الاثنين، 13 فبراير 2017

العدوان على المستقبل


"يا آباء يا أمهات، لا تنتقدوا ما لا تفهمونه. إذا كنتم لا تريدون تقديم يد المساعدة لأبنائكم، لا تقفوا في طريقهم".
بوب ديلان - شاعر ومغن أمريكي

كتب: محمد كركوتي

ستبقى مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الحاضرة الدائمة لسنوات طويلة مقبلة، وهي كذلك على جميع الجهات. محليا وأوروبيا وعالميا. ومهما بلغت براعة أولئك الذين يقللون من آثار هذا الخروج، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يزيلوا المخاوف ليس في أوساط من وقف مدافعا عن البقاء ضمن الاتحاد فحسب، بل ضمن بعض الشرائح التي صوتت للانفصال. وترى القلق باديا حقا على وجوه المسؤولين البريطانيين (وزراء الخارجية والتجارة والأعمال) الذين قادوا حملة الخروج، ومن خلال تصريحاتهم الصارخة بضرورة عدم تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة التي تنظم عملية خروج عضو من الاتحاد الأوروبي. ومن المفارقات، أن الذي صاغ هذه المادة التي أضيفت للمعاهدة قبل عقدين تقريبا الدبلوماسي البريطاني السابق جون كير، الذي لا يزال عضوا في مجلس اللوردات إلى الآن. وبصرف النظر عن أهمية هذه المادة، وما إذا كان أحد يتوقع أن يتم تطبيقها على بلد كالمملكة المتحدة (بمن فيه كير)، فإن الخروج سيحصل إن آجلا أو عاجلا، وإن قادة كبارا في الاتحاد الأوروبي يفضلون عاجلا وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. بينما تفضل تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا الإبقاء على المادة 50 جامدة حتى نهاية العام الجاري. وأيا كانت الخطوات لتفعيل المادة المشار إليها، إلا أن الخراب السياسي والنفسي والإجرائي يسود الساحة البريطانية بالفعل، سواء من خلال ارتفاع العجز في الموازنة العامة، والهبوط التاريخي للجنيه الاسترليني، وتراجع ثقة مديري المؤسسات، واستعداد بنك إنجلترا للتدخل في أي لحظة منعا للانكماش، والضبابية في الأسواق المحلية، وبالطبع التحركات التي بدأت تظهر لانتقال نسبة من مراكز المؤسسات الكبرى والمتوسطة إلى خارج بريطانيا، وغير ذلك من الآثار المبدئية التي تركتها نتيجة الاستفتاء البريطاني. التكاليف الاقتصادية الكبيرة المتوقعة للخروج، تحمِّلها جهات عدة في بريطانيا لشريحة كبار السن التي صوتت لمصلحة الانفصال ضاربة عرض الحائط بمستقبل البلاد، والأهم مستقبل أبنائهم وأحفادهم الذين (كما هو معروف) صوتوا بقوة لجانب البقاء في الاتحاد. ورغم الفارق الضيق في نسب التصويت بين الانفصاليين وأولئك الذين رغبوا في البقاء، إلا أن أصوات هذه الشريحة (العجائز) تركت مرارة لن تمحى على الإطلاق في التاريخ البريطاني ككل. وهي شريحة بلا شك شنت عدوانا صارخا على المستقبل اعتقادا منها أن الانفصال يعني حياة أفضل لها، بصرف النظر عن السنوات الباقية لها في هذه الحياة أساسا. ليس هناك تفسير آخر لما جرى. فالاستفتاء الذي قسم المملكة المتحدة، قسم الأسرة الواحدة نفسها بين انفصالي واتحادي، بين الماضي والمستقبل، بين الأكاذيب والحقائق. بعض أولئك الذين حاربوا الاتحاد الأوروبي من الداخل البريطاني، تحدثوا علانية أن الأوروبيين بمفاوضاتهم المقبلة مع بريطانيا، سيعملون على تحويل المملكة المتحدة إلى "دولة من المستعمرات"، وأن المادة 50 من المعاهدة الكبرى ربما تجنب البلاد هذا المصير. والحق، أن "دولة المستعمرات" التي يتحدثون عنها لن تنشأ من فرط قسوة الأوروبيين التفاوضية (إن حصلت فعلا)، بل من الانقسام الاجتماعي والسياسي الداخلي البريطاني. هذه جمهورية إيرلندا تريد مفاوضات خروج سريعة، لأن " متعلقاتها مع بريطانيا أكبر من غيرها من بلدان الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك حرية التنقل بين البلدين والرابط الذي يشكله إقليم إيرلندا الشمالية بين لندن ودبلن. جمهورية إيرلندا لم تنضم إلى اتفاقية "شنجن" بسبب العلاقة الخاصة مع بريطانيا. نسبة كبيرة من سكان الإقليم أسرعوا للحصول على الجنسية الإيرلندية هربا من البريطانية، لأسباب تتعلق بالمنافع الأوروبية التي سيخسرها البريطانيون. وهذا وحده يوجد مشكلة تتعلق بتغيير ديموغرافي إيرلندي يحصل الآن بصورة أو بأخرى. أما مشكلة اسكتلندا فهي أكثر وضوحا من "الإيرلندية"، فغالبية الاسكتلنديين صوتوا للبقاء، ولا يمكن للحكومة المحلية هناك تجاهل هؤلاء. دعك من مدينة لندن التي صوتت كل دوائرها لمصلحة البقاء في الاتحاد، وهذه المدينة تمثل ما يقرب من 25 في المائة من الاقتصاد البريطاني. المسألة، لا تتعلق بـ "عدوانية" الأوروبيين التي يروج لها كارهو أوروبا في مفاوضات الخروج، بل في أمراض الداخل البريطاني، والمرض الأكبر يبقى دائما "خيانة" الآباء والأجداد لأبنائهم وأحفادهم بالوقوف إلى جانب الانفصاليين، الذين لم يقدموا أي سبب واقعي، وإنما سلسلة من الأكاذيب تبين أنها حقيقية ليس بعد سنوات من إعلان نتيجة الاستفتاء، بل في أعقاب أيام منه. في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، ثبت بالأرقام أن الآباء "سرقوا" أبناءهم وأحفادهم بل وأحفاد أبنائهم (على الأقل) من خلال قروض سيئة، وكبلوا معهم الموازنات الحكومية بديون خرافية من حيث الحجم، بتدخل الحكومات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المؤسسات التي تعتبر جزءا من هيبة البلاد. اليوم "طعن" عجائز القرن شباب القرن ومستقبله في المملكة. وهذه الطعنة ستبقى علامة فارقة ظاهرة بقوة، للأنانية والجهل والتضليل.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق