الثلاثاء، 7 مارس 2017

بريطانيا بين «انفصالين»



"رسالتي بسيطة. الاتحاد الأوروبي ليس مثاليا، لكن مصلحة اسكتلندا أن تكون عضوا فيه"
نيكولا ستيرجن - رئيسة وزراء الحكومة المحلية في اسكتلندا


كتب: محمد كركوتي

لم يتأخر التلاسن، ومعه المناكفة، بين تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا ونظيرتها الاسكتلندية نيكولا ستيرجن. كان مؤكدا الحصول، بصرف النظر عن الأيام القليلة الأولى من عهد ماي، التي شهدت تجاذبات دبلوماسية بلغة هادئة جدا. وهذا مفهوم، لأن المسؤولة الاسكتلندية رغبت في منح المسؤولة البريطانية وقتا للملمة الأشلاء الناجمة عن تصويت البريطانيين الصادم لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي. الصدمة كانت بالفعل كبيرة على بريطانيا كلها. وانسحاب رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون من الساحة، أربك المشهد السياسي العام، سواء على ساحة حزب المحافظين الحاكم، أو الأقاليم البريطانية، أو في ميدان مجلس العموم نفسه. بصرف النظر عن الجانب الديمقراطي والأخلاقي لانسحاب كاميرون هذا. فالرجل كان صادقا، لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يقود المفاوضات لانسحاب بلاده من الاتحاد، بينما هو شخصيا يؤيد بقوة بقاءها فيه.
عرفت تيريزا ماي منذ يومها الأول في الحكم، أن عليها الاطمئنان على وضعية الاتحاد، ليس الأوروبي بالطبع، بل البريطاني. فهذا الاتحاد ليس قويا بما يكفي للصمود في وجه عاصفة الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست". في الواقع، ألهبت نتيجة الاستفتاء الشعور القومي ــــ المحلي في اسكتلندا، كما حصل في إيرلندا الشمالية. لا نتحدث هنا عن ويلز، هذا الإقليم المندمج أكثر الأقاليم مع الجسم البريطاني. وظهر هذا واضحا من تصويت أغلبية الويلزيين لمصلحة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، رغم أن ذلك شكل بالفعل مفاجأة لكل المتابعين. المهم الآن الإقليم الشمالي اسكتلندا، التي صمتت بعض الوقت، لكنها لم تستطع الاستمرار في ذلك لمدة أطول. لا يهم الآن وضعية تيريزا ماي وحكومتها ونواب مجلس العموم، المهم أن الاسكتلنديين صوتوا لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، ولأن الانسحاب سيتم بالفعل، فهم لا يستطيعون الاستمرار في الاتحاد البريطاني.
عند هذه النقطة وصلت المملكة المتحدة إلى وضعية ما بين انفصالين، واحد من خارج حدودها والآخر من قلب أراضيها. صحيح أنه تم الاتفاق الضمني على أن نتيجة الاستفتاء الذي جرى في اسكتلندا حول انفصالها عن بريطانيا، وصوت الاسكتلنديون لمصلحة البقاء ستكون النتيجة نهائية، أي ألا يأتي حزب أو سياسي في هذا الإقليم ليطرح المسألة من جديد، على الأقل في غضون العقدين المقبلين، لكن الصحيح أيضا، أن الذين صوتوا للبقاء في بريطانيا صوتوا أيضا للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وهنا ينتهي، عند الاسكتلنديين، الاتفاق الضمني. كيف يمكنهم القبول بما رفضه الشعب؟! ألم ترضخ تيريزا ماي لرغبة الشعب البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وفق القواعد والأعراف والأخلاقيات الديمقراطية؟ عليها إذن القبول برغبة الاسكتلنديين أيضا. إنها الصيغة الأكثر عدلا في حالة هي الأكثر اضطربا وفوضى على الساحة البريطانية كلها.
غير أن رئيسة الوزراء البريطانية تصارع ذلك بكل ما لديها من قوة، وهنا انتقلت التجاذبات السياسية من حالة دبلوماسية مفهومة إلى تلاسن مفهوم أيضا. خصوصا بعد أن رفضت المطالبة بتصويت نواب اسكتلندا حتى على الاتفاق الذي ستتوصل إليه مع المفوضية الأوروبية، بعد عامين على الأغلب من الآن. وهنا يمكن أيضا فهم ما قالته نيكولا ستيرجن أخيرا، بأن الوقت ينفد أمام لندن لتغيير المسار. وتسلحت هذه الأخيرة بالحقيقة الواضحة، وهي أنه من حق الاسكتلنديين إجراء استفتاء جديد لتحديد البقاء ضمن الاتحاد البريطاني أو الخروج منه، في أعقاب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. التزمت ماي الصمت قليلا لكنها ما لبثت أن أظهرت موقفها الواضح أيضا، "لا استفتاء للانفصال"، ولا حتى استشارة ممثلي الاسكتلنديين في فحوى اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي.
أمام هذا الواقع، لن تكون هناك مساحة كبيرة للحوار بين رئيستي وزراء، الأولى "البريطانية" مضطربة سياسيا بما يكفي للصداع الدائم في عمق رأسها، الثانية "الاسكتلندية" التي تدغدغها مشاعر القومية الجلية. يضاف إلى ذلك، أن تصاعد الخلاف بين الطرفين، سيضعف كثيرا الموقف التفاوضي البريطاني مع الأوروبيين، الذين كانوا أكثر صراحة بالإعلان رسميا أن انفصالا سهلا لن يحدث لبريطانيا كما يتمنى المسؤولون في المملكة المتحدة. انفصال صعب على الساحة الأوروبية، وانفصال ممكن على الساحة الداخلية، هذا هو الوضع الراهن. ومن الصعوبة العثور على من يمكنه أن يحسد تيريزا ماي على وضعها. وإذا كان ديفيد كاميرون قد دخل التاريخ كرئيس وزراء أخرج بلاده من الاتحاد الأوروبي، فخليفته ماي ستدخل التاريخ أيضا، كمنفذ لعملية الخروج، مع إضافة أخرى في سجلها قد تكون انفراط حلقة من سلسلة المملكة المتحدة، دون أن ننسى أن القابعين في إيرلندا الشمالية ليسوا أقل قومية من الذين يسكنون في الشمال البريطاني.

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق