الجمعة، 3 فبراير 2017

سوق لندن المالية بين متفاوضين


"بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي ستتحول إلى اقتصاد متوسط في مكان ما في الأطلسي. لا هي في أمريكا ولا في أوروبا".
مارك روتي رئيس وزراء هولندا

كتب: محمد كركوتي

لا مجال أمام رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، إلا أن تكشف عن خطط المفاوضات التي ستجريها مع الاتحاد الأوروبي حول انسحاب بلادها من هذا الاتحاد. ليس أمام ماي فرصة للاحتفاظ بسرية الخطة، حتى وإن كان الكشف عنها يضعف الجانب البريطاني في مفاوضاته. والسبب بسيط، يتعلق بأحقية مجلس العموم البريطاني في الاطلاع على استراتيجية وبنود المفاوضات قبل انطلاقها في أواخر آذار (مارس) المقبل. دون أن ننسى الإشارة بالطبع إلى المعركة القضائية الدائرة حاليا حول شرعية موافقة المجلس من عدمها. إنها معضلة تشريعية جديدة، تتلخص في التالي: إذا كان الشعب هو الذي يقرر في استفتاء عام، فإن ممثلي الشعب نفسه لهم الحق في صنع القرار من خلال مداولات. إنها "تركيبة" فريدة في التاريخ البريطاني الحديث، لأن ممثلي الشعب ليسوا في الواقع مع ما اختاره هذا الشعب.
ومن هنا، يمكن النظر باهتمام إلى ما طلبته اللجنة البرلمانية البريطانية لـ "بريكست". ماذا طلبت؟ كتاب أبيض من الحكومة يتضمن خطتها المفصلة للخروج من الاتحاد بحلول منتصف الشهر المقبل، أي قبل ستة أسابيع تقريبا من الموعد الذي قررته رئيسة الوزراء لتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة الشهيرة. البقاء في السوق المشتركة، أو الانسحاب منها، القبول ببعض التعديلات على مسألة فتح الحدود، إبقاء لندن عاصمة المال الأوروبية - العالمية، الوضع الجمركي، مسألة المهاجرين الأوروبيين أنفسهم، الاتفاقات التجارية البريطانية في ضوء الانسحاب، الصادرات البريطانية والواردات إليها. وقضايا أخرى كثيرة متشعبة ستكون في صلب المفاوضات المنتظرة. البريطانيون يتمنون انسحابا سهلا، لكن الإشارات بل المواقف القادمة من أوروبا لا تدل على هذه السهولة.
على الرغم من القوة التي تمتلكها المفوضية الأوروبية بشكل عام، مقارنة بقوة دولة عضو في الاتحاد، إلا أن بريطانيا لا تزال تحتفظ ببعض الأوراق التي ستستخدمها في المفاوضات. والحقيقة هي ورقة قوية كبرى تكمن في السوق المالية البريطانية التي تمثل الركيزة المصرفية للاتحاد الأوروبي بالفعل، على الرغم أن بريطانيا نفسها ليست منضمة لمنطقة اليورو. وبعد سلسلة من تصريحات أطلقها مسؤولون أوروبيون كبار، تضمنت ألا  تحلم بريطانيا بمفاوضات سهلة بل عليها أن تتوقعها قاسية جدا. وعلى الرغم من هذا، خرج ميشال بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي الفرنسي ليتحدث عن ضرورة إبرام اتفاق "خاص" مع القطاع المالي البريطاني، بحيث تبقي سوق المال في لندن مفتوحة أمام شركات ودول الاتحاد. والحق أن مثل هذا الموقف المعلن يمثل دعما مبكرا للجانب البريطاني الذي يمكن أن يفاوض على التجارة مقابل السوق المالية.
ومن الواضح أن أيا من العواصم الأوروبية، لن تستطيع، على الأقل في السنوات القليلة المقبلة، احتلال المكانة التي حققتها لندن بهذا الشأن تحديدا منذ قرون. وهذه حقيقة دعمت بصورة أخرى حقيقة موقف العاصمة البريطانية نفسها في الاستفتاء. فقد أيدت البقاء بكل قواها، لأنها تعرف مدى أهمية العضوية الأوروبية ماليا وتجاريا وخدماتيا. كما أن لندن خبرت التلاقي الثقافي أكثر من غيرها من المناطق الأخرى في المملكة المتحدة. هذه نقطة مهمة تدعم الموقف البريطاني في المفاوضات، علما بأن هذا الموقف ليس قويا كما يحاول أنصار الانسحاب ترويجه. وهم بحق أثبتوا براعة هائلة في تسويق الخروج، أمام فشل ذريع لأولئك الذين تحركوا من أجل الإبقاء على بريطانيا ضمن الاتحاد.
لنترك جانبا فشل الحكومة البريطانية الواضح في تطمين كلا الجانبين المتعارضين على الساحة المحلية (المؤيدون للبقاء والمعارضون له). وهذا الفشل تحدث عنه الجانبان أيضا، إلا أن الجانب المالي للندن يبقى الصرح الأقوى الذي يمكن للحكومة أن تستند إليه. غير أنه أيضا متصل بالمسألة المعضلة الكبرى التي تنحصر في قضية فتح الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي. هذه القضية على وجه الخصوص كانت وراء فوز الرافضين لعضوية بريطانيا على معسكر البقاء. بمعنى أن الوصول إلى السوق المالية يتطلب فتحا ما للحدود. هل تقبل الحكومة البريطانية بهذا؟ لا يبدو أنها تستطيع أن تقبل وإن كانت ترغب بالفعل، لأنها بذلك ستعارض الناخبين الذين صوتوا بلا، وهي التي أقسمت على احترام رغبتهم.
لا بد أن تكون هناك صيغة ما حول السوق المالية اللندنية، دون أن ننسى، أنه باستطاعة الاتحاد الأوروبي المضي قدما من دون هذه السوق، والاعتماد على أسواقه المالية الكبرى، إذا ما فشلت المفاوضات بهذا الصدد. ومهما كان الموقف البريطاني قويا، يبقى الموقف الأوروبي أقوى، ليس فقط من حيث حجم المنطقة الاقتصادية الأوروبية الموحدة، بل أيضا من جهة التأثير العالمي للاتحاد، وقوته ككتلة بكل عناصرها السلبية والإيجابية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق