الثلاثاء، 28 فبراير 2017



«طلاق» مكلف .. فراق قاس

القطعة البريطانية تنفصل

"بريطانيا تحتاج إلى أعوام للتفاوض حول اتفاق تجاري مستقبلي مع الاتحاد الأوروبي"
جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية


كتب: محمد كركوتي

حسناً، لن ينجح رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في محاولاته لطرح صيغة أو حل أو وسيلة تمنع بريطانيا من استكمال إجراءات الانفصال ـــ الطلاق عن الاتحاد الأوروبي. والحق أن تمسكه بضرورة بقاء بلاده ضمن هذا الاتحاد، يعتبر أصدق مبادرة قام بها بلير يوما! وفي النهاية لم يعد توني بلير مهما لا على الساحة المحلية ولا الأوروبية ولا العالمية، رغم أنه رصد مبالغ شخصية كبيرة من الجنيهات الاسترلينية، لدعم حملة بقاء غير معلنة لكنها نشطت في الأسابيع القليلة الماضية. المهم الآن، بدأ الحديث يتركز على تكاليف الانفصال سواء بالنسبة لبريطانيا أو للاتحاد الأوروبي نفسه، علما بأن التكاليف على الجانب البريطاني لن تكون سهلة ولا قليلة، سواء من الناحية المعنوية أو المادية، كما يوضحه المسؤولون الأوروبيون.

بلير وغيره من المؤيدين للبقاء، يلعبون على هذه النقطة، على اعتبار أن الناخب البريطاني الذي صوت لمصلحة الخروج، لم يكن يعرف حقيقة الخسائر التي ستتكبدها بلاده (وبالتالي هو) جراء الانفصال. باختصار، يتمنى البعض أن يتم طرح الاتفاق الذي ستتوصل إليه حكومة تريزا ماي على استفتاء عام آخر، معتقدين أن الناخب سيغير رأيه عندما يجد الحقيقة رسميا مطبوعة على الورق وضمن جداول محددة. وهي حقيقة ستبرز الخسائر أكثر من الفوائد، والتعثر في العلاقات أكثر من السلاسة فيها. حقائق ستحول حليف اليوم، إلى مجرد جار الغد الذي يستحق بعض الريبة إن لم تكن كلها، دون أن ننسى، أن المسؤولين في الاتحاد الأوروبي لم يُظهروا أدنى مرونة في مفاوضات الخروج المزمعة، ليس كراهية للقرار البريطاني، بل تخويفا للدول الأوروبية الأخرى التي قد تفكر في الخروج على الطريقة البريطانية.
لن يكون الطلاق سلسا، بل المتوقع أن يكون عاصفا، لأن الدفاع عن المصالح في مرحلة الانفصال عادة ما يكون عنيفا. والأوروبيون بدأوا بالفعل بتحذيرات تهديدية ـــ إن جاز القول ــــ من مغبة قيام لندن بأي مفاوضات تجارية خارج نطاق الاتحاد الأوروبي، ما لم تخرج تماما من هذا الاتحاد. في الواقع، أن بريطانيا نفسها لا يمكنها أن تبدأ مفاوضات تجارية حتى مع الاتحاد الأوروبي قبل أن تستكمل إجراءات الخروج تماما. أي أن المفاوضات التي ستنطلق بعد تفعيل المادة 50 من معاهدة الوحدة الأوروبية لا تختص باتفاقات جديدة، بل بشكل وتكاليف وطبيعة الخروج من الاتحاد فقط، أما بقية الاتفاقات الممكنة البريطانية ـــ الأوروبية، فإنها تحتاج إلى مفاوضات أخرى جديدة، يتم التعاطي فيها مع المملكة المتحدة كجهة غريبة تماما.
وإذا كان البريطانيون الذين ينتظرون خروج بلادهم من الاتحاد بفارغ الصبر، يضحكون على أولئك المحبين لأوروبا، إلا أنهم سيواجهون الحقائق المرة لاحقا. لماذا؟ لأن الاتحاد الأوروبي يخطط لإلزام بريطانيا بدفع أموال مشاريع الاتحاد لمدة أربع سنوات بعد توقيعها على الاتفاق النهائي في عام 2019. ولدى المفوضية الأوروبية ما يمكن أن تستند إليه في هذا المجال. وفيما قدر المسؤولون في المفوضية الأوروبية التكاليف التي ستدفعها بريطانيا للخروج بـ 60 مليار يورو. هل لبريطانيا أصول في أوروبا؟ بكل تأكيد لها أصول كبيرة، قدرت بنحو 150 مليار يورو، كحسابات نقدية وعقارات ومشاريع دخلت بريطانيا فيها من المرجح أنها لن تكتمل. غير أن استرداد هذه الأصول لن يكون بالأمر السهل، نظرا لوجود كثير من الثغرات التي ستستغلها المفوضية الأوروبية في مفاوضاتها مع المسؤولين البريطانيين.
وفي كل الأحوال لن يكون "الطلاق" البريطاني ـــ الأوروبي سهلا، ولا أقل تكلفة، ولا حتى وديا. سيكون طلاقا صعبا، لقطع الطريق أمام أي محاولة مشابهة في المستقبل من أي بلد أوروبي ضمن الاتحاد. قد يكون توني بلير بالفعل على حق، بأن الناخب البريطاني الذي صوت لمصلحة الخروج لم يكن يعرف الحقيقة كاملة. وإذا كانت رئيسة الوزراء ماي متمسكة بديمقراطية استفتاء الخروج، عليها أن تكون أكثر ديمقراطية بطرح الاتفاق المستقبلي للاستفتاء أيضا. لأن النسبة الأكبر التي صوتت للخروج كانت تعرف أن بريطانيا تدفع ما يقرب من 250 مليون جنيه استرليني أسبوعيا للمفوضية الأوروبية، لكن هذه النسبة لم تكن تعرف الفوائد التي تجنيها بلادهم من الاتحاد، حتى في ظل حرية الحركة ضمن حدود الاتحاد الأوروبي، التي يرفضها البريطانيون الانفصاليون.
التسويق لبعض العواصم الأوروبية بدأ بالفعل كبديل مالي عن لندن، وهذا من الخسائر الفادحة على المدى البعيد، ناهيك عن خسارة سهولة الوصول إلى السوق الأوروبية التي تضم ما لا يقل عن 300 مليون مستهلك، والإعفاءات الجمركية التي تتمتع بها المؤسسات البريطانية كبقية المؤسسات الأوروبية الأخرى. ناهيك عن ضراوة المفاوضات التجارية ما بعد مفاوضات الخروج، التي لن تكون أقل عنفا. إن تبعات الاستفتاء البريطاني الانفصالي، لن تنتهي حتى بالخروج بصرف النظر عن طبيعته، وستظل على الساحة لسنوات طويلة، بكل تأثيراتها الكبرى والصغرى.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق