الثلاثاء، 7 فبراير 2017


«تهاوش» الحلفاء الفاضح


"تذكر.. تذكر دائما. كلنا.. أنت وأنا أتينا إلى هنا مهاجرين"
فرانكلين روزفلت - الرئيس الأمريكي الأسبق 

كتب: محمد كركوتي

ورد في الوثائق البريطانية، أن رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرتشل، كان أول مسؤول أوروبي على الإطلاق تحدث عن ضرورة إقامة "الولايات المتحدة الأوروبية"، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لماذا؟ لأنه كان يرى، أن هذه "الولايات" ستكون الضامن الوحيد القوي ضد كل الاتجاهات اليمينية المحلية المتطرفة في أوروبا، فضلا عن أنها تمنع نشوب حرب أو حتى معارك صغيرة بين البلدان المنضوية تحت لوائها. كان هذا توجه رئيس الوزراء البريطاني المحافظ، قبل سنوات من انطلاق ما كان يسمى "اتحاد الحديد والصلب"، الذي تدرج فيما بعد على مدى العقود الخمسة الأخيرة من القرن الماضي، إلى السوق الأوروبية المشتركة، فالمجموعة الأوروبية، فالاتحاد الأوروبي. الغريب هنا، أن شخصية تشرتشل سبقت شخصية أخرى كالجنرال ديجول الفرنسي في طرح مثل هذه الأفكار الوحدوية الأوروبية، ربما لأن فرنسا كانت تبني نفسها بصورة أكبر بعد احتلال نازي لم يطل بريطانيا.
الآن تعود نغمة الوحدة الأوروبية إلى المشهد العام، مدفوعة بعاملين اثنين، الأول خروج بريطانيا نفسها من الاتحاد الأوروبي، والثاني وصول دونالد ترمب إلى الحكم في الولايات المتحدة. لقد أدرك زعماء الاتحاد (المؤمنون حقا بجدوى هذا الاتحاد)، أن المخاطر باتت كبيرة وتقترب بسرعة أكبر إلى الأسس التي يقوم عليها الاتحاد. عندما تحدث تشرتشل عن "الولايات المتحدة الأوروبية" كانت الولايات المتحدة الأمريكية حليفة لأوروبا، بل كانت في الواقع بمنزلة المنقذ الأول للقارة في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ناهيك طبعا عن دورها في حسم هذه الحرب، وربما تقليل المدة الزمنية البشعة لها. اليوم، بعد أكثر من سبعة عقود على انتهاء الحرب المشار إليها دب الخوف في أوصال الحلفاء، ليس من خطر عدو خارجي، بل من تهديدات حليف داخلي!
الحليف الأمريكي الذي أسهم مباشرة في إنقاذ أوروبا، هو نفسه (مع تغير إدارته بالطبع) يبارك أي خطوة لتفكيك أوروبا وتجريدها من اتحادها. موقف الرئيس دونالد ترمب واضح إلى درجة  أخرجت العلاقات الأمريكية ــــ الأوروبية عن سياقها الدبلوماسي، بعد أن قفزت بدرجة ما، عن سياقها التحالفي. لم تعد القاعدة هي "الخلافات بين الحلفاء ينبغي أن تبقى مستترة"، إنها خلافات معروضة على الساحة العامة بالفعل، إلى درجة أن وصلت إلى مستوى الاتهامات المتبادلة! في الأيام الأولى لتنصيب ترمب كانت الانتقادات غير مباشرة من جانب الطرف الأوروبي، الآن إنها مباشرة وبالأسماء، وبأقل قدر من الدبلوماسية، خصوصا أن ترمب وإدارته الجديدة كانوا أشد عنفا في هذا المجال، من خلال توجيه الاتهامات بصورة علنية ومباشرة ومحددة.
هناك اختلافات كبيرة بين المفاهيم الأوروبية العامة، وبين تلك التي أتى بها ترمب إلى البيت الأبيض. لكن أن يصل الأمر إلى الحديث عن حرب تجارية بين الحلفاء! فهذا لم يكن أحد يتوقعه. أن يشجع ترمب بريطانيا على سرعة انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، ويتحدث عن أهمية انفصال بقية البلدان، هذا أيضا أمر يصعب توقعه قبل ذلك. أن يضع ترمب أوروبا (وتحديدا ألمانيا) بعد الصين في مسألة خفض قيمة عملتها، وإلحاق أضرار بالصادرات الأمريكية، هذا يعني أن هناك مشكلة كبيرة قابلة للانفجار في أي وقت. الشركاء يتخاصمون ويختلفون وأحيانا يتقاتلون، لكن الحلفاء لا تنطبق عليهم هذه الأشياء، لأسباب تتعلق بالأهمية الاستراتيجية لبقاء الجميع ضمن التحالف الواحد، الذي ينشر فوائده على الجميع.
لم تتحمل أوروبا المواقف الأمريكية الجديدة أكثر من ذلك، حتى خرجت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتدعو في العلن أيضا "إلى وحدة أوروبية لمواجهة تهديدات ترمب". وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد سبقها قبل أيام أيضا بالقول " علينا ألا نصمت على المواقف الأمريكية خصوصا تلك التي تشجع على تمزيق أوروبا. المسؤولون الألمان من كل المستويات، أكدوا مرارا أن ما يقوله مسؤولو الإدارة الأمريكية الجديدة ليس واقعيا. في إشارة إلى مسألة انخفاض قيمة اليورو، واللاجئين، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والعقوبات حيال روسيا، ومستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وغير ذلك من قضايا كانت حتى وقت قريب جدا غير مطروحة أساسا في العلاقة الأمريكية ـــ الأوروبية.
الحقيقة، بدا واضحا أن شرخا سياسيا بدأ يتسع بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو شرخ متصل بالجانب الاقتصادي أيضا، في حين كانت أول أسباب تشكل الشرخ المشار إليه فكريا، يتعلق باختلافات واسعة بالفعل بين الذهنية "الترمبية" ـــ إن جاز القول ــــ وذهنية الاتحاد الأوروبي الليبرالية. وهذا وحده يفسر، كيف تجرأت إدارة ترمب فعلا على وضع الاتحاد الأوروبي الحليف الاستراتيجي التاريخي لواشنطن، في المرتبة الثانية بعد الصين من حيث الأضرار التي يسببها للولايات المتحدة على صعيد العملة! يبدو واضحا أن ما قاله تشرتشل قبل 70 عاما عن ضرورة وجود الولايات المتحدة الأوروبية، يناسب الحالة الأوروبية اليوم، حتى بعد عقود من زوال مخاطر نشوب حروب كبرى، على غرار الحرب العالمية الثانية. 

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق