الثلاثاء، 29 يونيو 2010

"الجوفقر".. تلك المصيبة الجديدة!


( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")








" لا تضيع وقتك في الأسئلة الاجتماعية. القضية الأهم بالنسبة للفقراء هي الفقر، والقضية الأهم بالنسبة للأغنياء هي عدم الفائدة "

الأديب الأيرلندي الساخر برنارد شو

 
محمد كركوتــي
 
يعيش العالم منذ الانفجار الاقتصادي الكبير ( استعارة من الانفجار المعروف فلكياً بـ Big bang الذي شكل زمناً نحياه الآن)، حالة فريدة من جملة الحالات العجيبة والمريرة التي فرضت أدواتها، عن طريق تَسيُد عناصرها المشهد العام، والتحكم بكل تحولاته. حالة كانت قبل الانفجار ( الأزمة الاقتصادية العالمية)، شيئاً افتراضياً لا واقعياً، شيئاً يدخل ضمن الاحتمالات البعيدة، لا في قلب المعطيات الواقعية!. ولكن الذي يزيل بعضاً من الاستغراب، هو أن هذه الحالة، هي جزء أصيل من وضع عالمي، لم يتصوره أحد، حتى أولئك الذين كانوا يلعبون بـ " البيضة والحجر"، ويحتكرون " قداسة" الاقتصاد العالمي، ويكممون أفواه من يحاول أن يفهم ما كان يجري، فكيف الحال بمن كان يسعى إلى النقاش حول "الطبخات" الاقتصادية المقززة؟!.

الحالة النادرة ( تخفيفاً لكلمة فريدة) المولودة، هي تلك التي تشكلت نتيجة "كوكتيل" من الفقر والجوع!. فعلى الرغم من التشابه الاقتصادي والاجتماعي لهما، إلا أنهما ظلتا، حتى في عز الأزمات الاقتصادية العالمية التاريخية منفصلتين في خانة واحدة، على اعتبار أن مصيبة الفقر كانت قبل الأزمة، أقل وطأة من بلاء الجوع. لماذا؟ لأن في الفقر.. قد يتم العثور على كسرة خبز وشربة ماء، لكن في الجوع.. تختفي تلك "الكسرة" حتى في حلم الجائع، وتصل قيمة شربة الماء لديه، إلى قيمة "لبن العصفور"!. الآن.. ليس هناك فرقاً بين الجائع والفقير. لقد تمت الإطاحة بالمراتب المعيشية، فلم يصعد الجائع إلى مركز الفقير، بل هوى هذا الأخير إلى مرتبة الجائع، مع تطور قاتل هو، أن كسرة الخبز، خرجت من أحلام الاثنين معاً، ليعيش العالم في مواجهة "جيش" من الفقراء والجياع، يصل عديده إلى أكثر من ثلث المجموع الكلي للبشر!. لا أحد يستطيع في ظل هذه المعطيات الجديدة والمتوالدة، أن يدعي أن سِلمْاً عالمياً آت في الطريق. ولا مكان لـ "الفذلكة" الاقتصادية. لأن الجوع على وجه التحديد، ليس مشكلة اقتصادية، بل هو مسألة ضمير، وأزمة أخلاق، لا تنفع معها البيانات، إلا إذا كانت هذه البيانات مادة مساعدة للعلاج. فنحن أمام قضية لنطلق عليها اصطلاحاً الـ "جوفقر"!.

يقول الشاعر الأميركي هاري كيمب : " إن الرجل الفقير ( ومعه الجائع في الحالة الجديدة)، ليس هذا الذي لا يملك قرشاً واحداً، بل هو ذاك الذي لا يملك حلماً". ويقول معه الفيلسوف الروسي إيلي كاماروف :" الفقر مثل العقاب على جريمة لم تقترفها". لا أعرف إذا كان من المفيد أن نكرر الأرقام المريعة لحقائق الفقر والجوع؟ لاسيما وأنها مطروحة ومعادة، بنفس زخم الأغنيات الهابطة التي تبثها القنوات العربية. وللإشارة – لا التذكير - يموت في العالم حالياً طفل واحد من الجوع كل ست ثوان!. وفي العالم نفسه (ما غيره) هناك 1.02 مليار جائع, ما يساوي شخصًا واحداً من كل ستة أشخاص تقريباً!. وهذا لا يعني أن الأشخاص الخمسة الباقين يعيشون حياة رغيدة، ولا يأكلون إلا " المن والسلوى"!. فبينهم اثنان على الأقل يعيشان على دولار أميركي واحد، وبحد أقصى دولارين أمريكيين في اليوم الواحد، وبذلك انضما إلى الجائع الأول. وإذا كنا نتحدث عن ''عالمية'' الجوع، فإن عدد سكان العالم سيصل إلى 9.1 مليار نسمة بحلول عام 2050، وهذا يتطلب زيادة في حجم زراعة الغذاء بنسبة 70 في المائة، بينما تعاني التنمية الزراعية الويلات. إن العدد الحقيقي للذين يعيشون في فقر مدقع يبلغ 1,8 مليار نسمة، وهذا النوع من الفقر، هو بالضرورة جوع قاتل.

وإذا كان "الجوفقر" حكراً على الدول النامية، فإن الفقر لوحده ليس كذلك. فقد ظهر في مسح قامت به المفوضية الأوروبية، أن ما يقرب من 80 مليون شخص أو ما يوازي 16 بالمائة من سكان دول الاتحاد الأوروبي، يعيشون تحت خط الفقر، ويواجهون عقبات خطيرة في الحصول على العمل والتعليم والإسكان والخدمات الاجتماعية والمالية. وللتدليل على مصداقية هذا المسح، فقد شمل أكثر من 27 ألف شخص يعيشون في دول الاتحاد. وهذا الفقر الأوروبي يعج بالبطالة، وتردي الأجور عند 49 في المائة، فضلاً عن عدم كفاية المستحقات الاجتماعية ومعاشات التقاعد والتي تقدر بنحو 29 في المائة، والتكاليف الباهظة لتوفير سكن لائق، والتي تقدر بنحو 26 في المائة. وعلى الرغم من هذا التردي، إلا أن فقراء أوروبا مطمئنون، بأنهم لن ينضموا إلى "زملائهم" في الدول النامية. فالنظام الاجتماعي الحكومي الأوروبي، لا يزال – رغم بلاء الأزمة – قادراً على توفير الحد الأدنى المطلوب لـ " التَسْنيد" المعيشي، بما في ذلك الإمكانية المتاحة للاستدانة المحلية. غير أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق في حالة مئات الملايين من الذين يعيشون في الدول النامية. فحتى في أزمنة الازدهار، تعتمد هذه الدول على المعونات الخارجية التي تقلصت، فضلاً عن الاستثمارات الخارجية التي "هربت"، ومشروعات التنمية التي تقودها الأمم المتحدة، بما في ذلك مخططات معالجة الفقر والجوع والتعليم والصحة.

ولعل أهم ما يخص الدول النامية، هي "أهداف الألفية" التي وضعتها المنظمة الدولية مطلع القرن الجاري، والرامية إلى خفض عدد الجياع في العالم، في الوقت الذي تتعثر فيه وبصورة خطيرة، الخطوات نحو الحد من الفقر، وخفض معدلاته إلى النصف بحلول العام 2015. هذا بالإضافة طبعاً، إلى شلل المخططات الخاصة في وقف انتشار مرض نقص المناعة المكتسب "الايدز"، وضمان حصول جميع الأطفال على التعليم الأساسي بحلول العام المذكور!. والحقيقة المُرة، أن التعثر بدأ عملياً، حتى قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية. ويصف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الواقع الحالي بقوله: "إن التحسينات التي طرأت على حياة الفقراء، كانت بطيئة بشكل غير مقبول، وإن بعض المكاسب التي تحققت بشق الأنفس، تتأثر بأزمات المناخ والغذاء والاقتصاد". ولعلي أضيف إلى ما قاله الأمين العام، بأن المكاسب – إن وجدت – تتأثر بفشل الدول الكبرى، عن القيام بواجباتها، واحترام تعهداتها والتزاماتها أيضاً، حتى وإن كانت تعيش أزمة اقتصادية، هي من تسبب بها، بسياسييها و"مُلهميها" الاقتصاديين.

إن " الجوفقر" ليست مسألة طارئة. إنها موجودة على الساحة الدولية، حتى في أوج الازدهار والنمو الاقتصادي، لكن الكبار تعاملوا معها ببُعد واحد فقط، وهو "البعد الاقتصادي"، لكن بُعدها الأهم، هو الإنساني والأخلاقي. لقد ساهم العلاج الضيق الأفق، في سقوط الفقراء بأحضان الجائعين، بدلاً من أن يساهم العلاج، في رفع الجياع إلى مرتبة الفقراء، تمهيداً لتحقيق الأهداف التي وُضعت من أجل ألفية أكثر إنسانية. ألفية يفهم صناع القرار فيها حقيقة أن أسلحة الدمار الشامل، ليست فقط تلك المصنوعة من الحديد واليورانيوم، بل أيضاً من أجساد الفقراء والجياع، ومن ما تبقى فيها من دماء.

لن يأتي حل قضية " الجوفقر" المتفجرة إلا بالدوافع الإنسانية، أما الدوافع الاقتصادية، فتأتي في المراحل اللاحقة، عندما يكون في هذا العالم، حد أدنى من الكرامة الإنسانية.

الثلاثاء، 22 يونيو 2010

"طاعون" اقتصادي من أزمة "سرطانية"


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية" )








" من السهل أن تقع في فخ الديون، ولكن من الصعب أن تتحرر منها"
الأديب الأميركي هنري ويلير شو

 
محمد كركوتــي
 
إذا كان الفصل الأول للأزمة الاقتصادية العالمية يحمل عنواناً مستحقاً هو "انهيار المصارف والأخلاق"، إلى جانب عناوين فرعية أخرى مثل " البطالة والفقر والجوع والإفلاس والخداع والفقاعة والفساد" إلى آخر المصائب، فعنوان الفصل الثاني لها هو بالتأكيد " ديون حكومية وأكاذيب"!. وإذا أردنا الاشتقاق من هذا العنوان، لا مانع من أن يكون "ديون حكومات على حساب أجيال لم تولد بعد"!. ولا مانع أيضاً من "ديون منيعة تنكسر أمامها الأعاصير"!. ولا بأس من "ديون تنال ممن يملك ومَنْ لا يملك"!. ولنا أن نشتق ما طاب لنا من دلالات العنوان الرئيسي. فالعالم الآن يشهد الفصل الثاني من الأزمة، من دون فترة استراحة بين الفصلين. و"المسرحية المعروضة" باتت مثل الأفلام المتواصلة التي اعتادت على عرضها بعض دور السينما الرخيصة في غالبية دول العالم. أفلام تبدأ ولا تنتهي، مع فارق واحد فقط، هو أن جمهور هذه الأفلام هم غالباً من التلاميذ الفارين من يوم دراسي، بينما جمهور "مسرحية الأزمة"، هو جزء أصيل من المشهد المسرحي المُدمر!. لقد اتبع مخرجو المسرحية، أحدث آليات العرض. إنهم يعرضونها وفق نظام "ثلاثي الأبعاد"، ليحولوا المشاهد – الضحية، إلى جزء من المسرحية.. إلى طرف أساسي، في حالة تداخل تاريخي بين مَنْ على خشبة المسرح، وبين مَنْ في الصالة!.

تستحق الديون الحكومية ( ولا أقول السيادية، لأنني لم أستطع – حتى الآن - فهم وجود سيادة غارقة في الديون!) وقفة توازيها حجماً، وتتساوى معها زمناً. فهي ليست قروضاً شخصية سيئة، عادة ما تنتهي في خانة "الديون المعدومة"، وليست أيضاً مرتبطة برهن، سرعان ما تُسدَد من قيمة الأصول المرهونة، وليست أيضاً وأيضاً من تلك المُغرية، الذين ينتظرونها "القناصون" الباحثون عن استثمارات حتى في "قِطاع الهموم". إنها ديون أجيال وُلدت وأخرى لم تُولد بعد، إنها ديون.. الاقتراب منها يَقتل، والابتعاد عنها يَخنق!. إنها تتوالد مثل الفئران، لتجلب معها طاعوناً من نوع، لا يفيد معه الحظر ولا تنفع معه الهجرة ولا يقضي عليه ترياق. إنه " الطاعون الاقتصادي" الآتي من أزمة سرطانية!. والمصيبة أن أحداً – حتى الآن – لم يستطع أن يقدم فكرة حل مبتكرة، سريعة النتائج، بمعزل عن الحلول التقليدية التي لا تحتاج إلى " متفذلكين اقتصاديين". وهي كالتالي: التقشف، وتجميد الرواتب، ورفع سن التقاعد، وخفض الإنفاق، ومراقبة المصارف، وتوقف الحكومات عن الاستدانة لـ "شراء" أصوات الناخبين. والمصيبة تتعاظم، لأن الحلول التقليدية نفسها، "تُنتج" تبعات اجتماعية بل ووطنية، تبدأ خطيرة، وإذا ما قُدر لها أن تنتهي.. فهي تنتهي بكارثة.

يقول الفيلسوف الأميركي الشهير رالف إيمرسون: " الرجل الغارق بالديون هو مجرد عبد". وقبله قال بنجامين فرانكلين أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية: "من الأفضل أن تأوي إلى سريرك بدون عشاء، على أن تنهض بالديون". لنرى بماذا تسبب "طاعون" ديون الدول الصناعية الكبرى (أو التي كانت كبرى)، منذ انفجار الأزمة "السرطانية". يُقدِر "معهد إدارة التنمية" السويسري المعروف اختصاراً بـ AMD ارتفاع متوسط ديون دول مجموعة العشرين ( أي العجز في ميزانياتها) من 76 في المائة من مجموع إجمالي ناتجها الداخلي في العام 2007 إلى 106 في المائة في العام 2010. وهذه المجموعة تضم أكبر اقتصادات العالم!.

وإذا كانت هذه النسبة تمثل صدمة، فإنها ليست كذلك عندما يتوقع المعهد نفسه، أن بعض الدول في المجموعة نفسها، وفي مقدمتها اليابان، لن تتمكن من خفض ديونها إلى مستوى مقبول قبل متى؟.. قبل العام 2084 !. وبالانتقال إلى القارة الأوروبية العجوز التي "تصابت" كثيراً على الصعيد الاقتصادي في العقدين الماضيين، فإن الزمن الذي تحتاجه دول منطقة اليورو، لتخفيض ديونها إلى 60 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي ( وفق معايير معاهدة ماستريخت الأوروبية التي تم التوقيع عليها في العام 1991)، يُحسب بالعقود لا بالأشهر ولا بالسنوات. فعلى سبيل المثال ستحتاج اليونان إلى 21 عاماً لإتمام ذلك، وفرنسا إلى 19 عاماً، وإيطاليا إلى نصف قرن، والبرتغال إلى 27 عاماً، وبلجيكا إلى ربع قرن. وخارج منطقة اليورو، هناك أيسلندة التي لن تستطيع خفض ديونها إلى المستوى المقبول قبل العام 2032، والولايات المتحدة الأميركية لن تفلح في ذلك قبل عام 2033، بينما تحتاج اليابان – كما أشرت - إلى 74 عاماً، لتحقيق ذلك!.

تحاول بعض الحكومات الغارقة بالديون التخفيف من هول الحقيقة، إما بتكتمها عن فداحة وواقع ديونها، أو بإعلانها بصورة مواربة، بأن غالبية ديونها، هي قروض من مؤسسات وطنية. ولو استطاعت تغيير التسمية لفعلت، لكن الديون هي الديون، سواء أتت من الداخل أو الخارج، وهي بمثابة قيد، ليس مهماً أن تكون صناعته محلية أو خارجية. وهذه الحكومات تعي ذلك تماماً، مثلما تعي بأن عليها تسديد قروضها، سواء بحياتها أو بحياة حكومات أخرى مقبلة، وعليها أن تعلم، بأن الدائنين يملكون دائماً ذاكرة أقوى من المدينين. ولعل المشكلة الأكبر، هي تلك التي صورها رئيس البنك المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه، في معرض تناوله الداء الاقتصادي اليوناني. ماذا قال؟: " إن مشكلات الديون اليونانية ستؤثر حتماً على دول أخرى في منطقة اليورو، وإن هذا الأمر يحدث بسرعة شديدة للغاية ..أحياناً في غضون ساعات". يا إلهي.. وصل مسلسل التردي إلى زمن يُحسب بالساعات لا بالأعوام!. يضاف إلى ذلك، أن هناك ديون غير ظاهرة داخل النظام الاقتصادي نفسه.

ماذا تفعل الحكومات المَدينة؟. مرة أخرى بدأت تلجأ إلى الحلول التقليدية. لنأخذ أسبانيا مثلاً في هذا المجال. لقد خفضت الأجور، وجمدت المعاشات. وماذا فعلت أيضاً؟ ألغت مساعدة بقيمة 2500 يورو تمنح مقابل ولادة كل طفل. وبهذا الإجراء الأخير، قامت الحكومة عملياً بسرقة مستحقات الأجيال التي لم تولد بعد، في حين أنها تُحمل هذه الأجيال جبالاً من ديون لم يقترضوها، ذهبت غالبيتها إلى مؤسسات مالية وغير مالية لإنقاذها، من بركان الأزمة الاقتصادية العالمية. إنها أموال مستحقة عليهم، قبل وبعد ولادتهم. لقد صدق الممثل اليوناني – الأميركي بالكي بارتوكوموس حين قال:" أنا مدين.. إذن أنا أميركي حقيقي". والواقع إن هذا ينطبق على كل فرد في هذا العالم، تعيش حكومته في بحار من الديون. فيمكنه القول أيضاً: " أنا مدين.. إذن أنا يوناني أو بريطاني أو ياباني أو برتغالي أو أيسلندي أو أسباني أو إيطالي حقيقي".

إن "طاعون" الديون في ظل الأزمة العالمية، وصل إلى مرحلة متقدمة، لا ينفع معها اعتماد نظام الجباية. فهذا النظام لا ينجح إلا في حالات القروض الشخصية التقليدية. الذي يحتاجه هذا العالم الآن، حكومة عالمية اقتصادية، تحصي الديون، وتعمل على تحصيلها وفق نظام إنساني، بصرف النظر عن المدة المطلوبة للتحصيل. فإفلاس الدول مع الإفلاس الاجتماعي- المعيشي فيها، سيٌقدم الفصل الثالث والخطير ( وليس الأخير) للأزمة الاقتصادية العالمية. في هذا الفصل ستتحول خشبة المسرح نفسها، إلى صالة لجمهور غاضب، لن يرحم الممثلين الفاشلين، الذي كانوا بالأمس القريب، مجموعة عالمية من " المُلهَمين" الاقتصاديين.

الثلاثاء، 15 يونيو 2010

محاكمة "عبقري"؟!


( هذا المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")









" هناك ثلاثة أشياء في هذا العالم لا تستحق الرحمة.. النفاق والاحتيال والطغيان"
القس البريطاني فريدريك وليام روبرتسون

 
 
محمد كركوتــي
 
في أحد أيام العام 1995، اتصل واحد من كبار المدراء في مصرف " بارينجز" Barings – أقدم المصارف الاستثمارية البريطانية تأسس عام 1762 – بمدير ديوان الملكة إليزبت الثانية ملكة بريطانيا – أكبر وأشهر مستثمرة في هذا المصرف – ليبلغه بأن المصرف في طريقه إلى الانهيار التام، وليعرب عن أسفه لصاحبة الجلالة، التي درجت على استثمار أموالها "مطمئنة" في المصرف!. لم يصدق مدير الديوان ما سمعه، من فرط صدمته بالخبر. حَسِب وقتها، أن هذا الاتصال ليس سوى نكتة أو مقلب من تلك التي تستهدف عادة الأسرة المالكة في بريطانيا، لاسيما من جانب مُخبري الجرائد الصفراء الباحثين عن خبر صادم هنا، ومعلومة عجيبة هناك. ولكن لم تدم حسابات مدير الديوان طويلاً، فبعد ساعات، أُعلن رسمياً عن انطلاق عملية بحث، للقبض على نيك ليسون ( 28 سنة) السمسار الذي يعقد الصفقات في بورصات آسيا ( لاسيما سنغافورة وهونج كونج) لحساب "بارينجز". فهذا الهارب الذي كان يلقبه رؤساؤه بـ "الشاب المعجزة"، كبد مصرفه خسائر بلغت 1,3 مليار دولار أميركي، في صفقات عقود آجلة، وحوَل المصرف بين ليلة وضحاها، إلى مجرد خزائن ليس فيها دولار واحد!. وبين ليلة وضحاها أيضاً، تبدل وصفه من " الشاب المعجزة"، إلى التاجر المارق Rogue Trader .

في العام 2008، أعاد التاريخ نفسه، ولكن على الجانب الآخر من بحر المانش، في فرنسا، عندما صدرت مذكرة توقيف بحق سمسار الأسهم جيروم كيرفييل ( 33 سنة) ، الذي كان يُوصف من قِبل رؤسائه بـ " الشاب العبقري"!. لماذا؟ لأنه كبد مصرفه "سوسيتيه جنرال" Société Générale – ثاني أكبر البنوك الفرنسية تأسس عام 1864 – خسائر بلغت 7 مليارات دولار أميركي. وهذه الخسائر هي الأكبر التي يسببها متعامل أو سمسار واحد في تاريخ المصارف قاطبة. فقد لعب كيرفييل بهذه الأموال، في عمليات "عبقرية"، أدخلته التاريخ من الباب الخلفي، وهو نفس الباب الذي دخل منه "المعجزة" ليسون، مع المُطبلين لهما على جانبي المانش. هذا الأخير حُكم بالسجن ست سنوات ونصف السنة بعد أن أعلن " بارينجز" إفلاسه، لكنه خرج بعد أربعة أعوام، بسبب إصابته بسرطان القولون. وبعد عامين تقريباً من جريمته، تبدأ محاكمة كيرفييل، مع اختلاف وحيد بين "المعجزة والعبقري"، هو أن جريمة الفرنسي وقعت بينما شرارات الأزمة الاقتصادية في أوجها، في حين كان الاقتصاد العالمي في منتصف تسعينات القرن الماضي، مستقراً، بل ومزدهراً، بصرف النظر عن معايير الازدهار آنذاك.

في هذا النوع من القضايا، نادراً ما يكون هناك مجرم أو محتال أو سمسار أو تاجر مارق واحد فقط. هي من تلك التي تضم "أبطالاً" من كل المستويات. السمسارة – بالتأكيد – هم في المقدمة، لكن المُحرِكين – بل لنقل المُحرِضين – يحتلون المقاعد الرئيسية في "غرفة التحكم"، إنهم يوقعون على صرف الأموال لهؤلاء السمسارة، بصورة أوتوماتيكية بغية جني الأرباح، وعندما تجري الرياح بما لا يشتهون، يواصلون التوقيع على أذونات الصرف، من أجل تعويض الخسائر. لا يختلفون كثيراً عن المقامرين، الذين يواصلون اللعب والاستدانة في محاولة عبثية لتعويض الخسائر. هؤلاء لا يريدون أن يقتنعوا بحقيقة، أنه ليس هناك رابح دائم في المقامرة، بل هناك خاسر مؤكد فيها!. ويتجنبون الاعتراف بجدوى الحفاظ على ما تبقى من الممتلكات، كسبيل وحيد للحد من الخسائر، والتأسيس عليها للانطلاق مجدداً نحو مزيد من العوائد، أو على الأقل لتفادي الانهيار. ولذلك فهم يتحولون فوراً من تجار ومستثمرين، إلى مقامرين وسمسارة في تجارة وهمية، ورقية، فقاعية، آنية. فعندما تنتفي المعايير التجارية، تنتفي معها عوامل الاستدامة.

يقول الفيلسوف والأديب الإغريقي سوفوكليس :" من الأفضل أن تفشل بشرف، على أن تنجح بالاحتيال". ويتفق معه السياسي والأكاديمي البريطاني تشارلز سيمونز، بعد قرون من الزمن تفصلهما عن بعضهما البعض، حين يقول :" إن أهم جزء من الاحتيال، هو المزيج بين الخزي والعار". خلال عملي الصحافي الطويل في لندن قمت بمتابعة قضية ليسون من بداياتها. وفي مقابلة خاصة معه آنذاك قال لي "المعجزة: "نعم .. لقد قمت بمضاربات قاتلة، في سياق محاولات لاستعادة الخسائر التي مُنيت بها في عمليات الشراء والبيع في البورصة. نعم قمت باستغلال كل ما أمكن من علاقاتي في (بارينجز)، من أجل الحصول على موافقات لضخ مزيد من الأموال في البورصة، وقمت ببعض المخالفات، ولم تكن هناك طريقة أخرى، لتقليل الخسائر". ولكن هل ضاربت حتى الموت؟ كان هذا سؤالي التالي له. يرد ليسون: "ضاربت لكي أستعيد خسائري، لكن حسابات واتجاهات الأسواق وقتها حوَلت مضارباتي، إلى أداء يتناغم مع الموت"!.

لايمكن لأي مسؤول كبير أو صغير في "سوسيتيه جنرال"، أن يقول عكس ذلك في حالة "العبقري" كيرفييل. فالتداعيات – كما العوامل – واضحة وواحدة. والتساؤل الأكبر هنا: هل يمكن لأي سمسار أو مضارب أو وسيط – لنختر ما نشاء من تسميات – أن يحصل على هذا الكم الهائل من التمويل المالي، دون معرفة أي من المسؤولين الذين لابد أن يوقعوا على التحويلات المالية؟. فالمبالغ ليست بالآلاف أو بعشراتها أو مئاتها، بل بملايينها. ومهما قال المسؤولون في المصرف الفرنسي عن أن العملية التي قام بها كيرفييل استندت إلى تحويلات بسيطة، تمت التغطية عليها بأساليب معقدة، لكن من المؤكد أن بعض الأشخاص المشرفين مباشرة على هذا السمسار، قَبلوا أن يدخلوا معه المجازفة، ليس حباً فيها، بل من فرط وهمٍ باستعادة خسائرهم، دون الاعتراف بالحقائق التي تحكم الأسواق، والتي لا ترحم أحداً، مهما كانت كريمة في بعض الأحيان. فالمجازفة الصغيرة تؤدي إلى مكاسب كبيرة، وتؤدي أيضاً إلى خسائر بحجمها، والأمر كذلك مع المجازفة الكبيرة التي تقود إلى أرباح أكبر، وتقود أيضا إلى خسائر تسبب انهياراً لمؤسسات بأكملها.

المضحك في قضية كيرفييل، أن هيئة تنظيم قطاع المصارف الفرنسية، فرضت في يوليو/ تموز من العام 2008 غرامة مالية قدرها 6.3 مليون دولار أمريكي بحق "سوسيتيه جنرال". وماذا فعلت أيضاً؟ وبخت المصرف على الإهمال والتقصير، لأنه أُخفق في رصد المشكلة والتعامل معها قبل أن تتفاقم!. والمشكلة التي تواجه السلطات في كل أنحاء العالم، أن القوانين المعمول بها ضد عمليات الاحتيال، لا تزال دون مستوى زخم آليات الاحتيال نفسه. ففي الوقت الذي تشهد فيه هذه العمليات، ولادة "ابتكارات" جديدة على مدار الساعة، لا تزال القوانين هي نفسها المعمول بها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

حينما وقع العبقري كيرفييل، وفي الوقت الذي كان فيه رؤساؤه يحصون الخسائر، كتبت مقالاً بعنوان "ثقافة الكازينو"، أردت من خلاله، أن أربط سلوكيات سماسرة الأسهم، بأخلاقيات وممارسات المقامرين. نعم هي كذلك. فالخاسر ( المقامر) الذي يريد أن يستعيد خسائره يلعب بكل ما هو متاح وغير متاح، ويرتكب كل الأفعال مهما كانت مُشينة، خصوصاً إذا ما دخل حالة التورط الكامل. وما فعله ليسون وبعده كيرفييل، لم يكن سوى محاولات مقامرين لتعويض الخسائر، التي كانت أرباحاً في يوم من الأيام. فعندما تبدأ ذهنية المقامر بالعمل، تنسحب حكمة المراقب (اللاعب) المالي وفطنته من الساحة.

الثلاثاء، 8 يونيو 2010

مَنْ قال إن صناعة السلاح في أزمة؟!


( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")





" القوة العسكرية تكسب المعارك، والقوة الروحية تكسب الحروب"
وزير الخارجية والدفاع الأميركي الراحل جورج مارشال


محمد كركوتــي


في كتابي الأول عن الأزمة الاقتصادية العالمية الذي صدر في مايو من العام 2009 عن "مركز الإمارات للدراسات الاقتصادية" بعنوان " في الأزمة"، خصصت صفحات عن السلاح والأزمة، أي عن النفقات العسكرية، ومدى تأثرها في هذه الأزمة التي أثَرت على كل شيء في هذه الدنيا. وقد عبَرت وقتها عن مواقف هي أكثر من الاستغراب وأقل من الصدمة، من جراء عدم تأثر الصناعة العسكرية سلباَ بالتداعيات الاقتصادية الحارقة، بل والماحقة. وقد استحقت هذه الحالة عنواناً وجدته مُعبراً، هو "السلاح في وجه الأزمة"!. فبينما كانت دول وحكومات تترنح تحت لكمات الأزمة وضرباتها التي أضحت أوتوماتيكية، كان صانعو السلاح في زحمة انشغالهم، بحساب العوائد المالية الهائلة التي تصب في خزائنهم. لقد كانوا أشطر الأثرياء قاطبة، فهم لم يستثمروا هذه العوائد بشراء رهون عقارية، سرعان ما تحولت إلى أموال وهمية. ولم يشتروا أسهماً في شركات متلألئة بأضواء ساحرة من الخارج، وخراب مريع من الداخل. ولم يضعوا الأموال في مصارف لا خزائن فيها، أو مؤسسات كانت عاجزة حتى عن تسديد رواتب موظفيها.

وفي المحصلة.. عزز السلاح سمعته بأنه " قطاع" لا يُقهر ولا يتزعزع، وأنه يزدهر في أوقات الأزمات الاقتصادية، وأزمنة المحن المعيشية، وأن هذه الأزمات – مهما بلغت حدتها - تظل متأخرة عنه ولو بخطوة واحدة على الأقل، على عكس المؤسسات والشركات العالمية التي كانت تتباهى – قبل الأزمة - بأن قوة لم توجد بعد للنيل من مكانتها، بل أن بعضها كان يفتخر بأنه أقوى من بعض الدول. في عز الأزمة، لم يتخلف مصنع واحد للسلاح، عن المشاركة في المعارض العسكرية، بل أن الحجوزات المستقبلية لهذه المعارض ارتفعت ( شاركت في معرض الدفاع الدولي 2009 الذي يعقد كل عامين في أبوظبي 900 شركة للإنتاج العسكري من 48 دولة، بزيادة بلغت 20 في المائة على الدورة التي سبقتها )، بينما كانت "الحجوزات" الحكومية تُلقى على الشركات والمؤسسات غير العسكرية، من أجل وقف انهيارها، وتوفير أكبر قدْر من الحماية الممكنة للأموال العامة والخاصة. فصناعة السلاح، يمكنها أن تقدم – هي نفسها– الحماية للحكومات!. المال متوفر، والطلب على منتجاتها يزداد على مدار الساعة. والأموال التي تحتاجها مدرسة أو مستشفى أو بحوث علمية أو كارثة بيئية وإنسانية، تُحرَم عليها، وتُقدم خالصة لتوفير السلاح!.

في أقل من عامين على اندلاع الأزمة العالمية، بلغ حجم الإنفاق العسكري مستويات تاريخية، توازي تاريخية الأزمة نفسها. وعلى الرغم من تبدل الأولويات – بفعل الأزمة- ظل هذا الإنفاق متقدماً بخطوات "رشيقة" وقوية في آن معاً، لا تهزها قوة، ولا يقف في طريقها عائق. وفي هذا العالم معهد، اتُفق على نزاهته وحرصه على جودة إحصائياته وأرقامه هو "معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام" Stockholm International Peace Research Institute المعروف اختصاراً بـ SIPRI والذي يتخذ من العاصمة السويدية استوكهولم مقراً له. وطبقاً لهذا المعهد، فإن العالم خصص 1531 مليار دولار أميركي (1244 مليار يورو) للقطاع العسكري في العام 2009، مرتفعاً 5,9 في المائة عن مخصصات العام 2008، و49 في المائة عن ما أُنفق في العام 2000، بالأسعار الثابتة. وإمعاناً في النزاهة والدقة، فقد أعلن المعهد، أنه يقدم إحصاءات الإنفاق العسكري لـ 65 في المائة من الدول التي تمكن من الحصول على أرقام منها في هذا المجال، أي أن الأموال التي أُنفقت لا تشمل 35 في المائة من بقية دول العالم!.

وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة الأميركية للعثور على دولار هنا وآخر هناك، للإيفاء بخطط الإنقاذ المالية الضخمة التي خصصتها للمؤسسات والشركات الفاشلة والمنهارة، واصلت تسيُدها للمشهد " الإنفاقي" العسكري!. فقد أثبتت مرة أخرى، أن تغيير الإدارات الحاكمة فيها، لا يؤدي بالضرورة إلى انتهاج سياسة إنفاق عسكري معتدلة، بصرف النظر عما يقال، بأن عمليات حفظ السلام، تتطلب زيادة الإنفاق. فهذه العمليات في الواقع ( تُقدر تكلفة مهمات قوات حفظ السلام التي تتكون من 54 بعثة دولية بـ9,1 مليار دولار في العام 2009، بينما خصصت واشنطن 65 مليار دولار لعملياتها العسكرية في أفغانستان في ميزانية العام 2010 وقدرت ميزانية العمليات في العراق بـ61 مليار دولار)، لا تحتاج إلا إلى جزء يسير من هذا الإنفاق، الذي بلغ في العام 2009 أكثر من 661 مليار دولار، بزيادة 47 في المائة عن العام 2008. وحسب المعهد نفسه، فإن الزيادة الأميركية تشكل أكثر من نصف الزيادة في العالم (54 في المائة). من يأتي في المركز الثاني؟ الصين بـ 100 مليار دولار ، ثم من؟ فرنسا بـ 63,9 مليار دولار. وحسب إحصاءات العام 2008 تنفق دول حلف شمال الأطلسي ( الناتو) المكون من 28 دولة أكثر من 825 مليار دولار سنوياً، بينما ينفق الاتحاد الأوروبي، وفق نفس زمن الإحصاءات أكثر من 254 مليار دولار. وهذه الأرقام شهدت بالطبع ارتفاعاً كبيراً في الأشهر الـ 18 الأولى من عمر الأزمة الاقتصادية العالمية!.

يقول الرئيس الأميركي الراحل دوايت أيزنهاور: " كل مسدس يُصنع، وكل سفينة حربية تُبنى، وكل صاروخ يُطلق.. إنها بمثابة سرقة جائع"، ومهما حاول البعض تجميل صورة حالة الإنفاق العسكري، فإن الغالبية العظمى من دول العالم، وفي مقدمتها الدول الكبرى، لا تزال تضع الإنفاق العسكري، خياراً استراتيجياً، حتى في ظل الركود أو الكساد الاقتصادي، وحتى لو وضعنا في الميزان، نفقات عمليات حفظ السلام، ومكافحة الإرهاب والمخدرات!. ومثل هذا الخيار الاستراتيجي، يُعطل أو يُضعف، كل تحرك باتجاه التعاطي مع الضرورات الأخرى.. الإنسانية في مقدمتها، وبالطبع ينشر توتراً وارتياباً وشكوكاً في الأجواء، لا ينجم عنها سوى أزمة هنا وأخرى هناك. وتكفي الإشارة إلى أن ثماني دول نووية في هذا العالم ( الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا والهند وباكستان وإسرائيل)، تمتلك 8100 رأساً نووياً، من بينها حوالي 2000 رأس في حالة هجومية، ينقصها ضغط الزر فقط، لتنشر الموت والخراب والتشويه البشري المستدام!.

لا أحد يطالب بوقف تجارة السلاح. فهذه "السلعة" ضرورية لحماية الحدود، لاسيما في الدول التي تُنشد السلام، ولا تسعى إلى العدوان، وترغب في التنمية الداخلية، ولا تحب تصدير الأيديولوجيات إلى الخارج. غير أن عدد هذه الدول يظل أقل بمستويات مرعية، من تلك التي توجه السلاح إلى الجهات الخطأ، إضافة طبعاً إلى الحركات والمليشيات والحكومات المارقة التي تعيش على تجارة السلاح والقتل، وتستمد حياتها من عدم الاستقرار، ومن الفوضى التي تؤمن أفضل الوسائل المَعينة لـ "قُطاع الطرق". وإذا كانت هناك بعض الضوابط لإنتاج السلاح في الدول الكبرى، فهي غائبة تماماً في غالبية دول العالم، وإذا أردنا أن نضيف هماً آخر على هذه القضية، فإن معظم الصفقات العسكرية تتم بصورة سرية!. لن أتحدث هنا عن تجارة الأسلحة في السوق السوداء، التي لا تعمل عن طريق تجار، بل عصابات وسماسرة. وهذه لوحدها تندرج ضمن نطاق الإنتاج العسكري، سواء أكان شرعياً أم لا. ففي هذا العالم أكثر من 640 مليون قطعة سلاح خفيفة، تقتل ألف إنسان يومياً!. فكيف الحال بالسلاح الثقيل؟!.



الثلاثاء، 1 يونيو 2010

حكومات ومصارف ووكالات تصنيف.. مطلوبة للعدالة؟!

( هذا المقال خاص بجريدة " الاقتصادية")


" ربما من الأفضل أن تكون غير مسؤول ومحق، بدلاً من أن تكون مسؤولاً ومخطئ"
رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل


محمد كركوتــي

في زحمة "التعري الاقتصادي"، تنتشر الاتهامات بين المشتبه بهم، وتعم أجواء المشبوهين محاولات الهروب مما ارتكبت أياديهم، سواء أولئك الذين تركوا بصمات في مسرح الجريمة، أم لم يتركوا. فهم على عكس سبارتاكوس Spartacus الثائر الاجتماعي ضد الرومان، الذي انتحل شخصيته كل فرد في مجتمعه، لحمايته من بطش الطاغية، أو لتضييع التهم ونشرها على الجميع، للحفاظ على روح سبارتاكوس النقية. "المشبوهون الاقتصاديون"، ينقلون أصابعهم بين "زملائهم" المشبوهين، ليس مهماً إلى من تشير، المهم أنها لا تشير إليهم، ولا تحدد شخصياتهم، لأن الجريمة كبيرة ودنيئة، وتبعاتها مُدمِرة. إنها من تلك الجرائم التي تجمع كل العناصر المشينة فيها. لقد استباحت كل شيء بما في ذلك المال والبنون والأخلاق والضمير، بل قتلت الإنسانية بخنقها المجتمع. كانت جريمة أكثر من عصر، لأن آثارها ممتدة إلى عدة أجيال، لا إلى جيل بعينه، ولا إلى مرحلة معروفة الزمن. إنهم يحاولون الهروب من محكمة الإنسانية، بكل ما تبقى لديهم من أدوات النفاذ ومعاول الاحتيال، لكنهم هل يستطيعون الفرار من محكمة التاريخ، الذي سيدخلونه من الباب الخلفي، المخصص للمجرمين وقطاع الطرق والأفاقين، وسارقي " الكحل من العين"، وبائعي البيضة بدون صفارها. سيدخلونه كما دخله شايلوك اليهودي، في مسرحية شكسبير "تاجر البندقية"!.

هناك ثلاثة أنواع من المشبوهين المطلوبين للعدالة، الذين ارتكبوا جرائم اقتصادية أدت إلى أزمة تاريخية قاصمة، وهم على الشكل التالي: حكومات في المركز الأول، ومصارف وأسواق المال في المركز الثاني، وفي المركز الثالث تأتي وكالات التصنيف أو التقييم. إنهم " الفرسان" الثلاثة لأبشع سيرك في التاريخ الحديث. إنهم أولئك الذين قلبوا حياة الناس في كل مكان على طريقة "التسونامي". إنهم أولئك الذين حولوا أزمة اقتصادية، كان بالإمكان أن تمر ضمن نطاق الأزمات التي تقع عادة بين الحين والآخر، إلى أزمة دول كبرى وصغرى، إلى أزمة تكمن حلولها في المستقبل، أكثر مما تكمن فيها. لقد غيَروا مفهوم الأزمات، التي غالباً ما تحتوي على معاول حلِها!. وإذا كان هناك طمع أصيل في المصارف وأسواق المال، وحالة ارتزاقية متجذرة لدى وكالات التصنيف، فكيف يمكن أن نفهم وضعية وتوصيف الحكومات في هذا المجال؟!. فالذي نعرفه، أن من واجب هذه الأخيرة القيام بمهمة الرقابة على المصارف والأسواق المالية، ومتابعة وكالات التصنيف التي انتشرت قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، كانتشار المغنين (لا المطربين) في العالم العربي؟!. ولكن لمَ الاستغراب؟ فالهواء التلفزيوني والإذاعي الهائل والفارغ عند العرب يحتاج إلى من يملؤه، والساحة الاقتصادية العالمية التي كانت قائمة بأيدلوجية "دع الأسواق تصحح أخطائها"، تحتاج إلى من يُورِق الوهم، بل ويبيع الهواء بدون زجاجات!.

يقول المُصلح الديني المسيحي الألماني مارتن لوثر، الذي يعتبر الأب الروحي للإصلاح البروتستانتي: " إنك لست مسؤولاً فقط عما تقوله، بل أنت مسؤول أيضاً على ما لم تقله". إن للمسؤولية قداسة، ومن أجل ذلك يتخلى عنها المجرمون، هذا إن وجدت عندهم أصلاً. ويرى وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، أن القادة ليسوا مسؤولين فقط عن نتائج استطلاعات الرأي بحقهم، بل على تبعات أفعالهم. فأين كانت الحكومات، عندما باعت المصارف الوهم، وعندما تركت للأسواق تحديد مصير البلاد؟. أين كانت هذه الحكومات، عندما كانت وكالات التصنيف تمنح درجاتها الأعلى لمؤسسات غارقة، لا تعرف إذا ما كان النهار سيمر عليها أم لا؟!. أين كانت، عندما قيل لها ( تحذيراً)، إن المؤسسات المالية لا تأكل فقط أموال الأفراد، بل تلعب بالمصير الاقتصادي للأمم؟. أين كانت، عندما شهدت الفقاعة تكبر وتكبر، حتى تحولت إلى "غلاف مقدس" أُجهضت كل المحاولات للنفاذ إليه؟!.

الحكومات تقول، لقد ضللتنا المصارف والمؤسسات المالية، ولم نكن نعرف تفاصيل ما كان يجري على الساحة المالية!. وتقول أيضاً، لقد غشتنا وكالات التصنيف، ولم نكن على دراية بدوافعها الارتزاقية!. وتقول أيضاً.. وأيضاً: "إننا ضحايا ولسنا مذنبين"!!. وانطلاقاً من هذا التبرير الغريب، يُعلن – على سبيل المثال – رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو أن بلاده ستحقق في دور بنوك استثمار أميركية في أزمة الديون اليونانية. ولكي يغطي على فشله كمسؤول عن مقدرات بلاده يقول: "لن أستبعد اتخاذ إجراءات قانونية ضد هذه البنوك، كخيار مطروح على الطاولة". لكن هذا المسؤول، لا يطرح السؤال الكبير على نفسه، وهو : لماذا لم أُجري تحقيقات في دور هذه البنوك، عندما بدأت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ؟. وسؤال آخر هو : لماذا لم أستمع إلى أولئك الذين كانوا يحذرون، من انتشار "السرطان" المالي، ومن الألاعيب المصرفية التي كانت تتسيد الساحة بلا حدود؟. لقد أراد باباندريو أن يُبعد أصابع الاتهام عنه وعن حكومته، المتهالكة، تماماً كما يحاول المسؤولون الكبار، أن ينئوا بأنفسهم عن الجريمة الكبرى.

لقد كان رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر الذي تترأس بلاده مجموعة الدول السبع ومجموعة العشرين، أكثر المسؤولين المرعوبين نزاهة، عندما أعلن صراحة: أن الأزمة المالية تخص بعض الحكومات وليس القطاع المالي بمجمله. ومضى أبعد من ذلك، عندما قال: “إن الأزمة في الأساس ليست أزمة قطاع مالي، بل أزمة مالية للحكومات". وهذا يعني، أن الحكومات التي كان تعرف (قبل انفجار الأزمة) المستوى الحقيقي لملاءاتها المالية، قبِلت أن تنضم كلاعب في أكثر الفرق تدميراً للمجتمعات التي يفترض أنها الحامي الأكبر لها، بل الحامي الوحيد في بعض الدول. ارتضت أن تمارس " الوهم الاقتصادي"، من أجل مكسب هنا وآخر هناك، بصرف النظر عن مدى استدامتهن وبل وحتى شرعيته. وافقت على ترك وكالات التصنيف، ترفع من تشاء وتُسقط من تشاء، لأنها كانت توفر لها الغطاء اللازم لـ " اقتصاد الوهم". غضت الطرف عن الديون التي كانت تنزل على الأفراد كأمطار الأمازون، رغم علمها أن أحداً من هؤلاء ليس قادراً على الإيفاء بها. إنها حكومات ينبغي أن تكون أول الماثلين أمام العدالة، وبعدها يأتي من يأتي. فالمجرم الثاني والثالث والعاشر والمليون، ليس سوى ظل للمجرم الأول. وإذا كانت وكالات التصنيف، تُصِنف مؤسسات فاشلة بدرجة (إى إى إى)، فإن الحكومات تُصنَف كمرتكبة للجريمة من الدرجة الأولى.

إن المصيبة لن تنتهي بمحاكمة المشبوهين الأُول، الذين لا تزال أياديهم ملطخة بالدماء، ولا يزالون يحاولون التحايل على الحقيقة. فتكاليف الجريمة، سيدفعها الضحايا، حتى ولو أدى الأمر إلى سقوط هذه الحكومة أو تلك، أو طرد مدير هذا المصرف أو ذاك، أو إغلاق وكالة التصنيف هذه أو تلك. هؤلاء الضحايا يسددون فواتير المشبوهين – المجرمين، من مدخراتهم وتقاعدهم وساعات عملهم ومعيشتهم، ولا أقول رخائهم. فالرخاء تبخر مع أول شرارة للأزمة. إن الضحايا سيسددون الفواتير من أموال الأجيال القادمة التي لم تولد بعد!. وما على السياسيين ومعهم "المُلهَمين" الاقتصاديين والمصنفين "الفطاحل"، إلا أن يوجهوا الشكر إلى الأطفال الذين لا يزالون في بطون أمهاتهم. عليهم أن يضعوا الشكر كوديعة، شرط أن لا تكون بأيديهم.