الجمعة، 22 يونيو 2012

الجبهتان الفرنسية والألمانية في معركة اليورو

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





     "لا أحد في أوروبا سيُهمَل، لا أحد في أوروبا سيُعزَل. أوروبا ستنجح إذا ما عملنا كلنا مع بعضنا البعض"
                                                                                       أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا

كتب: محمد كركوتـــي
تستطيع أنجيلا ميركل أن تحاجج من يرغب في الجدل معها، بأنها لا تزال ملتزمة بما قالته عن أوروبا، قبل أن تدخل هذه القارة في نفق الديون الملتهب (لا المظلم). فهي أعلنت أن أحداً في أوروبا لن يُهمَل ولن يُعزَل، لكن قبل أن تورط نفسها كثيراً في كلام حاسم قاطع لا مجال للمراوغة فيه أو الالتفاف حوله، أسرعت لتقول (قبل الأزمة مرة أخرى)، بأن نجاح أوروبا لا يتم إلا بالعمل الجماعي. وهذا التعبير الأخير، هملامي فضفاض، يوفر مساحات للجدل الذي عادة ما يقدم أفضل المحاور لإضاعة الوقت بل وهدره. فلا توجد صيغة واحدة جاهزة للعمل الجماعي (أي عمل)، لأنه في الواقع نتاج حلول وسط، وفي بعض الأحيان هو وليد تنازلات وتراجعات، وفي أحيان أخرى، يأتي في سياق إهانات، إن وجد من يقبلها على نفسه، وفي الحالة الأوروبية، إن ظهر من يقبلها على بلاده. ولأن الأمر كذلك، لم تعلن ميركل (على سبيل المثال) اتفاقها مع ما قاله الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قبل سنوات، الذي اعتبر أن بُنية أوروبا، هي فن، ليسرع في القول "إنه فن الممكن".
لا شك في أن ميركل ترغب في تكريس "فن الممكن" في البنية الأوروبية، لكن وفق معاييرها الخاصة، واعتباراتها السياسية الداخلية. ولأن الأمر ليس سهلاً، على الرغم من قدرات بلادها الإنقاذية لعدد من الدول الأوروبية المتهاوية، فليس أمامها سوى التمسك بـ "العمل الجماعي". ولكن مهلاً، هل يفهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، آليات ومعايير العمل الجماعي الذي تسوقه المستشارة الألمانية؟ أقول هولاند، لأنه الموازي الأهم لميركل في التعاطي مع أزمة الديون الأوروبية، ولأنه يتحرك وفق خطط، يعتقد أنها الأفضل في عملية الإنقاذ، وقبل هذا وذاك، ليس من أولئك القادة الذين يستسهلون العمل السياسي بشقه الاقتصادي، ويلجأون عادة إلى سياسة رد الفعل. فهو مهاجم شرس يحرص ألا يرتكب الأخطاء، تجنباً للبطاقة الحمراء، التي ستخرجه من الملعب، وتترك "حارس مرماه" بمفرده أمام مهاجمة شرسة أيضاً (ميركل)، لكنها لا تولي اهتماماً كافياً للبطاقات التي يحملها الحَكم. صفراء، حمراء، طرد.. الأمر ليس مهماً، طالما أنها لا تزال اللاعب الذي لا غنى عنه.
هناك "أزمة إجراءات" حقيقية بين فرنسا وألمانيا، حاول المسؤولون في كلا البلدين إبقائها خلف الأبواب المغلقة قدر الإمكان. إلا أن الاختلافات (بل الخلافات) كانت أكبر من أن تُبقي الأزمة ضمن اجتماعات بين الطرفين، الأمر الذي دفع رئيس وزراء إيطاليا ماريو مونتي إلى تنصيب نفسه وسيطاً بين الطرفين، رغم أنه هو نفسه، قد يحتاج إلى وسيط بينه وبين الطرفين المعنيين أنفسهما، عندما "يقرر" أن بلاده تحتاج كما اليونان والبرتغال واسبانيا وايرلندا إلى حزمة إنقاذ، بصرف النظر عن قيمتها وشروطها، وربما مهانتها. ولا يبدو أن وسيطاً كهذا سوف يحقق النجاح، خصوصاً، وأن "أزمة الإجراءات" بين باريس وبرلين ليست اقتصادية بالكامل. هي مزيج بين الاقتصاد المضطرب (هناك من يصفه بالمتهالك) وبين الايدولوجيا السياسية. بين يسار معتدل، ويمين أقل اعتدلاً، مع ضرورة الإشارة هنا، إلى ضرورة عزل اليمين اليوناني تحديداً عن هذه المعادلة. فاعتباراته مختلفة بحكم فداحة وفظاعة أزمة ديون بلاده، وبفعل التداعيات والتخبطات الانتخابية الداخلية.
والمعادلة في الواقع واضحة. الأوروبيون المحافظون يريدون إقرار خطط التقشف في البلدان الأوروبية كلها، وليس فقط تلك التي ترزح تحت وطأة وضربات الديون، في حين يرى الاشتراكيون الليبراليون، أن هذه الخطط هي بمنزلة انتحار سياسي واجتماعي، ويدفعون باتجاه اعتماد ما يمكن توصيفه "تقشف أقل ونمو أكثر". ولكن هل يمكن أن تتحقق هذه المعادلة؟ المدافعون عن هذه الرؤية- الخطة التي تبناها فرانسوا هولاند فور فوزه في الانتخابات الرئاسية، يؤكدون بأنه يمكن أن يتحقق النمو المطلوب، دون أن تصاب الشعوب الأوروبية بالمزيد من الأذى، إذا ما تم طرح سندات الخزانة الأوروبية. لكن الرافضين (المحافظين) يؤكدون في الوقت نفسه، على أن عدم إحكام القبضة على ضبط الموازنات العامة، يعني ببساطة أن كل الخطط ستكون بمهب الريح، وسترتفع فداحة أزمة الديون، بل ستزيد من وحشية عدواها، وسرعة انتشارها في الأرجاء.
ليس أمام فرنسا وألمانيا سوى الاتفاق. لكن السؤال يبقى، الاتفاق على ماذا؟ على "العمل المشترك" شرط ألا يكون بمفهوم المستشارة الألمانية، وبصيغة أخرى "العمل المشترك الممكن". وهو في الواقع يمثل رمزاً مشتركاً لرئيس فرنسي اشتراكي حالي، وآخر يميني محافظ سابق. إنه يوفر لميركل حلاً أعلى من الوسط، الأمر الذي تحتاجه هي شخصياً على الصعيد السياسي الداخلي الآن في بلادها. فمستشارة ألمانيا هي الوحيدة المتبقية من زعماء أوروبا الذين انفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية في وجوههم، والتي فجرت معها أزمة ديون تاريخية، في قارة لا تزال تصنع التاريخ بأشكاله المختلفة.

لا تريدون حماية السوريين.. احموا اموالهم

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")



"اللصوص الصغار يشنقون من رقابهم، واللصوص الكبار ينشقون من مَحَافظهم"
                                                                                                     مثل لا تيني 


كتب: محمد كركوتــــي


كلما اقتربت النهاية الحتمية لنظام سفاح سورية بشار الأسد، كلما ازدادت وتيرة تهريب ما تبقى من أموال الشعب السوري التي تتعرض للسرقة بكل أشكالها منذ الأسد الأول إلى الأسد الثاني والأخير. فعند العصابات لا معنى لمصير المكان الذين يمتلكونه كرهاً، وبالتأكيد لا قيمة لحياة من يعيشون فيه ظلماً، ولا أهمية حتى لأولئك الذين تعاونوا معها على المستويات الدنيا.. المهم النجاة بأرواح قادتها وبالأموال المنهوبة، ولا بأس من ضم بعض المخلصين لها من الكبار في عملية الفرار، والبحث عن ملاذات آمنة لها، وبعد ذلك لهم. فالمشهد السوري المروع على مختلف الأصعدة، لم يمنع حتى أولئك الذين يحسبون كلماتهم قبل إطلاقها، وحركاتهم قبل الإيماء بها، من الخروج عن الثوابت اللفظية خصوصاً حيال القضايا المتفاعلة. فلم يجد رئيس فرنسا فرانسوا هولاند توصيفاً لنظام الأسد (أكثر دلالة) من "أنه نظام حقير". وعندما عبرت لأحد كبار مساعدي هولاند، عن إعجابي بالجرأة السياسية اللفظية لرئيسه في هذا التوصيف، رد مندهشاً.. هل لديك توصيفاً أمثل للأسد؟!
لا أعرف إذا كان للأسد و (عصابته) مساحة من الوقت لـ "توضيب" حقائبه قبل الفرار، إذا ما نجا فعلاً من عدالة الشعب السوري، وتمكن من إنقاذ رقبته. الذي نعرفه جميعاً، أنه (على طريقة رؤساء وقادة العصابات)، يقوم بتهريب وتخزين الأموال المنهوبة من السوريين، ليس بمساعدة المهربين وقطاع الطرق والخارجين عن القانون والأخلاق فحسب، بل أيضاً بعون ودعم كبيرين من بعض الحكومات التي تعيش وَهْمَ إمكانية بقاءه في سلطة لم تكن له شرعية فيها، أباً عن ابن، وشحبيحاً عن مرتزق، وقاتلاً عن مجرم. حكومات مثل الروسية واللبنانية والإيرانية والفنزويلية. بل هناك معلومات (لم تتأكد بعد) عن انضمام حكومة روبرت موغابي الذي فاز باليانصيب الوطني في زيمبابوي إليها! فتعاون العصابات (بمن فيها حتى المتخاصمة منها) يكون حتمي عندما تتعرض للحصار والمكافحة. هكذا فعلت في السابق أسر المافيا في الولايات المتحدة، وهكذا تفعل العصابات في كل مكان. المهم بالنسبة لها، ألا يتم القضاء على الشر الذي تعيش به ومنه.
أمام الشعب السوري الآن مهمة كبرى، تضاف إلى مهمته الفردية في إسقاط الأسد وعصابته. مهمة لن تكون سهلة، وليست قابلة للإنجاز في وقت قصير. وهي تفرض على جميع القوى الدولية مسؤولية كبيرة وأخلاقية لمساعدة هذا الشعب، الذي قرر العالم (حتى الآن) أن يتركه بمفرده عالقاً، بين "هجوم" دولي صوتي لفظي على الأسد، وبين الآلة العسكرية الوحشية لهذا الأخير. هذه المهمة تكمن في حصر وجلب الأموال التي نهبها الأسد الأب والابن، والأم والأخت، والعم والخال، إلى آخر الأسرة وتوابعها.. وتوابع توابعها. وإذا كان العالم قرر عدم مساعدة الشعب السوري، في الحرب التي يخوضها بالنيابة عن الإنسانية جمعاء، عليه على الأقل تقديم العون في استرجاع ما يمكن استرجاعه من أمواله المسروقة. فهذه المهمة لا تحتاج إلى قرار من (الرهينة الروسية) مجلس الأمن الدولي، بل إلى أوامر تصدر في لحظات، شرط ألا تكون أوامر صوتية.
تكفي الإشارة هنا، إلى أنه في الستة أشهر الأولى من الثورة الشعبية العارمة التي تجتاح سورية، تمكن الأسد من تهريب ما يزيد عن 23 مليار دولار أميركي، إلى الدول الصديقة له رسمياً وليس شعبياً. ومنذ إطلاق مبادرة المبعوث الدولي العربي كوفي عنان إلى سورية قبل شهرين تقريباً ، وبصرف النظر عن كونها ولدت ميتة ( وعند حتى المعجبين بالمبادرات، ولدت مشوهة)، فقد تمكن سفاح سورية من تهريب ما يقرب من 4 مليارات دولار أخرى. أي أنه في عام ونصف العام تقريباً هرب ما يزيد عن 27 مليار دولار من أموال السوريين المنهوبة، أو ما يوازي 2 مليار شهرياً. غالبية هذه الأموال كانت في خزائن البنك المركزي، الذي نزع عنه الأسد الأب الصفة الوطنية، ودغمه بالصفة الأسرية.
وإذا اعتمدنا على التقديرات التي اتفقت حولها غالبية الجهات المتابعة لاستراتيجية نهب سورية، حيث تأرجحت بين 30 و40 مليار دولار، فإن الأسد هرَب في 15 شهراً أكثر من ثلثي ما يُعتقد أنه هربه إلى الخارج في غضون 40 عاماً. وأقول الأسد لا عصابته، لأن الأموال التي نهبتها هذه الأخيرة، لا تدخل ضمن التقديرات المشار إليها. وقد تفيد الإشارة هنا، إلى أن ما نهبه محمد مخلوف خال الأسد (لوحده)، يصل إلى 12 مليار دولار أميركي. على كل حال، لا يمكن ترك هذا الأمر إلى ما بعد السقوط الحتمي للأسد وأسرته ونظامه الطائفي، فلا يزال السوريون يتعرضون للنهب والسرقة في غمرة تعرضهم للإبادة الجماعية التي أتاحها العالم. وإذا كان هذا العالم لا يرغب في مساعدتهم في حفظ حياتهم أمام هذا النظام الوحشي، ليساعدهم على الأقل في حفظ مستقبلهم الاقتصادي، بمالهم المنهوب. فالسوريون لا يطالبون بمعونات ومساعدات مالية، بل يطلبون أموالهم التي  سُلبت منهم في سياق قتلتهم الممنهج.

الثلاثاء، 5 يونيو 2012

من قال إن اليورو منيع؟!

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

"شكراً لليورو.. هو دليل قوي على الهوية الأوروبية. علينا أن نبني على ذلك، ونجعل من اليورو أكثر من عملة، ومن أوروبا أكثر من منطقة جغرافية"
لوران فابيوس وزير المالية الفرنسي الأسبق، ووزير الخارجية الحالي

كتب: محمد كركوتـــي
 
لا أعرف إذا كان لوران فابيوس، لا يزال متمسكاً برؤيته الخاصة باليورو والهوية والجغرافيا الأوروبية وما يرتبط بها. فقد أطلق هذا الاستنتاج-الرؤية في عام 2000، عندما كان وزيراً اشتراكياً للمالية في حكومة تحت قيادة جاك شيراك الرئيس اليميني، مع ضرورة الإشارة هنا، إلى أن يمين فرنسا ليس –مثلاً- كيمين بريطانيا حيال أوروبا، في رؤيته للوحدة الأوروبية. فالأول متناغم معها إلى أبعد الحدود، بل ومقاتل شرس من أجلها، والثاني معطل لها قدر الإمكان. اليوم يعود فابيوس إلى "مطبخ" الحكم الفرنسي وزيراً للخارجية، في ظل فروقات ومفارقات تاريخية هائلة بين ما كانت عليه أوروبا قبل 12 عاماً، وما هي عليه الآن. فاليورو (الطفل) الذي ولد في عام 2000، وجلب معه الفرحة التي ينشرها المواليد في الأجواء، ضلل الجميع –دون استثناء- ببهائه وقوته ونضارته وجاذبيته.. بل وجماله، إلى درجة أن خاف البعض عليه من حاسد بريطاني هنا، وآخر أميركي هناك. فقد كان يكفيه "الحُساد" الأوروبيون القابعون في شرق القارة، الذين كانوا ينتظرون دورهم لحجز أمكنتهم القريبة منه اقتصادياً وتشريعياً واجتماعياً.

الفرحة بولادة اليورو، أنست المبتهجين، بأن هذا المولود يحتاج كغيره من المواليد، إلى لقاحات مانعة للأمراض والأوبئة، خصوصاً تلك المُعدِية. وربما كان سبب ذلك، هو من فرط اعتقادهم بأنه منيع أصلاً، لا يمكن أن يطاله وباء اقتصادي أو مرض مالي أو حتى "نزلة برد" مصرفية. فقد كانوا يظنون أن مناعته مكتسبة وليست مستوردة. هي جزء من التكوين! وإن وجد من يتنازل منهم ويعترف بأن اليورو (مثل بقية المواليد، بل وحتى الكبار) يمكن أن يتعرض لـ "نزلة برد"، فقد تعاطوا مع هذا الأمر وفق المفهوم الإنجليزي لهذه الوعكة الصحية العادية، بأنه يمكن الخروج منها خلال أسبوع بالدواء، وفي سبعة أيام بلا أية عقاقير. كانوا يتعاطعون مع "المناعة" المتصَوَرة لديهم، بمنزلة رصيد لا يمس لليورو، تماماً مثل الأرصدة المالية والاحتياطيات من الذهب التي تسند العملات المتداولة، دون أن ينتبهوا، إلى أن دورة الاقتصاد تمر بمراحل من الازدهار والكساد، وفي حالة الاقتصاد العالمي المنفلت الذي ساد الساحة على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، تمر الدورة بمرحلة الخراب الحتمي. وهذا ما حدث بالفعل، عندما أزاح الانفلات، كل معايير الانضباط، وأوجد الأزمة الاقتصادية العالمية.

لقد تحول السؤال الذي طرح في عام 2000 كيف يمكن أن نجعل اليورو أكثر من عملة.. أوروبياً؟ إلى مجموعة مريعة من الأسئلة، ليس فقط حول العملة الأوروبية، بل حول الشكل الأمثل للاتحاد الأوروبي! والبعض المتطرف يتحدث عن ضرورة إجراء عمليات "تجميل" لهذا الاتحاد، بعد أن أصابه اليورو بالتشوه. ويتصدر هذه الأسئلة.. السؤال المخيف، هل ينفرط عقد منطقة اليورو؟ وبصورة ألطف، هل تخرج اليونان وربما بعدها اسبانيا من هذه المنطقة؟ وهل هناك تحضيرات جارية لاحتواء عواقب خروج اليونان؟ هل يدير قادة أوروبا أزمة اليورو جيداً؟ حسناً.. هل يستطيع البنك المركزي الأوروبي القيام بدور الحكومات وإحلال النمو المالي والازدهار الاقتصادي؟ هل يمكن لألمانيا المنقِذة مواصلة الضخ المالي إلى أجل غير مسمى؟ والسؤال الأصعب، هل تتحمل ألمانيا نفسها انهيار بعض دول اليورو؟ هل تنتشر العدوى في دول أخرى من منطقة اليورو؟ لماذا لا تفرض الدول التي لا تزال قادرة، الوصاية على تلك الغارقة في ديونها وأزماتها السياسية الداخلية؟ أين الرؤية المستقبلية للمنطقة؟

الأسئلة كثيرة ومخيفة، ولا يوجد على الساحة الأوروبية (على الأقل الآن) من يستطيع الإجابة عليها، أو على بعض منها. ورغم أن غالبية قادة منطقة اليورو الحاليين، جاؤوا ما بعد غرق المنطقة في ديونها، إلا أنهم لم يقدموا أية حلول ناجعة أو مقنعة في سبيل انتشالها من الغرق. ولهذا السبب بدأت تظهر أسئلة حول أهلية هؤلاء في إدارة الأزمة-الكارثة. والحقيقة أن التمنيات بتماسك منطقة اليورو والحفاظ على أعضائها (بما في ذلك العضو اليوناني)، لا توفر إلا الأوهام، خصوصاً في ظل مشاكل عديدة متصاعدة ليس في الدول الأكثر إصابة فحسب، بل في تلك التي لا تزال العدوى بعيدة عنها، بصرف النظر عن مساحة بُعدها.

كانت الأزمة الاقتصادية العالمية السبب في كل الخراب الذي شهده ويشهده العالم منذ انفجارها في عام 2008. وقد ساهمت الثقة المُبالغ فيها بصحة اليورو في استفحال أزمة منطقته. فإذا كانوا (وهو في سن الثانية عشرة) يتحدثون عن مصيره، فكيف الحال عندما يصل إلى مرحلة الشيخوخة؟! لقد حان زمن الواقعية الاقتصادية في كل مكان، ويكفي العالم أجمع، أنه عاش أوهاماً اقتصادية، تحولت إلى كوابيس، بعد أن جعلت الظلام يسود في عز النهار.

مصبغة الأسد لغسيل الأموال

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")




"أهمية إيجاد الشهود توازي أهمية القبض على المجرمين"
سايمون وايسنتال محقق في الجرائم النازية

 
كتب: محمد كركوتــــي
 
يقف سفاح سورية بشار الأسد، بجدارة وامتياز في قائمة المجرمين الذين اكتسبوا توصيفهم الإجرامي، بصورة كاملة. ويرتفع عن بعض هؤلاء (في التاريخ) درجة، في أنه ورث الإجرام إبناً عن أب. بينما الأمر لم يكن كذلك، في حالة النازي هتلر، والفاشي موسوليني، والهمجي تشاوسيسكو، والمجنون القذافي، والسادي ميلوسوفيتش.. إلى آخر المجرمين الذين كان مرورهم في التاريخ الإنساني عاراً على البشرية جمعاء، ومصائب عليها لم تنته حتى اللحظة. والمجرم الكامل الأوصاف، هو القاتل والسارق. هو المغتصب لحقوق ليست له، ولحياة لا يملكها. هو ليس خارجاً عن القانون فقط، بل عدو له. وإن كان هناك من قانون خارج عن سيطرته، فهو يزدريه. وبشار الأسد، الذي قتل وعذب واعتقل ودمر وهجر وسرق ونهب، وارتكب الفظائع (بحكم قوانين الوراثة، و"محركات" الـ دي إن إى)، هو أيضاً غسل (ويغسل) الأموال المنهوبة من الشعب السوري، بل ومن شعوب أخرى (العراقيون في مقدمتهم)، وتلك الناتجة عن الجرائم المختلفة، من زراعة وتجارة المخدرات، إلى الإتجار بالسلاح، مروراً (طبعاً) بالتهريب، وتشكيل العصابات المتنوعة إجراماً، وتزوير العملات وطباعتها بدون سند، والرشى، إلى آخر تلك الجرائم التي لا تنتهي.

وعلى هذا الأساس، جاء قرار السلطات السويسرية مؤخراً بالتحقيق في عمليات تبييض الأموال لحساب نظام الأسد متأخر كثيراً، وذلك في سياق تقاعس سويسرا التاريخي في التعاطي مع عمليات غسيل الأموال التي تعج بها مصارفها، وعلى رأسها أموال شعوب عديدة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، حيث شكلت تلك المصارف لسارقيها ملاذات آمنة. وقد عاندت سويسرا في السنوات الماضية حكومات دول كبرى، عندما طالبتها هذه الأخيرة، أن تتقدم خطوات إلى الأمام في هذا المجال. وبلغ الأمر حداً، أن هددت الحكومة السويسرية قبل عامين، بتجميد حصتها من الدعم المالي لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الأوروبية، لأن هذه الأخيرة وضعتها في مقدمة قائمة الدول التي لم تتعاون بما يكفي في مجال مكافحة غسيل الأموال. ولعل من المفيد الإشارة هنا، إلى أن تفعيل التحرك ضد سويسرا في هذا المجال، لم يأت إلا بعد انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، مما تزيل عنه بعضاً من أخلاقياته.

أعود إلى بشار الأسد والعصابة التي يحكم بها سورية. فهذا الأخير لديه "مصابغ" أخرى كثيرة إلى جانب "المصبغة" السويسرية. ولأنه يمارس الكذب كاستراتيجية مصيرية له، لم يتردد بين الحين والآخر في إصدار مراسيم جمهورية لماذا؟ لمحاربة غسيل الأموال في سورية؟! آملاً في إقناع العالم بأنه محارب شرس لهذه الجريمة المتخصص بارتكابها (مرة أخرى) ابناً عن أب عن عم عن خال.. إلى آخر الروابط العائلية. فقد أصدر في العام 2003 مرسوماً تشريعياً بهذا الخصوص، عدله بآخر في العام 2005، وكل بند فيه ينطبق على الأسد وعصابته في دائرتيه الضيقة جداً أو في تلك الأوسع قليلاً جداً أيضاً.

الأموال غير المشروعة هي تلك الناتجة عن ارتكاب الجرائم التالية، حسب المراسيم "الأسدية": 1- زراعة أو تصنيع أو تهريب المخدرات.. فمنذ سبعينات القرن الماضي، وأسرة الأسد تسيطر على هذه "الصناعة" القاتلة، ليس في سورية فحسب بل وفي لبنان "الناشط" أصلاً فيها. 2- الأفعال التي ترتكبها جمعيات الأشرار.. لنتذكر استيلاد الأسدين المتواصل لعصابات أخذت شكل تنظيمات، ومن بينها حزب الله الشيعي الإيراني في لبنان، وفتح الإسلام، والجبهة الشعبية –القيادة العامة، والميليشيات العراقية وغيرها. 3- جرائم الإرهاب.. عمليات ممولة ومدعومة من الأسدين، تعدت الأراضي السورية لتشمل لبنان والعراق والأردن وتركيا ودول الخليج العربية، وعدداً من البلدان الأجنبية الأخرى. 4- تهريب الأسلحة والذخائر والمتفجرات وتصنيعها أو الإتجار بها.. مرتبط مباشرة بالبندين الثاني والثالث. 5- سرقة المواد النووية أو الكيماوية أو الجرثومية، أو تهريبها أو الإتجار بها.. هذه الجريمة خاصة بعدد قليل جداً من الأسرة الحاكمة في سورية، نظراً لحساسيتها الدولية. 6- سرقة واختلاس الأموال العامة أو الخاصة.. الأدلة في هذا المجال تحتاج إلى مجلد كامل، ولاسيما أن هذا النوع من الجرائم ارتُكب بصورة متواصلة على مدى أكثر من أربعة عقود. 7- تزوير العملة.. لم يكتف الأسد الأب والابن بارتكاب هذه الجريمة على مدى سنوات، بل أضافا إليها طباعة الأوراق النقدية بدون سند أو رصيد، مما دمر الاقتصاد السوري المنهوب أصلاً. 8- سرقة الآثار.. ظلت هذه الجريمة حكراً على أفراد عائلة الأسد فقط. 9- جرائم الرشوة والابتزاز.. هي جزء أصيل من الحراك "الاقتصادي" السوري. 10- تزوير حقوق الملكية الفكرية.. تجاوز الأسد وعائلته والمقربين منه التزوير إلى السرقة العلنية لهذه الحقوق.

لا تمثل "المصبغة" السويسرية التي يغسل فيها الأسد الأموال المنهوبة، وتلك الناتجة عن الجرائم المختلفة التي يرتكبها منذ أربعين عاماً، أهمية كبيرة. فـ "مصبغته" الخاصة بفروعها المنتشرة حول العالم، ولا سيما فرعيها اللبناني والإيراني، توفر ناتجاً مالياً مريعاً، يفوق ذاك الذي تنتجه له "السويسرية". إنها المصبغة الوحيدة التي تعمل بالآلام والدماء، لا بالكهرباء.