا من اللوائح التي تستهدف بنسبة لا بأس بها من الأموال غير المشروعة، فضلا عن العقوبات على العمليات التي تقوم بها المصارف وتضع أموال المودعين في مكامن الخطر. وهذه قضية كلفت لوحدها عشرات المصارف غرامات خيالية وصلت إلى أكثر من 17 مليار دولار في حالة “بنك أوف أمريكا”، وغرامة ليست أقل ضد “مورجان ستانلي”، وعدد متعاظم من المصارف الأخرى. لكن لقانون (فاتكا) تبعات وطنية مختلفة، لأنه يستهدف المواطنين الأمريكيين فقط. الأمر الذي عزز لدى شرائح من أولئك الذين يعملون في الخارج، مشاعر التخارج من الجنسية. وليس مهما هنا، إقدام السلطات الأمريكية على رفع رسوم التخلص من الجنسية. فالذي يريد أن يحمي عشرات الآلاف، لا ينظر إلى رسوم لا تزيد على خمسة آلاف.
الجانب الأهم في (فاتكا)، أنه “متوالد” الطروحات. وعلى الشركات والمؤسسات غير الأمريكية في الخارج، أن تستعد لهذه الطروحات. بالأمس كانت المصارف واليوم جاء دور شركات التأمين، وبعد ذلك ربما “بقالة” يستثمرها أمريكي في إحدى القرى الأوروبية أو في أي قارة كانت. لقد وقعت أغلب شركات التأمين في العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط على اتفاقية (فاتكا) بمجرد طرحها من قبل واشنطن. وهذه الشركات اختصرت الطريق، واتبعت أسلوب التعاون بدلا من طرق التحايل. فحتى مساحات التحايل باتت ضيقة للغاية، ومخاطر العقوبات باتت أوسع مما كانت عليه في السابق. بعض المصارف حاول التمسك بمبادئ السرية المصرفية. ما حصل، أنها تلقت تهديدات معلنة من الولايات المتحدة، بأن أمر السرية لا معنى له، وأن عليها الامتثال للقوانين.
(فاتكا) سيواصل الفتك بالأرصدة الأمريكية أينما وجدت، والجنسية الأمريكية التي كانت عند البعض ميزة مهمة، باتت عبئا كبيرا، بل خطيرا على الثروات، حتى على المداخيل الشهرية للموظف الأمريكي. إن العالم يعيش عصر (فاتكا) الآن. والقانون الأمريكي، بات مغريا لعديد من حكومات العالم، ولاسيما تلك التي في القارة الأوروبية. فإذا نجح (فاتكا) الأمريكي بصورة مذهلة، لماذا لا ينجح (فاتكا) الأوروبي أو الآسيوي أو الإفريقي أو حتى العربي؟

الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

الذي ينقص استقلال إنجلترا عن المملكة المتحدة

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")







"أسرة يحكمها الفرد الخطأ فيها، شبيهة بوضعية إنجلترا".
جورج أورويل - أديب وكاتب بريطاني




كتب: محمد كركوتـــي

قبل أيام من الاستفتاء التاريخي حول استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، الذي أدى إلى رفض الاستقلال، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون "لا أريد أن أكون رئيساً لوزراء إنجلترا، أريد أن أظل رئيسا لوزراء المملكة المتحدة كلها". وقبله بسنوات، وجه ديكتاتور زمبابوي روبرت موجابي خطابا لرئيس وزراء بريطانيا آنذاك توني بلير قال فيه: "حسنا بلير، احتفظ بإنجلترا، ودعني أحتفظ بزمبابوي". نجت المملكة، ونجا معها كاميرون، بل الأحزاب الرئيسة التي اتحدت جميعها في مقاومة شرسة ضد الانفصاليين الاسكتلنديين، الذين تقدمهم الاتحاديون في الاستفتاء بـ 10 في المائة فقط، وهي نسبة ليست قليلة، فيما لو كان الإقبال على الاستفتاء منخفضا، إلا أنه كان مرتفعا بصورة تاريخية حقا. وصل إلى 86 في المائة. وفي النهاية هذا الأمر ليس مهما وفق حسابات اتُفق عليها، على مبدأ النصف زائد واحد.
الخاسرون في الاستفتاء، لم يخسروا بصورة ماحقة كاسحة. حصلوا في الواقع على تعهدات حتى قبل الاستفتاء بمزيد من السلطات تنقل من الحكومة المركزية في لندن، إلى الحكومة المحلية في إدنبرة. وبصيغة أخرى، مزيد من الصلاحيات لبرلمان اسكتلندا. هذه التعهدات حولت في الحقيقة نتيجة الاستفتاء الحاسمة، إلى بداية وليس نهاية. بداية لسلسلة من الجدل والمناقشات حول طبيعة الصلاحيات الموعودة وزمنها وطريقة نقلها، لكن البداية الأخطر جاءت من إنجلترا نفسها، من أولئك الذين بدأوا يشعرون أنهم مواطنون يقتربون من الدرجة الثانية قادمين من الأولى، وفق التشريعات التي اعتُمدت في منح أقاليم المملكة الأخرى (ويلز، واسكتلندا، وإيرلندا الشمالية) الصلاحيات تلو الأخرى. وهي أقاليم تشكل مع إنجلترا المملكة المتحدة، وليس بريطانيا "العظمى" التي لا تشمل إيرلندا.
كما على الجانب الاسكتلندي في الشمال قوميون، على الجهة الإنجليزية يوجد مقابلون لهم. وهؤلاء يطرحون نقطة خطيرة تتمثل في أنه لا يجوز أن تكون لنواب اسكتلندا أصوات في مجلس العموم في لندن، بينما يتمتعون بأصوات مستقلة في برلمانهم في إدنبرة. كيف يمكن أن تكون لهم قوة التشريع في منطقتين ضمن المملكة المتحدة؟ المتشددون الإنجليز بدأوا يطالبون علانية بإنشاء برلمان إنجليزي، ليس بالضرورة أن يكون مقره في العاصمة، بل في أي مدينة أخرى في إنجلترا. إنها وصفة بطيئة لأولئك الذين يتحينون الفرصة للإعلان عن رغبتهم في انفصال مَنْ؟ إنجلترا! عمن؟ عن المملكة المتحدة! هذا الطرح ليس سوى فانتازيا قومية (غير وطنية اتحادية)، لكن التاريخ شهد "فانتازيات" كثيرة غدت حقائق، بعضها أنتج خراباً، وبعضها الآخر أحدث اضطرابا شبه مستدام.
الاستفتاء الذي حسم موضوع استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، أحدث زلزالا دستوريا، ليس محصورا فقط بوعود لندن لإدنبرة بمزيد من السلطات، بل أيضا بصلاحيات يطلبها الويلزيون والإيرلنديون والإنجليز أنفسهم. هذا الزلزال وصلت تردداته إلى مناطق شتى في العالم، بدءاً من الجار الأوروبي (في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وقبرص وغيرها) وليس انتهاء بالكردي السوري أو العراقي. كثير من القوميين الاسكتلنديين ظهروا على الملأ ليؤكدوا أنهم يرغبون في الانفصال ويسعون إليه، ليس لأسباب قومية، وإنما لأسباب سياسية واقتصادية، إلا أنهم لا يقولون الحقيقة في ذلك. فعلى الجانب السياسي يحصلون على المزيد من الصلاحيات والسلطات، بل إنهم تلقوا وعوداً رسمية معلنة بزيادتها. واقتصادياً، تثبت كل المعطيات أنهم لن ينعموا بالرخاء الذي يحلمون به. فالاستقلال لا يوفر حلولا للمشاكل أو المصاعب الاقتصادية.
كل تحرك في هذا المجال يأتي بدافع قومي. فهذا الأخير ما زال يدغدغ المشاعر في كل مكان، حتى الإنجليز الذين يفترض أنهم الطرف الأقوى في الاتحاد، باتوا ينظرون للأمر من ناحية قومية بحتة. ولديهم الكثير من المبررات. صحيح أنها ليست مقبولة في الوقت الراهن من الأحزاب السياسية الرئيسة، ولكن لننظر فقط إلى ارتفاع شعبية القوميين الإنجليز في السنوات الأخيرة، وكذلك الأمر بالنسبة للفرنسيين والكاتالونيين في إسبانيا وغيرهما. القوميون الذين لا يزالون يخشون الاعتراف الصريح بهذه الحقيقة، لأسباب تتعلق بتجنب اتهامهم بعدم الوطنية، سيتخلصون من خشيتهم هذه لاحقا. ولا شك في أن الأداة الوحيدة للإبقاء على وحشية القومية خامدة، أن تتعزز اللامركزية، ليس في أقاليم بريطانيا، بل حتى في مدن الأقاليم نفسها.
لقد صرخ الاسكتلندي جوردون براون رئيس وزراء المملكة المتحدة السابق في وجه السياسيين طالبا منهم (بعد الاستفتاء) الإيفاء بوعودهم وزيادة مستوى وحجم السلطات لبرلمان وحكومة اسكتلندا. فهو المؤيد الصلب للاتحاد لا للانفصال يعرف أكثر من غيره، أن المشاعر القومية جاهزة للتأجج في كل الأوقات. وإن الذين رفضوا الانفصال اليوم، قد ينضمون إلى معسكر الإنفصاليين لاحقا. دون أن ننسى أن اسكتلندا منحت لأول مرة في التاريخ المراهقين، اعتبارا من سن السادسة عشرة حق التصويت. إن أهم ما يحمي المملكة المتحدة حاليا، ليس استفتاءات (بصرف النظر عن نتائجها) بل وطنية عادلة، ولا مركزية أكثر عدلا.

الاستقلال والاتحاد في «مهب» الخميس

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"اسكتلندا والاسكتلنديون جعلوا من بريطانيا ناجحة. بالنسبة لي لا مجال للسؤال حول جدوى استقلال اسكتلندا".
ديفيد كاميرون - رئيس وزراء بريطانيا


كتب: محمد كركوتـــي

بعد غد (الخميس)، سيدخل ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا التاريخ، إما كمدمر لجسم وكيان المملكة المتحدة، أو كـ "مقاتل" سياسي شرس تمكن من الحفاظ على ما تبقى من كيان الإمبراطورية البريطانية ككل، بصرف النظر عما سيحققه الاستقلاليون نفسيا من آثار سلبية، حتى لو خسروا التصويت التاريخي على استقلال الإقليم الذي ظل متحدا منذ 307 سنوات. بعد يومين، قد تخسر بريطانيا ثلث مساحتها، وأكثر من 8 في المائة من عدد سكانها، وقد يخسر الجنيه الاسترليني ما بين 10 و15 في المائة من قيمته، وسيتم تطبيق نظام الجمارك لاحقا على ما يزيد على 280 مليار استرليني هي عبارة عن منتجات اسكتلندية لإنجلترا وويلز. بعد يومين، سيعرف البريطانيون بكل انتماءاتهم، إذا ما كانت وحدة الكلمة بين الأحزاب البريطانية أنقذت الوحدة، أم لم يكن لها معنى.
هناك الكثير من التحولات والمتغيرات والمفارقات ستتحدد بعد يومين في اسكتلندا أو من خلالها. فقضية الاستقلال عن المملكة المتحدة ليست جديدة، ولكن الجديد أن مشاعر القومية الاسكتلندية وصلت إلى أعلى مستوى لها في السنوات الماضية، وأثبتت أن هناك دائما، من يرى أن "مضار" الاتحاد أكبر من منافعه، وأن أي تحرك سياسي "حتى لو كان لا يستهدف الانفصاليين من جانب الحكومة المركزية في لندن"، هو في الواقع تحرك مهين للاستقلاليين. إن الانفصاليين لا يستعيدون ذكريات الأمس، بل يضعون أمامهم الآن ذكريات ما قبل الأمس، ذكريات حملت إليهم المشاعر القومية العنيفة قبل مئات السنين. لا يهم بالنسبة للانفصاليين، الاضطراب والارتباك وعدم اليقين الذي سيلي الانفصال فيما لو تم. المهم الانفصال، وبعد ذلك تفاصيل يمكن تحملها أو السيطرة عليها. مهلا، مهلا.. لا يهم بالنسبة لهم، حتى تلميحات الاتحاد الأوروبي، بأنه ليس من السهل على اسكتلندا الانضمام إلى هذا الاتحاد.
يوم الخميس المقبل، سيعرف العالم مدى أهمية وقدرة التاج البريطاني، في الحفاظ على وحدة عمرها أكثر من ثلاثة قرون. وهل تمكن هذا التاج من المواءمة بين الوطنية والقومية، أو في أفضل الأحوال، هل استطاع حقا، أن يقلل من نسبة القوميين الاسكتلنديين والإنجليز. سيعرف العالم في غضون الساعات المقبلة، ما إذا كانت اسكتلندا ستمضي ضمن المملكة المتحدة، قرنا آخر أو أكثر، بل ما إذا كانت إنجلترا نفسها تفضل بقاء المملكة بعد عقود من الآن. الأوقات تتغير، والمشاعر القومية الإنجليزية ليست أقل حدة من الاسكتلندية، لكن الفارق أن الأخيرة أعلى صوتا من فرط الشعور بفوقية الأولى. وهذه ليست مشاعر الوحدويين، ويكفي هؤلاء أن الأحزاب البريطانية المختلفة "باستثناء الحزب القومي الاسكتلندي وبعض السياسيين القليلين المعروفين بنزعتهم الطائفية" اتحدت سياسيا من أجل دعم حملة "البقاء معا أفضل".
يوم الخميس المقبل، سيكون لكل صوت أهمية. فالقضية هنا لا ترتبط بحزب سيحكم ثم يخسر لاحقا ليعود إلى صفوف المعارضة. بل تتعلق بمصير وهوية دولة كبرى، و"دولة" أصغر ضمنها. أليكس سالموند رئيس الحكومة المحلية في اسكتلندا وزعيم معسكر الانفصاليين، إنه ببساطة في نظر هؤلاء "وليام ووليس" الذي خاض حرب الاستقلال ضد إنجلترا في القرن الثاني عشر، ولكن الفارق أن سالموند لا يقطع الرؤوس ولا يعلقها على بوابات المدن. إنه يسعى لقطع صلة، ليست مقتصرة على الجغرافيا، بل على المجتمع والاقتصاد، وأوروبا، وبقية أقاليم المملكة المتحدة. إنها عملية قد تكون معقدة إجرائيا ولكنها ليست كذلك عند أولئك الذين ينظرون إلى اسكتلندا بلدا مستقلا، يمتلك مقومات الدولة، ليس فقط اقتصاديا بل تاريخيا وجغرافيا وما يرتبط بهما.
قد تصبح بريطانيا "العظمى" في خلال الساعات المقبلة، صغرى أكثر وأكثر ضمن سياق "التقلص" الذي أصاب هذه الإمبراطورية قبل عشرات السنين. وربما أشعل الاستقلال المحتمل لاسكتلندا المشاعر المتأججة دوما عند أقرانهم الإيرلنديين. لكن مهلا، هنا الأمر سيكون مختلفا بعض الشيء. الذي يحرك الإيرلنديين ليس عوامل قومية فقط، بل دينية طائفية بحتة، أنتجت واحدة من أسوأ وأبشع مراحل الصراع بين الطرفين. المهم الآن، أن اسكتلندا في حالة الاستقلال، ستكون مسيطرة على 10 في المائة من الناتج المحلي للمملكة المتحدة البالغ 2.5 تريليون دولار. والانفصاليون يتوقعون أن يرتفع دخل الفرد 15 في المائة في غضون خمس سنوات بعد الاستقلال. كما أن الإقليم لن يكون ملزما بدين يصل إلى 200 مليار دولار من نصيبها في الدين البريطاني العام.
المستقبل في نظر هؤلاء وردي، جميل ينساب ضمن المشاعر القومية الهائمة في كثير من الأحلام وبعض الواقع. الأمور لن تجري بسهولة وانسياب كما يتوقعون. فحتى الأوروبيون حذروا الاستقلاليين من أن خطوتهم لا تضمن لهم عضوية أوتوماتيكية في الاتحاد الأوروبي. دون أن ننسى، أن بإمكان أولئك الذين قاتلوا من أجل بقاء الاتحاد، "التنغيص" اللا محدود على اسكتلندا المستقلة. إنها عملية تاريخية بكل معنى الكلمة، سيشهد العالم مشهدها الحاسم الخميس المقبل.

ضرائب مقابل الجنسية

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



 
«أن تحب بلداً واحداً شيء رائع. لكن لماذا يقف حبك عند حدوده؟»
بابلو كاسالاس - موسيقي إسباني شهير



كتب: محمد كركوتـــي

لا أعرف طبيعة مشاعر أولئك الذين يتخلون عن جنسياتهم طواعية. فهي في النهاية تتبع أوطانا لا حكومات. وأياً كانت الأسباب، أحسب أن قراراً كهذا ليس سهلاً على من يتخذه. ولا شك في أن تخلصهم من أوراق الجنسية وروابطها، لا يزيل عندهم المشاعر العاطفية الصادقة تجاه أوطانهم. والأمر يبقى أسهل عندما تتعدد الخيارات أمام الراغب في التحول عن جنسيته. وهو ليس كذلك بالنسبة لمن لا يكون له خيار آخر. وفي كل الأحوال، إنها مسألة معقدة، تنساب في سياقها عوامل كثيرة، بعضها عاطفي وبعضها الآخر مادي، وشيء من الجغرافيا، وشيء آخر من الضرورات. وإذا ما كان الجانب المادي الأقوى، فإن الأمر يبدو أسهل على أولئك الذين أرادوا العيش بجنسيات أخرى غير تلك الأصلية التي حملوها منذ الولادة، أو اكتسبوها لاحقاً.
لم يسبق أن شهدت الولايات المتحدة هجوماً شرساً على مواطنيها المتهربين من الضرائب. فإدارة باراك أوباما أعلنت الحرب فعلاً على هؤلاء، على الساحتين المحلية والخارجية. وهي ماضية حتى النهاية للحصول على آخر دولار ممكن من أي أمريكي على وجه الأرض، يحصل على دخل مالي يستوجب الضريبة. الحرب، شملت كل المصارف الأجنبية في المرحلة الراهنة، في وقت يبحث فيه المشرعون الأمريكيون أفكاراً لملاحقة مواطنيهم حتى خارج المصارف، أي عبر أماكن عملهم. ورغم صعوبة ذلك، فإن التشريعات يمكن أن تظهر على السطح في مرحلة لاحقة، ويمكن أن تلقى قبولاً من المؤسسات المستهدفة نفسها. فالمصارف رضخت (بعد مقاومة شديدة) لمشيئة المشرعين الأمريكيين، وفتحت ملفاتها السرية أمامهم، خوفاً من عقوبات وغرامات لا تقوى عليها.
أن تكون أمريكياً وتعمل في الخارج، عليك أن تدفع الضرائب، حتى لو كنت لا تستفيد من الخدمات التي توفرها بلادك. فمجرد الانتماء يستوجب الضريبة. كان الأمريكيون العاملون في الخارج يجدون في المصارف الأجنبية ملاذاً آمناً لثرواتهم، بصرف النظر عن حجمها. لكن البنوك المركزية في غالبية بلدان العالم، وافقت على طلبات الإدارة الأمريكية، بفرض قوانين على المصارف بفتح ملفاتها وجداولها لواشنطن. في أوروبا في أمريكا اللاتينية في الخليج العربي، في غالبية المناطق حول العالم، باتت نسخة من حساب الأمريكي في حوزة مصلحة الضرائب الأمريكية، وعليه أن يدفع الضريبة، وغالبية هؤلاء الأمريكيين يتمتعون بمداخيل مرتفعة في الخارج. وبعيداً عن تفاصيل الإجراءات، فإن أي أمريكي يحصل على دخل سنوي يصل إلى 50 ألف دولار خارج البلاد، عليه أن يدفع الضرائب، حتى لو كان يعمل في كوكب آخر.
لا مجال للفرار من هذه الاستحقاقات الشرسة، سوى بالتخلي عن الجنسية الأمريكية. غير أن هذا الأمر ليس سهلاً، لأن من يرغب في ذلك، عليه أن يكون ضامناً لنفسه جنسية بلد آخر. وقد نشط في الآونة الأخيرة حراك ما يمكن تسميته "بيع الجنسيات". فنظام منح الإقامات الذي اتبعته بعض الدول (بما في ذلك عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي)، لا يعفي الأمريكي من الضريبة. كما أن الحصول على إقامة دائمة يتطلب إدخال أموال تراوح بين 250 ألف ومليون دولار. ولا حل أمام الراغب في الهرب من الضريبة سوى الحصول على جنسية أخرى، وهذه الأخيرة ليست عالية التكلفة، كما قد يظن البعض للوهلة الأولى. هناك بلدان تمنحها بعدة آلاف من الدولارات فقط. 
السلطات الأمريكية أسرعت لسن قانون جديد يرفع رسوم التخلي عن الجنسية بمعدل خمسة أضعاف عما كانت عليه في السابق. من 450 إلى 2350 دولاراً. وهو في النهاية مبلغ مالي بسيط بالنسبة لمن يخطط للهروب من ضرائب بلاده. وبحسب السجلات الأمريكية، فقد ارتفع عدد الذين تقدموا بطلبات للتخلي عن جنسياتهم بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة، وهو مرشح للارتفاع في المرحلة المقبلة. فحماية الثروات الشخصية، أهم بالنسبة لهؤلاء من انتماء وطني رسمي. وهم يعتبرون أنفسهم وطنيين، وغير متهربين من الضرائب، طالما أنهم يعيشون ويجنون أموالهم في الخارج. وهذه نقطة قابلة للجدل. لأن الوطنية أيضاً، أن تكون مساهماً في دعم الموازنة العامة لبلادك. فالمسألة لا تتعلق فقط بالضرائب مقابل خدمات تحصل عليها، بل تشمل أيضاً خدمات تقدم لشرائح أخرى مستحقة من مواطنيك.
لقد ساهمت "حرب أوباما" على صعيد الضرائب ببعض النتائج السلبية. في مقدمتها حرمان البلاد من أموال أولئك الأمريكيين الأفراد، بعد أن اعتمدت شركات عديدة من المستويين الكبير والمتوسط، أسلوباً خطيراً للهروب من ضرائب أوباما. لقد قامت هذه الشركات بالاندماج بمؤسسات أجنبية، وجعلت مداخيلها خارجية مرتبطة بمؤسسات غير أمريكية. إنها عملية احتيال واضحة لكل الأطراف، ولكن أحداً لا يستطيع إيقافها. وإذا كانت مثل هذه العمليات تجارية منفعية بحتة، فإن الأمر ليس كذلك تماماً في حالة الأفراد. فخطوات هؤلاء بالتخلي عن جنسياتهم لها شقها العاطفي المباشر، وهي تؤثر بصورة أو بأخرى في حياتهم الأسرية، وفي مرحلة لاحقة، تؤثر في مشاعر الانتماء عند أطفالهم.

لو قررتم الانفصال .. اتركوا الاسترليني

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"أنا وليام ووليس، هيا انتشروا، عودوا إلى إنجلترا، وأبلغوهم هناك، أن اسكتلندا باتت حرة".
وليام ووليس - قائد حرب الاستقلال الاسكتلندي


كتب: محمد كركوتـــي

هذا الشهر يحمل للمملكة المتحدة تحولا تاريخيا قد يحدث وقد لا يحدث. ولكنه في النهاية يهز هيكلية هذه المملكة التي كانت يوماً أعظم الممالك وأقواها. هذا التحول سيندرج في التاريخ بصرف النظر عن نتائجه. وهي نتائج ستكون إيجابية لفريق وسلبية لآخر. في الثامن عشر من هذا الشهر، سيصوت سكان مقاطعة اسكتلندا، إما لبقاء المقاطعة ضمن جسم المملكة المتحدة، أو الانفصال عنها، بعد أكثر من ثلاثة قرون على معاهدة الاتحاد التي ضمت مملكة إنجلترا (التي تشمل ويلز) في اسكتلندا في العام 1707. وقتها، صادق برلمانا إنجلترا واسكتلندا على هذه المعاهدة، لتقوم مملكة بريطانيا العظمى، التي أضحت لاحقاً المملكة المتحدة بضم أيرلندا الشمالية إليها.
وعلى الرغم من أن اسكتلندا حصلت في العقدين الماضيين على مزيد من الاستقلالية في صنع القرار المحلي، بما في ذلك إنشاء حكومة محلية فيها، إلا أن التيار الانفصالي الذي يقوده أليكس سالموند حصل على دفعة لافتة، إن لم تكن قوية، للمضي قدماً باتجاه الانفصال الكلي عن المملكة. فالمشاعر القومية تبقى محركاً فاعلاً في هذه المقاطعة الشمالية، تماماً مثلما هو الحال في أيرلندا الشمالية، التي خاضت حرباً دائماً على مدى قرن من الزمن مع إنجلترا من أجل الاستقلال، أو بالأحرى من أجل الاتحاد مع جمهورية أيرلندا. والأمر ليس بهذه القوة على صعيد مقاطعة ويلز، التي أثبتت على مر القرون، أن قوميتها ليست متطرفة حيال إنجلترا، ربما لأن التداخل بين المقاطعتين ظل أكبر منه بين اسكتلندا وأيرلندا الشمالية.
لكن ليس كل الاسكتلنديين يؤيدون الانفصال، الذين يؤدون البقاء يعتقدون أن ما حصلت عليها إدنبرة من استقلالية سياسية، يكفي لإرضاء المشاعر القومية. وأكثر من ذلك يكون الأمر صعباً بل ومرفوضاً. الحكومة المركزية في لندن، لم تتوقف عن التحرك من أجل توجيه الاستفتاء المنتظر نحو البقاء، وهي تعدد المغريات الكثيرة، لاسيما الاقتصادية منها. الوظائف، الجنيه الاسترليني، الدفاع، الاستفادة من مؤثرات وجود بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي، كلها مزايا تسوقها حكومة ديفيد كاميرون، وتمد بها حملة "البقاء معاً أفضل" التي يقودها وزير المالية البريطاني - الاسكتلندي السابق ألستر دارلينج. الانفصاليون يؤكدون، أن الانفصال أفضل، ليس فقط لوجود النفط في المناطق البحرية الاسكتلندية، بل أيضاً لأن اسكتلندا المنفصلة تستطيع أن تلعب دورها على الساحة الأوروبية، حتى في ظل إشارات من الاتحاد الأوروبي بجدوى البقاء لا الانفصال.
ومع أن أحداً لا يستطيع أن يجزم في أي الاتجاهين سيذهب الاستفتاء، فالتنازع بين الطرفين بدأ على الممتلكات بين لندن وإدنبرة. العاصمة البريطانية تصرخ، بأن الجنيه الاسترليني لن يكون عملة اسكتلندا المستقلة، في محاولة أخرى للضغط على الناخبين، بينما يرد رئيس الوزراء الاسكتلندي سالموند، بأنه يرغب ببقاء الاسترليني عملة لـ "اسكتلندا المستقلة"، ولكن إذا فشل في ذلك، فلا خوف. لأنه يعتقد، أنه بإمكان بلاده تولي سياستها الاقتصادية والمالية بنفسها. ومع تزايد نشاط الانفصاليين دعائياً قبل أيام من موعد الاستفتاء، بدأ المناوئون يرددون "تريدون الانفصال؟ انفصلوا واتركوا الجنيه الاسترليني". والحق أن العملة البريطانية تمثل حالة رمزية عميقة، مثلما تمثل حالة اقتصادية مالية محورية. وتبقى بالنسبة لأولئك الذين يريدون أن يبقى التاج البريطاني على رأس اسكتلندا، وسيلة ضغط أو مناكفة أو عقابا.
ورابط الجنيه يتعلق بصورة أهم وهي مسألة الديون. فقد تعهدت وزارة المالية البريطانية بضمان قروض التاج البريطاني، والحصول من اسكتلندا "المستقلة" على حصتها في مدة يتفق عليها لاحقاً. غير أن عدم وجود وحدة نقدية، دفع القوميين الاسكتلنديين للتهديد بعدم تسديد حصتهم من هذه الديون. دون أن ننسى، أن عوائد النفط الاسكتلندي ليست كبيرة بما يكفي، لتوفير الموارد اللازمة لسد الدين العام. ورغم أن إجمالي الناتج المحلي لاسكتلندا، يماثل بصورة أو بأخرى مستويات دول مثل فنلندا وجمهورية أيرلندا واليونان، إلا أن الروابط التاريخية الاقتصادية والمالية التي تجمع لندن وإدنبرة، تجعل الأمور أكثر صعوبة على صعيد الاستقلال الاقتصادي التام. إنها مسألة معقدة، وتحمل مخاطر عديدة. فحتى الأوروبيون، سربوا أنه ليس من الضروري أن تمتع اسكتلندا المستقلة بعضوية سهلة في الاتحاد الأوروبي.
الانفصاليون يعون بالفعل المخاطر الناجمة عن التنازع المالي مع لندن، ولهذا السبب اقترحوا ما يمكن أن يعتبر نوعاً من الوحدة النقدية مع المقاطعات المتبقية تحت التاج البريطاني، بإشراف بنك إنجلترا المركزي، وتحديداً على صيغة مشابهة للبنك المركزي الأوروبي. غير أن هذا لم يلق قبولاً (ولو نظرياً) من جانب الاتحاديين، الذين يصرون على أن يبقى الجنيه الاسترليني خارج جيوب الانفصاليين، كنوع من العقاب، إذا ما نجحوا فعلاً في الاستفتاء التاريخي هذا الشهر. لقد ضمن ديفيد كاميرون مكاناً بارزاً في التاريخ البريطاني، سواء انتصر الانفصاليون أم هزموا. وشكل البروز هنا يحدده البريق أو الظلام.

عندما تكون صناعة الدواء بلا أخلاق

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





«لا تقلل أبداً من تأثير المال الذي يذهب رأساً على شكل رشوة»
كلود كوكبورن - صحافي ومؤلف أيرلندي


كتب: محمد كركوتـــي

يبدو أن لا شيء في السوق محميا من الرشوة والاحتيال والفساد والتهريب والسمسرة السوداء. ها هي شركات الأدوية المعروفة وغير المعروفة، تدخل منذ سنوات في بؤرة الفساد والاحتيال، بحيث أصبحت أخبار التجاوزات فيها أكثر من أنباء الاكتشافات الدوائية الجديدة. وبدلاً من قيام هذه الشركات بين الفترة والأخرى، بطرح منتج دوائي حقيقي رخيص، يقوم ممثلوها في عدد كبير من البلدان، بعقد الصفقات المريبة، التي تستند في الدرجة الأولى، إلى تمرير ما أمكن من المنتجات الدوائية ضمن الأنظمة الطبية والصيدلانية، بصرف النظر عن الاحتياج لها. وهي عمليات احتيال تنال من المنافسة الشريفة التي تضمن في النهاية حقوق المنتج والمستهلك. والمروع أن شركات أدوية شهيرة حتى عند العامة، دخلت في نطاق السوق السوداء المتجددة. بصرف النظر عن مواقفها المعلنة المستنكرة لما يحدث.
والاستنكار لا يعفي هذه الشركات من المسؤولية عن تجاوز ممثليها في البلدان المستهدفة للأنظمة التجارية والطبية الشرعية، بل إن هناك عشرات الأسئلة تتعلق بمدى اطلاع مجالس إدارة شركات الدواء على عمليات الاحتيال والرشوة التي تجري في هذا البلد أو ذاك. بعض المعلومات تفيد بأن قرارات تتخذ على مستوى مجالس الإدارة، تدعم عمليات الرشوة لتسويق المنتجات. ولهذا السبب خضعت (ولا تزال) عديد من الشركات للتحقيقات من قبل السلطات في بلدانها (وكلها بلدان غربية)، بينما وجدت بعض الشركات أنه من الضروري التوصل إلى تسويات مع السلطات المشار إليها، وحصر القضايا ضمن تفاهم يحل عبر غرامات مالية، على طريقة المصارف الملوثة التي فضلت دفع الغرامات الهائلة بدلاً من ساحة القضاء.
وفي السنوات الماضية، خضعت شركات منتجة للدواء للتحقيقات السرية. من بينها "ميرك"، و"باكستر"، و"بريستول – مايرز سكويب"، و"إلي ليلي"، و"أسترازنيكا"، و"سميث آندنيفيو". وكلها أسماء رنانة في نطاق اختصاصها. وتوصلت شركة "فايزر" الأمريكية في سياق هذه التحقيقات إلى تسوية مع وزارة العدل، حول اتهامات تتعلق بتقديمها دفعات وصفها القانونيون الأمريكيون بأنها "غير لائقة" خارج الولايات المتحدة. ولأن القضايا حساسة، والأدلة قوية لا لبس فيها، أسرع القائمون على هذه الشركات لتسويات مالية. غير أن ذلك لم يوقف عمليات الرشوة والاحتيال وتقديم دفعات "غير لائقة". وطبقاً للمعلومات التي ظهرت على الساحة أخيراً، فإن هناك شركات قامت بتسويات مع حكوماتها بالفعل، لكنها عادت إلى الأسلوب القديم المكرر في الاحتيال. سواء بشكل مباشر، أو عن طريق ممثلين لها في بلدان تفتقر إلى الرقابة الحكومية الصارمة في قطاع مؤثر وحساس مثل قطاع الدواء والعلاج.
وفي مطلع العام الجاري، لم يغب اسم شركة الأدوية البريطانية "جالاكسو سميث كلاين" الشهيرة، عن الأخبار الآتية من أنحاء مختلفة في هذا العالم. وفي كل مرة يتم تداول هذا الاسم، يربط برشا هائلة يقدمها وكلاؤها من أجل تمرير صفقات من الأدوية، بما في ذلك عقاقير لعلاج السرطان ومنع جلطات الدم. كان آخر هذه الفضائح من سورية. وجاء في الاتهامات أن الشركة عن طريق ممثليها في المنطقة، قدمت رشا للأطباء ومسؤولين في النظام السوري، من أجل تمرير الصفقات، بما في ذلك منتجات ليست مطلوبة بصورة ملحة في البلاد. هذه القضية جاءت بعد أن افتضح أمر قضايا مماثلة للشركة في كل من الصين ولبنان وبولندا والعراق والأردن. في حين يعتقد محققون أن الشركة متورطة أيضاً في بلدان أخرى.
أسرعت الشركة البريطانية بالفعل إلى فتح تحقيقات مع ممثليها في الدول المذكورة، لكن أحداً لم يسمع بنتائج هذه التحقيقات حتى الآن. فهي تؤكد أن إدارتها في المقر الرئيس، لا علاقة لها بقضايا الرشا والفضائح الملازمة لها، وأن التسيب يمكن أن يحصل هنا وهناك، وأنها عازمة على إيقاف هذا النوع من الفساد في مكاتبها ووكالاتها حول العالم. ولكن في النهاية، لا تكفي تحقيقات الشركة ذاتياً، خصوصاً أن الأطراف الأجنبية المتورطة، لا تتمتع قوانين بلدانها بالحد الأدنى المطلوب من النزاهة. فقد أثبتت تحقيقات السلطات الأمريكية مع عدد من شركات الأدوية في الولايات المتحدة أهميتها بل نجاعتها. فلا يمكن ترك الأمور لتحقيقات داخلية، لا يمكن ضمان نتائج نزيهة لها. بل رغم ذلك، فقد رشحت معلومات تفيد بأن الشركات التي خضعت للتحقيقات والغرامات فعلاً، ترتكب مخالفات مشابهة. تحقق شركات الأدوية حول العالم، والمتمركزة بصورة أساسية في البلدان الغربية، أرباحاً طائلة من عملياتها المشروعة. فشركة "جالاكسو سميث كلاين" تحظى بعوائد سنوية تصل إلى أكثر من 26 مليار جنيه استرليني. ويبدو أن هذه الأموال الطائلة، هي أقل مما تسعى إليه الشركة. في حين أن طبيعة إنتاجها ينبغي أن يخضع أيضاً إلى المعايير الأخلاقية، فهي لا تنتج الساعات المرصعة بالألماس، ولا السيارات المطلية بالذهب. إنها تصنع الدواء، بل لنقل إنها تصنع الأمل. وهذا وحده يفرض عليها قيما تخضع لمعايير السوق، بلا شك، ولكن بمستويات أخلاقية مقبولة.

السلاح والحليب بين بريطانيا وإسرائيل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



 
"إذا هاجمك كلب، فاقتص ممن يرعاه. لا تلوموا إسرائيل، وجهوا اللوم والمحاسبة إلى الإدارات الأمريكية المتعاقبة الراعية لها"
روبرت دي نيرو ممثل ومخرج ومنتج أمريكي
 
 
 
 
كتب: محمد كركوتــي
 
أيا كان مستوى الحظر العسكري الذي تفرضه بريطانيا على إسرائيل، فسيكون رمزيا أكثر منه عمليا. وحتى بتوصيفه هذا، أحدث خلافا بين طرفي الحكومة الائتلافية الحاكمة في المملكة المتحدة، بين المحافظين، وبين الليبراليين الديمقراطيين، الذين لولاهم لما تمكن المحافظون من تشكيل حكومة. الليبيراليون يؤمنون أن الجانب الأخلاقي في هذه المسألة بات قضية ملحة، بينما يرى المحافظون التريث أو الإقدام على هذه الخطوة بأقل سرعة ممكنة. وفي ظل هذا المفهوم المحافظ، دب الخلاف بين طرفي الحكومة. صحيح أن الغلبة في السلطة حاليا للمحافظين، ولكن الصحيح أيضا، أن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، لا يمكن أن يغامر بأي خلاف يخرج عن السيطرة. فقبل أيام فقط استقالت الليدي وارسي وزيرة دولة بوزارة الخارجية، لأنها كما قالت "لا تستطيع أن تدافع عن سياسة حكومتها حيال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة".
رضخ كاميرون في النهاية للضغوط من نواب شركائه الليبراليين، إلى جانب نواب حزب العمال المعارض، في فرض حظر على تصدير السلاح (ولو مرحليا) لإسرائيل. وكانت النتيجة، إيقاف الصفقات المخصصة لسلاح البحرية الإسرائيلي، على اعتبار أنه قام بعمليات عسكرية أوقعت عددا كبيرا من الضحايا المدنيين في صفوف الفلسطينيين. لقد تم فحص 182 ترخيصا بتصدير أسلحة من بينها 35 ترخيصا يتعلق بتصدير وسائل قتالية لسلاح البحرية الإسرائيلي. وفي نهاية الفحص تقرر إلغاء خمسة تراخيص خاصة بتصدير معدات ووسائل قتالية للسفن التي يمتلكها سلاح البحرية الإسرائيلي. وقد وجدت الحكومة البريطانية (بعد الضغوط) أن "العمليات التي قامت بها سفن سلاح البحرية الإسرائيلي خلال عملية - الرصاص المنصهر - تتنافى والاتفاقيات الأمنية المبرمة بين إسرائيل وبريطانيا.
مثل هذه النوع من العقوبات، هو في الواقع سياسي رمزي، لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على قدرات جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي حظي في عز العدوان على غزة بإمدادات أمريكية عسكرية مختلفة، بصرف النظر عن "الخلافات" السياسية بين إدارة الرئيس باراك أوباما وحكومة بنيامين نتنياهو. ومن المصائب، أن هناك جهات عربية تعتقد بأن مجرد وجود خلاف سياسي بين تل أبيب وواشنطن، هو "انتصار" عربي! وبعيدا عن هذا المفهوم الملتبس، تبقى الخطوات التي اتخذتها بريطانيا ضد إسرائيل (قبل العدوان على غزة)، أهم وأكبر أثر على الساحة الإسرائيلية. فتل أبيب التي تنتج السلاح، لم تعتمد على السلاح البريطاني من قبل، باستثناء المرحلة المباشرة التي أعقبت اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية المعروفة. وكان زخم السلاح الفرنسي لإسرائيل، أكبر من البريطاني لها.
في الأشهر الماضية، تركت المقاطعة التي فرضتها بريطانيا على منتجات المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة أثرا، وإن لم يكن كبيرا. وفي الحقيقة، كانت هذه العقوبات جزءا أصيلا من سلسلة عقوبات فرضها الاتحاد الأوروبي على تل أبيب، كنوع من الضغط على وقف بناء المستوطنات، والحد من عمليات التهويد التي تتعرض لها مدينة القدس منذ عقود. ومع ذلك لم يتوقف النشاط الاستيطاني، الذي يعتبره الإسرائيليون ضمانة لهم لاستمرار إحكام سيطرتهم على المناطق المحتلة، وإيجاد حالة من الأمر الواقع، تدعمهم في "المفاوضات" المترنحة مع الجانب الفلسطيني. وانحصرت العقوبات البريطانية في هذا المجال، في نطاق بعض المنتجات الزراعية، والألبان وما يتصل بها. والأثر السلبي الواضح على هذه المنتجات، لا يعود فقط للعقوبات البريطانية، بل لمجمل العقوبات الأوروبية.
ورغم أن المقاطعة الأوروبية انعكست بصورة خطيرة على عدد المصانع وجهات الإنتاج الإسرائيلية، إلا أنها من حيث القيمة تبقى متواضعة. وطبقا لآخر تقدير إسرائيلي، فإن ما يقرب من 80 مصنعا إسرائيليا متخصصا في إنتاج الحليب والألبان مهددة بالإغلاق بشكل نهائي. ومنتجات هذه المصانع تأتي كلها من المستوطنات. لكن بالنظر إلى القيمة، فإن إجمالي الخسائر لا تتعدى 30 مليون دولار. وما يخيف الإسرائيليين، ليس هذا الحجم من الخسائر، ولكن القرارات الأوروبية الإضافية المتوقعة التي ستتضمن فرض المزيد من العقوبات على أكبر نسبة من منتجات المستوطنات. وهذا يشكل رعبا حقيقيا على المدى المتوسط في تل أبيب. وسيكون الرعب أكبر، لو قام الاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات أكثر اتساعا مرة واحدة، وليس على مراحل.
ورغم حالة الرعب هذه، فإن إسرائيل تضمن لنفسها الاستمرار في احتلالها المتواصل وعدوانها المتكرر. فالجانب الأمريكي حيالها يبقى آمنا، بصرف النظر عن "مسرحيات" الخلافات مع الولايات المتحدة. ويبقى المصدر الأهم للإمدادات العسكرية وللعلاقات الاقتصادية، التي تحتاج إليها تل أبيب. ولتفرض بريطانيا ما تشاء من العقوبات العسكرية، حتى إن انتقل ديفيد كاميرون من حالة التردد إلى وضعية الإقدام على مثل هذه الخطوات. فالبريطانيون الذين يضغطون لمزيد من حظر السلاح لإسرائيل، قد يشعرون أنه من الواجب القيام بذلك، لكنهم يشعرون بصورة أكبر وأهم بأن الحظر يخفف عليهم وطأة المسؤولية الأخلاقية، المتمثلة في إنتاج إسرائيل مزيدا من أشلاء الأبرياء.

العمل 3 أيام في الأسبوع ليس ترفا

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





 
"اختر العمل الذي تحبه، فلن تعمل يوماً واحداً في حياتك"
كونفوشيوس فيلسوف الصين



كتب: محمد كركوتـــي

لم يحظ الاقتراح الذي طرح منذ سنوات، بتحويل أيام العمل إلى ثلاثة بدلاً من خمسة أسبوعياً، بتأييد فاعل من جهات مؤثرة حول العالم. وبقي ضمن نطاق الطرح في المناسبات، ولا بأس من محاضرة داعمة له هنا، ومنتدى مؤيد هناك. وتصريح بين الحين والآخر من رجل أعمال على شاكلة المكسيكي ـــ اللبناني كارلوس سليم "أغنى رجل في العالم"، الذي حمل لواء الاقتراح أخيراً، مؤكدا نجاعة تحويله إلى حقيقة عملية. وسليم ليس اقتصادياً مُنظراً، ولا أكاديمياً باحثاً، ولا كاتباً يقدم أفكارا ويمضي إلى أخرى. إنه رجل أعمال عصامي النشأة، حقق نجاحات مختلفة "ولا يزال"، ليصبح في النهاية الأغنى في العالم على الإطلاق. وعندما يبنى هذا الطرح، فإنه يقدمه من مفهوم عملي وواقعي. فهو ليس من أولئك المغرمين بالنقابات وطروحاتها التعجيزية.
وكارلوس سليم في النهاية ليس صاحب المقترح، ولكنه من داعميه. وفي مطلع عشرينيات القرن الماضي، وصف الصناعي التاريخي الشهير هنري فورد بالجنون. لماذا؟ لأنه حول دوام العمل في مصانعه ومؤسساته وقتها لخمسة أيام في الأسبوع. كان العالم الغربي آنذاك يعمل ستة أيام باستثناء أيام الآحاد. وفي بعض البلدان الغربية، كان بعض الموظفين والعمال يعملون ساعات قصيرة عصر الآحاد نفسها. وفي العالم العربي "حتى وقت قريب"، كانت أيام العمل ستة في الأسبوع. وفي دول العالم حالياً، لا يزال "الصيغة المقدسة" التي تستند أولاً على الدوام الكامل، أما مسألة الإنتاج والإنجاز فتأتي في الدرجة الثانية! وفي بعض البلدان، يُنظر إلى المدير الناجح، على أنه ضابط مثالي للدوام! وهذه المفاهيم لم تعد تتماشى مع التطورات في ساحة العمل، بل واستحقاقات التحولات في هذا المجال.
وتشير الدراسات المختلفة، إلى أن نسبة متعاظمة من الموظفين، لم تعد مضطرة حتى للحضور إلى مقر العمل، ولا سيما أولئك الذين يستطيعون الإنتاج خارجه، مع وجود التسهيلات التكنولوجية التي باتت متاحة للجميع في غالبية دول العالم. وفي إحصائية أجريت في الولايات المتحدة مطلع العام الجاري، تبين أن أعداد الموظفين الذين يعملون من المنزل ارتفع من 9.5 مليون موظف في عام 1999 إلى 13.4 مليون موظف في 2010، وذلك بسبب إقبال المزيد من الشركات على تعيين موظفين يعملون من منازلهم بشرط الكفاءة والخبرة. وبلغت نسبة العاملين بوظائف يمكن ممارستها من المنزل في الولايات المتحدة إلى 50 في المائة. ومع تطور التكنولوجيا، فإن عدد الموظفين الذين سيتجهون من غرف نومهم إلى صالون المنزل لمزاولة وظائفهم سيزداد. فحتى الرئيس التنفيذي للشركة يمكنه ببساطة عقد اجتماع مهم ومحوري وهو بملابس المنزل وربما داخل غرفة نومه.
وبعيداً عن فكرة العمل والترفيه في الوقت نفسه التي يطرحها العديد من أصحاب الأعمال الأكثر تطوراً في مفاهيم الوظيفية، فإن دول العالم تتجه بصورة سريعة، إلى رفع سن التقاعد، ولا سيما مع ارتفاع معدلات الأعمار، حتى في البلدان الأقل تطوراً. ويرى مؤيدو اختصار الأسبوع لثلاثة أيام عمل، أن هذه الشريحة من العمال والموظفين تقبل بأجور أقل وساعات دوام أقل. وحتى بالنسبة للعمال الأقل سناً، فإن بعض الدراسات أثبتت أن الإنتاج يكون أكبر في الأيام الثلاثة الأولى التي تعقب العطلة الأسبوعية. وهذا يعني أن أربعة أيام عطلة أسبوعية، تشكل حافزاً للعمل المنتج، وتقلل من التكاسل الذي يسود أوساط الموظفين عادة في الساعات الأخيرة من اليوم، وبصورة أكبر في الأيام الأخرى من الأسبوع نفسه.
وعلى هذا الأساس، يعتبر المؤيدون، أن العمل ثلاثة أيام في الأسبوع ليس ترفاً، طالما أنه لن يؤثر في الإنتاج، بل بالعكس في مجالات كثيرة سيزيد من جودة وحجم الإنتاج. والاختلاف حول هذه القضية لا ينحصر في الوقت الراهن، بل يعود لعقود خلت. فالصناعي الأمريكي الراحل هنري كيسير يقول "عندما يتحدث عملك عن نفسه، لا تتدخل". ويدعم ذلك بصورة مختلفة المؤلف الأمريكي توماس فولير بقوله "كل الأشياء صعبة قبل أن تصبح سهلة". ويختلف معهما الشاعر الأمريكي الراحل روبرت فروست الذي قال "عملك بإخلاص ثماني ساعات في اليوم، ربما يرقى بك إلى منصب مدير، وقتها ستعمل 12 ساعة يومياً. وكذلك الأمر مع المؤلف الأمريكي جاكسون براون الذي يقول "اعثر على العمل الذي تحبه، بعد ذلك عليك أن تضيف خمسة أيام أخرى لأيام الأسبوع".
إن المسألة برمتها، لا تتعلق بالالتزام الأوتوماتيكي بدوام رسمي فقط. بل بحجم الإنتاج، ومستوى الإبداع الناتج عن العمل نفسه. في حالات كثيرة، من الأفضل أن يعود الموظفون غير المنتجين إلى منازلهم، توفيراً لما يستهلكونه ضمن ساعات الدوام، خصوصاً أولئك الذين لا أمل من جعلهم يعملون حتى بالحد الأدنى. الطرح المتجدد للعمل ثلاثة أيام في الأسبوع، سيظل مثار بحث وتأييد واعتراض. لكن الأوقات تتغير، والمعايير العملية نفسها قيد التغيير المستمر. والذين وصفوا هنري فورد بالجنون، لأنه جعل دوام موظفيه خمسة أيام في الأسبوع، وجدوا في النهاية، أن خطوة فورد أكثر من عاقلة.

 

 
 

«مباريات» السياسة لا تشبه «مباريات» الاقتصاد

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")






"يعتبرون الرجل كائنا بشريا، ويعتبرون المرأة أنثى. عندما تمارس سلوكيات كائن بشري، يقولون عنها، إنها تقلد الرجل"
سيمون دي بيفوار كاتبة وناشطة سياسية فرنسية

كتب: محمد كركوتـــي


لا تزال المؤشرات الإيجابية غائبة، فيما يتعلق بتعزيز وجود المرأة بين القيادات، وفي مراكز صنع القرار، بما في ذلك (بالطبع) مجالس الإدارة والهيئات التنفيذية العليا. في بعض الحالات يتساوى مستوى الغبن في هذا المجال بين دولة متقدمة جدا، وأخرى متخلفة جدا، بينما تستمر التحركات من الهيئات الداعية إلى التحركات في جميع البلدان. وقد نجحت هذه الهيئات بالفعل في تحقيق إنجازات لافتة، سواء عن طريق فرض "كوتا"، أو من خلال دفع السلطات التشريعية لإبقاء القضية مثارة، أملا في تحقيق جزء من الأهداف. وتعمل الجهات الضاغطة بصدق وحماس كبيرين، إلا أنها تواجه في بعض المواقع مقاومة مختلفة المستويات. بعضها عنيف، والآخر أقل عنفا. وتتعرض أيضا إلى التعطيل المنهجي، خصوصا عندما يكون أمر إيقافها صعبا، ولا يتناسب مع الحالة العامة على الساحة.
وجود قيادات سياسية نسائية في بعض البلدان الكبرى، لا يعطي مؤشرا إيجابيا على صعيد الوجود النسائي بين القيادات. فالمعايير السياسية لا تشبه المعايير الاقتصادية، ولا سيما عندما يكون على الساحة اقتصاد السوق، لا اقتصادا حكوميا مغلقا جامدا. وحتى مارجريت ثاتشر التي لقبت بـ "المرأة الحديدية"، جاءت إلى الحكم كحل وسط بين كبار قادة حزبها الرجال، وكذلك الأمر في الهند مع أنديرا غاندي. بل إن أنجيلا ميركل المستشارة الحالية لألمانيا، تحكم بصيغة الائتلاف السياسي. ولثاتشر تصريح تاريخي قبل عام فقط من وصولها الحكم. ماذا قالت؟ "لا أعتقد أني سأشهد امرأة في رئاسة الوزراء في حياتي". كانت تقصد، أن الوقت لم يحن بعد لمثل هذه الخطوة، وربما حان بعد عدة أجيال أخرى! "المباريات" في ملاعب السياسة، لا تتشابه مع "المباريات" في ملاعب "البزنس".
ولأن الأمر كذلك، ما زالت نسبة النساء اللواتي يشغلن مواقع قيادية ضمن مؤسساتهن منخفضة في جميع أنحاء العالم. هي ترتفع هنا وتنقص هناك، لكنها تبقى منخفضة في النطاق الإجمالي. ولا يزال التلاعب في هذا المجال حاضرا في غالبية المؤسسات بقلب الدول الراشدة، التي حققت تقدما كبيرا على صعيد التشريعات ذات الصلة. هناك دائما ثغرات يمكن التسرب من خلالها، لكن المشكلة أن هذه الثغرات باتت مكشوفة للعيان منذ سنوات. وطبقا لبحث أصدرته أخيرا "هارفرد بزنس ريفيو" الأمريكية، فإن نسبة تمثيل النساء في مجالس الإدارة تتراوح بين 1 و2 في المائة في اليابان، و17 في المائة في الولايات المتحدة، بينما هي أعلى بكثير في دولة مثل النرويج "في حدود 40 في المائة". وتصل المناصب القيادية للمرأة في باكستان إلى 3 في المائة، وتبلغ 38 في المائة في أوكرانيا.
وللقضية جوانب ثقافية أيضا، ولا تتعلق فقط ببعض المفاهيم الاقتصادية المادية التقليدية الصرفة، بأن الرجل يكون عادة أكثر إنتاجا من المرأة في معترك العمل. ويرى البحث المذكور، أن التفاوت بين الدول مرتبط جزئيا بالاختلافات في درجات التشدد الثقافي ما بين الأمم، وتحديدا مدى وضوح المعايير ضمن ثقافة معينة، ودرجة استعداد السلطات لتطبيق تلك المعايير عبر استعمال العقوبات. ومن هنا نرى، أن القوانين الخاصة في تعديل مستوى تمثيل المرأة في القيادات، بما في ذلك "الكوتا" تطبق بحزم في دول، وبتراخ في دول أخرى، خصوصا عندما يكون العقاب دون مستوى التجاوز. بل إن بعض المؤسسات في العديد من البلدان، تحتال على مثل هذه القوانين، بالتعيين الصوري للنساء في مواقع القيادة. فهي بذلك، تحصل على الشكل المطلوب، ولكن لا علاقة له بالمضمون!
البلدان التي تنتشر فيها الثقافات الأكثر تشددا، تضم عددا أقل من النساء اللواتي يشغلن مناصب تشريعية أو تنفيذية أو إدارية أو قيادية. وهذا أمر طبيعي. ولكن اللافت هنا يثير الاهتمام حقا. فقد ثبت أن هذه البلدان تكون أكثر جدارة وجودة في تنفيذ قوانين المساواة في العمل، إذا ما فرضت هذه القوانين بالفعل، مقارنة بغيرها من البلدان التي تنتشر فيها الثقافات الأقل تشددا. فالنرويج الذي يعتبر بلدا متشددا نسبيا، وضع قوانين بلغت حد حل الشركات والمؤسسات المدرجة في البورصة، إذا ما انخفض تمثيل المرأة في قياداتها عن 40 في المائة. والأمر ليس كذلك في بلد كالولايات المتحدة التي تعتبر متساهلة في هذا الأمر. ولا شك أن العقاب القاسي، يوفر أفضل حالة تنفيذية للقانون المربوط به. ونظام الحصص "الكوتا"، يمكن أن تشكل خطوة كبيرة ومهمة على صعيد المساواة في قيادة المؤسسات في دول متشددة، ولكنها لن تكون مجدية بما يكفي في بلدان أقل تشددا.
ستظل هذه المسألة مطروحة على الساحة في جميع بلدان العالم. وستأخذ وقتا طويلا لكي تحقق انفراجات ذات قيمة من حيث المضمون لا الشكل. ولا شك في أن القوانين الصارمة تبقى الصيغة المثلي أو المتاحة، خصوصا أن القوانين "أي قوانين" ليست محركا فوريا.



 

تراجع الفقر وازدياد عدد الفقراء!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"في بلد محكوم بصورة جيدة.. الفقر يكون معيباً. في بلد محكوم بشكل سيئ.. الثراء يكون معيباً"
كونفوشيوس - فيلسوف الصين


كتب: محمد كركوتــي
 
أواجه صعوبة في غبطة ناجمة عن تراجع مستوى الفقر على مستوى العالم، والسبب واضح لمن يرغب التأمل في ذلك. فقد بلغ عدد الذين يعانون الفقر حول العالم، أكثر من 2.2 مليار نسمة! وإن كانت نسبة منهم تطرق أبوابه! ورغم أن حسابات تراجع مستوى الفقر صحيحة، وليست من تلك التي كانت تقذفها وكالات التصنيف العالمية في الأجواء تملقاً للمؤسسات الخاضعة لتصنيفاتها، إلا أنها تبدو بلا قيمة بالنظر إلى الأعداد المتزايدة من الفقراء. وتواجه الجهات الدولية مصاعب هي الأخرى في شرح مقنع لهذه المفارقة. فلا يمكن (مثلاً) ترويج تراجع معدلات التخريب البيئي، وفي الوقت نفسه ارتفاع عدد المناطق التي تعاني هذا التخريب. أو انخفاض نسبة الجريمة، وازدياد عدد المجرمين. وتراجع مستوى تبييض الأموال، وتكاثر عدد "المبيضين"!
وتراجع مستوى الفقر، لا بد أن ينعكس على عدد الغارقين فيه. وهذا لا يحدث في عالم يعج بالمتناقضات. بعضها ناجم عن ظلم جلي، وبعضها الآخر آت من فوضى عالمية، تساهم فيها مباشرة بلدان يفترض أنها وصلت إلى مستويات لافتة من الرشد، والأداء الجيد أو المقبول. وهناك تناقض حتى في الاستنتاجات التي تتوصل إليها الهيئات الدولية، بما فيها تلك التابعة للأمم المتحدة. ففي حين أعلنت منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" هذا العام، أن أسعار الغذاء تراجعت بصورة ملحوظة، وأنها مرشحة للتراجع في المستقبل المنظور، أرجع برنامج الأمم المتحدة للتنمية "يو إن دي بي" في تقريره للعام الجاري، تفاقم آفة الفقر في العالم، إلى أسعار المواد الغذائية، إلى جانب النزاعات العنيفة! مع من يتوجب علينا أن نتفق؟ مع المنظمة أم البرنامج؟!
بالطبع تسوق المنظمة نفسها أسباباً أخرى لآفة الفقر، في مقدمتها التوزيع غير العادل للثروات، إلى جانب وجود "مكامن ضعف بنيوية". وهذا صحيح، لكنه في الوقت نفسه لا يساعد في تسويق طرفي المعادلة المتناقضة. تراجع مستوى الفقر، وارتفاع عدد الفقراء! والمصيبة مرشحة "كالعادة" إلى مزيد من التفاقم، ليس فقط بسبب الفوضى السياسية العالمية المشار إليها، وتعرض البرامج التنموية في غير منطقة في العالم لعقبات خطيرة، بل أيضاً لأن عدد سكان الكرة الأرضية ارتفع في غضون الخمس سنوات الأخيرة من 6.9 إلى 7.191 نسمة، بحسب الأمم المتحدة. ومع ارتفاع العدد يزداد الفقراء، خصوصاً إذا ما أضفنا العوامل الماحقة التي أنتجتها الأزمة الاقتصادية العالمية في الأجراء. فإذا كانت هذه الأخيرة قلصت عدد الأثرياء، علينا أن نتخيل كم أضافت لعديد من الفقراء.
قبل الأزمة، كان العالم 9.6 مليار نسمة يعيشون مع ما يوازي 1.25 دولار أو أقل في اليوم. ويبلغ عدد هؤلاء في الوقت الراهن أكثر من 1.2 مليار نسمة. الحاصل الآن، أن ما يقرب من 1.5 مليار فقير يتوزعون على 91 بلداً نامياً، بينما بات (حسب برنامج التنمية) 800 مليون شخص على شفير الفقر. وهذا يعني، أن الذين يعيشون على الحافة، يستطيعون أن يستمروا ليوم إضافي آخر، بينما انتهت أيام أولئك الذين دخلوا مستنقع الفقر. النسبة الأكبر منهم باتت في المستنقع قبل الأزمات وبعدها وفي ظلها. الحلول كثيرة، ولكنها ليست قابلة للتنفيذ المحكم، إلى جانب أن بعضها وضع على الرف إلى "حين ميسرة". وهذا لا يعني بالضرورة أن الأمم المتحدة فشلت في برامجها، ولكن معظم إنجازات تلك البرامج تأتي دون المستوى المأمول.
إن المشكلة لا تكمن فقط في الوصول إلى المستوى المطلوب من الحياة المعيشية الكريمة لسكان الأرض، بل إن النقطة الأهم فيها، تبقى المحافظة على ما يتم إنجازه على صعيد محاربة الفقر. قد تتحسن الوضعية المعيشية لنسبة من السكان لفترة، ولكنها كعرضة للزوال في أي لحظة. وهذا ما يحدث بالفعل في عديد من المناطق حول العالم النامي على وجه التحديد. يضاف إلى ذلك، أن الاستدامة تبدو صعبة المنال، رغم النوايا الصادقة لمنظمة كالأمم المتحدة، وحتى عدد كبير من البلدان المؤثرة على الساحة الدولية. ولهذا السبب، احتل "التقدم البشري المستدام"، عنوان التقرير الأخير لبرنامج التنمية الدولية لعام 2014. وهي تأمل أن تحقق الاستدامة في المرحلة المقبلة. ولكن هل تستطيع الوصول إلى هذا الإنجاز؟ أغلب الظن، أن لا.
الأمنيات ليست مهمة على صعيد مكافحة الفقر، كما هو الحال على كل الأصعدة. فرئيسة البرنامج الدولي، تتمنى أن "يتمكن العالم أجمع من تشارك التقدم، إلى أن تصبح التنمية أكثر عدالة واستدامة". والمثير، أن تمنياتها ليست عصية عن التحقيق، إذا ما عرفنا، أن توفير حماية أساسية اجتماعية لفقراء هذا العالم دون استثناء، لا يكلف أكثر من 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. إنها نسبة مضحكة، فيما لو قورنت بالإنفاق على التسلح، أو تمويل الإرهاب، أو غسيل الأموال، أو الاقتصاد الأسود، أو الأموال المنهوبة من الشعوب الفقيرة نفسها، صاحبة القضية عينها.