الاثنين، 30 أبريل 2012

إنها مجزرة المصارف

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")


جيد جداً أن الناس لا تفهم نظامنا المالي والمصرفي. فإن فهموا، سوف تكون هناك ثورة قبل حلول صباح الغد"
هنري فورد صناعي أميركي

 
كتب: محمد كركوتــــي
 
ستخفض وكالة "موديز" للتصنيف والتقييم الائتماني، تصنيف عشرات المصارف في 16 دولة أوروبية. ربما يصل العدد إلى 114 مصرفاً (حسب ما هو متداول) أو أقل، لكنها ستقدِم على هذه الخطوة رغم التحذيرات والمخاوف والاتصالات المريبة، بل والاستجداءات التي أطلقتها كل المصارف الأوروبية، بأن تلتزم هذه الوكالة الصمت، ولو في المرحلة الراهنة على الأقل، على اعتبار أن المصارف المستهدفة لديها من المصائب ما يكفي وأكثر، وأنها ليست "ناقصة" مشاكل جديدة، وأنها في وضعية المتلقي للمساعدات المالية الإنقاذية (لا التحفيزية)، وفي أحسن الأحوال المساعدات الإصلاحية، وبالتالي فهي تحتاج إلى أجواء من الهدوء الائتماني. بينما يعتبر بعض المتطرفين الرافضين لأي تصنيف حقيقي جديد، أن خطوة كهذه لا تدخل إلا في نطاق "عدوان" جديد على المصارف، وأنه ينبغي على "موديز" وغيرها من الوكالات المشابهة، أن تصمت، مع تمنيات يائسة بانهيارها.

لكن الوكالة وغيرها من المؤسسات المعنية بالتصنيف الائتماني، تعلمت من دروس الأزمة الاقتصادية العالمية، وتخرجت منها بدرجة "مقبول" على أن تكون تحت المراقبة، حتى تثبت عكس الظنون بها، بينما لا تزال المصارف في مرحلة "محو الأمية" في هذا المجال، رغم كل مصائبها التي توفر أدوات مساعدة لتعليم حتى أولئك الذين غادرت عقولهم كياناتهم. لا تزال المصارف "تغازل" وكالات التصنيف على طريقة "روميو وجولييت"، بصرف النظر عن المصير الحتمي للعاشقَين. وهي (أي المصارف) التي لا تزال تحب أن تَعشق بهذه الطريقة، تكره في سياق عشقها، كل من يشكك في نواياها ومخططاتها وسلوكياتها. فمثلاً.. لم تستطع إلا أن تحب كراهية المفكر السياسي الأميركي الشهير توماس جيفرسون، الذي اكتشف مبكراً جداً، أن المؤسسات المصرفية تشكل خطراً محدقاً للحريات، أكثر من الأخطار التي تشكلها الجيوش الجرارة. ولأنها كذلك، فهي لم تستطع أن تكره (مثلاً أيضاً) جورج بوش الابن، وقبله رونالد ريجان في الولايات المتحدة، ومارجريت ثاتشر في بريطانيا. فهؤلاء منحوا المصارف قداسة فاقت تلك التي تتمتع بها الكنسية في بلدانهم، بل أرادوها أن "تأكل" مؤسسات "غبية" تؤمن بالأخلاق وقيمها.

لا يبدو أن استجداءات المصارف لوكالة "موديز" ستحقق أي خطوة على صعيد تأجيلها إطلاق التصنيفات المتوقعة، التي تستحق بجدارة توصيف "مجزرة المصارف". فقد سبق للوكالة وغيرها تخفيض تصنيف دول كبرى، كانت تعتقد أن أحداً لا يستطيع الاقتراب منها في هذا المجال. لنتذكر فقط خفض التصنيف الائتماني لمن؟ للولايات المتحدة الأميركية وفرنسا. ألم تهدد هذه الوكالات بريطانيا؟ ألم تعلن وكالة "فيتش" عن تغيير نظرتها الإيجابية للمملكة المتحدة؟ ألم تقم نفس الوكالة بتخفيض جماعي لتصنيف 12 مصرفاً بريطانياً، بما في ذلك مصرف "رويال بنك أوف اسكوتلاند، و" لويدز تي اس بي" الحكوميين؟ لن أتحدث هنا عن خفض التصنيفات الائتمانية لدول مثل أسبانيا والبرتغال واليونان وإيطاليا. فهذه لم تدع مناعة بهذا الخصوص. أمام هذه الحقائق، لا مناعة لأي مصرف ولا سيما في القارة الأوروبية، الغارقة في عملية تاريخية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ليس فقط من المصارف بل من بعض الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي نفسه. اليونان وأسبانيا مثلان أصيلان.

لاشك في أن التصنيف الجماعي الضخم المتوقع لوكالة "موديز"، سوف يعرض المصارف المستهدفة للمزيد من الضغوط، بل وربما يُخرج بعضها من دائرة المصارف التي يمكن إنقاذها بصورة مباشرة. ورغم أن تصنيفاً بهذه الضخامة، سيُربك الأداء المصرفي المتعثر (بل والمتخبط) في أوروبا، إلا أنه بات ضرورياً، الآن أكثر من أي وقت مضى. فلا يمكن لوكالات تعمل من أجل استعادة كاملة لسمعتها التي لطختها الأزمة الاقتصادية العالمية، أن تصمت أمام هذا الواقع، وإلا ستكون شريكة في المأساة كما كانت قبل الأزمة. لقد قام البنك المركزي الأوروبي في الأشهر القليلة الماضية، بتقديم قروض غير مكلفة تقدر مدتها بثلاثة أعوام، لأكثر من 800 مصرفاً في أوروبا، وبلغت قيمة هذه القروض حوالي 1000 مليار يورو. وبعيداً عن التمنيات في زمن لم تعد ذات جدوى، فإن هذه القروض الهائلة، لن تحل المشكلة الكبرى، وهي في أحسن الأحوال، تساعد في إرجاء أو تجميد العملية الحتمية الخاصة بتنظيف ميزانياتها العمومية.

ليس أمام المصارف الأوروبية الآن، إلا مواصلة مواجهة الحقيقة. هي مُرة ومخيفة ومليئة بـ "الآلام" المالية. ومحاولات إخفاء الحقائق تذكرنا بالمحاولات القاتلة لإخفائها في السنوات التي سبقت الأزمة الاقتصادية العالمية. فقد أنتجت هذه المحاولات أزمة (بل كارثة) نالت مباشرة وبدون وسيط من المحاولين أنفسهم، ولا تزال تنال منهم حتى الآن، بصور مختلفة، وبتبعات متغيرة. والحقيقة أنها ستظل تستهدفهم، طالما لا يزال صانعوا القرار المصرفي الأوروبي والغربي عموماً، يعيشون أحلاماً مصرفية، ليست سوى كوابيس لن يتمكن أحداً في طردها إذا لم يستيقظ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق