الجمعة، 3 فبراير 2017

وكالات التصنيف «الملهمة» المتهمة



"أحترم وجهة نظر وكالات التصنيف، لكني لا أضع الموازنة من أجل هذه الوكالات، بل أضعها للشعب الهندي"
ب. شيدانبارام، وزير المالية الهندي السابق

كتب: محمد كركوتي

بعد المصارف والمؤسسات المالية، جاء الدور على وكالات التصنيف لكي تدفع الثمن على دورها المستتر في الأزمة الاقتصادية العالمية. ولم ينفع مع هذه الوكالات أنها تعلمت الدروس من الأزمة، لأن الأخطاء التي ارتكبتها لن تزول قبل أن تدفع ثمنها على شكل تعويضات وغرامات وما شابه ذلك في المحاكم التي تنظر في الأمور المالية الكبرى. الولايات المتحدة صعدت في الأشهر الماضية حملتها ضد المصارف الأمريكية والأجنبية التي غشت مودعيها وكذلك المقترضين منها، ببيع الوهم العقاري، عن طريق أساليب متعددة من التضليل. لقد قدمت "منتجات" مالية مغشوشة ومضللة، كان عليها أن تكون أكثر نزاهة في عرضها على المتعاملين. الذي حدث، أن هؤلاء غرقوا في الديون مع وهم جدوى الاقتراض العقاري. وماذا حدث أيضا، نقلوا خيبتهم المالية إلى ورثتهم بصورة أو بأخرى. مصارف كبرى مثل "بنك أوف أمريكا" و"إتش إس بي سي" و"جي بي مورجان" و"دويتشه بنك" و"باركليز" وغيرها من المصارف ذات الأسماء الرنانة، تلقت الضربة تلو الأخرى من السلطات الأمريكية التي توصلت مع بعض هذه المصارف إلى تسويات خارج المحاكم، تحسب بعشرات المليارات من الدولارات. ولا تزال الملاحقة القضائية "أو التهديد بها" تمضي قدما ضد هذا البنك أو ذاك. بات واضحا، أن الخسائر التي تكبدتها الحكومة الأمريكية جراء إنقاذ مؤسسات مالية بسبب الأزمة تسترجعها على شكل غرامات هائلة الحجم. في حين أن المصارف المستهدفة لا يمكنها أن تعاند في هذا المجال، وإن اتبعت أسلوب المعاندة في الأيام الأولى لتوجيه الاتهامات لها. ولا يوجد مدير عاقل لمصرف يمكنه أن يعاند حتى النهاية. لماذا؟ لأن المصارف وقعت في الجرم المشهود، و"بصماتها" منتشرة في مسرح "الجريمة". المصارف والمؤسسات المالية المتهمة والمدانة، تمتعت بأفضل تسويق ممكن من جانب وكالات التصنيف العالمية المعروفة "الملهمة"، ما أسهم مباشرة في تغطية الأكاذيب والأوهام التي "باعتها" المصارف للناس. وكان التضليل سائدا على الساحة طوال سنوات وليس لفترات قصيرة. بالطبع تتحمل الحكومات كلها المسؤولية أيضا، بعضها دفع الثمن غاليا بإجباره على ترك الحكم، وبعضها الآخر قام بإصلاحات جيدة. غير أن وكالات التصنيف كانت تتلقى أجورها على أكاذيب محبوكة، وأوهام "مرئية". وقدمت المصارف على أنها مؤسسات ليست قابلة للخسائر، فكيف يمكن أن تنهار؟ الذي حدث أنها انهارت في غضون دقائق، نعم دقائق من انكشاف حقيقة أو مصرف فجر الأزمة الاقتصادية كلها. ومن هنا على هذه الوكالات أن تنتظر دورها في الملاحقات القضائية أو التسويات الممكنة. وقد اعترفت وكالة "موديز" أخيرا، بأنها تتوقع رفع وزارة العدل الأمريكية دعوى قضائية ضدها، بسبب قرارات تصنيف ائتماني خاصة بسندات وأوراق مالية أخرى، أصدرت قبل أزمة سوق الإسكان عام 2008. وبالفعل تحقق وزارة العدل، في أمور تتعلق بدرجات تصنيف ائتماني مرتفعة لبعض الأوراق المالية خلال الأزمة المالية العالمية. إضافة طبعا إلى التصنيفات غير الحقيقية لأوضاع المصارف والمؤسسات المالية. لقد أظهرت الأزمة الكبرى، أن هذه الوكالات ليست نزيهة، بل تخصصت على مدى سنوات بـ"المحاباة" التي تدر عليها مداخيل هائلة، مستغلة في الواقع الحراك غير المنطقي للرهن العقاري في الولايات المتحدة وخارجها. نشوة هذا الحراك، أعمت أعين حتى المشرعين في البلدان التي تلقت أكبر ضربات الأزمة ولا تزال. المصيبة التي تواجه هذه الوكالات، أن ملاحقتها قضائيا لا تقتصر على الحكومة الفيدرالية، بل تشمل أيضا الحكومات المحلية في الولايات الأمريكية المختلفة، خصوصا تلك التي تعرضت لأكبر أضرار مالية. وتعرف الوكالات مدى خطورة مثل هذا التحرك، خصوصا أن مؤسسات مالية كبرى لم تستطع أن تصمد لفترة طويلة أمام الاتهامات التي وجهت إليها من الجانب الحكومي الأمريكي، واضطرت للقبول بتسويات مؤلمة للغاية. غالبية هذه المصارف باتت تجنب أموالا هائلة لتكون جاهزة في حال تم الوصول إلى التسويات. على وكالات التصنيف أن تدفع الثمن، فالذي يروج للأوهام والأكاذيب والتضليل، ليس أقل شرا وأذى من الذي يمارسها. ولم توفر الإصلاحات التي أدخلتها الوكالات على نفسها في أعقاب الأزمة، أي حصانة لها من الملاحقات والغرامات. انتهجت إدارة باراك أوباما أسلوبا جديدا بالفعل في عالم المصارف والتصنيفات، بعد إطلاقها سلسلة من الملاحقات القضائية. وهذا يفتح المجال أمام الحكومات الأخرى، ولا سيما في البلدان الغربية للقيام بالخطوات نفسها، خصوصا أنها استخدمت المال العام لإنقاذ مؤسسات تسببت في خسائر المواطنين أصحاب المال العام أنفسهم! الأمور بعد الأزمة الاقتصادية العالمية لا يمكن أن تعود كما كانت. كما أن الحكومات لا تستطيع بأي صورة من الصور أن تخاطر بسياسات مالية منفلتة، لأن الأزمة كانت كبيرة بحيث لا تزال ضرباتها ماثلة على الساحة بصور مختلفة، وبآلام وهموم مختلفة أيضا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق