الثلاثاء، 17 يونيو 2014

«لا بأس».. إنه دواء قاتل

(المقال خاص بجريدة "الاقتصادية")





لفن صناعة الدواء درجة عالية من الحب.. هو نفسه حُب للإنسانية"
أبقراط عالم إغريقي يلقب بـ "أبي الطب"

كتب: محمد كركوتــــي

لا شيء صعباً على المجرمين. كل المشاريع الإجرامية قابلة للتنفيذ، والأهم.. كلها قابلة لإنتاج المزيد من الأموال القذرة إلى حد يصعب تنظيفها. وإن تمكنوا من تنظيفها فأدران التخريب تظل عالقة بها. لا مجال لإخفائها. من تجارة الأعضاء البشرية والبشر، والحيوانات المنقرضة، والمخدرات، والدعارة، والمراهنات الرياضية، إلى تجارة الربى (أو بالعامية "الفايظ") التي تستهدف الفقراء على وجه الخصوص، وتجارة الشهادات العلمية. وإذا كانت التجارة المشروعة عرضة للكساد والازدهار، حسب الحراك الاقتصادي العالمي وأزماته، فإن تجارة المجرمين دائماً في ازدهار، وفي تنوع، وفي تطوير. فلا عجب، أن تسند المصارف المشروعة الكبرى نفسها في الأزمة الاقتصادية العالمية بأموال الجريمة، وأرصدة المافيات عابرة القارات. العجيب (ربما)، أن الحكومات التي قامت بإنقاذ هذه المصارف، اعترفت بهذه الحقيقة المخيفة.
المال القذر في كل مكان، وينتج عن كل شيء. بما في ذلك الدواء المغشوش. والدواء.. السلعة الوحيدة التي يفترض أنها تخفف الآلام، لا أن تزيدها، وأن تساهم في مد عمر المريض، لا أن تقصفه، وأن تشكل أملاً لا أن تنشر اليأس والانهيار، وأن تكون بلسماً لا سماً. والدواء المغشوش ليس صناعة جديدة، ولكنها كغيرها من صناعات الهلاك، تتطور شكلاً ومضموناً، والأهم أنها تنتج مع ما تنتجه أدوات الحماية لها. فالقائمون عليها، يستخدمون "أدوية" فاعلة حقيقية، ضد أي تحرك يستهدفهم، ويصنعون أيضاً أدوات الاستدامة لهم ولصناعتهم، في مجالات الإنتاج والتسويق والبيع، والوصول إلى أفقر قرية في أفقر بلاد العالم. ليس مهماً أنهم يستغلون الجهل في تجارتهم المشينة، المهم أنهم يستغلون الفقر. والأهم من كل هذا، أنهم يستغلون حاجة مريض يعيش آلامه بصمت وأمل في دواء عابر يخفف شيئاً من حدتها وعدوانيتها.
حجم تجارة الأدوية المغشوشة يفوق حجم تجارة المخدرات! هذا ما توصلت إليه المؤسسات الحكومية في غير بلد. وكغيرها من أنواع التجارة الإجرامية الأخرى، فإن مرتكبيها لا يلقون إلا جزءاً بسيطاً من العقاب إذا ما ضبطوا، مقارنة بالمجرمين المختصين بتجارة المخدرات. سنة سجن مع غرامة بسيطة لمجرمي الدواء، مقابل 40 سنة أحياناً وغرامات مالية هائلة لتجار ومروجي المخدرات. والمخيف أن تجارة الأدوية المغشوشة تشهد رواجاً في السنوات القليلة الماضية، لأسباب عديدة، أهمها أن مستوى الدخل المالي تراجع في غالبية دول العالم بفعل الأزمة العالمية، إلى جانب الاهتمام شبه الغائب بهذه الجريمة المتوالدة، من قبل السلطات في غالبية البلدان. وبحسب دراسة أمريكية صدرت في عام 2010، فإن حجم مبيعات الأدوية المغشوشة عالمياً بلغ 75 مليار دولار، بزيادة وصلت إلى 90 في المائة عما كان عليه في عام 2005، ووفقاً لمنظمات دولية مختصة، فإن حجم هذا الدواء المروع يتراوح ما بين 26 و48 مليار دولار من الحجم الإجمالي لسوق الدواء العالمي، البالغ 317 مليار دولار.
وإذا ما عرفنا أن الأرقام الأخيرة تعود إلى بداية القرن الحالي، علينا أن نتخيل الحجم الفعلي لتجارة الأدوية المغشوشة الآن. تقول ميراي بالسترازي مديرة شرطة الإنتربول المشاركة في مؤتمر فرنسي عقد في واشنطن حول هذه الجريمة: "هناك انفجار في تجارة الأدوية المغشوشة". وتوصل المشاركون في هذا المؤتمر (الذي كما يبدو لم يحظ باهتمام مستحق إعلامياً) إلى أن ما يقرب من نصف الأدوية المباعة عبر الإنترنت مغشوشة! وكيف تغيب إفريقيا المسكينة عن مثل هذه الجريمة؟! لقد أكد المختصون أن ما بين 30 و40 في المائة من الأدوية المباعة في القارة الإفريقية.. مغشوشة! وبحسب نائبة مديرة الإنتربول ألين بلانسون، توفي عشرات الأطفال في إفريقيا بسبب دواء مغشوش يحتوي على مادة نفطية توضع في البطاريات. ولمزيد من الفاجعة، تودي الأدوية المغشوشة بحياة 200 ألف مصاب بالملاريا سنويا في العالم!
حقائق مرعبة حقاً، مع ضرورة الإشارة إلى أنه من الصعب الوصول إلى أرقام فعلية لعدد ضحايا هذه الأدوية القاتلة، لأسباب تتعلق حتى بالسلطات الحكومية في عدد كبير من البلدان النامية، التي لا تعتبر الرقابة الطبية والصحية ذات قيمة. يقول الشاعر الإنجليزي اللورد بايرون "اضحك دائماً عندما تستطيع.. إنه دواء رخيص". لكن حتى هذا ليس متوافراً في البلدان والمجتمعات الفقيرة، الذي تتوافر لديها مجموعة هائلة من الأدوية الفاسدة. أدوية يعدك تجارها بأنها الوحيدة التي ستخفف آلامك. وهؤلاء (كما العادة) يكذبون، لأنها لا تخفف الآلام بل تزيلها تماماً بزوال متعاطيها إلى الأبد. لا غرابة أبداً، عندما تعلن السلطات (على سبيل المثال) في كردستان العراق، أنها ضبطت أكثر من 900 طن من الأدوية الفاسدة في شهر واحد فقط. السلطات في هذه المنطقة امتلكت الجرأة لتعلن ذلك. لكن كم من السلطات الأخرى تمتلك مثل هذه الجرأة؟! قليل، وقليل جداً، لأن بعضها فاسد كما الأدوية ذاتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق