الأربعاء، 21 يونيو 2017


حسنا .. لكن بريطانيا لا يمكنها البقاء



"الباب لا يزال مفتوحا لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي"
إيمانويل ماكرون ـــ رئيس فرنسا

كتب: محمد كركوتي:

فجأة، بدأت أركان الاتحاد الأوروبي تتحدث عن إمكانية قبول بقاء بريطانيا في الاتحاد. القابلون بالبقاء هم الأكبر نفوذا في هذا الاتحاد، يتقدمهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، ناهيك عن رؤساء الوزراء في عدد من البلدان الأوروبية الأخرى. والحق أن كل هؤلاء لم يرغبوا في خروج المملكة المتحدة أصلا، على الرغم من المنغصات البريطانية التي لا تنتهي لهم، ولا سيما فيما يرتبط بإعفاء لندن من بعض الاتفاقيات والالتزامات، ناهيك طبعا عن رفض بريطانيا الانضمام إلى اتفاقية فتح الحدود الأوروبية (شنجن) وكذلك الأمر عن العملة (اليورو). ومهما كانت هذه المنغصات، فالمملكة المتحدة في النهاية بلد محوري عالميا وأوروبيا، ويتمتع بكل الإمكانات التي يحتاج إليها أي تكتل اقتصادي أو سياسي.
ليس هناك رئيس وزراء بريطاني يمكنه المراوغة حول استفتاء الخروج الذي تم في حزيران (يونيو) الماضي، حتى لو كان من أعنف المؤيدين لبقاء بلاده في الاتحاد. فالمسألة تتعلق بالتفويض الشعبي له من أجل الانسحاب، وهذا أمر لا يقبل التراجع أو حتى التفاوض. بل لا يمكن إعادة الاستفتاء بصيغته التي تمت. ويكفي رئيسة الوزراء تيريزا ماي الآن ضعفها السياسي الداخلي، وهشاشة وضعية حزبها على الساحة، وتقدم لافت (وحتى مفاجئ) لحزب العمال المعارض. ولكن كل هذا ليس مهما. فالقفز فوق الاستفتاء لا يجري في بلدان مجبولة على الاستفتاءات الشعبية ــــ الوطنية. وماي التي تُحسب على معسكر البقاء في الاتحاد، هي من أشد السياسيين التزاما وتطبيقا لرغبة الذين صوتوا لمصلحة الخروج، بصرف النظر عن نسبتهم، وهي قليلة كما يعرف الجميع.
المهم، أن "الإغراءات" الأوروبية بإمكانية بقاء بريطانيا ليست ذات قيمة أمام التمسك بالديمقراطية، حتى وإن بلغت هذه "الإغراءات" حد أن أعلنت المفوضية الأوروبية، أنه يمكن إيقاف مفاوضات الخروج مع بريطانيا في أي وقت وبقاؤها عضوا. ولكن هل يمكن وضع العرض الأوروبي المفاجئ ضمن نطاق "الإغراءات"؟ الإجابة المباشرة والسريعة هي لا. والسبب واضح جدا جاء في سياق كلام "العارضين". فهؤلاء يقولون، إن بإمكان المملكة المتحدة البقاء، ولكن عليها أن تكون ملتزمة بكل الاتفاقيات والقوانين الأوروبية. بمعنى آخر، أن بريطانيا إذا ما حدثت معجزة وقررت البقاء، عليها أن تقبل بكل ما هي مستثناة منه أصلا. أي أنها "ستعود" صاغرة. لماذا؟ لأن الاتحاد الأوروبي "الجديد" يلغي كل الاستثناءات لأي بلد ضمن نطاقه.
وهنا يمكننا أن نترك كلام بريجيته تسيبريز وزيرة الاقتصاد الألمانية جانبا، لأنه ببساطة لا معنى له. فهي قالت "إن عدول بريطانيا عن قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، سيكون أمرا عظيما، وإن كان حدوث هذا يبدو مستبعدا". ورغم كل هذا الكلام "الجميل"، إلا أنها تقول دون أن تتحدث "حسنا، قررتم الخروج برغبتكم، ولكن بقاءكم ـــ إن حصل- سيتم بشروطنا". وحتى لو حدث المستحيل، وقامت رئيسة الوزراء البريطانية بعرض "الباب" الأوروبي المفتوح على الشعب البريطاني، فهي لا تحمل من بروكسل شيئا يمكن تسويقه على البريطانيين لدخول هذا "الباب". كان ماكرون المرحب بالبقاء فظا حين قال "إن الباب المعروض يشبه أبواب رواية -أليس في بلاد العجائب- أي أن كل باب يختلف عن غيره".
ما سيجري الآن هو التوصل بين الجانبين إلى حلول وسط في اتفاق الرحيل. علما بأن الأوروبيين أعلنوها صراحة أنه ليس في نيتهم السير في هذا الاتجاه. والحلول الوسط تنقذ الجانب البريطاني، كما أنقذته طوال أكثر من أربعة عقود شكلت المدة الزمنية لعضوية المملكة المتحدة في هذا الاتحاد. وفي كل الأحوال، لا يبدو أن مكاسب ذات قيمة كبيرة ستجنيها بريطانيا حتى في حال التوصل إلى هذا النوع من الحلول. وأقصى عائد سيكون اتفاقا تجاريا بينها وبين الاتحاد الأوروبي، يأخذ في شيء من الاعتبار، حقيقة التحالف الاقتصادي الذي ربطهما مع بعضهما بعضا طوال العقود القليلة الماضية. لا يبدو أنه ستكون هناك امتيازات يمكن التحدث عنها، وفي النهاية ستكون بريطانيا دولة "أجنبية" كانت لفترة ما "شقيقة".
من هنا، فإن أي حديث يتم تداوله على الساحة الأوروبية بشأن إمكانية بقاء بريطانيا في الاتحاد، مزيج من التمنيات والأوهام. والجميع يعرف هذه الحقيقة، لكن لا بأس من ترطيب الأجواء، ورفع مستوى النبرة الدبلوماسية إعلاميا فقط. يُظهر ذلك على الأقل أن المفوضية الأوروبية المتحفزة لبدء مفاوضات الخروج، تروج المرونة لنفسها قبل أن تبدأ بكل قدراتها "طحن" المفاوض البريطاني، مستغلة بالطبع حقيقة أن نصف الشعب البريطاني تقريبا أراد بقاء بلاده في الاتحاد. كل التمنيات تتحطم تلقائيا أمام حق الذين انتصروا في استفتاء الخروج. وكل المحاولات لا قيمة لها لتغيير هذا الواقع. في بريطانيا، كغيرها من البلدان المتقدمة، لا شيء يعلو فوق رغبة الناخب، بصرف النظر عن جهل هذا الناخب، وأحيانا بلاهته.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الأحد، 18 يونيو 2017



خروج من صعب إلى أصعب



كتب: محمد كركوتي

ستكون المفاوضات الخاصة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي تنطلق أكثر من صعبة. بعد أن كانت صعبة فقط قبل الانتخابات البريطانية العامة التي حولت نتائجها "تمنيات" رئيسة الوزراء تيريزا ماي إلى مجموعة من الهموم. هموم تتعلق بحزبها، وأخرى ترتبط بمصير بقاء المملكة المتحدة على شكلها الراهن، وهموم تخص التركيبة الانتخابية المحلية الجديدة، وأخرى لها صلة مباشرة بالصعود المفاجئ لحزب العمال المعارض. هذا الحزب الذي كان قبل شهرين فقط من الانتخابات العامة "مَضحكة" انتخابية، لاعتقاد الجميع (بمن فيهم شرائح من العمال) بأنه لا يمكن أن يحقق تقدماً في أي انتخابات طالما ظل جيرمي كوربين على رأسه. وهذا الأخير قاوم كل الضغوط والمحاولات لعزله، إلا أنه نجح في البقاء، وجلب لحزبه مقاعد برلمانية مُقتنصة من حزب المحافظين الحاكم وبقية الأحزاب الأخرى.

         ليس مهماً في الوقت الراهن الحديث عن نتائج الانتخابات. فأرقامها التي صبت في صالح العمال مذهلة، وتختصر المشهد السياسي والانتخابي العام. المهم الآن وحتى عامين مقبلين على الأقل، هو شكل مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والأهم طبيعة اتفاقات الخروج التي سيتم التوصل إليها. بينما عبرت دوائر المفوضية الأوروبية عن مخاوفها ليس من خروج بريطانيا، بل من تباطؤ الخروج في ظل وجود حكومة بريطانية ائتلافية هشة قابلة للانهيار عند أول مشروع قرار يعرض للتصويت في مجلس العموم، حتى لو كان هذا المشروع يختص بمنع "مضغ اللبان -العلكة"! أو شكل الزينة العامة في أعياد الميلاد! حكومة الائتلاف اليوم قد لا تكون موجودة في أسبوع أو أسبوعين من الآن، ليعود الاضطراب السياسي إلى حاله فوراً. واضطراب من هذا النوع في ظل مفاوضات تاريخية، له تداعياته السلبية على طرفيها.

        كانت تيريزا ماي قبل الانتخابات العامة التي دعت "ببلاهة" إليها، تريد أن تشكل حكومة قوية من أجل المفاوضات. ولا سيما إذا علمنا أن يوجد على طاولة المفاوضات ما لا يقل عن ألفي اتفاقية بين أوروبا والمملكة المتحدة، تضاف إليها مذكرات تفاهم تتحول تلقائياً إلى شكل من أشكال الاتفاقات، إلى جانب التزامات بريطانيا المالية تجاه الاتحاد نفسه. بعض التقديرات أشارت إلى أن تكاليف الخروج ربما تتساوى مع كلفة البقاء. وهناك تخمينات أخرى تتحدث عن أن الخروج أكثر كلفة من البقاء. وقد تصل التكاليف إلى أكثر من 100 مليار يورو، كما أنها ستُدفع على مدى سنوات. باختصار، الخروج لا يوفر لبريطانيا الدفعات المالية الهائلة المستحقة عليها بشكل أو بآخر.

        وهنا في الواقع تكمن صعوبة المفاوضات. فكما يقال "دخول الحمام ليس مثل خروجه"، ولندن تعرف هذه الحقيقة الآن بصورة أكثر وضوحاً، ولاسيما مع تأكيدات الأوروبيين على ألا تتوقع بريطانيا معاملة خاصة. وهذه النقطة بحد ذاتها هي عبارة عن رسالة أوروبية لكل البلدان المنضوية تحت لواء الاتحاد، بأن لا تفكر للحظة في خروج سلس أو غير مكلف. مع التأكيد أيضاً على أنه لن يسمح لبريطانيا بعقد اتفاقات تجارية ثنائية مع أي دولة في العالم (بما فيها الاتحاد الأوروبي نفسه) خلال فترة المفاوضات. ما يجعل الوضعية التجارية للبلاد أكثر اضطراباً، لتضاف مباشرة إلى الاضطراب السياسي المحلي العام، إلى جانب عامل مهم أيضاً، يرتبط مباشرة بمعسكر البريطانيين الذين لا يزالون متمسكين بقوة ببقاء بلاده ضمن الحضن الأوروبي.

        أمام هذه المعطيات، كانت بريطانيا بحاجة لحكومة تحكم بأغلبية، ولا تهتم بالمناوشات السياسية من هنا وهناك. حكومة تعرض اتفاقها التاريخي على الشعب البريطاني، ولو تطلب الأمر تصويتاً عليه في مجلس العموم. تعرضه دون خوف من تمرد نواب أحبوا أوروبا وكرهوا الانفصال، بصرف النظر عن الشرعية "الاستفتائية" لهذا الانفصال، وهي حق مكفول عند المحبين والكارهين لأوروبا. الخروج الذي كان صعباً، صار أشد صعوبة. وتحتاج تيريزا ماي في الواقع إلى مجموعة من العيون الخاصة بها في وقت واحد. عين على المفاوضات المروعة قبل أن تبدأ، وأخرى على حكومتها الضعيفة التي لا تتمتع بأغلبية برلمانية ضامنة، وعين على علاقات بريطانيا مع العالم، وأخرى على المملكة المتحدة نفسها المهددة بالتفكك. بل عين على منصبها المستهدف من وزرائها الكبار.

        تريد خروج "سلس"؟ عليها أن تعترف علناً أنها لا تضمنه. تسعى لخروج سريع، من واجبها اليوم أن تقول "إنه ربما سيكون طويل.. طويل". لا مقاومة عملية لرئيسة الوزراء أمام "وحشية" المفاوضين الأوربيين، والأهم أنه لا ملجأ وطني قوي أو عملي لها أيضاً أمام هذه "الوحشية". إنها تمضي قدماً إلى المفاوضات وهي تسير بثبات إلى "أحضان" التاريخ، الذي ستدخله من كل الأبواب. رئيسة الوزراء التي خرجت بلادها من الاتحاد في عهدها، والرئيسة التي فاوضت بضعف (إن بقيت فعلاً في منصبها حتى نهاية المفاوضات)، والمسؤولة التي كسرت نفسها بيدها عندما دعت لانتخابات مبكرة ظنتها أنها مضمونة. دون أن ننسى بالطبع، أنها قد تكون في منصبها، إذا ما نجحت اسكتلندا من نزع التاج البريطاني عن رأسها، وحققت ايرلندا الشمالية تقدماً هي الأخرى في الانفصال عن هذا التاج.


(المقال خاص بجريدة "الاتحاد" الإماراتية)

السبت، 17 يونيو 2017


المقامرة التي كسرت تيريزا


"الفن، والحرية، والإبداع تغير المجتمع بقوة أسرع من السياسة"
فيكتور بينشوك رجل أعمال أوكراني وفاعل خير معروف

كتب: محمد كركوتي

ليست
ماما تيريزا الراحلة المعروفة. إنها تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية، التي أطلقت المقامرة على مستقبلها رغم أنها لم تكن بحاجة إليها. أما المقامرة، فهي الدعوة لانتخابات عامة مبكرة جدا، في وقت كانت تتمتع بمقاعد برلمانية في مجلس العموم تسمح لها بالمضي قدما في رسم سياساتها وصنع القوانين والقرارات، والأهم البدء بمفاوضات ستكون بالقطع مضنية مع الاتحاد الأوروبي للانسحاب منه. صحيح أن أغلبيتها لم تكن ساحقة، ولكنها بالتأكيد تكفل لها وقودا للحراك السياسي دون منغصات، في وقت نشر الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي المنغصات في كل الأركان، وصنع خلافات حتى ضمن التيار السياسي والاجتماعي الواحد في البلاد كلها. كانت تيريزا ماي تأمل أن تحصد مزيدا من المقاعد في الانتخابات العامة التي دعت إليها، لتشكل حكومة قوية. ولأن الأمر كان مقامرة غير محسوبة على الإطلاق، خسرت رئيسة الوزراء أغلبيتها البرلمانية!
الثابت أن ماي عندما دعت لانتخابات مبكرة، كانت تستند إلى حقيقة أن شعبية حزب العمال المعارض المنافس الأكبر في الحضيض. وليس هذا فحسب، بل كان هناك صراع علني عنيف بين قيادات الحزب العمالي من أجل التخلص من زعيمه جيرمي كوربين الذي اعتبرته الغالبية العظمى، زعيما لا يمكن أن ينتصر الحزب بزعامته، في أي انتخابات، بصرف النظر عن توقيتها. وقعت ماي وفريقها الاستشاري بهذا المطب، مستندة بالطبع إلى أن ما يجري على الساحة العمالية هو في الواقع حملة انتخابية مضادة لهذا الحزب، وبالتالي هي حملة تصب تماما في سياق مصالح حزب المحافظين الذي تتزعمه. "تغنت" رئيسة الوزراء بالفارق الهائل في شعبية حزبها مع العمال وفق استطلاعات للرأي كانت حقيقية بالفعل، لكنها لم تكن طويلة الأمد في حقائقها.
الذي حصل، أن كوربين وأعوانه المخلصين، قدموا مشروعا انتخابيا عالي المستوى، والأهم قريبا جدا من شرائح الشباب، وهو أمر لم ينتبه إليه المحافظون، يضاف إلى ذلك أن المحافظين أنفسهم تعرضوا لهجوم بالبراهين والإثباتات من زاوية ماي نفسها، في أعقاب الهجمات الإرهابية التي استهدفت بريطانيا في غضون ثلاثة أشهر فقط. فقد تم تحميل ماي المسؤولية لأنها قلصت قوة الشرطة في بريطانيا بأكثر من 20 ألف فرد، عندما كانت وزيرة للداخلية على مدى خمس سنوات في حكومة ديفيد كاميرون. أمام الأعمال الإرهابية لابد من ضحايا مباشرين وآخرين غير مباشرين، وكانت تيريزا ماي من أولئك. وفي الغرب، لا حلول وسط عادة في التعاطي مع المسألة الأمنية. رغم أن الجميع يعرف، أن الـ20 ألف شرطي الذين سرحوا، لا يضمنون بالطبع عدم وقوع أعمال إرهابية هنا أو هناك.
بعد الانتخابات العامة الأخيرة، تحولت حكومة المحافظين من سلطة قوية كانت تسعى لمزيد من القوة، إلى سلطة ضعيفة تتسول تحالفا مع أحزاب صغيرة لتتمكن من تشكيل حكومتها. في حين أظهرت تقدما مذهلا لحزب العمال بزعيمه كوربين على حساب كل الأحزاب وفي مقدمتهم المحافظون أنفسهم. الخسارة كانت مفجعة بالفعل "رغم أن المحافظين حافظوا على التفوق بعدد المقاعد" إلى درجة أن عشرة وزراء في حكومة تيريزا خسروا مقاعدهم البرلمانية، وبالتالي مناصبهم الوزارية. وهذه إشارة مروعة "سياسيا" إلى أن الخسائر لم تصب مرشحي الحزب الحاكم فقط، بل مرشحيه الذين يحتلون مناصب في الحكومة. ومع أن زعيم الحزب "عادة" الذي يخسر الأغلبية البرلمانية يستقيل من زعامة الحزب، أصرت ماي على المضي قدما في تشكيل حكومة ائتلافية معرضة في أي لحظة للانهيار على أهون الأسباب.
والانهيار هنا في هذا الوقت بالذات سيكون كارثة على البلاد كلها، لأن بريطانيا تحضر نفسها في أيام لبدء مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي بحكومة ائتلافية هشة مضطربة. ففي حين أن هذه المفاوضات التاريخية الحرجة الصعبة تتطلب وحدة وطنية، فإن ما حصل في المملكة المتحدة عكس ذلك تماما. لم تمر بريطانيا بهذا المشهد السياسي المروع منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكن ما يجعل الوضع أكثر ترويعا في الحالة الراهنة، ليس سوى المفاوضات المرعبة حقا، خصوصا أن تكاليف الخروج ستتساوى مع تكاليف البقاء، وبعض التقديرات تتحدث عن أنها ستكون أعلى حتى من تكاليف استمرار بريطانيا عضوا في الاتحاد. هل الأجواء ضبابية في بريطانيا؟ لا، إنها سوداء حالكة، وتبقى مليئة بالمفاجآت لاسيما تلك المرتبطة بإمكانية انفراط عقد الحكومة الائتلافية الهشة عند أول منعطف.
المستشارون "الناصحون" الذين شجعوا تيريزا ماي على إطلاق انتخابات عامة مبكرة رحلوا في الساعات الأولى التي أعقبت إعلان النتائج. لكن هذا لم يؤثر بأي صورة في حقيقة الأوضاع في أعقاب الانتخابات. وبينما كان زعيم العمال كوربين يعاني العصيان داخل حزبه، صارت ماي في وضع كوربين الآن تماما، خصوصا مع بدء بعض المحافظين الحديث عن ضرورة استقالة تيريزا فورا، وعن أنها ليست مؤهلة في الواقع لحكم البلاد بصرف النظر عن نجاحها في استدراج حزب إيرلندي صغير جدا لمنحها الشرعية البرلمانية.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الاقتصاديون في أزمة مستدامة



"نحن نعلم جميعا، أن الاقتصاديين وجدوا، لجعل أحوال الطقس تبدو جيدة"
روبرت ميردوخ - مستثمر عالمي في مجال الإعلام

كتب: محمد كركوتي

ليست الأزمة الأولى التي يمر بها الاقتصاديون حول العالم. بل لا توجد مرحلة لم يمر بها هؤلاء في أزمة، أو شيء منها. ورغم محاولاتهم الابتعاد عن الأزمات (أو إبعادها عنهم لا فرق)، إلا أنهم ظلوا بمنزلة الوعاء الذي يحتضن كل السلبيات والانتقادات والهجوم، وأحيانا كثيرة الوعاء الذي يحتوي على الشتائم أيضا. حتى إنهم في بعض المراحل، تحملوا أخطاء حكومات ظلما، وإن كانوا في نظر شرائح عديدة من هذا المجتمع أو ذاك، ليسوا من المظلومين. لماذا؟ لأنهم هم السبب الرئيس للمشكلات، رغم أن أغلبيتهم العظمى لا تملك القرار أو السلطة لاتخاذ قرارات تؤدي لهذه المشكلات. فباستثناء بعض الاقتصاديين الذين جلسوا في موقع صناع القرار، تبقى الأغلبية العظمى منهم بعيدة عنه، وإن اقتربت منه عبر علاقات يصنعها الميدان الاقتصادي تلقائيا.
لا أحد "مثلا" سينسى قريبا المأساة التي شاركوا فيها وأخذت شكل الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008. في الواقع دخلوا التاريخ في هذا المجال، وباتوا جزءا لا يتجزأ من أي دراسة أو بحث أو تحليل يتناول هذه الأزمة - المصيبة. وضع الاقتصاديون جنبا إلى جنب المصرفيين الذين "اخترعوا" مشتقات مالية مروعة، وقاموا بتسهيل الحصول على قروض غير مضمونة، وأغرقوا الناس بالوعود الوردية الجميلة، وضللوا حتى المسؤولين في بعض الحكومات حول العالم، الأمر الذي أنتج الأزمة العالمية المشار إليها. مرة أخرى لم يكن للاقتصاديين سلطة القرار، ولكن بلا شك كان "ولا يزال" لديهم امتياز التلاعب بالحقائق، أو في أفضل الأحوال الجهل في قراءة الآثار المترتبة على حراك اقتصادي هنا وآخر هناك.
والحق إن الهجوم على الاقتصاديين ليس مقتصرا على الناس العاديين لاسيما أولئك الذين تضرروا بصورة عميقة جراء توقعاتهم وقراءاتهم المضللة أو الخاطئة. بل شمل أيضا باحثين مختصين وأكاديميين. وانفجر هؤلاء عليهم، في أعقاب تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي. ففي حين يعتبر الاقتصاديون أن خطأ طفيفا حدث في توقعاتهم حول ما سيحدث في أعقاب الخروج البريطاني، يرى المنتقدون أنهم فشلوا. ويرد مارك هاريسون الأستاذ في جامعة وورك البريطانية على مهاجمي الاقتصاديين قائلا: "هل علم الأوبئة في أزمة بسبب عدم تنبؤ مسؤولي الصحة العامة بأكبر وباء إيبولا في التاريخ؟". ولكن الأمر لا يحسب وفق هذه المقارنة، خصوصا أن التاريخ أثبت عدة مرات أن النسبة الأكبر من الاقتصاديين لا يتعلمون بسرعة.
ورغم أن جانبا كبيرا منهم يعترف بالأخطاء، إلا أنهم يقعون فيها مجددا، أو يسقطون بحالات مشابهة لها. فاعتراف بنك إنجلترا المركزي بأنه بالغ في التأثير قصير المدى لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي "مثلا"، لا يزيل عنه الخطأ الفادح. ومثل هذه "المبالغة" حملت عواقبها الخطيرة معها. والحق إن مثل هذه الاعترافات كثيرة في الساحة الاقتصادية العالمية. فحتى ألان جرينسبان رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق قال في أعقاب انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية "إنه لم يتوقع أن تكون الأزمة بهذا المستوى، وإنها تحصل مرة كل 100 عام". ماذا حدث؟ وقع العالم أجمع في براثنها، وفي المقدمة كانت الولايات المتحدة نفسها. فالخطأ الذي لا يمكن تصحيحه إلا بعد عقود من الزمن، ليس خطأ بل خطيئة، لاسيما عندما يرتبط بأجيال لم تولد بعد.
وللملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا موقف شهير في هذا المجال، عندما زارت كلية الاقتصاد في لندن، وطرحت سؤالها الشهير للقائمين على الكلية "لماذا لم يشاهد أحد الأزمة المقبلة (أزمة 2008) وهي في الطريق؟" وكان الجواب أن المسألة لا تتعلق بالتنبؤ، بقدر ما تتعلق بالتفكير الهائل بالتمني والغطرسة في كامل حوكمة النظام المالي. ولكن مهلا، لماذا لم يتحرك الاقتصاديون ويكشفون "تفكير التمني والغطرسة"؟ لا جواب هنا. لكن عندما تحرك بعضهم بالفعل وحذر من المصيبة القادمة، كانت الأغلبية العظمى منهم تتعاطى معهم بسخرية، ناهيك طبعا عن تأييد الحكومات التي كانت قائمة لـ"اقتصاديي التمني والمتغطرسين". الحكومات أحبت سماع هؤلاء، وسخرت هي أيضا من منتقديهم.
لا يمكن التعميم هنا، فهناك اقتصاديون وقفوا بالفعل في وجه الحراك المالي السيئ سواء ذاك الذي يخص الأزمة أو غيرها، لكن أدواتهم كانت معدومة. ومن الواضح أن السياسيين استخدموا الشريحة الأكبر من الاقتصاديين الذين "يلحنون قصائدها" غير البريئة"، وهي قصائد تفيد مرحلتهم فقط وتنال من المراحل الأخرى المقبلة. وابتعد السياسيون عن أولئك الذين يظهرون الركاكة في "قصائد الحكومات" ما يؤثر بالطبع سلبيا في أدائهم الشعبي. إنها مسألة مصالح منذ البداية، غير أنها مصالح لا تضر فردا ولا جماعة، بقدر ما تنشر المصائب والأعباء في المجتمع ككل. وليس هذا فحسب، بل تنال أيضا من هذا المجتمع لسنوات طويلة، وطويلة جدا
.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

الخميس، 1 يونيو 2017



ناهب إفريقيا ليس أجنبيا فقط



"لا تحتاج إفريقيا اليوم للمساعدات، بل للتجارة والاستثمارات، من أجل تحقيق التطور والنمو"
بول كاجامي رئيس رواندا



كتب: محمد كركوتي

ليس
جديدا أن نسبة كبيرة من الثروات الإفريقية تنهب، وعمليات النهب هذه تجري منذ عقود، وبأشكال مختلفة، تشمل معظم الميادين، من الثروات الكامنة في الطبيعة، إلى الفساد والتهريب والسمسرة وغير ذلك من الأدوات التي تضمن لك ثروة كبيرة في أقل مساحة زمنية ممكنة، بصرف النظر عن ماهيتها وشرعيتها والأذى الذي تتسبب فيه للبلاد كلها. ليس جديدا ما يجري في هذه القارة في هذا السياق، صحيح أن مستويات النهب والفساد تختلف من بلد لآخر، لكن الصحيح أيضا أن الغالبية العظمى من البلدان، تعيش تحت وطأة وعبء النهب والفساد. والحقيقة الأبشع، أن تكاليف النهب ستعيش لعقود طويلة قادمة. فالأجيال التي لم تولد بعد، ستنال حصتها من هذا الخراب، بمعنى أنها تتحمل أعباء جريمة لم ترتكبها.
الجديد في هذه القضية المتواصلة، أنه رغم تراجع معدلات عمليات النهب والفساد بأشكالها المختلفة في أنحاء العالم بشكل عام، فإنها ترتفع في مناطق عديدة في القارة الإفريقية. فلا عجب في أن ترى أفقر البلدان تقبع في هذه القارة. والأرقام المتداولة صادمة بالفعل، على الرغم من أنها تقريبية، إلا أن الأمر لا يحتاج إلى جهد كبير لمعرفة مدى صحتها. فنظرة عامة على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في البلدان المعنية، تعطي الجواب الأمثل لواحدة من أسوأ الأزمات التي تعيشها إفريقيا. علما أنه لا يوجد نقص في المعلومات الآتية من هذه المنطقة، لاسيما مع وجود عشرات المنظمات الدولية الرصينة في القارة، بما فيها تلك التابعة للأمم المتحدة، وبعض المنظمات الأهلية العالمية ذات السمعة العالية.
يجري تحميل الغرب المسؤولية في استمرار عمليات النهب وارتفاع معدلات الفساد في إفريقيا. وهذا صحيح إلى حد ما لكنه ليس السبب الوحيد والرئيس. على الصعيد الحكومي حققت البلدان المتقدمة ذات النشاطات الإنمائية في إفريقيا خطوات مهمة في المجال التنموي، لكنها تبقى خطوات محدودة، لأنها تصطدم بالفعل بجدار الفساد الذي يمثل الأساس في عدد كبير من البلدان الإفريقية، أما النزاهة فتظل استثناء هناك، ما يرفع بالضرورة مستوى نجاح عمليات النهب، بصرف النظر عن الجهات الناهبة غربية كانت أو شرقية. فالأساس لا يتغير هنا، وهو يكمن في الجهات المحلية التي يفترض أنها تعمل للمصلحة الوطنية العامة! ويتحمل الغرب "على وجه الخصوص" مسؤولية كبيرة، ليست في ارتفاع معدلات النهب والفساد، بل لأنه تأخر عن تعديل سياساته الإنمائية في القارة. مع التعديل الذي تم بالفعل منذ عقد من الزمن، بدأت الأمور تتجه في مسارات عالية القيمة والعوائد والجودة.
غير أن هذا لا يكفي، في ظل وجود حكومات لم تصل إلى السلطة إلا بالفساد، ولا يمكن أن تواصل عملها إلا به أيضا. فهل يعقل أن بلدا كالكونغو يمتلك ثروة من الألماس والنحاس والنفط تصل قيمتها إلى 24 تريليون دولار هو من أوائل البلدان الأفقر في العالم؟! لنترك جانبا تقرير الشفافية العالمية الذي أظهر معلومات مرعبة عن الفساد في القارة الإفريقية. وهو من أفضل التقارير في هذا المجال. وفق "وثائق بنما" الشهيرة التي فضحت الجميع، فإن "رجال أعمال" أفارقة يلجأون لشركات وهمية، من أجل إخفاء الأرباح التي يجنونها من بيع الموارد الطبيعية والرشا والتهريب بأنواعه. وهذه الموارد وغيرها تقدر بعدة عشرات من مليارات الدولارات، وتجري العمليات دون توقف، مع وجود "الحواضن" اللازمة لها.
وفي آخر تقرير لمؤسسة "جلوبال جستس ناو"، أظهرت هذه الأخيرة، أن القارة الإفريقية تلقت ما مجموعه 162 مليار دولار عام 2015 على شكل قروض ومساعدات وتحويلات شخصية، لكن في العام نفسه تم أخذ 203 مليارات دولار من القارة، إما بشكل مباشر عن طريق الشركات متعددة الجنسيات التي تحوّل أرباحها إلى موطنها الأصلي خارج القارة، إضافة إلى استخدامها طرقا ملتوية وغير قانونية للحصول على ملاذات ضريبية، أو بشكل غير مباشر عن طريق التكاليف التي تفرضها بقية دول العالم على القارة للحد من الاحتباس الحراري وتقليل آثاره. في حين بلغت التدفقات المالية غير المشروعة 68 مليار دولار سنويا. طبعا الفارق مروع بين الداخل والخارج من الأموال، مع ضرورة أن كل الأموال الداخلة تصل بصورة شرعية، وغالبية الأموال الخارجة لا تخرج بهذه الصورة.
الجميع يتحمل مسؤولية النهب والفساد في القارة الإفريقية. وللإنصاف لا يمكن أن تتساوى مسؤولية جهات أجنبية في غالب الأحيان تلعب حتى على حكوماتها، مع مسؤولية الجهات الإفريقية "الوطنية" التي يتوجب عليها أن تكون حامية لثروات بلدانها. فالمسؤولية الأولى تقع على أولئك الذين لديهم الاستعداد لتدمير بلادهم اقتصاديا واجتماعيا، من أجل بناء ثروة سرية هنا، وملكية وهمية هناك. وحسابات ليست لتأمين مستقبل أمة، بل لضمان رفاهية بأعلى المستويات لعدد من أفراد أسرة واحدة أو عدة أسر فقط.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



عين على أوروبا وأخرى على اسكتلندا


"استفتاء اسكتلندا في 2018 لن يكون قانونيا"
ديفيد ماندل ـــ الوزير البريطاني لشؤون اسكتلندا

كتب: محمد كركوتي

ينبغي أن يكون لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي عدة عيون في آن معا. لا تكفي اثنتان في المرحلة المقبلة، ولا سيما بعد أن حددت الـ 19 من الشهر المقبل موعدا لإطلاق مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي. عين على أوروبا، وعين على اسكتلندا، وأخرى على إيرلندا. عين على مفاوضات ما بعد مفاوضات الخروج، مع بلدان العالم من أجل إبرام اتفاقيات تجارية مع المملكة المتحدة. عين مكانة بريطانيا على الساحة العالمية ككل، وأخرى على الولايات المتحدة. تحتاج ماي إلى سلسلة من العيون في آن معا. ولكن هل هناك أهمية لـ "عين" على أخرى؟ الجواب بالتأكيد يبقى نعم. فإذا كانت لندن تستطيع تأجيل النظر في مفاوضات التجارة مع بقية دول العالم، لا يمكنها التأجيل في التعاطي مع الحراك الاسكتلندي الانفصالي. هي تحتاج في الوقت الراهن إلى عينين اثنتين، واحدة تحملق في المفوضية الأوروبية التي ستتفاوض مع بريطانيا نيابة عن كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والثانية تجحظ على المسيرة السياسية التي تقودها الحكومة المحلية الاسكتلندية للانفصال عن التاج البريطاني. التفكك الداخلي في المملكة المتحدة يخيف أي حكومة بريطانية بصرف النظر عن هوية الحزب الحاكم. وإذا كانت هذه "المملكة" قد نجت قبل عامين من فخ الانفصال الاسكتلندي عنها، فإن فرصها الآن ليست بالقوة نفسها التي كانت عليها آنذاك، لسبب واحد فقط، هو أن حقائق جديدة أفرزها استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم يكن أحد يفكر فيها أصلا في السابق. فالذين قبلوا بالبقاء تحت التاج البريطاني من الاسكتلنديين، كانوا في الواقع "يعزون" أنفسهم بوجود هذا التاج تحت راية الاتحاد الأوروبي. وتبدو الإشارة ضرورية هنا، حول الأضرار التي ستنجم عن انفصال اسكتلندي. فإذا كانت الأضرار سياسية أكثر منها اقتصادية بالنسبة لبريطانيا، فالأضرار ستكون اقتصادية أكثر منها سياسية على اسكتلندا. يرى (مثلا) بنك أوف ميريل لنش، أن أدنبره ستواجه ضغوطا تمويلية، وضبابية حيال العملة التي ستتبناها. يضاف إلى ذلك التجارة بين اسكتلندا وبريطانيا، التي ستتضرر بصورة كبيرة. دون أن ننسى، أن العجز الاسكتلندي سيتفاقم، وسجل 9.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2015 و2016. باختصار تشكل بريطانيا بالنسبة لاسكتلندا الأهمية نفسها التي يشكلها الاتحاد الأوروبي بالنسبة للمملكة المتحدة، خصوصا مع صادرات اسكتلندية لبريطانيا تمثل 64 في المائة من إجمالي الصادرات. وهذا يعني أن أدنبره ستخسر كثيرا فيما لو قررت الانفصال عن بريطانيا، إلا أن السؤال الأهم يبقى حاضرا، وهو هل تستطيع اسكتلندا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بصورة سريعة؟ وإذا تم ذلك، هل ستكون قادرة على البقاء في هذا الاتحاد؟ للوهلة الأولى هناك ترحيب أوروبي بهذه الخطوة، والأوروبيون حريصون على أن يكون الترحيب آت من مستويات بعيدة نوعا ما عن الحكومات الأوروبية، لأن الاتحاد لا يريد أن يظهر أنه يشجع على الانفصال أو أي انفصال أوروبي آخر. كما أنه لا يريد أن يظهر بصورة المنتقم من بريطانيا لأنها تنسحب منه. ولا شك أن الاتحاد يستطيع أن يحتوي اسكتلندا بسهولة، ويمكن أن يكون مرنا معها، حيث يترك لها مساحة زمنية لتوائم أوضاعها الجديدة مع الأوضاع العامة في الاتحاد الأوروبي ككل. الواضح للوهلة الأولى أن استمرار عضوية اسكتلندا في السوق الأوروبية المشتركة، سوف يعوضها عن بعض ما ستخسره من تضرر التجارة مع بريطانيا، وهذا الأمر تتفق عليه كل الجهات، بما فيها مسؤولون في الحكومة البريطانية نفسها. وفي الفترة السابقة أبدت حكومة أوروبية (إسبانيا) ترحيبا رسميا بدخول اسكتلندا الاتحاد الأوروبي. والترحيب الإسباني له دلالاته، لأن مدريد كانت تعارض هذه الفكرة من أساسها انطلاقا من موقفها الرافض لانفصال كتالونيا عنها. فهي لا تريد أن تكون هناك سابقة أوروبية. إلا أن الأمر تغير الآن. فالترحيب بأدنبره يتزايد من أطراف أوروبية عديدة، الأمر الذي يمهد الطريق أمام الاسكتلنديين لطرح استفتاء العام المقبل للانفصال من المملكة المتحدة، بصرف النظر عن معارضات الحكومة المركزية في لندن. في الداخل البريطاني ستتغير الأمور، ولن تكون مشابهة لتلك التي كانت سائدة أثناء عضوية البلاد في الاتحاد الأوروبي. فالمشاعر القومية تحت التاج البريطاني تأججت بفعل مشاعر وسلوكيات شعبوية بريطانية شاركت فيها شريحة من الاسكتلنديين أنفسهم. وفي كل الأحوال، الاتحاد الأوروبي الذي تمكن من السيطرة على مشاكل اقتصادية مخيفة في اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا وإيطاليا على مدى السنوات القليلة الماضية، يمكنه ببساطة استيعاب أي آثار سلبية قد تظهر في المرحلة الأولى لانضمام اسكتلندا إليه. ويبدو واضحا أن غالبية الاسكتلنديين يفضلون الراية الأوروبية على التاج البريطاني ليس بسبب ضغائن انتهت في الواقع منذ قرن، ولكن من أجل ازدهار على المستوى الأوروبي العالمي، لا المحلي.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


ضمير بلير الأوروبي لا غير


"بريطانيا العظمى فقدت الإمبراطورية، ولم تجد بعد دورا لها" دين أشيسون وزير خارجية أمريكي راحل

كتب: محمد كركوتي

حسنا، قرر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير العودة إلى الحياة السياسية، ليس كزعيم أو نائب برلماني، أو وزير مثلا، بل كشخصية تتصدى لعملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. هو يعرف قبل غيره، أنه لا يستطيع العودة إلى العمل السياسي بمفهومه التقليدي المعروف، والسبب يعرفه العالم أجمع، في أنه لم يترك لسمعته السياسية أي مدخل للعودة. فـ "التلوث" السياسي الذي أصيب به، لا يترك مجالا أمامه لـ "تطهير" نفسه. مع وصول بلير إلى الحكم في عام 1997، اكتسب توصيفا بالغ الأهمية، في أنه مثل "التفلون"، وهذه الأخيرة مادة معروفة لا يلتصق بها شيء. فكان يتقدم دون شوائب عالقة (وإن وجدت حقا). ومع الوقت تحول "التفلون" إلى مادة صمغية يلتصق بها كل شيء.
اليوم يريد توني بلير العودة فقط للمحاربة على صعيد خروج بريطانيا من الاتحاد، وهو إذا كان كاذبا في عشرات المسائل والقضايا، فإنه (للحق) يتمتع بصدق شديد في هذه المسألة على وجه الخصوص. إنه من الأشخاص الذين لا يستطيعون أن يتابعوا مستقبل المملكة المتحدة خارج الاتحاد الأوروبي، وهو مؤمن تماما ولديه المبررات الحقيقية بأن الخسائر البريطانية ستكون فادحة عند الخروج الفعلي، وأن تصحيح هذا الخطأ (إن تم بعد سنوات أو عقود مثلا) سيكون على حساب بلاده، وأن الذين أرادوا الانفصال، تمكنوا بالفعل من تحقيق نجاح باهر في ترويج الأكاذيب التي انطلت على الناخب البريطاني. وبالطبع فشل المؤيدون للبقاء في ترويج مضاد لهؤلاء، وكانت النتيجة "بريكست" خطير آنيا ومستقبليا.
ورغم أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق لا يمكنه (ولا غيره من الشخصيات) إعادة الساعة إلى الوراء، إلا أنه يراهن على النقطة الأهم الباقية حاليا على صعيد عملية الخروج، وهي تلك الخاصة بالنتائج التي ستتوصل إليها مفاوضات الخروج، وكل التوقعات تشير إلى أنها لن تكون في مصلحة بريطانيا. بل إن التصريحات الأوروبية ظلت واضحة منذ اليوم الأول لقرار بريطانيا الانسحاب، وكلها تدور حول مفاوضات لن تتضمن أي معاملة خاصة للندن، بل على العكس تماما، على هذه الأخيرة أن تدفع ثمن خروجها معنويا وماليا. والثمن كما هو واضح أيضا سيكون كبيرا، والأهم لن ينتهي بانتهاء المفاوضات بل سيستمر لسنوات طويلة بعد إقرار أي اتفاق بين الطرفين.
بالطبع يروج بلير إلى شرعية أن يُستفتى الشعب البريطاني على نتيجة المفاوضات، ويعتبر ذلك قمة الديمقراطية. إلا أن الإشارات الواردة من حكومة تيريزا ماي لا تذكر أي شيء بهذا الخصوص، والواضح فيها أنه لا استفتاءات أخرى، وأن اتفاق الانفصال سيطبق فور إقراره. ومن هنا ستكون حملة بلير إعلامية فقط لأنها لن تصل إلى مرحلة تغيير اتجاه البوصلة، وكل ما ستحققه ليس أكثر من سلسلة جديدة لمسلسل التخويف من الانفصال، وعرض الحقائق بالفعل على الناخب، لكن مهما كانت هذه الحقائق صادمة، فالآلية الاستفتائية لن تكون حاضرة، ولا سيما بعد الانتخابات البريطانية العامة الشهر المقبل، التي من المرجح أن يحقق فيها حزب المحافظين بزعامة ماي انتصارا كبيرا.
الأمر سيان، فيما لو كانت عملية "بريكست" متشددة أو مرنة، أو رقيقة بالنسبة للبريطانية أو خشنة. دون أن ننسى، أن الاتحاد الأوروبي يريد من خلال المفاوضات مع بريطانيا أن يهدد بصورة غير مباشرة أي دولة ضمن نطاقه تفكر في الانسحاب، أو حتى تطلب معاملة خاصة. كانت هذه المعاملة حكرا (تقريبا) على بريطانيا وانتهت الآن. أي أن الاتحاد "سيربي" الأوروبيين ببريطانيا. وبلغت مؤشرات صعوبة وضع بريطانيا في المفاوضات مع وصول الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون إلى الحكم. فهذا الأخير لا يعتبر الاتحاد الأوروبي مهما فحسب، بل إنه يشكل المصير المشترك لكل القارة الأوروبية، وهذا التوجه يلقى قوة دفع لا محدودة من موقف ألمانيا، التي اعتبر بعض مسؤوليها أخيرا، أن البريطانيين يحلمون باتفاق جيد، وهو حلم لن يتحقق.
أمام هذه الحقائق والتوجهات، لا يوجد أمام توني بلير إلا تفعيل نشاطه إعلاميا. وبصرف النظر عن صحة رصد عشرة ملايين جنيه استرليني لحملة مضادة لـ "البريكست" خلال مفاوضات الخروج، فكل الأمور تتجه إلى المسار الذي يرسمه الاتحاد الأوروبي. إنه الطرف الأقوى الآن، بينما تواجه المملكة المتحدة مخاطر حتى من داخلها، عبر توجهات الاسكتلنديين والإيرلنديين الانفصالية بحجة الانفصال الأوروبي. لا شك في أن توني بلير يتحلى (على غير العادة) بصدق كبير في هذه المسألة المصيرية، وهو مستعد للمضي إلى آخر الشوط في سبيل تكريس الحقيقة. لكنه في النهاية جاء متأخرا جدا، فضلا عن أن سمعته لا توفر له وقودا في مواجهة أولئك الذين اعتبروا أن كل مصائب بريطانيا آتية من أوروبا. وهؤلاء يعبرون عن التوجه الشعبوي المشين في الواقع الذي، تلقى ضربة شديدة البأس من انتخاب الفرنسيين ماكرون رئيسا لفرنسا. هذا البلد الذي يحب أن ينظر إليه، على أنه ضمير الاتحاد الأوروبي.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


البطالة العربية .. إلى الأمام سر



"في الحقيقة، عدد قليل جدا من الحكومات تفكر ببطالة الشباب، عندما تقوم بوضع الخطط الوطنية" كوفي عنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة

كتب: محمد كركوتي

تتصدر البطالة العربية مشهد الأزمات في المنطقة، إلى جانب طبعا الخراب الحقيقي الذي يحدث في غير بلد عربي. ورغم أن هذه الأزمة ــ المصيبة ليست جديدة بل متجددة، إلا أن الجديد فيها يبقى دائما محصورا في الأرقام التي تصدر بين وقت وآخر حول نسب البطالة وشرائح المتعطلين، وأوضاع سوق العمل، ومخرجات التعليم وهذه السوق، والقطاعات العاجزة عن توفير فرص العمل. وكلها أرقام ترتفع سلبا في كل مرة. وعلى الرغم من قيام بعض الحكومات بخطوات عملية للحد من البطالة في بلادها، إلا أن وتيرة التوظيف تبقى أقل مما هو مستهدف أو مأمول. ما يطرح أسئلة حول الحراك الاقتصادي العام، والأهم حول القطاعات الموجودة وتلك الجديدة، ومدى ارتباط مخرجات التعليم فيها. وهذه وحدها معضلة لا أحد يتوقع أن تشهد حلولا سريعة، لأنها تراكمت ببطء، وبالتالي فهي بحاجة إلى علاج متوافق مع طبيعة الحالة. ومثل هذا العلاج يأخذ وقتا حتى في البلدان الأكثر تقدما. البطالة ليست حكرا على العالم العربي. فهي منتشرة بل متزايدة في دول كثيرة، بما فيها تلك التي تتمتع باقتصادات متقدمة. الفارق بين الحالتين، أن الاقتصادات المشار إليها، يمكنها ببساطة أن تعيش مع البطالة، وتوفر الحد الأدنى المطلوب للعيش الكريم للمتعطلين، دون أن تتأثر اقتصاداتها بصورة خطيرة من جراء ذلك. ومع أن النمو في البلدان المتقدمة أعلى مستوى منه في البلدان العربية خصوصا والنامية عموما، إلا أن فارق النمو لا يدخل عمليا في مشاريع التوظيف، وإن دخل يبقى أقل مما هو مطلوب. الأمر لا يتعلق بدول تعيش حروبا داخلية مخيفة مثل سورية والعراق واليمن. فهذه الدول عليها أولا أن تستعيد الأمن والاستقرار كي تبدأ في مناقشة مسألة البطالة. فلا يمكن حل أي مشكلة مهما كانت بسيطة، في أجواء حروب لا أحد يعرف أين وكيف ستنتهي. البلدان العربية الأخرى الأكثر استقرارا وأمنا يمكنها أن تناقش هذه القضية، وتبدأ بصورة عملية وليست نظرية في وضع الحلول الناجعة لها، مع الإشارة إلى أنه ليس المطلوب منها حلولا سحرية سريعة، لأنها ببساطة ليست قادرة عليها. وبالنظر إلى أرقام صندوق النقد العربي حول البطالة العربية، نجد مصيبة متعاظمة، ولا سيما فيما يختص ببطالة الشباب. ففي حين أن هذا النوع من البطالة يصل إلى 12 في المائة على مستوى العالم، يبلغ 28 في المائة على الصعيد العربي ككل! والمصيبة الأكثر فداحة، أن المتعلمين يشكلون ما نسبته 40 في المائة من هؤلاء! وهي نسبة مخيفة حقا. في بعض البلدان العربية، يتفوق غير المتعلمين "الأميين، والحرفيين وغيرهم" على المتعلمين في الفوز بفرص العمل! وهذا يطرح سؤالا رئيسا حول ما إذا كانت مخرجات التعليم المتخلفة في أحيان كثيرة هي السبب، أم فشل المخططات الاقتصادية للبلدان المعنية؟ إنها مزيج من الاثنين معا. فأغلبية الاقتصادات العربية فشلت في الواقع في محاكاة المستقبل بما تحتاج إليه هي لا غيرها! والآن تقوم بإعادة النظر في هذه المسألة الخطيرة، إلا أن الأمر "مرة أخرى" يتطلب وقتا لن يكون قصيرا للمواءمة بين حقائق المستقبل الاقتصادية والتنموية والآليات التنفيذية المطلوبة. ففي بعض الحالات تكون مخرجات التعليم أكثر تقدما مما هو متوافر في سوق العمل! وهذه أيضا معضلة لا دخل لاتجاهات التعليم فيها. لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن نسبة من التوجهات التعليمية الفردية تسير بصورة معاكسة لما هو مطلوب على الساحة. لنترك جانبا البطالة العربية بين النساء، التي تفوق مثيلتها عند الرجال. فالنسبة مخيفة تصل إلى 34 في المائة مقابل 13 في المائة فقط على المستوى العالمي. فمشكلة البطالة في العالم العربي من الفداحة حيث لا يمكن تحسينها بين النساء في حين أنها مستفحلة بين كل الشرائح. المسألة برمتها مرتبطة بصورة مباشرة بالاقتصادات الوطنية ووتيرة التنمية، والفهم المطلوب للاستحقاقات الاقتصادية التي تفرضها التطورات المختلفة، من احتياجات السوق إلى التكنولوجيا إلى النمو الرهيب في عدد السكان في بعض البلدان ولا سيما مصر، وغير ذلك من الحقائق الواضحة على الأرض. ما تواجهه أغلبية البلدان العربية قنبلة موقوتة بصورة مستمرة. وهذا التوصيف بات مستهلكا ليس من كثرة استخدامه بل فرط بدهيته. والحكومات تعرف قبل غيرها، أنه لا يمكن ادعاء التنمية إذا ما كانت معدلات البطالة عند مستويات عالية مروعة اقتصاديا واجتماعيا. فحتى الوظائف الحكومية التي يتم توفيرها كمخرج للأزمة، باتت اليوم عبأ ثقيلا على الاقتصادات الوطنية كلها. فالمسألة لا تتعلق فقط بتوفير وظائف لا يعمل الموظفون فيها حقا، بل مرتبطة بالتنمية التي لا تختص بأولئك المتعطلين، بل بالأجيال القادمة أيضا.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")