الاثنين، 22 فبراير 2010

المعذرة سنخفض المساعدات.. نحن في أزمة!

(هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")




" يمكن تعريف المساعدات الخارجية على أنها تحويلات من الفقراء في الدول الثرية إلى الأثرياء في الدول الفقيرة"

الكاتب الاقتصادي الأميركي دوجلاس كاسي

 
 
محمد كركوتــي
حسنا.. الجميع في أزمة. لا فرق بين فقير وثري. الكل وقع فيها. لا فرق بين دولة متقدمة وأخرى تعيش حضارة بدائية، ولا فرق بين مجتمع غارق بـ " المياه المعدنية" وآخر غارق في "مياه جافة"!. هذه الأزمة جمعت أصحاب "الياقات البيضاء" وأولئك الذين لا يملكون ملابس أصلا في ناد "مرحلي" واحد!. إنه أكبر النوادي العالمية الشعبية في التاريخ!. لماذا؟ لأن العضوية فيه قسرية، لا قيمة لموافقة العضو أو معارضته لها!. هذا النادي ضرب عرض الحائط كل المستويات والدرجات. تجد فيه رجلا بسترة إيطالية فاخرة، وآخر لاشيء يستره!. الأزمة الاقتصادية "الشعبية" العالمية، وضعت الجميع تحت سقفها الضارب في الأفق. لم تترك شيئا إلا وانتهكته، ولا مجالا إلا واقتحمته، ولا أملا إلا ودمرته. وحتى في مرحلة الانتعاش الهش، يظل الدمار ولفترة طويلة جدا قابعا في كل الأمكنة. فالمشهد لن يتجمل من جراء تعاف هش هنا وآخر هناك، وبالطبع لن يزول بالتطمينات ولا بالمسكنات. لن ينتهي إلا بعمليات جراحية لن تنجح إلا باستئصال مسببات الوباء.

قبل عام تقريبا كتبت مقالا تحت عنوان "ضخ وشح"، تناولت فيه مصير المساعدات التي تقدمها الدول المانحة إلى تلك "الممنوحة". قلت فيه : تستطيع الدول الكبرى المانحة للمساعدات الإنسانية والتنموية الخارجية، أن تعلن – بصوت ليس خفيضا- بأن حجم هذه المساعدات سيتراجع إلى أجل غير مسمى. وتستطيع هذه الدول أن تنتقد المنتقدين وتقول: "لا توجهوا اللوم إلينا.. نحن في أزمة". وتستطيع أن تردد المثل المصري الشعبي المعروف "ما يحتاجه البيت.. يحرم على الجامع". ولكن هل تستطيع ( والعالم معها) تحمل تبعات تراجع مساعداتها؟. وهل بإمكانها احتواء المصائب التي ستنجم عن تدني المساعدات؟. وهل تقدر الدول المانحة، "القنبلة الاجتماعية" التي ستنفجر عندما تخفض من مستوى معوناتها؟. وقبل هذا وذاك، هل يتحمل العالم استفحال أزمة كبرى، في ظل أزمة أكبر منها؟.

الجواب جاء من منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي Organisation for Economic Co-operation and Development المعروفة اختصارا بـ " أو.إي.سي.دي". ماذا تقول المنظمة التي تتخذ من باريس مقرا لها؟: "إن تعهدات الدول الغربية لمساعدة الدول الفقيرة خلال العام 2010 سوف تتراجع، رغم وصول إجمالي التعهدات الدولية إلى مستوى قياسي". وتتوقع المنظمة، أن لا تحصل الدول الإفريقية على نصف المساعدات التي تعهدت بها الدول الصناعية الثماني الكبرى في قمتها باسكتلندا قبل خمس سنوات وكانت بحدود 25 مليار دولار أميركي. لقد تعهدت 15 دولة في العام 2005 بتخصيص 0,51 في المئة من إجمالي ناتجها القومي عام 2010 لمساعدة الدول الفقيرة. وعلى الرغم من أن دولا مثل السويد والدنمارك وهولندا، سوف تقدم مساعدات تتجاوز تعهداتها، فإن دولا أخرى لن تفي بالنسب المتفق عليها، وفي مقدمتها فرنسا التي ستقدم 0,45 في المئة وألمانيا 0,40 في المئة والنمسا إلى 0,37 في المئة وإيطاليا 0,20 في المئة، من إجمالي الناتج القومي. وعلينا أن نعرف أن دولتين هما فرنسا وألمانيا تساهمان بحوالي 37 في المئة من إجمالي ميزانية برنامج مساعدة الدول الفقيرة!. باختصار سيكون هناك عجز يصل إلى 12 مليار دولار لعام 2010 بين المساعدات "الموعودة" والفعلية.

لا نشكك بنوايا الدول المتقدمة الثرية، ونفهم معها " أن الذي يحتاجه البيت يحرم على الجامع"، ونتفق أيضا بأن إنقاذ المؤسسات في هذه الدول، هو مسؤولية وطنية حتمية، فلا يمكن أن تسمح حكومات بانهيار مؤسسات، أصبحت تمثل في الواقع رموزا شكلت النسيج السيادي في بلدانها. ولكن المسؤولية الوطنية ( لاسيما في الدول الكبرى) توازيها مسؤولية عالمية، لا مجال للهروب منها، ولا يمكن التخلص من استحقاقاتها. إنها مهمة الكبير إذا ما أراد أن يكون كبيرا. ولأنها كذلك، فلا يمكن أن تتساوى مسألة إنقاذ مصرف أو مؤسسة، مع قضية توفير مياه الشرب – لا الاستحمام – في دولة ( أو مجتمع) تصل فيها قيمة الأمطار إلى قيمة الألماس!، وتستحيل المقارنة بين فقدان الدواء لعلاج مرضى الإيدز – مثلا – في دولة ما، وبين تراجع مبيعات السيارات في الدول الثرية. وهل يمكن أن نقارن بين الكوارث المولودة من الحروب - وتلك الطبيعية – وبين المشاكل التي يعاني منها قطاع السياحة في هذا البلد أو ذاك؟!. الدول المتقدمة الثرية تعرف تماما، أنها لا تستحق هاماتها في عالم لا توجد فيه هامات أخرى. وإذا لم يفهم هذا القوي هذه المقاربة، فإنه لن يختلف عن شخص خاض سباقا بمفرده.. لكنه احتل المركز الثاني!!. ولمن نسي من أولئك الذين يُحمِلون الأزمة الاقتصادية العالمية مسؤولية " التقتير" المالي، أقول: هناك امرأة في مكان ما من هذا العالم، تموت كل دقيقة أثناء الولادة، وهناك 72 مليون طفل لم يلتحقوا بالمدارس، وهناك 1,02 مليار جائع، وهناك طفل واحد من كل 6 أطفال مصاب حتى أذنيه بآفة عمالة الأطفال!.

يقول كبير مستشاري مؤسسة "أوكسفام" الخيرية البريطانية الكبرى في أعقاب إعلان "منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي" عن عدم إيفاء الدول المانحة بتعهداتها للعام 2010 : "تلك الوعود التي لا يتم الوفاء بها، لا تقل عن كونها فضيحة". والواقع أن الفضيحة ليست وليدة الأزمة الاقتصادية العالمية، بل سبقتها بسنوات عدة. فقد تراجع حجم المساعدات الأميركية للدول الفقيرة في عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن إلى مستويات مُخجلة، ساهمت في "تصغير" الولايات المتحدة التي قزمتها أصلا سياسات إدارة بوش على مدى ثماني سنوات. أما مساعدات الدول المانحة الأخرى فقد شهدت هي الأخرى تراجعا ملحوظا، لم يصل بالطبع إلى مستوى تراجع مثيلتها الأميركية. فعلى سبيل المثال تراجعت مساعدات الاتحاد الأوروبي الخارجية في العام 2007 التي بلغت 46,1 مليار يورو ( اليورو يساوي 1,2 دولار أميركي تقريبا) أكثر من 1,7 مليار يورو مقارنة بحجمها في العام 2006!. أي أن الدول المنضوية تحت لواء هذا الاتحاد لم تف بكامل تعهداتها قبل الأزمة. وهذا المبلغ المستقطع يمكن أن يمول – حسب مفوضية الاتحاد الأوروبي- بناء 4500 مدرسة أو 1200 مستشفى.

لا يمكن مقارنة الكرم الأوروبي بـ "الكرم" الأميركي في عهد بوش الابن. فالمقارنة تظلم الأوروبيين، وتمنح واشنطن تحت بوش تقديرا لا تستحقه. لكن هذا لا يلغي حقيقة تراجع المساعدات الأوروبية في الوقت الذي تحتاج فيه الدول الفقيرة كل شيء تقريبا، في زمن الأزمة التي لا دخل للدول المحتاجة في ارتكابها. إنها أزمة مُصدَرة من بلدان المساعدات. من واشنطن من طوكيو من لندن من باريس من برلين من روما وغيرها. وقد أصبح واضحا للجميع، أن "شماعة" الأزمة لم تعد تحتمل المزيد من المبررات أو الحجج، فقد أُثقلت بما يكفي منها. فالأزمة "تحملت" الكثير، بعد أن حملت العالم الكثير أيضا. لكن هذا لا يعني على الإطلاق الهروب من المسؤولية، بل على العكس تماما، تمسي المسؤولية ضرورة حتمية في وقت الأزمات والمحن، وليس فقط في زمن المسرات.

إن قنابل التدمير الشامل لا تصنع فقط من اليورانيوم المخصب، بل تصنع أيضا من حرمان البشر من حقوق إنسانية بسيطة الماء والطعام والدواء أجزاء أساسية منها، لكن الكرامة تقف على رأسها.

يقول الكاتب البريطاني تشارلز لامب : "لا أعرف غبطة أعظم من أن أُسدي يداً في الخفاء، ثم ينكشف أمرها مصادفة". هل هناك أعظم من هذا الشعور؟!.

الخميس، 18 فبراير 2010

الأوبئة الاقتصادية الأوروبية!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")












«لكي تفهم أوروبا، يجب عليك أن تكون عبقريا أو فرنسيا»
وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت

 
محمد كركوتــي
 
في موجة الرعب الأوروبي من انهيار الاقتصاد اليوناني، يستطيع رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون الحصول على مساحة للتنفس، ليست متوافرة عند قادة دول منطقة اليورو (الدول الأوروبية التي تعتمد اليورو عملة رسمية لها). فلا تزال بريطانيا خارج هذه المنطقة، وتحتفظ بـ ''جُنيهها الإسترليني'' إلى أجل لم يشأ براون تحديده. لكن.. ما نطاق ''مساحة التنفس'' هذه؟ إنه ضيق ومحدود، لا يلبث أن يتحطم أمام حقائق الترابط الاقتصادي الأوروبي، سواء داخل منطقة اليورو أو خارجها. فمسؤولية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، قد تتفاوت بين دولة وأخرى (طبقا لحجم هذه الدولة أو تلك)، لكنها لا يمكن أن تغيب عن الساحة، كما أنها ليست اختيارية، هي في الواقع إلزامية لكل من ارتضى أن يكون عضوا في هذه المنظومة الأوروبية الهائلة.

اليونان اليوم، وربما البرتغال غدا، وإسبانيا بعد غد، وحتى بريطانيا ربما ''بعد بعد غد''!. عجز هائل في الموازنات العامة لهذه الدول، تضاف إليه ديون سيادية متعاظمة، تنذر بأزمة اقتصادية عالمية أخرى، بينما لا تزال الأزمة (ليس غيرها) تتسيد الموقف الاقتصادي العالمي، إلى أجل يُحسب بالسنوات، لا بالأشهر. فالتعافي الذي بادر بالظهور مع ''هروب'' عام 2009، يشبه ذلك التعافي الذي يشعر فيه مريض يتكدس السرطان في كل أنحاء جسمه. هو أشبه بوردة تم العثور عليها '' بقدرة قادر'' وسط جبل من القمامة. هو إطار جميل للوحة قبيحة. هو بمثابة كلمة خارجة عن النص! ولأن الأمر كذلك، فليس مهما أن تكون هذه الدولة أو تلك داخل أو خارج منطقة اليورو. المهم أنها ضمن الاتحاد الأوروبي، وأن استحقاقات الأزمة سارية على الجميع، وأن الهَم اليوناني الآتي من جهة البحر الأبيض المتوسط، لا مناص من أن يتحول إلى هَم فنلندي قابع عند تخوم روسيا، وهَم ألماني مترابط حدوديا مع فرنسا، وهَم فرنسي متلاصق مع إيطاليا، إلى آخر ''التوليفة'' السياسية الاقتصادية الحدودية الاتحادية الأوروبية.

لم تنته الأزمة الاقتصادية العالمية، ولن تنتهي في المدى المنظور. وإلا كيف نفسر تعاظم الديون السيادية؟ وارتفاع معدلات البطالة؟ وتواضع معدلات النمو المتوقعة؟ وتزايد العجز في الموازنات العامة؟ كيف نفسر التباطؤ في الوصول إلى نظام اقتصادي عالمي، يضع النظام القائم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في سجلات التاريخ فقط؟. كيف نفسر تحذيرات صندوق النقد والبنك الدوليين، من مغبة سحب خطط الإنقاذ الحكومية على مستوى العالم؟ كيف نفسر الجشع العائد (هذا إن رحل أصلا) إلى نفوس القائمين على المؤسسات المالية الكبرى؟ كيف نفسر ما يستحيل تفسيره؟! تكفي الإشارة إلى أن الديون السيادية التي لا تتوقف عن النمو، بدأت تشكل المشهد الاقتصادي العالمي ما بعد اندلاع الأزمة. فقد وضعت العالم أمام تهديد جديد يتمثل في إمكانية عجز الدول عن تسديد ديونها في المرحلة المقبلة. منها دول تملك القرار الاقتصادي العالمي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا، فضلا عن دول مثل إيرلندا، النمسا، المكسيك، لاتفيا، أوكرانيا، الأرجنتين، والإكوادور وبالطبع إسبانيا والبرتغال وغيرها!.

الاتحاد الأوروبي، يعيش سكرات حقيقية لما بعد انفجار الأزمة. وعلى الرغم من الهزات الاقتصادية التي شهدها العالم مطلع القرن الـ 21، ظلت منطقة اليورو متماسكة وقوية إلى حد ما. لكن مع بدء شبه انهيار الاقتصاد اليوناني (العجز في موازنة اليونان 12.7 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، أي أكثر من أربعة أضعاف المعدل المسموح به في دول منطقة اليورو. فقد وصل إلى 300 مليار يورو)، أصبحت هذه المنطقة ( المكونة من 16 دولة) في مواجهة أكبر تهديد لوجودها، منذ إنشائها في كانون الثاني (يناير) من عام 1999. لم يجد رئيس الاتحاد الأوروبي هيرمان فان رومبوي أمامه سوى المطالبة بتشكيل حكومة اقتصادية أوروبية، لكي تقوم بتنسيق سياسات مواجهة الأزمة بصورة أفضل. فهو يعتقد بأن القادة الأوروبيين هم الوحيدون القادرون على بلورة استراتيجية مشتركة تهدف إلى خلق مزيد من النمو ومزيد من الوظائف. وفي الواقع، فإن ما يطالب به رومبوي هو تعزيز ''آلية الحكم'' باعتبارها أمرا ملحا ومطلوبا، لا سيما في وقت الأزمات الكبرى. لكن مطالبة ''الرئيس الأوروبي''، لم ترق بعد إلى دول مثل بريطانيا وألمانيا، ولكنها تصب تماما في التوجه الفرنسي. فقد كان الرئيس نيكولا ساركوزي قد تقدم سابقا بمقترحات بهذا المعنى لزملائه الأوروبيين. فهو يسعى من خلال هذه التحركات والاقتراحات والمطالب، إلى تكريس الدور الأوروبي ( إقليميا وعالميا)، من أجل استكمال ''دق المسامير'' في نعش النظام الاقتصادي الأنجلوساكسوني، الذي يعتبره ساركوزي وبعنف مجرد نظام تخريبي عالمي، أو على الأقل مجرد نظام لم يعد صالحا لما بعد الأزمة الاقتصادية.

وسواء تم تشكيل ''الحكومة الاقتصادية الأوروبية'' أم لم يتم، يواجه الاتحاد الأوروبي أكبر التحديات قاطبة، منذ تحوله من ''مجموعة أوروبية'' إلى هيئة اتحادية. وهذه التحديات لا تترك مجالا للجدال. فكلما زاد وقت الجدال تحولت هذه التحديات إلى تهديدات، وتحولت بالتالي إلى مصائب متفاقمة تنال من مستقبل الاتحاد الأوروبي نفسه. في القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسل الشهر الجاري، تبين – مرة أخرى - لقادة الدول الـ 27 المنضوية تحت لواء الاتحاد، أن الآتي أعظم، وأن مساعدة اليونان في محنتها المالية التاريخية، هي مجرد ''تدريب'' لما قد يحدث ( في وقت ليس ببعيد) في دول أوروبية أخرى. فالتضامن النظري لم يعد له مكان على الساحة الأوروبية، تماما كما هو حاله على الساحة العالمية. لكن ما حدث في القمة، ظل ضمن نطاق ''التمنيات الأخلاقية'' في أن تتجاوز اليونان محنتها. نحن نعلم أن الاتحاد لن يترك اليونان بمفردها، لكننا نعلم أيضا، أن هذا البلد لن يكون قادرا على تقليص العجز في موازنته العامة إلى 4 في المائة مع نهاية عام 2010!. وهنا يأتي دور الدول الأوروبية الكبرى للتدخل، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا. إلا أن هناك مشكلة إجرائية (بل دستورية) في هذا المجال. فطبقا للقواعد المعمول بها في الاتحاد الأوروبي، لا يجوز لدول منطقة اليورو أن تقوم بتطبيق خطة إنقاذ جماعية لاقتصاد أي دولة في المنطقة المذكورة. وهذا يعني أن المساعدات التي تحتاج إليها اليونان، لن تأتي إلا بشكل فردي، دون أن ننسى، بأن الديون السيادية هي التي تتقدم المشهد الاقتصادي في كل الدول الأوروبية، تماما مثلما هو الحال في الولايات المتحدة.

تقول الأديبة الأمريكية المعروفة أليسون لوري: ''الذي يذهب إلى أوروبا لرؤية التاريخ المُعاش، عليه أن يذهب إلى جنوب كاليفورنيا لرؤية المستقبل''. لقد أرادت أن تقول: إن الولايات المتحدة تمنح الرؤية الواضحة للمستقبل، مثلما تمنح أوروبا رؤية تاريخ يعيشه الأوروبيون في القرن الـ 21. لكن هل ينطبق هذا التوصيف على أوروبا والولايات المتحدة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية؟. أحسب أنه لا ينطبق على الإطلاق!. فأوروبا.. تواجه أوبئتها الاقتصادية بمعايير الحاضر ''الاتحادية'' – إن جاز التعبير -، وهو أمر لم يكن مطروحا على الساحة الأوروبية قبل القرن الـ 20. والولايات المتحدة.. قدمت مستقبلا اقتصاديا لهذا العالم، مليئا بالأوبئة والأمراض بمعاول نظام بات القضاء عليه أمرا واجبا على الجميع، وعلى رأسهم الأمريكيون أنفسهم. ولأن الأوقات تتغير، والحقائق المُريعة تسود الساحة الدولية ( بنخبها وغيرهم)، فإن المستقبل الذي تحدثت عنه لوري، لن يكون مشرقا إلا بتغيُر المفاهيم والأنظمة والمعايير السائدة، وبالتعاون العالمي المفتوح (لا المحلي أو الإقليمي الضيق). وإذا كان ''الرئيس الأوروبي'' يدعو إلى حكومة اقتصادية أوروبية لمواجهة أبشع الأزمات العالمية قاطبة، فمن الأفضل الدعوة إلى تشكيل ''حكومة اقتصادية عالمية''، يرسم من خلالها العالم مستقبله، ويُبعد بأدواتها المخاطر. إنها خطوة ستجعل من العولمة نفسها حاجة ملحة، لا قضية خلافية.

الزبون ليس دائما على حق!

(هذا المقال خاص بجريدة الاقتصادية)

«لا تثق بالراوي.. ثق بالرواية»
الأديب والشاعر الإنجليزي ديفيد هربرت لورنس

محمد كركوتــي
 
رسام الكاريكاتير البريطاني كيبير وليامز رسم بليغ حول الصدمات التي أحدثتها الأزمة الاقتصادية العالمية. فقد رسم موظفا كبيرا في صندوق النقد الدولي، يقول لزميل له: يجب علينا أن نلجأ إلى صندوق النقد الدولي. فما كان من الموظف الثاني إلا أن رد مستغربا مستعجبا: نحن صندوق النقد الدولي! ذكَرني هذا الرسم المعبِر، بوكالات التصنيف والتقييم الكبرى، المتخصصة في تحديد مستويات وملاءات (وحتى نزاهة) المؤسسات والشركات الكبرى، والمؤسسات ذات ''المقاسات'' المختلفة الأخرى. فهذه الوكالات أصبحت جزءا من الأزمة، قبل هذه الأخيرة وخلالها، وربما بعدها، إذا كان هناك من لا يزال يعتقد أنها وكالات ''معصومة'' لا تخطئ، وبأنها تتحلى بالنزاهة والشفافية!

وعلى الرغم من أنها تعرضت إلى ما تستحق من هجوم وانتقادات وتشكيك وارتياب بعد أن ''طفح الكيل''، إلا أن هذه المسألة تستوجب وضعها على الدرجة نفسها من الأهمية، الذي يضع العالم فيها النظام المصرفي الساعي إلى إعادة هيكلته بما يتوافق مع إفرازات ومصائب الأزمة الاقتصادية. فاستحقاقات الأزمة، تجاوزت - منذ اندلاعها - مستويات الإصلاح و''الترقيع''، وبلغت مرحلة إعادة الهيكلة. فكيف يمكن القيام بأعمال الديكور في مبنى منهار؟! وكيف يمكن إجراء عملية تجميل لامرأة فارقت الحياة؟! وكيف يمكن تحسين صورة لا معالم لها؟! الأمر يحتاج إلى إعادة صناعة، وإعادة بناء، وإعادة تكوين، لن تنجح معه أية جهود تهدف لـ ''إعادة التدوير''! وإذا كان بالإمكان إلقاء القبض على شخص ارتكب جريمة قتل، ووقعت عليه العدالة الخالصة، هل يمكن لهذه العدالة أن تُعيد الضحية إلى الحياة؟

في كتابي الذي صدر في منتصف عام 2009 عن الأزمة الاقتصادية العالمية تحت عنوان ''في الأزمة''، نشرت موضوعا مستفيضا عن وكالات التصنيف والتقييم، تحت عنوان ''عملوا البحر طحينة''. وقتها كان رؤساء هذه الوكالات يقولون: ''لا دخل لنا في ارتكاب الأزمة، ولسنا مسؤولين عن تداعياتها، وقد قمنا بمهامنا على أكمل وجه''!. لكن هؤلاء لم يبرروا تقييماتهم لمؤسسات وضعوها في الدرجة الممتازة، كيف تعرضت إلى الانهيار بـ ''لمح البصر''؟ ولم يفسروا تصنيفاتهم ''فوق الممتازة''، لمؤسسات وشركات تابعة أو متعاونة مع المحتال الأمريكي الشهير برنارد مادوف، الذين استطاع أن يسرق 65 مليار دولار أمريكي على مدى 20 عاما. هي التي ''طمأنت'' العالم بأن بنك ''ليمان برازرز'' الأمريكي لا غبار عليه، وأن بنك ''نورثرن روك'' البريطاني متماسك، وأن ''ميريل لينتش'' الأمريكية متوازنة، وأن مصرف ''رويال بنك أوف أسكوتلاند'' لن يخسر، وأن شركة ''فورد'' قوية، وأن مؤسسة الضمان الأمريكية ''إى آي جي'' مضمونة. وقبل هذا وذاك، أن لدى مادوف من ''النزاهة'' والصدق، ما يكفي لوضع أموال الدنيا بين يديه! والمصيبة أن شرائح نافذة في الاقتصاد العالمي، اعتبرت أن وكالات التقييم لديها من الشفافية والنظافة ما يكفي لتحصينها من الخضوع للتقييم!

إن الأمر ليس كذلك. فالجميع يعلمون أن الثقة تحتاج إلى سنوات لبنائها، وقابلة ومطواعة للتدمير في ظرف ثوان معدودة. ولا أعرف إن كان أولئك الذين يؤمنون بـ ''قدسية'' وكالات التقييم ( مثل ''زملائهم'' المؤمنين بـ ''قدسية'' السوق)، يعرفون أن الجودة لا تبدأ إلا من الداخل، ثم تحفر لنفسها طريقا إلى الخارج. فهذه الوكالات لم تعمل بالجودة المطلوبة، من أجل تحديد مستوى جودة الآخرين!. لا غرابة إذن.. في أن تكون المؤسسات التي خضعت لتقييم وكالات التصنيف هذه، أول وأكبر الهيئات المنهارة، وأول من نشر الصدمة والآلام معها، وأول من ''بشَر'' بكساد عالمي يصعب حتى على القائمين على إدارته وضع مدة محددة أو متوقعة لانتهائه.

تطرح قضية وكالات التقييم، موضوع التشابك في المصالح بينها وبين المؤسسات الخاضعة لتقييمها. فعلى مدار السنوات التي سبقت الأزمة الاقتصادية العالمية، لم تقدم وكالة واحدة، تصنيفا سلبيا، لمؤسسة واحدة من تلك الكبرى أو المتوسطة. أقصى ما كانت تقوم به، هو تخفيض مستوى التقييم بصورة لا تتأثر معه سمعة المؤسسة أو الشركة. والتشابك الذي يحتاج إلى ''التفكيك'' أو التوضيح، يكمن في أن المؤسسة التي توظف وكالة التقييم، تتحول أوتوماتيكيا إلى زبون لهذه الوكالة، الذي ينطبق عليه التعبير السوقي الشائع ''الزبون دائما على حق''. لكن هذه – ربما – هي الحالة الوحيدة التي لا ينطبق عليها هذا التعبير. فالوكالة لا تقدم منتجا استهلاكيا، يجب أن يخضع بالضرورة لرضا المستهلك. بل ''تصنع'' منتجا معلوماتيًا لتوعية المستثمر الذي سيساعده في توجيه أمواله. وفي الواقع ينبغي أن يكون الزبون هنا هو المستثمر، لا المؤسسة ولا الشركة. وإلى أن يتم حل هذه الإشكالية، وفك ''التشابك''، ستظل وكالات التصنيف ''بائعة للتقييمات''، وستبقى محل شك وريبة. فقد تحولت هذه الوكالات قبل الأزمة – وحتى لأشهر بعدها – مثل الجامعات التي تبيع شهادات الدكتوراه والماجستير، لأشخاص لا يملكون إلا المال!

والمشكلة الكبرى، أن الأوروبيين فهموا ضرورة وحتمية حل هذا الخطأ الاقتصادي الاستثماري التاريخي، لكن الأمريكيين لا يريدون أن يفهموه. ففي الربع الأول من عام 2009، وافق المشرعون الأوروبيون على تنفيذ إصلاحات – لا تغييرات - ترتبط في مسألة دفع تكاليف عمليات التصنيف. غير أن الأمريكيين لم يتوصلوا بعد إلى صيغة ما بهذا الخصوص، الأمر الذي سيقلل من حجم ومستوى الإصلاح الأوروبي، لأن قطاع وكالات التصنيف – لا سيما الكبرى منها – هو أيضا متشابك عالميا، مثلما هو متداخل محليا. ويطرح الـ ''مكتوون'' بنار الأزمة، قضية الشفافية مع وكالات التصنيف نفسها. فالأسئلة كثيرة في هذا المجال، ولا توجد إجابات شافية عليها. ولعل في مقدمتها: ما مدى خضوع وكالات التصنيف للتدقيق في رسومها وماضيها ومستويات التصنيف والتقييم التي تعتمدها؟ بل، هل المحلل التابع لهذه الوكالة أو تلك، يتمتع بالقدرة المهنية الجيدة؟ وما مدى جودة سمعته؟ يكفي الإشارة هنا، إلى التضارب الذي بات جزءا أصيلا في عمليات التقييم تجاه مؤسسة واحدة. فلم يعد غريبا منذ سنوات، أن تجد مؤسسة حاصلة على مستويات متفاوتة من عدة وكالات في وقت واحد!. ويتكرر هذا الأمر بصورة مضحكة ومؤذية في آن معا. والمثير أنها لم تتردد (في أعقاب الأزمة) في تخفيض مستوى تقييماتها الخاصة بالمؤسسات العالمية - والعربية أيضا- دون أن تقدم أي مبررات معقولة لهذه التقييمات المتدنية، تماما كما فعلت في رفع تقييماتها لهذه المؤسسات قبل الأزمة، دون أي مبررات واقعية أو صادقة، أو معلومات حقيقية.

هناك الكثير من الخطوات والمقترحات التي تجعل من ''قطاع التصنيف'' قطاعا يستحق اسمه. من بينها: أن لا تملك وكالات التصنيف الحق في تحديد قيمة الديون التي تساعد على إعادة جدولتها. وألا يشترك المحلل الموكَل بتقييم المؤسسة في مفاوضات حول أجوره. ويقترح المشرعون: ألا يحصل هذا المحلل على هدايا تفوق قيمتها 25 دولارا أمريكيا. وعلى الوكالة التي توظفه، أن تمتلك سجلا تاريخيا عن نزاهته، وإذا ما كان تعرض إلى شكاوى في السابق. وإذا ما وضعت هذه المقترحات قيد التنفيذ الفعلي، سيعاد النظر بحقيقة وكالات التصنيف، بما في ذلك تلك التي تحمل أسماء رنانة، وستحصل على المكانة التي وُجدت من أجلها. وإذا كانت المؤسسات والشركات.. وحتى الحكومات معرضة للفساد، ينبغي أن تكون هذه الوكالات، هي الوحيدة المحصنة منه. وللتدليل على ذلك، فقد خلصت لجنة مراقبة حكومية أمريكية إلى ماذا؟.. إلى أن المسؤولين في وزارة الخزانة الأمريكية كذبوا على الرأي العام في بلادهم، عندما روجوا لتسع مؤسسات مالية حصلت على مساعدات حكومية لإنقاذها من الانهيار. وكذب هؤلاء – حسب المفتش العام الخاص بالمساعدات الحكومية نيل باروفسكي – عندما ''رسموا صورة إيجابية''، وأكدوا بطريقة غير واقعية على أن المصارف التي حصلت على أموال الإنقاذ الحكومية ( أموال دافعي الضرائب)، قادرة على الإقراض بفضل هذه المساعدة. وماذا فعلوا أيضا؟ أخفوا معلومات عن الوضعية الحقيقية لهذه المصارف حتى بعد خطط الإنقاذ!.

يقول الأديب الأمريكي الشهير مارك توين :''إن تستحق التقدير ولا تحصل عليه.. أفضل من أن تحصل عليه دون استحقاق''. لقد عبَر عن واقع وكالات التصنيف والمؤسسات التي ''صُنفت''، وكانت أول الغارقين في الأزمة.

يسارية اليمين!

( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")










''الاقتصاد العالمي يرتكز على تموين رغبة اثنين في المائة من مجموع سكان العالم''.
الكاتب والمؤلف الأمريكي بيل برايسون

 
 
محمد كركوتــي
وجد عديد من قادة دول العالم (المؤثرة وغير المؤثرة)، في الأزمة الاقتصادية العالمية، فرصة سانحة ومناسبة لـ ''الثورة'' على ما كان سائدا قبلها، بما في ذلك أولئك الذين كان لهم نصيب في وقوع الأزمة نفسها، أو الذين غضوا الطرف عن مقدماتها، أو الذين ''تحايلوا'' على الاتهامات الموجهة إليهم! فـ ''ثورة'' المتورط، تسهم في تلطيف – وربما في تخفيف – الاتهامات الموجهة إليه، و''ثورة'' غير المتورط، تعطيه دفعا شعبيا قويا يحتاجه في وقت الأزمات وفي دائرة النكبات. وفي الواقع، أوجدت الأزمة ''موجات ثورية''، وصلت إلى حد دفعت رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليكانية روان وليامز للقول علنا: ''إن كارل ماركس كان على حق.. إذن''. وهذا لا يعني بالطبع أن وليامز يوافق على الطرح الماركسي – ولا سيما من الجانب الديني – لكنه أراد بهذا الموقف الغريب، أن يقدم تعبيرا ثوريا، يصعق صانعي القرار السياسي – الاقتصادي، الذين يعيشون الصاعقة الناجمة عن الأزمة، وفي مقدمتهم أولئك الذين ارتكبوها!. لكن الاندفاع ''الثوري الموسمي''، يظل فاعلا ضمن نطاق آني، لا ينفع إلا في تحقيق مكاسب إعلامية – دعائية آنية، سرعان ما تزول أمام الحقائق المتفجرة، وعاجلا – وليس آجلا – ما تنتهي بنهاية اليوم.

في الأزمة، رأينا سياسيين يمينيين محافظين، لا ينتقدون المصرفيين الجشعين و''المُلهَمين'' الاقتصاديين المُدمِرين فحسب، بل يشتمونهم. ورأينا ثوريين تقليديين (بصرف النظر عن رُشد ثوريتهم أو فوضويتها)، يطورون الشتائم إلى أقوى منها! لقد سوَت الأزمة، بين مؤمن بالاقتصاد المفتوح الذي ''لا يخطئ مدى الدهر''، وبين مؤمن بأن الاقتصاد المفتوح ليس سوى الخطيئة بعينها!. وضمت رئيسا مثل الفرنسي نيكولا ساركوزي الآتي من جهة اليمين السياسي، ورئيسا مثل الفنزويلي هوجو تشافيز الآتي من أقصى اليسار السياسي، إلى ''بيان مشترك واحد''، في صيغة متطابقة. بيان لا يحتوي إلا على هجوم ضد سلوكيات السوق المفتوحة، وضد القائمين والمؤمنين بـ ''قدسيتها''. وقبل هذا وذاك ضد النظام الاقتصادي ''الأنجلوساكسوني''، الذي دمرت الأزمة كل أدبياته في إعصارها الذي أغرق كل أتباعه وأغرق معهم المناوئين له أيضا. إنه نظام ما بعد الحرب العالمية المنتهية في عام 1945، يرى الثوريون التقليديون، ومعهم '' الثائرون'' غير التقليديين الجدد، أنه ينبغي أن ''يُعلن استسلامه'' في الحرب الدائرة إلى أجل غير مسمى على الأزمة الاقتصادية العالمية. فهؤلاء يعتبرون هذا النظام الاقتصادي، بمثابة ''سلاح الدمار الشامل الاقتصادي''.

ليس هناك أفضل من ''المنتدى الاقتصادي العالمي'' الذي يعقد سنويا في دافوس السويسرية، كمنبر لتجسيد ''التحول الثوري''. فهذا المنتدى يجمع السياسيين ومعهم رؤساء أكبر المؤسسات والشركات في العالم تحت سقف واحد. وعلى الرغم من أنه يناقش الاقتصاد بعالميته وشموليته ومصائبه، إلا أنه ظل في نطاقه النخبوي من حيث شروط العضوية فيه. وأُذكر من نسي، بأن المؤسسات ''النخبوية''، كانت ''الحجر الأساس'' في ''بناء'' الأزمة الاقتصادية العالمية، إلى جانب ''الأعمدة'' السياسية المساندة لهذا البناء! لقد حذر ''منتدى دافوس 2010 '' الذي عُقد تحت شعار عريض هو: ''إعادة التفكير، إعادة التصميم، إعادة البناء''، من أن تداعيات الأزمة العالمية، قد تطول لتكلف العالم مزيدا من الخسائر، ما لم يتم تغيير طريقة التفكير في التعامل مع المخاطر التي تواجه الاقتصاد، ابتداء من معاجلة ثغرات الحوكمة في جميع أنحاء العالم. ويرى ''المنتدى'' في تقريره السنوي لعام 2010، أنه من غير الممكن إحداث تغييرات تقي من تكرار الأزمات في الاقتصاد العالمي، إلا بعد إعادة النظر في القيم والسلوكيات الحالية من جانب صانعي القرار، بغية تحسين مستوى التنسيق والإشراف.

وفي ظل هذه النتائج و''العِبر''، تكرَس ''منتدى دافوس'' أمام '' الثوريين الجدد'' كمنصة ''لجلد'' النظام المالي والاقتصادي الذي سيطر على العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد فهم الرئيس الفرنسي هذه الوضعية، وفهم أكثر ضرورة استغلالها، ليواصل ما بدأه في أعقاب اندلاع الأزمة، وهو الهجوم الشرس على ''الثقافة الاقتصادية الأنجلوسكسونية''. لقد هاجم ''الرأسمالية الجشعة''، التي جلبت للعالم هذه الأزمة التاريخية، وطالب بما وصفه بـ ''اعتدال اقتصاد السوق''، وإصلاح النظام المالي العالمي. ولمزيد من ''الثورية الآتية من اليمين''، يرى ساركوزي – ويرى معه القابعون تحت وطأة الأزمة ولا سيما أولئك الذين لا دخل لهم في ارتكابها – أن العالم يحتاج إلى ''بريتون وودز جديد''، وهو الاتفاق الدولي الذي أعقب الحرب الثانية، وشكل الخريطة الاقتصادية والاجتماعية.. وحتى السياسية للعالم. وللتأكيد على أنه ''ليس ثوريا عابرا''، قال : '' إنني سأعمل على إيجاد الإصلاحات المناسبة والتاريخية الحتمية، عندما تتولى فرنسا رئاسة اجتماعات مجموعة الثماني ومجموعة العشرين في عام 2011''. لا غرابة فيما قاله الرئيس الفرنسي. فعلى المنصة نفسها قال زعيم حزب المحافظين البريطاني المعارض ديفيد كاميرون في دورة المنتدى لعام 2009: ''يجب علينا أن نقف في وجه المؤسسات والمصارف التي تجعل من حياة الناس صعبة لا تطاق''، ليعلن – بطريقة غير مباشرة - على الملأ، أنه لم يبق من ''الحزب التاتشري'' – نسبة لزعيمته السابقة مارجريت تاتشر – إلا ''أطلالا تاتشرية''. فهذه الأخيرة، كانت تقدس السوق وتحتقر المجتمع.

لقد جاء الموقف المتجدد للرئيس الفرنسي، بعد عام ونصف العام من اندلاع الأزمة، وهذا يعني أن الدول الكبرى، لم تصل بعد إلى مواقع متقدمة وعملية ومؤثرة، في مسيرتها نحو إنشاء نظام اقتصادي جديد، يأخذ في الحسبان، الأخطاء المدمرة للنظام المولود بعد الحرب العالمية الثانية. ويعني أيضا، أن مصداقية '' الثوريين'' الجدد، ستظل على المحك، إلى أن يضعوا على الأرض ما ينادون ويطالبون به، حتى لو أتى ''الثوريون'' من بلد أم الثورات فرنسا. نعم.. استطاع ساركوزي – بمواقفه الاقتصادية الثورية - أن يدعم شعبيته، ليس فقط على الساحة الفرنسية بل والأوروبية أيضا. لكن هل تمكن من وضع علامات التحول التاريخي الذي ينادي به على الطريق؟. الجواب ببساطة: لا . وهذا الأمر يطرح سؤالا كبيرا هو: هل حققت الدول الكبرى بمجموعتيها ''الثماني'' و''العشرين'' إنجازات ''تحوُلية'' على صعيد تأسيس نظام اقتصادي، يحل مكان النظام المنبثق عن اتفاق ''بريتون وودز''؟. الجواب مرة أخرى: لا!

إن التحرك الدولي الذي انطلق في أعقاب الأزمة، وأصبح أكثر فاعلية بعد خروج إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن من الحكم، من أجل ما يمكن وصفه بـ ''التجديد الاقتصادي''، حقق خطوات عملية وواقعية، لكنه لم يرق بعد إلى مستوى ''التجديد التاريخي'' الذي ينبغي أن يوازي تاريخية أخطاء ما قبل الأزمة، وتاريخية مصائب الأزمة نفسها. فـ ''التغييرات'' التي أُدخلت إلى النظام المالي العالمي مثلا، ظلت في إطار الإصلاحات، بينما يتطلب الأمر، بناء نظام مالي جديد بمعايير ومعاول جديدة، لا بأدوات إصلاحية فقط. والذين يتحدثون عن ''بريتون وودز'' جديد، يعلمون أن القضية لا تنحصر فقط في نظام مالي، بل في نظام اقتصادي، يأخذ في الحسبان مدى أهلية المؤسسات التي نشأت بفعل هذا الاتفاق التاريخي، ومدى تناغمها مع المستجدات، خصوصا بعد أن غيرت الأزمة، كل المفاهيم والمبادئ التي سادت العالم قرابة سبعة قرون من الزمن، ولا سيما في ظل اتفاق عالمي – لثوريين وغير ثوريين - على أنه .. وإن مرت عاصفة الأزمة، إلا أن آثارها وتداعياتها ستظل باقية إلى زمن يحسب بالسنوات لا بالشهور ولا بالفصول. وعلى هذا الأساس، يجب على ''الثوريين'' القادمين من جهة اليمين تفعيل توجهاتهم، لكيلا تظل محصورة فقط في الخطاب الإعلامي. هذا الخطاب الذي كان له الدور الأكبر في تجميل الوجه القبيح، لواحد من أكثر الأنظمة الاقتصادية تشوهًا في التاريخ.

الذي يحتاج إليه العالم – بعد الفاجعة - ليس اتفاق ''بريتون وودز'' جديد، بل معاهدة دولية يشترك فيها الجميع. معاهدة توفر ''اعتدالا'' للسوق، وعدالة للمجتمع.